ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

(وفرقة أهل ضلال مذبذبين بين ذلك ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، وإمامهم هذا لأحد الثلاثة») (١) ، قال الراوي : فسألتهم عن أهل الحقّ وإمامهم ؟ فقالوا : هذا عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام إمام المتّقين ، وأمسكوا عن الاثنين ، فجهدت أن يسمّوهما ، فلم يفعلوا (٢).

وكذا من الشواهد ما سيأتي في محلّه من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المسلَّم بين المخالف والمؤالف : «لا يزال طائفة من اُمّتي على الحقّ لا يضرّهم خذلان من خذلهم» (٣) .

وكذا سائر ما مرّ ويأتي ممّا يدلّ على كون هذه الفرقة قليلين مقهورين.

ولهذا يظهر حينئذٍ عدم الاعتماد على ظاهر ما رواه الطبراني والمقدسي عن أبي اُمامة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآلهأنّه قال : «إنّ بني إسرائيل تفرّقت على إحـدى وسبعين فرقة ، وإنّ هـذه الاُمَّة ستزيـد عليهم فرقة كلّها في النار إلاّ السـواد الأعظم» (٤) ؛ لأنّه لا يمكـن حمل السواد الأعظم على ما هو المتعارف من معظم الناس وعامّتهم ؛ إذ قد بيّنّا لا سيّما في الباب الثالث بالآيات والروايات والدرايات ذموماً فيهم ، وأنّ دأبهم الميل إلى خلاف الحـقّ والصواب ، وأنّ أهـل الحقّ في عامّة الأوقات قليلون مقهورون

__________________

(١) ما بين القوسين لم يرد في «م» .

(٢) حكاه عنهم السيّد ابن طاووس في الطرائف ١ : ٣٤٠ / ٣٤٦ ، وكذا عن ابن مردويه في اليقين : ٤٧٥ / ١٨٥ ، وأيضاً ابن جبر في نهج الايمان ١٥٩ ، والبياضي في الصراط المستقيم ١ : ٢٦٩ ، والشيرازي في الأربعين : ٢٢٥ .

(٣) صحيح مسلم ٣ : ١٥٢٣ / ١٩٢٠ ، سنن الترمذي ٤ : ٥٠٤ / ٢٢٢٩ ، الصراط المستقيم ٣ : ٨٧ .

(٤) المعجم الكبير ٨ : ٣٢١ / ٨٠٣٥ ، ولم نعثر على رواية المقدسي .

٢٢١

بينهم .

هذا ، مع كون هذه الأخبار أيضاً كالصريحة في ذلك ، كيف لا ؟ وقد كفى تصريح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : بأنّ الفرقة الناجية إنّما تكون في كلّ اُمّة جزءاً من بضع وسبعين جزءاً من الاُمّة.

فعلى هذا لا بُدّ من حمل السواد الأعظم على غير ما هو المتعارف ، كالقرآن مثلاً ، بأن يكون المراد أهل علم القرآن الذين قرنهم اللّه‏ ورسوله به في التمسّك ، واتّباعهم ، أو يقال بكون هذه اللّفظة من تحريفات المحرّفين عمداً أو غير متعمّدين؛ إذ سيأتي في محلّه كثرة وقوع أمثال ذلك ، لا سيّما في زمن بني اُميّة ، ويؤيّده التوهّم أيضاً في إيراد لفظة : «إحدى» بدل «ثنتين» .

وقد ذكر بعض الأفاضل في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «هم ما أنا عليه وأصحابي» (١) كلاماً موضّحاً لما ذكرناه في هذا المقام ، بل نافعاً في غيره أيضاً ، ولنذكر خلاصةً منه .

قال : المراد بالأصحاب هاهنا : إمّا كلّ الصحابة جميعاً ، أو أفراداً ، أو بعض مبهم ، أو معيّن ، لا سبيل إلى الأوّل ؛ لأنّ معنى العبارة يكون حينئذٍ : إنّ كلّ من اتّبع ما اتّفق عليه مجموع أصحابي فهو الناجي ، وهذا هو معنى الإجماع الصحيح ، فيكون هذا دليل ما لا نزاع في صحّته من لزوم اتّباع ما اجتمع عليه كلّ الصحابة ، بحيث لا يشذّ منهم أحد ، ولا مدخل له حينئذٍ في الدلالة على تعيين الفرقة الناجية ، بل يلزم على هذا التقدير أنّ من اتّبع قول بعض الصحابة وترك العمل بقول البعض الآخَر لم يكن من أهل النجاة ،

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ٢١٨ ، هامش (١) .

٢٢٢

وهو خلاف ما ذهب إليه أكثر أهل السنّة من كون قول الخلفاء الثلاثة حجّةً ، وأيضاً يلزم من أنّ من قال بإمامة أبي بكر يكون خارجاً من أهل النجاة ؛ ضرورة تخلّف جمع منهم عن بيعته ولا أقلّ من سعد بن عبادة ومن معه ، كما سيأتي في محلّه .

ولا سبيل إلى الثاني أيضاً ؛ لأنّ المراد إن كان متابعةَ كلّ فرد فرد من الصحابة استحال المتابعة؛ ضرورة استحالة متابعة المتخالفين والجمع بين الأضداد .

وإن كان المراد أيّ فرد كان ، لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ؛ لعدم بيان الترجيح عند الاختلاف الواقع بينهم ، بل يرجع هذا حينئذٍ إلى الشقّ الثالث الذي لا سبيل إليه أيضاً ، حيث يلزم منه أنّ كلّ من اتّبع قول الجهّال ، بل الفسّاق من الصحابة أو المنافقين منهم ، وترك العمل بقول بعض العلماء الصالحين يكون من أهل النجاة ، وهو بديهيّ البطلان ، كما مرّ سابقاً في بيان ما رووه من قوله : «اختلاف أصحابي رحمة» (١) ، ومع هذا لا يستقيم أيضاً انحصار الناجي (٢) في واحدة .

فتعيّن الرابع ، وهو أن يكون المراد بعضاً معيّناً ، ولا شكّ حينئذٍ أن لا بُدّ أن يكون ذلك المعيّن متّصفاً بمزايا العلم والكمال ؛ لتكون متابعته وسيلةً إلى النجاة ؛ إذ لا على تقدير التساوي يلزم الترجيح من غير مرجّح ، والمخصوص بهذه الصفات هو عليّ عليه‌السلام ، كما تضمّنه صريحاً الحديث الآخر (٣) . انتهى ما ذكره .

__________________

(١) المقاصد الحسنة : ٤٦ و٤٧ .

(٢) في «م» : الناجية ، وما أثبتناه من باقي النسخ .

(٣) راجع : هامش (٢) من ص ٢٢١ .

٢٢٣

ويؤيّد توجيهه المذكور أخبار ( التمسّك ) (١) بالثقلين ، وما ذكره ابن حجر ، حيث ارتكب مثل هذا التخصيص في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمان لأهل السماء ، وأهل بيتي أمان لاُمّتي» (٢) ، فقال : الظاهر أنّ المراد بأهل البيت الذين هم أمانٌ علماؤهم ؛ لأنّهم الذين يهتدى بهم كالنجوم (٣) ، فافهم .

واعلم أيضاً أنّ ظاهر التعبير أن لا نجاة لغير تلك الفرقة مطلقاً ، كما هو المتبادر من تعليق صفة النجاة على الواحدة ؛ إذ لو نجا أحد من الِفَرق ولو بعد حين ، لصدق عليه الناجي أيضاً ، فنفي ذلك عن الباقين يدلّ على خلودهم ، وهو مفاد صريح ما ثبت عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام من : «أنّ مَن أنكر ولو واحداً من الأوصياء المعلومين فهو كافر مشرك مخلّد في النار» (٤) ؛ حيث (٥) استدلّ الإمام عليه‌السلام على ذلك بقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ ) إلى قوله : ( هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (٦) ، وسيأتي في الفصل الآتي ما يدلّ على أنّ سائر الفرق كلّهم ممّن أنكر ولو بعض الأوصياء .

ومعلوم أيضاً أنّ كلمة الشهادتين إنّما تنفع بشروطها ، وأعظم شروطها الإقرار بإمامة الأئمّة المعصومين كلّهم ، كما هو مفاد حديث : «من مات ولم

__________________

(١) في «س» و«ش» و«ن» : «الأمر بالتمسّك» .

(٢) علل الشرائع : ١٢٣ / ١ باب ١٠٣ ، كمال الدين ١ : ٢٠٥ / ١٨ و١٩ ، كفاية الأثر : ٢١٠ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٠ : ٢٠ / ٤٦٣٠ ، الجامع الصغير ٢ : ٦٨٠ / ٩٣١٣ .

(٣) الصواعق المحرقة ٢ : ٤٤٥ ـ ٤٤٦ .

(٤) انظر : الاعتقادات للصدوق : ١٠٤ / ٣٨ ، (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ، ج ٥) ، وبحار الأنوار ٢٣ : ٩٧ / ٤ و٥ .

(٥) في «س» و«ش» و«م» : «حتّى» بدل «حيث» ، وما أثبتناه من «ن» .

(٦) سورة البقرة ٢ : ٢٥٧ .

٢٢٤

يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» (١) ، وأمثاله من الروايات الكثيرة الصريحة (٢) .

وقد أوضحنا تحقيق هذه المسألة ، وبيّنّا أنّ كلّ واحد من التوحيد والنبوّة والولاية لا ينفع بدون الآخَرين في تفسير مرآة الأنوار (٣) ، وسيظهر من تضاعيف هذا الكتاب أيضاً .

فما ذكره الأكثر من أنّ الفرقة الناجية هي التي لا تعذَّب أبداً ، وأنّ فيما سواها من يعذّب غير مخلّد ، ليس بموجّه في الجزء الأخير وإن أمكن توجيه الجزء الأوّل ، بل ما قال بعض العامّة من عدم خلود كلّ مقرّ بالشهادتين (٤) باطل ، حتّى أنّ أحاديثهم صريحة في كفر مبغضي آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) .

ثمّ إنّ الشهرستاني ذكر في توجيه ما تضمّنته الروايات ـ كما مرّ ـ من كون الحقّ والنجاة في واحدة : أنّ الحقّ من القضيّتين المتقابلتين في واحدة ، ولا يجوز أن يكون قضيّتان متناقضتان متقابلتان على شروط التقابل إلاّ وأن تقتسما الصدق والكذب ، فيكون الحقّ في إحداهما دون الاُخرى . ومن المحال الحكم على المتخاصمين المتضادَّين في اُصول المعقولات بأنّهما محقّان صادقان ، وإذا (٦) كان الحقّ في كلّ مسألة عقليّة واحداً ، فالحقّ

__________________

(١) المناقب لابن شهرآشوب ١ : ٣٠٤ .

(٢) انظر : بحار الأنوار ٢٣ : ٧٦ (باب وجوب معرفة الإمام) .

(٣) تفسير مرآة الأنوار : ٢٣ ـ ٢٥ .

(٤) انظر: الاعتقاد للبيهقي : ١٠٦ ـ ١٠٧ .

(٥) انظر : المناقب لابن المغازلي : ١٠٣ / ١٤٥ ، و١١٧ / ١٥٥ ، و١٢١ / ١٥٩ ، و١٣٧ / ١٨١ ، المناقب للخوارزمي : ٦٧ / ٤٠ ، و٦٩ / ٤٤ ، و٧٠ / ٤٥ ، و٧١ / ٤٨ .

(٦) في «م» : «وإن» .

٢٢٥

في جميع المسائل يجب أن يكون مع فرقة واحدة .

قال : وإنّما عرفنا هذا بالتتبّع ، وعنه أخبر التنزيل في قوله تعالى : ( وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ) (١) ، وأخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال : «ستفترق اُمّتي . . .» (٢) ، الخبر ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تزال طائفة من اُمّتي ظاهرين على الحقّ إلى يوم القيامة» (٣) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا تجتمع اُمّتي على الضلالة» (٤) (٥) . انتهى كلامه . ولا يخفى متانته ، فلا تغفل .

وإذ قد عرفت هذا ، فاعلم أنّا قد بيّنّا سابقاً ـ لا سيّما في الفصل الثاني من هذا الباب والفصل الأخير من الباب السابق ـ أنّ مناط اختلاف (٦) اليهود والنصارى ـ بل سائر الاُمم ـ كان على الاعتماد بالرأي وترك متابعة الأوصياء الحافظين لشرائعهم ، حيث تبيّن أنّ سبب الضلالة في كلّ طائفة ، إنّما هو الاعتماد على الرأي ، حتّى أنّا ذكرنا في الفصل الأخير من الباب السابق

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ : ١٨١ .

(٢) الخصال : ٥٨٥ / ١١ ، كفاية الأثر : ١٥٥ ، الصراط المستقيم ٢ : ١٠١ ، مسند أحمد ٢ : ٦٣٦ / ٨١٩٤ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٢١ ـ ١٣٢٢ / ٣٩٩١ ـ ٣٩٩٣ ، سنن أبي داوُد ٤ : ١٩٧ / ٤٥٩٦ ، مسند أبي يعلى ١٠ : ٣١٧ / ٥٩١٠ ، و٣٨١ / ٥٩٧٨ ، المستدرك للحاكم ١ : ٦ و١٢٨ .

(٣) الصراط المستقيم ٣ : ٨٧ ، غوالي اللآلئ ٤ : ٦٢ / ١٣ ، سنن الدارمي ٢ : ٢١٣ ، صحيح مسلم ٣ : ١٥٢٣ / ١٩٢٠ ، المستدرك للحاكم ٤ : ٤٤٩ ، السنن الكبرى ٩ : ٢٢٦ ، الجامع الصغير ٢ : ٧٣٤ / ٩٧٧٤.

(٤) تحف العقول : ٤٥٨ ، الاحتجاج ٢ : ٤٨٧ ـ ٤٨٨ / ٣٢٨ ، مسند أحمد ٧ : ٥٤٤ / ٢٦٦٨٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٣٠٣ / ٣٩٥٠ ، سنن الترمذي ٤ : ٤٦٦ / ٢١٦٧ ، المستدرك للحاكم ١ : ١١٥ و١١٦ ، المعجم الكبير ٢ : ٢٨٠ / ٢١٧١ ، وفيها بتفاوت .

(٥) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٣ .

(٦) في «م» زيادة : «مذاهب» .

٢٢٦

تفصيل بعض مذاهب اليهود والنصارى ، وأنّ كلاًّ منهما اختلفوا ، حيث لم يقتصر اليهود بعد موسى عليه‌السلام على متابعة يوشع بن نون الذي أوصى إليه موسى وأودعه العلوم والتوراة ، فأدخلوا في أمره غيره حتّى تشوّشت الأحوال واختلف الرجال ، وكذا بعينه النصارى لم يقتصروا بعد عيسى عليه‌السلام على متابعة شمعون وصيّه وعالم اُمّته ، فأدخلوا في أمره غيره من الحواريّين حتّى صار ما صار من الاختلاف .

ولنذكر ها هنا (١) نبذاً من ذلك الاختلاف ، حيث لا حاجة إلى الإطالة بالاستقصاء:

فمن اليهود من أنكر النسخ ومن جوّزه ، ومن أنكر البداء ومن أجازه ، ومن قال بالتشبيه ومن نفاه ، ومن قال بالقدر ، ومن قال بالجبر ، ومن قال بالجسم والرؤية ومن أنكرها ، وفيهم من قال : كلّ ما يدلّ على الرؤية والكلام ونحو ذلك ، فالمراد رؤية الملك وكلامه ونحوهما ؛ إذ قال : إنّ اللّه‏ اختار ملكاً وخاطب الأنبياء بواسطته ، حتّى قال : إنّ المراد بالشجرة أيضاً ذلك الملك ، وفيهم من أجاز الرجعة ومن أنكرها ، ومن أنكر بعض أنبيائهم (٢) . وأكثرهم جعلوا بناء تديّنهم على الآراء ومتابعة الآباء والكبراء ، حتّى ادّعوا الإجماع في كثير من البدع بمحض الشهرة عند أهـل تلك البدع .

وخلاصة نقل أحوالهم ، كما يظهر من كلام بعض الناقلين ، لا سيّما من أسلم منهم ونقل بعض أحوالهم ، وكذا من روايات آل محمّد العلماء الصادقين صلوات اللّه‏ عليهم أجمعين : أنّ موسى عليه‌السلام لمّا ذهب إلى الطور

__________________

(١) في «ش» زيادة : «أيضاً» .

(٢) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١١ ـ ٢١٣ .

٢٢٧

في حياته ، ومضى عن ميعاد رجوعه إلى قومه أيّاماً قلائل أغواهم السّامري فاجتمع عامّتهم ـ قيل : هم ستّمائة ألف نفس (١) ـ على عبادة العجل ، وتركوا إطاعة هارون إلاّ قوم قليل ، قيل : كانوا اثني عشر ألف (٢) ، وكان هذا الاختلاف بينهم إلى أن رجع موسى عليه‌السلام وظهر الحقّ من الباطل .

وكذا لمّا دعاهم موسى عليه‌السلام إلى قتال العمالقة واختلفوا وأجمعوا ـ ما سوى هارون ويوشع وكالوب وقليل ممّن معهم ـ على مخالفة موسى عليه‌السلام وترك المحاربة ؛ ولهذا وقعوا في التيه أربعين سنة .

ثمّ لمّا مات موسى عليه‌السلام وأوصى ـ كما مرّ ـ إلى يوشع بن نون وأمرهم بعدم مخالفته ما دام حيّاً ، ثمّ إطاعة أولاد هارون اختلفوا أيضاً ، فبقي شرذمة قليلة على ما أمر به موسى عليه‌السلام من التمسّك بيوشع والأوصياء بعده من بني هارون عليه‌السلام ، كان يقال لهم : الهارونيّون والكَهنة ؛ لاطّلاعهم على العلوم الإلـهيّة ، واجتمع الباقون على إدخال غيره في أمره بآرائهم ، فشوّشوا عليه أمره ، بحيث لم يتمكّن من (٣) جمعهم على التوراة ، حتّى تفرّقوا بمرور الأيّام على مذاهب شتّى .

بل خرج عليه بعضهم وأخرج معه صفوراء بنت شعيب زوجة موسى عليه‌السلام ، وضاعت من بينهم أسفار التوراة وما في الألواح وغيرها ، حتّى أنّهم صرّحوا بأنّ هذه التوراة التي في أيديهم من بعض محفوظات رجل من ولد هارون ، وقيل : إنّه عزير ، وقيل غيره ، وأنّها ليست كتاب اللّه‏ ، بل وقع

__________________

(١) انظر : تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٢٥٥ / ١٢٤ ، قصص الأنبياء للراوندي ١٧٠ ـ ١٧١ / ١٩٧ .

(٢) مجمع البيان ١ : ١١٣ .

(٣) في «س» و«م» و«ن» : «على» .

٢٢٨

فيها التغيير والتبديل (١) والتحريف لفظاً ومعنىً ؛ ولهذا تسلّط عليهم الأجانب والجبّارون كبخت نصّر وغيره ، ووقعت بينهم مقاتلات عظيمة ، حتّى قُتل في بعض حروب بعضهم مع بعض خمسمائة ألف رجل ، وهو محاربة ياربغام بن نباط الذي خرج على ولد سليمان بن داوُد عليهما‌السلام ، وتبعه تسعة من الأسباط ونصف ، وبقي مع ولد سليمان سبطان ونصف ، وكان الرجل يدعوهم إلى العكوف على عبادة كبشين صنعهما من الذهب .

ولأجل هذه الفسادات قتلوا كثيراً من الأنبياء والأوصياء ، حتّى أنّهم قتلوا سبعين نبيّاً في يوم واحد ؛ حيث كانوا يكفّرونهم ويحكمون بضلالتهم وبطلان ما كان عليه مبنى أديانهم من البدع والعقائد الفاسدة التي اتّخذوها بآرائهم ، وترك متابعة أنبيائهم .

فمن مشاهير فِرَقهم الدائرة بينهم ـ كما صرّح به الشهرستاني وغيره ـ أربع فِرَق ، هم الكبار ، وانشعبت منهم أكثر سائر الفِرَق على حسب اختلاف آرائهم في اُمرائهم واُصولهم وفروعهم .

فمنها : السامرة ، وهم من سكّان بيت المقدس وبعض القرى من أعمال مصر ، أثبتوا نبوّة موسى وهارون ويوشع بن نون عليهم‌السلام ، وأنكروا نبوّة من بعدهم رأساً إلاّ نبيّاً واحداً ، وقالوا : التوراة ما بشّرت إلاّ بنبيّ واحد يأتي من بعد موسى عليه‌السلام يصدّق ما بين يديه من التوراة (٢) ، ولهم أحكام لا حاجة لنا إلى ذكرها .

ومنها : العِنانيّة ، نُسبوا إلى رجل يقال له : عنان بن داوُد رأس الجالوت ، وهم يخالفون اليهود في السبت ، ويصدّقون عيسى عليه‌السلام في

__________________

(١) في «م» زيادة : «والخلاف» .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١٨ .

٢٢٩

مواعظه وإشاراته ، ويقولون : إنّه لم يخالف التوراة ، وإنّه من المتعبّدين العارفين المخلصين ، لكنّه ليس بنبيّ ، بل لم يدَّعِ النبوّة ، وإنّ الإنجيل ليس كتاباً منزلاً عليه وحياً من اللّه‏ ، بل هو مجمع أحواله جمعه من جمعه من الحواريّين ، ويقولون : إنّ اليهود ظلموه ، حيث كذّبوه أوّلاً ولم يعرفوا بعد دعواه ، وقتلوه أخيراً ولم يعرفوا بعد محلّه ، ويقولون : إنّ المسيح ورد في التوراة فارقليطا ، وهو الرجل العالم ، فلا يدلّ على النبوة (١) ، ولهم أيضاً قواعد وأحكام تركناها .

منها : العيسويّة ، نُسبوا إلى رجل اسمه أبو عيسى ، وهم يخالفون أكثر اليهود في بعض أحكامهم ، حتّى لا يأكلون الذبائح كلّها ، ويوجبون تصديق المسيح عليه‌السلام ، بل يفضّلونه على ولد آدم ، وزعم أبو عيسى أنّه نبيّ ، وأنّه رسول النبيّ المنتظر الذي هو المسيح بزعمهم ، وأنّه أرسله قبله (٢) .

ومنها : اليوذعانيّة ، نُسبوا إلى رجل يقال له : يوذعان ، وقيل : كان اسمه يهوذا (٣) ، كان في همدان ونواحيه ، وكان يحثّ على الزّهد ، ويكثر الصلاة ، وينهى عن اللحوم ، وكان يقول للتوراة : إنّ لها ظهراً وبطناً وتنزيلاً وتأويلاً ، وخالف اليهود في التشبيه ، وأصحابه تفرّقوا إلى المقاربة (٤) والموشكانية ، وأثبتوا نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى العرب وسائر الناس دون اليهود (٥) ، ولهم أحكام لا حاجة إلى ذكرها ، ولكن كلّ هؤلاء وغيرهم

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١٥ بتفاوت يسير .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١٥ ـ ٢١٦ .

(٣) في النسخ المعتمدة : «يهودا» ، وما أثبتناه من المصدر .

(٤) في النسخ المعتمدة : «المقارية» ، وما أثبتناه من المصدر .

(٥) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١٦ ـ ٢١٧ .

٢٣٠

معترفون بما في التوراة من البشارة بنبيٍّ بعد موسى عليه‌السلام هو الكوكب المضيء الذي يشرق الأرض بنوره ، وإنّما اختلافهم في تعيينه وأنّه من هو؟

وفي روايات صحيحة عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وما صرّح به العالم الذي أسلم من أهل الكتاب ، وصنّف كتاباً كبيراً في مذاهب اليهود والنصارى ردّاً عليهم : أنّ الفرقة المحقّة من اليهود كانوا ـ لم يزل بعد موسى ـ تابعين ليوشع عليهما‌السلام وصيّه ، من غير مدخليّة أحد معه ، وبعد يوشع تبعوا وصيّه شبّر بن هارون ، ثمّ شبيراً أخاه بوصيّته ، ثمّ واحداً بعد واحد من نسل شبير ، كلّ ذلك بوصيّة موسى ويوشع عليهما‌السلام إلى بعث عيسى عليه‌السلام .

وقال : إنّ أصل التوراة كانت عندهم فسلّموها مع سائر صحف الأنبياء بيد عيسى عليه‌السلام ، وكذا ذكر الرجل .

ويظهر من أخبار آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً أنّ الفرقة المحقّة من النصارى تبعوا بعد عيسى وصيّه شمعون بن حمون من دون إدخال غيره معه ، ثمّ هلمّ جرّاً كانوا تبعاً للأوصياء واحداً بعد واحد إلى أن انتهت الوصاية إلى آخرهم ، وهو خالد بن حنظلة (١) ، فكان في زمانه بعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فسلّمه الكتب والصحف وآمن به ، بل الذي يظهر ـ كما سيأتي في فصل الوصاية ـ أنّ هذه الحالة كانت من زمان شيث بن آدم ووصيّه .

وكذا يظهر وقد ذكر هذا العالِم أيضاً (٢) أنّ هؤلاء الأوصياء كلّهم ـ بل أتباعهم أيضاً ـ كانوا يخفون أمرهم عن مخالفيهم وجبّاري أزمنتهم ؛ حيث إنّ الدنيا والدولة والكثرة كانت معهم ؛ ولهذا لمّا أسلم هذا العالِم اختار

__________________

(١) لم نعثر على ترجمة له .

(٢) كلمة «أيضاً» لم ترد في «م» .

٢٣١

مذهب الإماميّة ، حتّى أنّه ذكر مواضع من الكتابين تدلّ على البشارة بالنبيّ وأوصيائه الأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام (١) ، وقد ذكرنا بعض ذلك في فاتحة كتابنا هذا ، ونذكر أيضاً غيره في محلّه إن شاء اللّه‏ تعالى .

ثمّ إنّ النصارى اشتهرت بينهم ثلاثة مذاهب بل أربعة ، كاليهود ، وتشعّبت إلى سائر الفِرَق .

فمنها : النسطورية ، أصحاب نسطور الحكيم ، وقد مرّ في الفصل الأخير من الباب السابق بعض عقائده ، وأنّه تصرّف في الإنجيل بحكم رأيه ، وقال : اتَّحدت الكلمة بجسد عيسى عليه‌السلام على طريق ظهور النقش في الخاتم وكإشراق الشمس على بلّور ، وذكرنا أنّ من أتباعه من قال : إذا اجتهد الرجل في العبادة ، وترك التغذّي باللحم والدسم ، ورفض الشهوات النفسانيّة يصفو جوهره ، حتّى يبلغ ملكوت السماء فيرى اللّه‏ جهرة ، ويكشف له ما في الغيب (٢) ، ونحو ذلك من المزخرفات .

ومنها : الملكانيّة ، أصحاب ملكا ، وهو الذي ظهر في الروم ، قالوا : إنّ الكلمة اتّحدت بجسم المسيح وتدرّعت بناسوته ، وامتزجت به امتزاج اللّبن بالدهن (٣) ، ولا حاجة إلى ذكر سائر مزخرفاتهم .

ومنها : اليعقوبيّة ، أصحاب يعقوب ، قالوا : إنّ الكلمة انقلبت لحماً ودماً فصار الإله هو المسيح وهو الظاهر بجسده ، بل هو هو ، وهؤلاء الذين حكى اللّه‏ عنهم بقوله : ( قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) (٤) ، وغيرهم

__________________

(١) لم نعثر على قوله .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢٢ بتفاوت .

(٤) سورة المائدة ٥ : ٧٢ .

٢٣٢

كانوا يعتقدون الاُبوّة والبُنوّة (١) ، ولهم أيضاً أحكام ومزخرفات .

ومنها : البوطينوسية ، أصحاب بطينوس ، ومذهبهم قريب إلى النسطوريّة إلاّ أنّهم يقولون : إنّ الإله واحد وإنّ المسيح عليه‌السلام ابتدأ من مريم عليهاالسلام ، وإنّه عبد صالح مخلوق شرّفه اللّه‏ وأكرمه بطاعته ، وسمّاه ابناً على الثناء لا على الولادة والاتّحاد (٢) .

وبالجملة : لم يأت قوم من زمان آدم عليه‌السلام وهلّم جراً إلاّ أن ألقى الشيطان بينهم الاختلاف بحسب الآراء واستحسان عقولهم ، ولم يزل كان (٣) أهل الحقّ بينهم قليلين خائفين مَخفيّين مقهورين ، وكان الأكثر مجتمعين على الباطل ومع أرباب الدول الدنيويّة ، كما قيل : الناس على دين ملوكهم (٤) .

فمن أراد الاطّلاع على حقيقة الحال مفصّلاً فليراجع التاريخ وغيرها ، حتّى يعلم أنّ هذه الاُمّة أيضاً كذلك ، ولمّا لم يكن لنا حاجة إلى تفصيل تلك المذاهب اكتفينا بما ذكرناه هاهنا وفي الفصل الأخير من الباب السابق ، فتأمّل .

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢٥ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢٥ .

(٣) كلمة «كان» لم ترد في «ش» .

(٤) موسوعة أمثال العرب ٥ : ٥٠٧ بتفاوت .

٢٣٣
٢٣٤

الفصل الخامس

في بيان ما أشرنا إليه سابقاً من اختلاف هذه الاُمَّة أيضاً ، حتّى من بدو الأمر إلى فِرَق أزيد من سابقيهم ، وأنّ كلّهم هالكون إلاّ فرقة واحدة فإنّها ناجية .

مع تبيين ما ورد من كونها «طائفة لا تزال ظاهرين على الحقّ» (١) لا يضرّهم خذلان من خذلهم ، لا يكفرون ولا يرتدّون إلى يوم القيامة ، وأنّ بهم يتحقّق معنى ما ورد في هذه الاُمّة من أنّها «لا تجتمع على الخطأ والضلال» (٢) ومع توضيح أنّ أهل البيت عليهم‌السلام منها بل إنّهم أساسها .

ثمّ بيان جمّة مذاهب هذه الاُمّة لا سيّما في الأئمّة ، وأنّ أصل سبب هذه المفاسد كلّها متابعة الآراء والأهواء ، وذكر شيء من وجوه تشابه هؤلاء بسابقيهم ، فإنّ أكثرها قد ذكرت سابقاً ، وفيه أيضاً توضيح ما يختصّ به الإماميّة الاثنا عشريّة من الاقتصار على التمسّك بما ورد عن اللّه‏ وترك الاعتماد على ما سوى ذلك ، أيّ شيء كان .

اعلم أنّه قد تقدّم ـ لا سيّما في الأوّل والثاني من فصـول هـذا الباب ورابعها ـ ما دلّ صريحاً على اختلاف هذه الاُمّة . هذا ، مع عدم الشكّ في

__________________

(١ و٢) تقدّم تخريج الروايتين في ص ٢٢٦ ، هامش (٣) و(٤) .

٢٣٥

وجود أصل الاختلاف بينهم بحيث لا يحتاج إلى البيان ، ولقد كانت أكثر أخبار الفصل الرابع مشتملة على كثرة الفِرَق المختلفة منها ، بحيث تصـل إلى ثلاث وسبعين ، وأنّ الحقّ في واحدة منها ، مع بعض علائم تلك الواحدة .

وقد تبيّن لا سيّما في الفصلين الثاني والثالث ويتّضح هاهنا أيضاً أنّ معظم منشأ هذا الاختلاف متابعة الرأي والهوى ، الذي بيّنّا سابقاً أنّه مضلٌّ ممنوع في الدين ، وأنّ الحقّ البيّن إنّما يكون واحداً وارداً من اللّه‏ ربّ العالمين ، فعلى هذا لا يبقى شكّ في أنّ الفرقة الناجية هم الذين يكون مناط تديّنهم من جميع الوجوه مقصوراً على الكتاب والسنّة ، اللّذين لا شكّ في أنّ الوارد من اللّه‏ إنّما يكون فيهما ، دون غير ذلك ممّا ليس بهذه المثابة ، كما يدلّ عليه حديث الثقلين وغيره أيضاً .

وأيضاً : من البيّن أنّ الفرقة الناجية ينبغي أن تكون متفرّدة عمّا سواها من سائر الفِرَق بأجمعها في معظم اُصول الدين وعمدة مناطه ، حتّى يستقيم وجه تخصيص النجاة بالواحدة ، فلا بُدّ أن يكون ذلك الأمر الذي به امتيازها عن غيرها أمراً لا يتطرّق إليه البطلان والضلال أصلاً ، ولا يكون (١) مبنى فرقة من سائر الفِرَق عليه أيضاً .

ولا يخفى أنّ توضيح هذا يحتاج إلى بيان جمّة من مذاهب هذه الاُمّة ، وقاعدة مضبوطة ؛ حتّى تتشخّص التي هي المتفرّدة بما ذكرناه من بينها ، فنحن نذكر هاهنا من جميع فِرَق هذه الاُمَّة ما به الكفاية في تبيّنها وتشخيص التي هي الناجية منها ، مع بيان نبذ ممّا يتعلّق بذلك ممّا ينفع

__________________

(١) في «ش» : «يقوم» بدل «يكون» .

٢٣٦

الذي يأتي ، فنقول : إنّ هذه الاُمّة ينقسمون أوّلاً إلى قسمين :

أحدهما : ـ وعليه الأكثرون ، بل عامّة الاُمّة ـ قوم يقولون : إنّ الإمام بعد رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو أبو بكر ثمّ عمر .

وثانيهما : الذين يقولون : إنّه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام .

فأمّا القسم الأوّل : فكافّتهم (١) جميعاً ـ مع تفرّقهم إلى مذاهب شتّى كما سيظهر ـ متشاركون في أنّ أمر الإمامة عندهم مبنيّ على رأي الناس وتعيينهم ولو برأي الإمام السابق وتعيينه ، بل ومن غير حاجة إلى تعيين من اللّه‏ وإخبار من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا إلى كون الإمام عالماً من اللّه‏ ـ كالنبيّ ـ بالأحكام ، معصوماً من الخطأ والآثام ؛ ولأجل هذا وقعوا جميعاً فيما مرّ بطلانه سابقاً ويأتي أيضاً من تجويز الاعتماد على الرأي والقياس ولو ظنّيّاً محضاً ، والاجتهاد فيما لم يعلم الإنسان من الكتاب والسنّة عليه أثراً ، وقد اختلفوا لذلك اختلافاً عظيماً ، اُصولاً وفروعاً ، وفي الأئمّة أيضاً :

فمنهم من قال بعد أبي بكر وعمر بخلافة عثمان ، ثمّ عليّ عليه‌السلام (٢) .

ومنهم من أبطلهما (٣) .

ومنهم من أبطل عثمان (٤) .

ومنهم من أبطل عليّاً عليه‌السلام (٥) .

ومنهم من قال بخلافة معاوية ، بل سائر بني اُميّة (٦) أيضاً .

__________________

(١) في «م» : «فكأنّهم» .

(٢) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٣ .

(٣) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٥ .

(٤) انظر : الفرق بين الفِرَق : ٣٢ ـ ٣٣ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ .

(٥) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٧٢ ، والأربعين في اُصول الدين ٢ : ٢٧١ .

(٦) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٨ .

٢٣٧

ومنهم من قال بالحسن بعد عليّ عليهما‌السلام ثمّ معاوية (١) .

ومنهم من أجاز إمامة غير القرشي أيضاً (٢) .

ومنهم من يعدّ الأربعة الاُوَل خلفاء والبقيّة ملوكاً جبابرة (٣) .

ومنهم من ساق الإمامة إلى بني العبّاس (٤) . ومنهم إلى غيرهم وهلّم جرّاً .

ثمّ هكذا اختلفوا في اُصول الدين وفروعه ، ومعظم اختلافهم اُصولاً في ثلاث مسائل :

إحداها : في صفات اللّه‏ تعالى الأزليّة إثباتاً عند جماعة ، ونفياً عند جماعة ، وفي صفات الذات وصفات الفعل وما يتعلّق بذلك .

والثانية : في العدل والجبر والقضاء والقدر وما يتعلّق به .

والثالثة : في الوعد والوعيد وما يتعلّق به (٥) .

وأمّا فروعاً فقد وصلوا إلى حدّ عدم الإحصاء ، لكن اجتمعوا أخيراً على أربعة مذاهب : الحنفيّة ، والشافعيّة ، والمالكيّة ، والحنبليّة ، لكن مدار الجميع ـ بل أصل سبب كلّ الاختلافات فيما بينهم ـ العمل بالرأي والاستناد إلى الخيالات العقليّة ، والأقيسة الظنّيّة ، كما سيظهر ، هذا مجمل اختلافهم ، وأمّا تفصيل ذلك فكما سنذكره .

__________________

(١) انظر : المقالات والفِرَق : ٢٣ / ٥٩ .

(٢) انظر : الفرق بين الفِرَق : ١٥ ، الحور العين : ١٥٣ ، المغني للقاضي عبدالجبار ٢٠ ق ١ / ١٩٩ .

(٣) انظر المعجم الكبير للطبراني ١ : ٥٥ / ١٣ و٧ : ٩٧ / ٦٤٤٢ ، كتاب التمهيد لقواعد التوحيد : ١٥٣ / ٢٤٣.

(٤) انظر : فِرَق الشيعة : ٣٦ ، ٤٧ ـ ٤٨ ، مقالات الإسلاميّين : ٢١ .

(٥) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٤ .

٢٣٨

وبالجملة : ترتقي أنواع مذاهب هذا القسم بحسب معظم اختلافاتهم ـ ولو في غير الأئمّة أيضاً ـ إلى ستّين فرقة فيها ما يتشعّب إلى فِرَق شتّى .

وأمّا القسم الثاني ، فهو على نوعين :

أحدهما : الذين شاركوا القسم الأوّل في الاعتماد على الرأي والاجتهاد وأمثال ذلك ، حتّى أنّه يلزم بعضهم القول بعدم لزوم كون تعيين الإمام من اللّه‏ ورسوله ، ولا كونه كالنبيّ في العلم والعصمة وإن قالوا بكون إمامة عليّ والحسنين عليهم‌السلام من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لما فيهم من الأولويّة والنصّ ؛ ولهذا صار هؤلاء أيضاً فِرَقاً شتّى كما سنذكرها ، ولعلّ معظمها يرتقي إلى ما أخبر به أمير المؤمنين عليه‌السلام ، حيث روى عنه جماعة أنّه ذكر اختلاف هذه الاُمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة ، فقال : «ثلاث عشرة فرقة منها من ينتحل ولايتي ويعترف بإمامتي ، واثنتا عشرة منها في النار ، وواحدة في الجنّة» (١) .

ومنه يظهر توهّم من قال : إنّ الثلاث والسبعين فرقة كلّها من الشيعة باحتساب شعبها الجزئيّة أيضاً (٢) ، والحقّ ما ذكرناه .

وأمّا النوع الثاني : فهم الذين خالفوا جميع ما ذكرنا من الفِرَق كلّها ، فقالوا : إنّ التديّن بالرأي والقياس ونحوهما ليس بجائز مطلقاً ، ولم يكن من طريقة الأنبياء (أبداً ، ولا أوصيائهم) (٣) أيضاً ، لا سيّما في تعيين الخليفة من النبيّ والوصيّ ، الذي به قوام الدين ونظام المسلمين ، بل إنّما هو من

__________________

(١) الأمالي للطوسي : ٥٢٣ ـ ٥٢٤ / ١١٥٩ ، الاحتجاج ١ : ٦٢٥ / ١٤٥ ، بشارة المصطفى : ٣٣٤ / ٢٢ ، وفيها بتفاوت .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٦٥ .

(٣) بدل ما بين القوسين في «م» : «ولا الأوصياء» ، وفي «ن» و«ش» : «أبداً وأوصيائهم» .

٢٣٩

خطوات الشيطان الجارية بين أتباعه من أهل الكفر والضلال والبطلان ، ولم يكن عادة اللّه‏ جرت في كلّ ملّة وجميع الأديان إلاّ بالتكليف بما بيّنه بوساطة الأنبياء والأوصياء على أهل ذلك الزمان ؛ ولهذا أرسل إليهم الأنبياء وعيّن لهم الأوصياء ، حتّى أنّه في هذه الاُمّة أحصى كلّ شيء في (كتابه المبين) (١) مبيّناً جميع ذلك لسيّد المرسلين ، آمراً غيره جميعاً بالأخذ منه والانتهاء إليه ، كما كان كذلك في زمانه بلا خلاف ولا اختلاف .

ثمّ أمره أن يعلّم جميع ذلك عليّاً عليه‌السلام ، وأن يتّخذه وصيّاً ، ويأمر اُمّته بالتمسّك به والأخذ منه ، وأنّه هو الذي يكون مع الكتاب والحقّ قريناً سويّاً ، حتّى أنّه أوحى إليه في الكتاب صريحاً بأنّه هو الذي يكون بعده للناس وليّاً ، وكذا سائر ما يدلّ على كونه إماماً معيّناً من اللّه‏ ورسوله ، وهلمّ جرّاً بنحو ما سيأتي إلى تكملة اثني عشر وصيّاً معلومين معيّنين من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصّ الإمام السابق عليه ، أكمل الناس علماً وعملاً ، حسباً ونسباً عند المؤالف والمخالف ، كما سيأتي بالطول والتفصيل .

وهؤلاء الطائفة هم الذين يقال لهم : الإماميّة الاثنا عشريّة ، وهم فرقة واحدة لا يجوز عندهم الاعتماد في الدين أصلاً إلاّ على ما يكون وارداً من اللّه‏ بالوسائط المذكورة ؛ ولهذا لا اختلاف بينهم إلاّ في بعض الجزئيّات الفروعيّة ، ومنشأ ذلك أيضاً مخالفوهم كما سيظهر .

وها نحن نذكر خلاصة تفاصيل أحوال كلّ واحدة واحدة من مشاهير هذه الفِرَق ، لا سيّما الاثني عشريّة ، حتّى يتّضح انفرادها عمّا سواها جميعاً ، بل يتبيّن عند أهل البصيرة أنّها هي الفرقة الناجية حقّاً ؛ ولهذا لا نكتفي فيما

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في «ش» : «كتاب مبين» .

٢٤٠