ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

بتعيين النبيّ والوصيّ من بين الخلائق ، كما سيأتي في محلّه .

لكنّ ذلك اللعين لفرط جهله بحقيقة الحال جهـلاً بسيطاً ومركّباً أيضاً ـ كما يلوح من جداله بلا رجوع أصلاً ـ عاند في قبول أمر اللّه‏ وإطاعة حُكمه بمحض ما رآه بهواه وقاسه بقياسه ، بحيث كان فاسداً ولم يتفطّن لفساده ، حتّى صار من المرجومين وهلك أبد الآبدين.

هذا ، مع أنّه كان في صميم ضميره أيضاً ما دعاه إلى الحسد لآدم والتعامي عن قبول حُكم خالق العالم ممّا بيّنّاه سابقاً من مرض الاستكبار وحبّ الارتفاع والاشتهار ، حتّى أنّه يظهر من بعض الأخبار أنّ أصل قصده في عباداته أيضاً كان الاشتهار من دون الخلوص للّه‏ الواحد القهّار ، وأنّه لهذا حُرم عن الثواب الاُخروي ، ورضي بالجزاء الدنيوي .

ولا يخفى أنّ هذا أيضاً من أعظم عيوب الاعتماد على الرأي ؛ إذ كثيراً ما يكون شيء في صميم القلب فيدعوه ذلك إلى الميل إليه والاستدلال ـ ولو بالشبهة ـ عليه وإن لم يتفطّن له صاحب هذا الحال في وقت الميل والاستدلال .

وهذا ممّا نُقل وشوهد في كثير من آراء علماء الأعصار ، لا سيّما ما كان له مدخل في حصول الاعتبار والاشتهار ، وكيف يمكنهم إنكار ذلك وأوّلهم كان كذلك ؟ كما أنّهم لا يقدرون على جحد كثرة وقوع الخطأ في الرأي والقياس ، مع ظهور وجود ما في قياس معلّمهم ، كما ظهر من الاشتباه والالتباس ، وسنبيّن بعض ما هو من هذا القبيل إن شاء اللّه‏ تعالى .

ومن شواهد صدق ذلك في الشيطان : عدم توجّه الشيطان إلى سجود الملائكة لآدم عليه‌السلام ، مع ظهور كون مادّة خلقتهم خيراً من مادّة خلقة الجنّ .

ثمّ إنّ الشيطان لمّا وقع لأجل ما ذكرناه في غضب الرحمن ، وعادى

١٠١

لذلك نوع بني الإنسان شرع في إغواء كلٌّ بما يناسب قبوله من أنواع العصيان ؛ ولهذا لمّا كان الأنسب بحال أهل العقل والعلم الدخول عليهم من باب العلم ، زرع في قلوبهم من بذور شُبهه المتقدّمة أنواع الشبه والضلالات ، وفتح لهم أبواب الآراء والقياسات ، فأهلك بذلك بها كافّة بني آدم إلاّ قليلاً ممّن نجا باقتفاء آثار الأنبياء ؛ ضرورة متابعة العوامّ للخواصّ والكبراء ، وعسر قبول الحقّ حتّى على العلماء ، فصار الناس من هذه الجهة على آراء عديدة مختلفة وأهواء شتيتة متفاوتة ، لكنّ جملتها من سنخ الغواية التي ضلّ بها الشيطان الذي هو أوّلهم ، المعلّم لهم ، وعلى شكل نتائجها وشعبها التي أشرنا إليها .

فمنهم الأكثرون الذين أبوا عن قبول أمر اللّه‏ في أصل إطاعة الأنبياء على حذو أصل قياس إبليس ـ كما مرّ مجملاً ويأتي مفصّلاً ـ فإنّهم أيضاً لم يتوجّهوا إلى حقيقة وجوه تفاضل الأنبياء والأوصياء عليهم من العلم والكمالات التي خصّهم اللّه‏ بها ، بل نظروا إلى ظاهر الاشتراك في البشريّة ، بل إلى تفوّقهم أيضاً بحسب الزخارف الدنيويّة ، مع أنّه لم يكن عليهم غير قبول أمر اللّه‏ فيهم بالتسليم للأنبياء وأوصيائهم ، بعد ظهور صدقهم بما خصّهم اللّه‏ به من المعجزات وغيرها بعين ما مرّ في شبهة الشيطان ، وما صدر منه بها من القياس والعصيان طابق النعل بالنعل ، فتأمّل تفهم .

ثمّ منهم من ذكره الشهرستاني أيضاً من أصحاب الملل قديماً وحديثاً ، فإنّ ما سوى الفِرَق التي ذكرنا إنكارهم نبوّة الأنبياء ، فمن حيث إنّهم قبلوا أمر اللّه‏ في أصل طاعة الأنبياء ولم يعبأوا بمادّة شبهة أصل قياس الشيطان ـ حيث أبصروا فضائلهم وعرفوا خصائصهم ـ رماهم الشيطان في ضلالة بعض شُعب أصل شبهته ؛ لأنّه لمّا حكم أوّلاً بالعقل على اللّه‏ الذي

١٠٢

لا يُحكم عليه ، صار كالمدّعي لبعض مشاركة له معه ، وذلك يستلزم ـ كما أشرنا إليه ـ أن يجري حكم المخلوق في الخالق أو بالعكس ، فأغوى جماعة من هذه الاُمّة وغيرها بالأوّل ، فقاسوا الخالق بالمخلوق فنزّلوه عن مرتبته ، حتّى شبّهوه بخلقه في صفات عديدة مذكورة بتفصيلها في الكتب الكلاميّة .

ومنهم : الحلوليّة (١) ، والمشبّهة (٢) ، والمجسّمة ، والجبريّة ، والقدريّة ، وبعض التناسخيّة (٣) ومن قال بالرؤية ونحوها ، سواء كانوا في هذه الاُمّة أو في الأُمم السابقة ، فإنّا قد بيّنّا سابقاً وجود هذه المذاهب فيها أيضاً .

وأغوى جماعة أيضاً بالثاني ، فقاسوا المخلوق بالخالق بأن رفعوا

__________________

(١) الحلوليّة : طائفة من المتصوّفة يرون في أنفسهم أحوالاً عجيبة ، ويتوهّمون أنّه قد حصل لهم الحلول أو الاتّحاد ، وأنّ روح الإله دارت في الأنبياء ، وهم في الجملة عشر فِرَق كلّها كانت في دولة الإسلام .

انظر : الفِرَق بين الفرق : ٢٥٤ / ١٣١ ، اعتقادات فِرَق المسلمين والمشركين للرازي : ١١٦ ، موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم ١ : ٧٠٩ ، وغيرها من كتب الكلام .

(٢) المشبّهة : وهم صنفان ، صنف شبّهوا ذات البارئ بالمخلوقات ، وصنف شبّهوا صفاته سبحانه بصفات غيره ، وكلّ صنف من هذين الصنفين يفترق إلى فِرَق شتّى .

انظر : الفرق بين الفِرَق : ٢٢٥ / ١٢٠ و١٢١ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٣ ، اعتقادات فِرَق المسلمين والمشركين للرازي : ٩٧ ، موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم ٢ : ١٥٤٥ ، وغيرها .

(٣) التناسخيّة أو أهل التناسخ ، الذين قالوا بتناسخ الأرواح في الأجساد ، وأنكروا المعاد الجسماني ، يقولون : إنّ النفوس الناطقة إنّما تبقى مجرّدة عن الأبدان إذا كانت كاملة بحيث لم يبق شيء من كمالاتها بالقوّة فصارت طاهرة عن جميع العلائق البدنية ، فتخلّصت ووصلت إلى عالم القدس . والقائلون بالتناسخ صنفان ، صنف من الفلاسفة ، وصنف من السمتية ، وهذان القسمان كانا قبل الإسلام ، وصنفان آخران ظهرا في دولة الإسلام ، وذهبت المانوية واليهودية إلى التناسخ أيضاً .

انظر : المقالات والفِرَق : ٤٢ / ٨٦ و٨٧ و١٨٢ ، الفرق بين الفِرَق : ٢٧٠ / ١٣٣ ، موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم ١ : ٥١١ ، وغيرها من الكتب الكلامية .

١٠٣

بعض المخلوقين عن مرتبته ، بحيث ادّعوا فيهم بعض خصائص الخالق .

ومنهم : الغُلاة بأجمعهم ، حتّى أنّه يدخل فيهم أيضاً نفاة الصفات ، بل الحقّ أنّ كلّ من جعل للرأي مدخلاً في أمر من الاُمور الدينيّة ، فهو داخل تحت مصداق الغلوّ عياناً ، بل التشبيه أيضاً أحياناً وإن لم يكن ذلك في حقّ الخالق والمخلوق ؛ ضرورة تحقّق الغلوّ أيضاً برفع مخلوق إلى مرتبة مخلوق أعلى منه ، كدعوى النبوّة ـ مثلاً ـ لمن ليس بنبيّ ، أو ادّعاء فضيلة أو مرتبة جليلة كالإمامة ـ مثلاً ـ لمن ليست له ، لا سيّما إذا كانت تلك الدعوى لدفع من له تلك الحالة ؛ إذ جميع ذلك مثل ما صدر من إبليس من القياس والشبهة والتلبيس .

ولا بأس إن بيّنّا بعض أفراد هذا المرام ، فإنّه لازم البيان في هذا المقام ، حيث يظهر منه زلّة أقدام كثير من الأعلام ، حتّى الشهرستاني الذي نطق أوّلاً بذكر أصل مادّة الكلام ، ثمّ رأى الإجمال خيراً له ، حيث تفطّن بدخول الضرر عليه ، لا سيّما في تعيينهم الإمام ، فلهج فيما بَعْدُ على نهج لا يخرج عن الإبهام ، كما هو دأبهم فيما يضرّهم من تفصيل الكلام وتبيين المرام .

فاعلم أنّ الناس في أمر الدين على مسلكين : رحمانيّ ، وشيطانيّ ، لا ثالث لهما :

فأحدهما : ترك الاستبداد بالرأي وإدخال الخيالات العقليّة في الدين بالكلّيّة ؛ حيث إنّ مناط التديّن عند أصحاب هذا المسلك في جميع الاُمور صغيرها وكبيرها ، اُصولاً وفروعاً ، من أحوال الواجب إلى أرش الخدش ليس إلاّ الأخذ من اللّه‏ عزوجل ولو بواسطة بشر معيّن من اللّه‏ تعالى ، كنبيّ أو وصيّ بالشروط الآتية في محلّها ، من غير لزوم ملاحظة كونه موافقاً للنظر

١٠٤

والاستدلال العقلي أم لا ، بل ضرب كلّ ما يخالفه من نتائج العقل عرض الحائط إن لم يقبل التأويل ، فالعلم عندهم ـ كما مرّ في الحديث ـ منحصر في ثلاثة : «آية محكمة من اللّه‏ ، وسنّة ثابتة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا أدري» (١) .

وسيأتي تفصيل بيان هذا المسلك وأهله وسائر ما تعلّق به بحيث أن لا يبقى غبار عليه في فصل نقل المذاهب وبعض المقالات الآتية ، بل والفصل الآتي أيضاً .

ولا ريب في أن لا مخدش في مثل هذا المسلك ، ضرورة عدم تطرّق احتمال الخطأ إلى ما هو من اللّه‏ ، فلا ضلال فيه ولا جدال ولا جهالة ولا اختلاف (٢) ، فهذا هو الطريق الرحمانيّ الخالص الذي يجب أن يكون شعار المطيعين ، كما قال سبحانه : ( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) (٣) ، بل ـ كما سيظهر ـ كان على هذا جميع الملائكة والنبيّين والوصيّين وخُلَّص المؤمنين ، كما قال عزوجل : ( عِبَادٌ مُكْرَمُونَ *‏ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (٤) . ألا ترى أنّ الملائكة كيف سجدوا لآدم عليه‌السلام حين اُمروا به من غير جدال ، بل ولا طلب حكمة ولا سؤال عن حال ؟

وثانيهما : عكس الأوّل ، أي : إدخال الرأي وأمثاله في المعالم الدينيّة ، والاعتماد فيها على ما تسوق إليه الخيالات العقليّة .

والحقّ كما ظهر ويظهر أنّ هذا المسلك بجميع أقسامه شيطانيّ غير

__________________

(١) قد تقدّم تخريجه في ص٦٣ هامش ٤ ، وانظر أيضاً : جامع بيان العلم ١: ٧٥١ / ١٣٨٤ و٧٥٢ / ١٣٨٦ و٧٥٣ / ١٣٨٧ .

(٢) في النسخ : «الاختلاف» والظاهر ما أثبتناه .

(٣) سورة البقرة ٢ : ٢٠٨ .

(٤) سورة الأنبياء ٢١ : ٢٦ ـ ٢٧ .

١٠٥

رحمانيّ ولو من بعض الجهات وفي بعض الأقسام ؛ حيث إنّ أصل مبناه على جواز الاستبداد بالرأي الذي هو من إبداع الشيطان وخطواته التي منع اللّه‏ عنها في الآية السابقة .

بل ربّما يقال : إنّ في الآية إشارة أيضاً إلى المسلكين المذكورين ، كما يشعر به تعبير الأوّل بالسِّلم والثاني بالخطوات جمعاً ، فإنّ أصحاب هذا الحال على أنواع شتّى بحسب اختلاف آرائهم في هذا المقال ، فمن هؤلاء الطوائف الذين مدار اعتمادهم في جميع ما يتعلّق بأديانهم على ما تدلّ عليه سوانح عقولهم وأوهامهم ، وتدعو إليه نتائج أفكارهم وأذهانهم ، وأكثر أهل هذا النوع ممّن لا يقول بربّ العالمين ، ولا يؤمن بنبيّ ولا كتاب مبين ولا يدين بشريعة المرسلين .

وذكر الشهرستاني بعضاً منهم ؛ حيث قال : إنّ منهم من ألِف المحسوس وركن إليه ولا يهتدي إلى معاد ، بل يظنّ أن لا عالَم إلاّ ما هو فيه من مطعم شهيّ ، ومنظر بهيّ ، ولا عالَم وراءه وهم الدهريّون (١) والطبيعيّون (٢) وأمثالهم ، كجمع من المشركين والكفّار وكبعض التناسخيّة

__________________

(١) الدهريّة : فرقة من الكفّار قالوا : بقِدَم العالَم والدهر ، واستناد الحوادث إلى الدهر ، ومذهب الدهريّة عند الفرس مذهب الزروانيّة ، أي : الاعتقاد بآلهة الزمان ، المعروفة عندهم .

انظر : المقالات والفِرَق : ٦٤ / ١٢٧ و١٩٤ ، الحور العين : ١٤٣ ، تلخيص المحصّل لنصير الدين الطوسي : ٤٦٤ ، شرح المصطلحات الكلاميّة : ١٤٩ / ٥٤٠ ، موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم ١ : ٨٠٠ .

(٢) الطبيعيّون : هم أهل العلم الطبيعي ، ويطلق أيضاً على فرقة يعبدون الطبائع الأربع : الحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ؛ لأنّها أصل الوجود ، إذ العالم مركّب منها ، وتسمّى هذه الفرقة بالطبائعية كذا في الإنسان الكامل .

انظر : موسوعة كشّاف اصطلاحات الفنون ٢ : ١١٣٠ .

١٠٦

وغيرهم ممّن لا حاجة إلى ذكره ، كما حكى اللّه‏ عزوجل مراراً أنّهم قالوا : ( إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) (١) .

قال : ومنهم من ترقّى عن المحسوس وأثبت المعقول لكن لا يقول بحدود وأحكام وشريعة وإسلام ، بل يزعم أنّه إذا حصل المعقول وثبت أنّ للعالم مبدأً ومعاداً ، فيكون سعادته على قدر إحاطته وعلمه ، وشقاوته بقدر سفاهته وجهله ، وأنّ عقله هو المستبدّ بتحصيل هذه السعادة ، ووضعه هو المستعدّ لقبول تلك الشقاوة .

قال : وعند بعض منهم أنّ الشرائع وإن وردت فإنّما هي اُمور مصلحيّة عامّية ، وأنّ الحدود والأحكام والحلال والحرام اُمور وضعيّة ، وأنّ فيهم من يقول بحدود وأحكام عقليّة ، قال : وهم الفلاسفة الإلهيّون (٢) وأشباههم من فِرَق الكفر ، كبعض التناسخيّة ، والبراهمة والصابئة والمشركين وغيرهم .

وقد أشرنا في آخر الفصل الأخير من الباب السابق إلى بعض ما زعموه مستنداً لهم في ترك متابعة الأنبياء مع جوابه ، حتّى قال بعضهم : إنّ العقل قد دلّ على وجود صانع حكيم ، وإنّ الحكيم لا يتعبّد الخلق بما يقبح في العقول ، وقد ورد أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقل من الطواف حول الأحجار ، وتقبيل الحجر ، ورمي الجمار وغير ذلك (٣) ممّا ذكروه ، وأنّه دليل على كذبهم وجهلهم ، وقد مرّ فيما أشرنا إليه من الفصل المذكور ما هو جوابه .

وبالجملة : هؤلاء بأسرهم من تلامذة الشيطان من أصل أساس

__________________

(١) سورة المؤمنون ٢٣ : ٣٧ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ٢ : ٣ .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ٢ : ٢٥١ .

١٠٧

البنيان ، حيث تبعوه في جميع أوامر ربّهم بالمخالفة والمجادلة على حذو أوّل ما استبدّ به من ترجيح إفادة الرأي والعقل بقياسه ، وما أتبعه به من شبهه على إطاعة أمر الربّ ، كما حكى اللّه‏ سبحانه عن جماعة منهم أنّهم قالوا لنبيّهم : ( مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ ) (١) ، الآية ، وأمثال ذلك كثيرة ، منها : قول فرعون : ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ) (٢) ، الآية وغيرها.

فإنّ هؤلاء أيضاً استكبروا فجادلوا بمثل قياس إبليس ، حيث قالوا حينما دعوا إلى إجابة أمر اللّه‏ بالانقياد للأنبياء : بأنّهم بشر مثلنا ، بل نحن خير منهم فيما نرى من الدنيا ، فلا إطاعة لهم علينا ولا حاجة لنا إليهم ؛ لكفاية ما فينا من كمال العقل وقدرة الاستدلال به والاستنباط منه عن الرجوع إليهم ، حتّى نُقل عن بعض الفلاسفة أنّه لمّا سمع ببعثة عيسى عليه‌السلام وإحيائه الميّت العتيق ، قال : قولوا بنبوّته فإنّه صادق في دعواه ، فقيل له : ألا تؤمن أنت به ؟ قال : هو مبعوث عليكم لا على مثلي الماهر في مناهل العلم ! ولا يخفى أنّه بعينه قول إبليس في ترك السجود لآدم عليه‌السلام .

ثمّ إنّ أكثر هؤلاء أيضاً تبعوا إبليس فيما مرّ من شُعب أصل شبهته ، كمطالبة العلل ، وتفتيش الحِكم ، ونقضها وتقريرها على وفق أفهامهم ، واستحسان عقولهم ، كما هو معلوم من كتبهم ، وكقياس الخالق بالمخلوق وبالعكس ، وكذا بعضهم ببعض ، حتّى دخلوا في الغلوّ والتشبيه جميعاً كلاًّ من جهةٍ (٣) .

__________________

(١) سورة هود ١١ : ٢٧ .

(٢) سورة الزخرف ٤٣ : ٥٢ .

(٣) في «ش» : «جهته» .

١٠٨

أمّا أوّلاً : فلأنّ جميعهم شاركوا في ادّعاء التساوي مع الأنبياء ، بل تفوّق بعضهم عليهم ، حتّى في فهم حقائق الأشياء كما تقدّم آنفاً ، بل اللاّزم من كلام بعضهم دعوى المساواة في ذلك مع ربّهم أيضاً ، وظاهر أنّ في هذا دخولاً في إفراط الغلوّ ؛ من حيث رفعهم بعضهم إلى ما ليس له من رتبة غيره ، حتّى في معرفة العلوم الإلهيّة ، مع الدخول في تفريط التشبيه أيضاً ؛ من حيث توهّمهم كون علم البارئ من قبيل علومهم ، وأنّ حالات الأنبياء من قبيل أحوالهم ، كما ينادي به قولهم : إن هم إلاّ بشر مثلنا (١) ، حتّى نزّلوهم بذلك عن مراتبهم التي رتّبهم اللّه‏ فيها ، ودفعوهم عن مقامهم ، واستكبروا عن إطاعتهم ، بل رجّحوا ـ كما ظهر ـ في الطاعة عليهم غيرهم ممّن لم يكن لهم (٢) ذلك ، كما في قولهم : ( إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا ) (٣) الآية .

وأمّا ثانياً : فلأنّ في عقائد كثير من أرباب هذه المذاهب ـ مع شدّة اختلافها ـ أشياء مستلزمة للغلوّ والتشبيه صريحاً ، كأقوال المتفلسفة الذين زعموا وجود العقول العشرة في قِدَمها وتجرّدها ومدخليّتها في الإيجاد بالعلّيّة الفاعليّة ، وأمثال ذلك ممّا هو مختصّ باللّه‏ لا شريك له ، وفي دعوى كون الواجب فاعلاً موجباً غير مختار ، لا سيّما في خلق العقل ونحو ذلك ممّا هو ناشئ من توهّم التشبيه في الذات أو الصفات ، وكفى في ذلك قولهم : ( مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) (٤) .

ولو حاولنا نقل شرذمة ممّا لهم من أمثال هذه الأوهام لطال الكلام

__________________

(١) اقتباساً من قوله تعالى : ( إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ) سورة إبراهيم ١٤ : ١٠ .

(٢) في «ش» : «له» .

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ : ٦٧ .

(٤) سورة يس ٣٦ : ٧٨ .

١٠٩

بغير طائل في هذا المقام ، فلنرجع إلى بيان سائر أقسام ما مرّ من المسلك الشيطاني .

فاعلم أنّ من اُولئك الذين على هذا المسلك أيضاً الطوائف الذين آمنوا بربّهم وصدّقوا نبيّهم ودخلوا في الدين ـ حيث لم يتشوّشوا في ذلك بما مرّ من خطوات الشيطان وشبهات ذلك اللعين ، كأكثر أهل الملل السابقة وعامّة المسلمين ـ لكن وقعوا فيما بَعْدُ من بعض الجهات وببعض أسباب الجهالات في مصائد خدائع غروره المذكور ، بحيث استوثقهم بها وثاقاً لم يمكنهم به الفرار من هفوات قول الزور ، فكم من سابح في بحر ضلال آرائه الغريق ! وكم من محترق بنار خيال قياسه الحريق !

فإنّ فريقاً منهم احترقوا بنار شبهة قياسه في حقّ الذين قاموا مقام الأنبياء من بعدهم ، وفي معرفة صفاتهم ، بل بعض صفات الأنبياء أيضاً ، وبعضهم غرق في بحر ضلالة التفكّر في ذات اللّه‏ وصفاته وأفعاله ، وبعضهم وقع في ذلك بالنسبة إلى تكليفات العباد ، وبعضهم بالنسبة إلى أحوال المعاد ، بل الحقّ أنّ مدار ضلال هؤلاء أيضاً يدور على طبق شُبه سابقيهم ، وبنحو ما ألقى الشيطان من الرأي والقياس فيهم ، كما هو مفاد ما مرّ في فصول الباب السابق من قوله تعالى : ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ ) (١) ، وما بمعناه من الأخبار وغيرها (٢) .

وخلاصة توضيح ذلك : أنّ كلّ اُمّة من هؤلاء وإن اهتدوا في تسليم نبوّة نبيّهم بدلالات النصوص والفضائل التي كانت من اللّه‏ فيهم من غير توجّه إلى ما تبيّن أنّه من خطوات الشيطان إلاّ أنّهم بعد نبيّهم صاروا

__________________

(١) سورة الانشقاق ٨٤ : ١٩ .

(٢) راجع الجزء الأوّل ، الفصل الخامس .

١١٠

بالعكس ، فاستكبروا ـ كإبليس ـ متشبّثين بنحو ما تشبّث به هو وتلامذته ـ الذين سبق النقل عنهم ـ من الشُبه والتلبيس عن الانقياد لمن كان [في (١) ] مقام ذلك النبيّ من اللّه‏ على العباد ، حتّى ضلّ أكثرهم بذلك في تيه اختلافات الآراء ، ودرك ابتلاء الشقاء إلى يوم الجزاء ، كما مرّ في أخير فصول الباب السابق (٢) ، ويأتي أيضاً أنّ عامّة اُمّة موسى عليه‌السلام استكبروا بعده عن تمكين يوشع بن نون عليه‌السلام وصيّه من أمره ، فأدخلوا في ذلك غيره من أصحاب موسى عليه‌السلام بآرائهم ، فنزّلوا يوشع عن مرتبته ، وشبّهوه بغيره الذي غلوا فيه ، حيث جعلوه في درجة القيام بمقام موسى عليه‌السلام كليم اللّه‏ ؛ بقياس الاشتراك في صحبة موسى عليه‌السلام والنسبة إلى إسرائيل ونحوهما من غير التوجّه إلى ما كان في يوشع من النصّ والفضائل وكمال العقل والعلم (٣) وغيره ممّا خصّه اللّه‏ به ، بعين ما مرّ في قياس إبليس وأقيسة تلامذته الفلاسفة وغيرهم من منكري الأنبياء (٤) ، فشوّشوا الأمر حينئذٍ على يوشع ، ووقع بذلك الاختلافُ بينهم ، حتّى صاروا بضعةً وسبعين فرقة فيهم : المجبّرة ، والمشبّهة ، والمرجئة ، والقدرية ، وغيرهم ممّا أشرنا سابقاً إلى بعض منهم (٥) ، وسنشير أيضاً فيما يأتي ، حتّى الغُلاة صريحاً ، كما أخبر اللّه‏ تعالى بقولهم في عزير ، واتّخاذهم أحبارهم أرباباً (٦) بالتزام إطاعتهم فيما قالوا لهم بآرائهم .

__________________

(١) إضافتها أنسب للسياق .

(٢) راجع ج ١ ، ص ٣٩٢ وما بعدها .

(٣) في «س» و«ن» : وفضائل كمال العلم .

(٤) راجع ج ١ ، ص ٣٩٣ .

(٥) راجع ج ١ ، ص ٣٩٢ وما بعدها .

(٦) إشارة إلى معنى الآيتين ٣٠ و ٣١ من سورة التوبة ، وهما : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ‏ . . . ) و( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا . . . . ) .

١١١

وكذا مرّ أيضاً صدور مثله من اُمّة عيسى عليه‌السلام بالنسبة إلى شمعون الصفا ، من إدخالهم بعض الحواريّين في أمره بمقتضى رأيهم من غير التوجّه إلى ما خصّه اللّه‏ به من النصّ وغيره ، وحصول التشويش بذلك ، واختلاف الآراء والمذاهب بينهم أيضاً ، كما كان في اليهود ، حتّى الغُلاة صريحاً ، كقولهم ما قالوا في عيسى عليه‌السلام كما مرّ أيضاً ، واتّخاذهم رهبانهم ـ كما أخبر اللّه‏ سبحانه ـ ربّاً (١) .

وهكذا حال سائر السابقين من المليّين ، كما نقله جمع ممّن ذكر الملل ، ولا حاجة لنا إلى بيان ذلك أزيد ممّا بيّنّاه ، حيث أن لا غرض لنا مهمّاً في ذلك ، فلنذكر نبذاً ممّا وقع من قبيل ذلك في الإسلام من نحو قياس إبليس وشعبه التي مرّ بيان استمرارها في تلامذته وعبّاده باتّباع خطواته وشبهاته .

اعلم أنّ الشهرستاني بعد أن ذكر ما مرّ من أنّ أصل الشبهات كلّها من قياس الشيطان وشبهاته ، ونقل أنّ الشبهات التي وقعت في آخر الزمان كلّها هي بعينها تلك الشبهات التي وقعت في أوّل الزمان ، وأنّه كذلك كلّ شبهة من شبهات اُمّة كلّ نبيّ في آخر زمانه ناشئة من شبهات خصماء أوّل زمانه من الكفّار والمنافقين ، وأكثرها من المنافقين .

قال : وذلك غير خفيّ لنا من هذه الاُمّة وإن خفي من غيرها ، فإنّ شبهاتها كلّها نشأت من شبهات منافقي زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى ، وشرعوا فيما لا مسرح فيه للفكر ولا مسرى ، وسألوا عمّا مُنعوا من الخوض فيه والسؤال عنه ، وجادلوا بالباطل فيما لا يجوز الجدال فيه ، وإنّ ذلك ليس إلاّ عملاً باستحسان العقل ، وحكماً

__________________

(١) تقدّم في الجزء الأوّل في ص ٤١٣ .

١١٢

بالهوى حتّى في مقابلة النصّ ، واستكباراً على الأمر بقياس العقل .

ثمّ قال مؤيّداً لما ذكره : أما تعتبر اعتراض ذي الخويصرة (١) ـ من رؤساء الخوارج بنهروان (٢) ـ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال له : ألا تعدل يا رسول اللّه‏ ؟ فلمّا قال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إذا لم أعدل فمن يعدل ؟» (٣) .

قال : هذه قسمة ما اُريد بها وجه اللّه‏ ؛ إذ ليس ذلك إلاّ قولاً بالتحسين العقلي في مقابل النصّ ، واستكباراً على الأمر بقياس العقل .

قال : ثمّ اعتبر حال طائفة اُخرى من المنافقين يوم أُحد إذ قالوا : ( هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ ) (٤) وقولهم : ( لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا ) (٥) ، ونحو ذلك ممّا فيه (٦) تصريح بالقدر ، وقول طائفة من المشركين : ( لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) (٧) ، ونحو ذلك ممّا فيه (٨) تصريح بالجبر .

واعتبر أيضاً حال أمثالهم من الذين جادلوا في ذات اللّه‏ تفكّراً في جلاله وتصرّفاً في أفعاله ، حتّى خوّفهم اللّه‏ تعالى في قوله : ( وَيُرْسِلُ

__________________

(١) هو حرقوص بن زهير ، يلقّب بذي الخويصرة ، كان من أصل الخوارج الذين قال عنهم صلوات اللّه‏ عليه وآله : «إنّ له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم . . . يمرقون من الدين كمروق السهم من الرمية» ، هلك سنة ٣٧ هـ .

انظر : تاريخ الطبري ٣ : ٩٢ ، المنتظم ٣ : ٣٤٠ ، اُسد الغابة ١ : ٤٧٤ / ١١٢٧ ، و٢ : ٢٠ / ١٥٤١ ، الإصابة ١ : ٣٢٠ / ١٦٦١ ، و٤٨٥ / ٢٤٥٠ .

(٢) في «ن» و«س» : خوارج نهروان .

(٣) المستدرك للحاكم ٢ : ١٥٤ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١ ، كنز العمّال ١١ : ١٩٨ / ٣١٢١٥ .

(٤ و٥) سورة آل عمران ٣ : ١٥٤ .

(٦) فيما عدا «ش» : «هو» .

(٧) سورة النحل ١٦ : ٣٥ .

(٨) في «ش» : «هو» بدل «فيه» .

١١٣

الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ ) (١) ، الآية .

قال : فهذه التي كانت في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو على شوكته وقوّته وصحّة بدنه ، والمنافقون يخادعون ويظهرون الإسلام ، وإنّما كان يظهر نفاقهم في كلّ وقت بالاعتراض على حركاته وسكناته وكلماته ، حتّى صارت تلك الاعتراضات كالبذور ، وظهرت منه الشبهات بعده كالزروع (٢) .

هذا كلامه هاهنا ، وظاهر أنّه حجّة على القوم ، حيث إنّه مع كون الرجل من أعيانهم ، كلام متين مبين في نفسه ، ينطبق على ما مرّ من مسالك السابقين ، وينطبق عليه ما صدر من اللاّحقين ، كما سنبيّن نحن نُبَذاً منه ، فإنّ هذا الرجل وكذا غيره مع تنصيصهم أحياناً بما يظهر منه حقيقة الحال تغافلوا كثيراً عن تبيان ما يضرّهم من حقّ المقال عند تفصيل الأحوال .

فاعلم أنّ ما ذكره كما ذكره ، بل إنّ جمّة من الاعتراضات الناشئة ممّا ذكره صدرت من الصحابة أيضاً ، بل ممّن هو من أعيانهم عند القوم ، وكفى في هذا ما ذكروه هم من منازعات عمر بن الخطّاب ، لا سيّما ما هو المسلّم المشهور من جداله ونزاعه يوم (٣) الحديبية ، بمحض الاستحسان العقلي في مقابل صريح أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى نقل جمع من أتباعه عنه أنّه اعترف صريحاً بأنّه شكّ ذلك اليوم ، وكذا في يوم عمرة المتعة ، كما هو مذكور في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما (٤) ، وسيأتي كثير منها كلٌّ في محلّه ، حتّى

__________________

(١) سورة الرعد ١٣ : ١٣ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١ ـ ٢٢ .

(٣) في «م» و «س» و«ش» زيادة : عمرة .

(٤) صحيح البخاري ٤ : ١٢٥ ـ ١٢٦ ، و ٦ : ١٧٠ ـ ١٧١ ، صحيح مسلم ٣ : ١٤١١ / ١٧٨٥ ، المصنّف لعبد الرزّاق ٥ : ٣٣٩ / ٩٧٢٠ ، السيرة النبوية لابن هشام ٣ : ٣٣١ ، مسند أحمد ٤ : ٥٣٧ / ١٥٥٤٥ ، المعجم الكبير ٢٠ : ١٣ ـ ١٤ ، السنن الكبرى للبيهقي ٩ : ٢٢٢ ، تاريخ الإسلام (المغازي) : ٣٧١ .

١١٤

أنّه مرّ في ضمن نقل الأخبار رواية عن عمر وغيره في المعارضة بالرأي يوم أبي جندل ، أي الحديبية ، فتذكّر .

لكن ما دام كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في صحّته وشوكته ، لم يقدر أحد على صريح المخالفة ، وكان المرجع إلى أمره ولو على رغم أنف بعضهم ؛ ولهذا لم يؤثّر يومئذٍ خلاف ولا اختلاف ، ولا ترتّب عليه فساد في الدين ، ولا ضرر على المسلمين .

نعم ، كان مبدأ ظهور تأثير ضرر المجادلة بالآراء ، والاختلاف بالأهواء من زمن مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث جسر بعض الناس حينئذٍ على المخالفة بآرائهم ، وتمشية مقتضى إرادتهم بأهوائهم ؛ لاشتغال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما به من العلّة ، وفتور الناس مِن همّ ذلك عمّا كان بهم في إنفاذ أمره من الهمّة ، ثمّ زاد فزاد حتّى انتشر الفساد ، وكلٌّ من ذلك على نهج قياس إبليس وتلامذته ومنازعتهم في قبول الحقّ ومتابعته ، وبنحو الشُّبه المترتّبة على ذلك ، ولوازمه وأسبابه التي أصلها التكبّر عن الانقياد والحسد والعناد .

وها نحن نذكر هاهنا ـ على طبق نقل الشهرستاني وأمثاله ـ من مخالفات الصحابة المتّصفة بما ذكر بعضَ ما هو من أعظمها فساداً على طوائف المسلمين ، وأوفقها طباقاً بما مرّ صدوره عن إبليس وتلامذته الكفّار والمنافقين وفاقاً تماماً ، حتّى من الجهات الموجبة للفساد في الدين ، وإن تغافل هؤلاء عن ملاحظة ما يضرّهم هاهنا من وجوه الموافقة ، وبيان ما هو الحقّ المبين ، فاستمع لما يتلى عليك .

قال ( الشهرستاني : إنّ أوّل تنازع وقع في مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما رواه

١١٥

البخاري في صحيحه : عن ابن عبّاس ـ ونقل الحديث المشهور ، وهو ـ أنّ ) (١) رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا حُضِرَ وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب ـ وفي رواية : لمّا اشتدّ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرضه الذي مات فيه (٢) ـ ، قال : «هلمّوا ، أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده» (٣) ، وفي رواية : «بعدي» (٤) ، وفي اُخرى : «ائتوني بكتف ودواة» (٥) بدل «هلمّوا» .

فقال عمر : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد غلبه الوجع ، وعندكم القرآن ، فحسبنا كتاب اللّه‏ ! فاختلف أهل البيت واختصموا ، فمنهم من يقول : قرّبوا يكتب لكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر .

فلمّا كثر اللَغَطُ والاختلاف عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «قوموا عنّي» (٦) .

أقول : قد ذكر الآمدي (٧) أيضاً مثله (٨) .

__________________

(١) ما بين القوسين لم يرد في «م» .

(٢) انظر : صحيح البخاري ١ : ٣٩ ، صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٧ / ١٦٣٧ .

(٣) صحيح البخاري ٦ : ١١ ، دلائل النبوّة للبيهقي ٧ : ١٨٣ ، الجمع بين الصحيحين ٢ : ٩ / ٩٨٠ ، الشفا للقاضي عياض ٢ : ٤٣١ .

(٤) صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٧ / ١٦٣٧ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٥٤ ـ ٥٥ ، نصب الراية ٣ : ٤٥٥ .

(٥) صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٩ ، ذيل الحديث ١٦٣٧ ، الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ : ٣٢٠ ، بتفاوت يسير .

(٦) صحيح البخاري ١ : ٣٩ ، و٦ : ١١ و٩ : ١٣٧ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢ .

(٧) هو عليّ بن أبي عليّ بن محمّد بن سالم التغلبي ، يكنّى أبا الحسن ، الملقّب سيف الدين الآمدي ، كان في أوّل اشتغاله حنبلي المذهب ، ثمّ انتقل إلى مذهب الشافعي ، وله كتب ، منها : أبكار الأفكار ، ورموز الكنوز ، ودقائق : الحقائق ، ولد سنة ٥٥١ هـ ، ومات سنة ٦٣١ هـ .

انظر : وفيات الأعيان ٣ : ٢٩٣ / ٤٣٢ ، سير أعلام النبلاء ٢٢ : ٣٦٤ /٢٣٠ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٢٥٩ / ٣٦٤٧ ، الوافي بالوفيات ٢١ : ٣٤٠ / ٢٢٣ ، شذرات الذهب ٥ : ١٤٤ .

(٨) حكاه عنه الجرجاني في شرح المواقف ٨ : ٣٧٦ .

١١٦

وهذه الحكاية مشهورة مسلّمة نقلها جماعة غير البخاري أيضاً ، مثل : مسلم في صحيحه ، والحميدي في جامعه ، وابن حنبل في مسنده ، والطبري ، والبلاذري (١) وغيرهم (٢).

حتّى أنّ في بعض طرقها مرويّة عن جابر أيضاً (٣) ، وفي بعضها مكان قول عمر : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غلبه الوجع ، قوله : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يهجر (٤) ، وفي رواية : هجر (٥) ، وفي اُخرى : ما شأنه ؟ أَهجر ؟ ! (٦) ، بل في آخر الحديث ـ على ما في صحيح البخاري وغيره ـ فكان ابن عبّاس يقول : إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة ! ما حال بين رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب (٧) ،

__________________

(١) هو أحمد بن يحيى بن جابر البغدادي البلاذري ، يكنّى أبا الحسن ، الكاتب الأديب ، كان شاعراً راوِيَةً ، وأحد النقلة من اللسان الفارسي إلى اللسان العربي ، له كتب منها : البلدان الصغير ، والبلدان الكبير ، والأنساب ، والفتوح ، مات سنة ٢٧٩ هـ .

انظر : فهرست ابن النديم : ١٢٥ ، معجم الأدباء للحموي ٥ : ٨٩ / ٢٦ ، سير أعلام النبلاء ١٣ : ١٦٢ / ٩٦ ، الوافي بالوفيات ٨ : ٢٣٩ / ٣٦٧٦ ، لسان الميزان ١ : ٤٨٩ / ٩٩٦ .

(٢) صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٩ / ١٦٣٧ (٢٢) ، مسند الحميدي ١ : ٢٤١ / ٥٢٦ ، مسند أحمد ١ : ٥٣٤ / ٢٩٨٣ ، و٥٥٢ / ٣١٠١ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٩٢ ـ ١٩٣ ، أنساب الاشراف ٢ : ٢٣٦ ، مسند أبي يعلى ٤ : ٢٩٨ / ٢٤٠٩ ، دلائل النبوّة للبيهقي ٧ : ١٨١ ، ١٨٣ ، الجمع بين الصحيحين ٢ : ٩ / ٩٨٠ .

(٣) انظر : مسند أحمد ٤ : ٣٠٨ / ١٤٣١٦ .

(٤) كما في مسند أحمد ١ : ٥٨٥ / ٣٣٢٦ ، وأنساب الأشراف ٢ : ٢٣٦ ، وتاريخ الطبري ٣ : ١٩٣ .

(٥) كما في المناقب لابن شهرآشوب ١ : ٢٩٢ ، وبحار الأنوار ٢٢ : ٤٧٢ / ٢١ ، وصحيح البخاري ٤ : ٨٥ ، والشفا للقاضي عياض ٢ : ٤٣٢ .

(٦) كما في تاريخ الطبري ٣ : ١٩٢ ـ ١٩٣ ، ودلائل النبوّة ٧ : ١٨١ ، والجمع بين الصحيحين ٢ : ٩ ـ ١٠ / ٩٨٠ .

(٧) انظر : صحيح البخاري ٦ : ١١ ـ ١٢ ، و٩ : ١٣٧ ، صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٩ / ١٦٣٧ (٢٢) ، المصنّف للصنعاني ٥ : ٤٣٩ / ٩٧٥٧ ، مسند أحمد ١ : ٥٣٤ / ٢٩٨٣ و٥٥٢ / ٣١٠١ ، دلائل النبوّة للبيهقي ٧ : ١٨٤ ، الجمع بين الصحيحين ٢ : ٩ / ٩٨٠ .

١١٧

وسيأتي نقلها مفصّلاً في محلّه إن شاء اللّه‏ تعالى .

وإذا عرفت هذا ، فاعلم : أوّلاً : أنْ لا خلاف ولا كلام ـ كما صرّح به القاضي عياض في كتاب الشفا ، وكذا جمع آخر ـ في عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أقواله في جميع أحواله ، وأنّه لا يصحّ منه فيها خلف ولا اضطراب في عمد ولا سهو ، ولا صحّة ولا مرض ، ولا جدّ ولا مزح ، ولا رضا ولا غضب ، وأنّه وإن لم يكن معصوماً من الأمراض وعوارضها من شدّة الوجع والغشي ونحوه (١) ممّا يطرأ على جسمه إلاّ أنّه معصوم من أن يكون منه القول في أثناء ذلك بما يطعن في معجزته ، ويؤدّي إلى فساد شريعته من هذيان ، أو اختلال (٢) في كلام (٣) .

وكذا لا كلام ولا مِرية في كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلم الناس بكتاب اللّه‏ عالماً بجميع ما فيه ، وكذا بأحوال الناس وما سيجري عليهم ولو فيما بَعْدُ ، حتّى أنّه كان يعلم من هذا وغيره ما لم يعلم غيره ، كما هو صريح ما تواتر عنه ؛ بحيث صار من مسلّمات كافّة الاُمّة من إخباره بكثير ممّا يأتي وما يجري على اُمّته .

وكذا لا شكّ في كونه أرحم وأشفق على اُمّته من كلّ أحد ، وأشدّ رأفة من غيره عليهم ، وأكثر سعياً وأعظم جهداً ممّن سواه في جمعهم على الحقّ وسوق الخير إليهم ، وأعرف بطرق جمع شملهم وحفظ دينهم وما يضرّهم وما ينفعهم .

وبالجملة : كان هو أكمل بكلّ وجه من غيره ، وأعرف من كلّ اُمّته

__________________

(١) في نسخة «ش» : «نحوها» .

(٢) في «ن» : «اختلاف» .

(٣) الشفا للقاضي عياض ٢ : ٤٣١ ـ ٤٣٣ .

١١٨

بهم ، وأحرص من جميع الوجوه عليهم .

ثمّ اعلم أيضاً أنّ الأصل في أوامر اللّه‏ ورسوله الوجوب ، كما حقّق في محلّه ، ومع هذا أمره المذكور هاهنا يجب أن يُحمل على الوجوب قطعاً ؛ لقيام القرينة عليه ، وهي وجوب المحافظة من الوقوع في الضلال ، حتّى أنّ الحقّ وجوب المحافظة ولو كان الوقوع على سبيل الاحتمال ، مع أنّ وقوعهم في الضلال بدون ذلك الكتاب كان عنده معلوماً ؛ إذ أخبرهم مراراً بذلك في أخباره الموجودة المسلّمة الورود منه (١) ، لا سيّما الأخبار الدالّة على تفرّقهم بضعةً وسبعين فرقة ، كلّها في النار إلاّ واحدة (٢) ، وأحاديث الحوض (٣) ، وأمثالهما .

بل الحقّ أنّه كان معلوماً أيضاً على كثير من الصحابة لا سيّما الخواصّ منهم ؛ لقرائن ، منها : كونهم من رواة تلك الأخبار ، ومنها : ظهوره من القرآن أيضاً ـ كما سيأتي في محلّه ـ من قوله تعالى : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ) إلى قوله : ( انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ) (٤) وغير ذلك ، وأيضاً حصول النجاة من الضلال بالكتاب المذكور لا بُدّ أن يكون معلوماً عنده ، كما ينادي به قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لن تضلّوا بعده» لا سيّما بلفظة «لن» التأبيديّة ؛ فالأمر

__________________

(١) في نسخة «ش» : «عنه» .

(٢) وردت هذه الرواية بألفاظ مختلفة وأسانيد متعدّدة من الخاصّة والعامّة .

انظر : كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٠٥ ، ٦٦٣ ، ٨٠٣ ، ٩١٣ ، الاقتصاد للطوسي : ٢١٣ ، المناقب لابن شهرآشوب ٣ : ٨٩ ، مسند أحمد ٢ : ٦٣٦ / ٨١٩٤ ، سنن أبي داوُد ٤ : ١٩٧ـ ١٩٨ / ٤٥٩٦ و٤٥٩٧ ، سنن الترمذي ٥ : ٢٥ / ٢٦٤٠ و٢٦٤١ ، جامع الاُصول ١٠ : ٣٣ / ٧٤٩٠ و٧٤٩١ .

(٣) انظر : صحيح البخاري ٨ : ١٤٨ ـ ١٤٩ ، وصحيح مسلم ٤ : ١٧٩٢ ـ ١٨٠١ / ٢٢٨٩ ـ ٢٣٠٥ ، وجامع الاُصول ١٠ : ٤٦٨ ، ٤٦٩ / ٧٩٩٤ ، و٧٩٩٨ .

(٤) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤ .

١١٩

للوجوب حينئذٍ ولو كان الوقوع في الضلال بدونه على سبيل الاحتمال .

وبالجملة : صُوَر الحال هاهنا منحصرة عقلاً في أربع :

أوّلها : كون كلٍّ من الوقوع في الضلال بدون الكتاب وعدمه معلوماً عنده ، وهي التي ينادي بأنّها الصورة الواقعة ظاهر عبارة الحديث والمتبادر منه ، وما هو معلوم من علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله به وبغيره ، وأنّه لا ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ، وغير ذلك من الوجوه الكثيرة ، وحينئذٍ لا شكّ في كون الأمر للوجوب قطعاً .

وثانيها : ما هو أبعد الكلّ من كونهما معاً محتملاً .

والثالثة والرابعة : احتمال الأوّل مع العلم بالثاني وبالعكس ، وهما أيضاً بعيدان ، ومع هذا لا يصلح حتّى في الصورة الثانية غير الحمل على الوجوب ؛ ضرورة لزوم دفع الضرر المحتمل أيضاً ولو بما يحتمل دفعه به ، هذا كلّه مع قوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (١) وأمثال ذلك ممّا يدلّ على عدم جواز ترك الأخذ والمسامحة في المتابعة فضلاً عن إجهار المخالفة والتصريح بالمنع من إجراء أمره والاهتمام في دفع إنفاذ قوله ؛ إذ لا شكّ لأحد في كون مثل هذا حراماً ، بل مشتملاً على الاستخفاف بقول اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولو كان ورود الأمر منهما على غير سبيل الوجوب .

وكذا اعلم أيضاً أنّ من ترك قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد خالف أمر اللّه‏ عزوجل صريحاً ؛ لوجوه عديدة ، منها : قوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (٢) ، الآية . فإنّه صريح في أمر اللّه‏ بأخذ ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ،

__________________

(١ و٢) سورة الحشر ٥٩ : ٧ .

١٢٠