ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

هذا ، مع قطع النظر عمّا ورد من الصراحة في الإمامة ووجوب الإطاعة ، والإغماض عن سائر ما سيأتي من نصوصها .

وكذا إذا لوحظ أيضاً ـ مع هذا كلّه ـ ما ورد متواتراً مسلّماً بين كافّة الأمّة ـ كما سيأتي مفصّلاً ـ من أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله صريحاً بالتمسّك بعده بكتاب اللّه‏ وعترته أهل بيته الذين أصلهم وأوّلهم علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وأنّهم (١) إن تمسّكوا بهما لن يضلّوا ، وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض (٢) ، حتّى في بعض رواياته : «لا تقدّموا عليهم ولا تعلّموهم ؛ فإنّهم أعلم منكم» (٣) . وفي بعضها : «اُوصيكم بأهل بيتي» ثلاث مرّات (٤) .

تبيّن (٥) حينئذٍ عياناً وبياناً ـ بحيث لا يبقى وجه شكّ ولا مجال شبهة لكلّ ذي بصر وإنصاف ـ أنّ في هذه القضيّة أيضاً كان صريح مخالفة الأمر ؛ إذ لا أقلّ من لزوم التمسّك بالعترة ولو في المشاورة ، فضلاً عن النصوص الصحيحة والأوامر الصريحة الآتية في وجوب إطاعة عليّ عليه‌السلام ، وكذا صريح كون تلك المخالفة لأجل قياس فاسد بمحض استحسان عقل بعضهم رأي بعض بهوى نفوسهم ، فإنّهم حيث اختاروا في السقيفة أبا بكر بنحو ما بيّناه ، فكأنّهم في الحقيقة قاسوه بسائر الصحابة حتّى بعليّ عليه‌السلام ، فرجّحوه بما ذكرناه من قرشيّته على الأنصار وسائر من لم يكن من قريش ، وبقِدَم صحبته على من لم يكن كذلك ، وبشيبته أو غيره أيضاً ممّا سيأتي

__________________

(١) في «م» : «وأمرهم» .

(٢) بصائر الدرجات : ٤٣٣ ، ٤٣٤ / ٣ ، ٥ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٦٢ / ٢٥٩ ، معاني الأخبار : ٩٠ ـ ٩١ / ١ ، ٥ ، المناقب لابن المغازلي : ٢٣٤ / ٢٨١ .

(٣) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٦٥٠ و٦٥٥ .

(٤) انظر : صحيح مسلم ٤ : ١٨٧٣ / ٢٤٠٨ ، المناقب لابن المغازلي : ٢٣٦ / ٢٨٤ .

(٥) قوله : «تبيّن» جواب لقوله في ص ١٥٥ : «ثمّ إذا لوحظ هذا . . .» .

١٦١

على عليّ عليه‌السلام وغيره من أكابر الصحابة .

ولا يخفى أنّه بعينه من قبيل قياس إبليس وتلامذته ـ الذين ذكرناهم على وفق ذكر الشهرستاني وأمثاله من القائلين بصحّة هذه البيعة ـ إذ كما أنّه قاس نفسه في مقابل أمر ربّه بآدم عليه‌السلام فرجّحه عليه من جهة الخلقة من النار ، والكبر في العمر الذي صرفه في عبادة الجبّار ، بحيث اشتهر بين الملائكة الأجلّة الكبار ، من غير ملاحظة أن لابدّ أن يكون في آدم عليه‌السلام من النورانيّة وغيرها من الحالات ما رفعه اللّه‏ بها عليهم أجمعين ، فأمرهم بالسجود له لأجلها وإن لم يعلموا بها .

فكذا هاهنا قاسوا أبا بكر في مقابل صريح الأمر بالتمسّك بالكتاب والعترة الذي هو عين إطاعة عليّ عليه‌السلام ، كما هو ظاهر وسيظهر ، فضلاً عن سائر الأوامر بسائر الصحابة حتّى العترة ، فرجّحوه عليهم جميعاً بما ذكرناه آنفاً ، أو بغيره ممّا سيأتي أيضاً من غير ملاحظة ما كان ظاهراً في عليّ عليه‌السلام من الحالات المتقدّمة وغيرها التي قدّمه اللّه‏ بها عليهم ، فأمرهم بالتمسّك به ولو في ضمن لفظة «العترة» ، حتّى أنّه لو لم يظهر فيه شيء ممّا ذكر إلاّ محض كونه (١) مصداق العترة المعهودة ، لكان عليهم ملاحظة أن لا بدّ في أمر اللّه‏ سائر الأُمّة بالتمسّك به من وجود مزيّة موجبة لذلك وإن لم يعلم بها غير اللّه‏ ، مع أنّه عزوجل لا يُسأل عمّا يفعل (٢) بنحو ما تقدّم (٣) في جواب شُبه الشيطان ، فلا أقلّ من إحضار عليّ عليه‌السلام والتمسّك بشوره وترك القياس فيه كما مرّ (٤) في إبليس ، بل ولا أقلّ من الاستشارة بغيره من العترة .

__________________

(١) في «ش» زيادة : «محض» .

(٢) في «م» زيادة : «وهم يسألون» .

(٣) في ص ٩٥ .

(٤) في ص ٩٨ .

١٦٢

على أنّ الحقّ انحصار العترة هاهنا فيه وفي ولده بقرينة تقييدها في الخبر بقوله : «أهل بيتي» ، وانحصار أهل البيت بحسب أخبار آية التطهير في الخمسة (١) .

ومن هذا يظهر أنّ عملهم بالقياس هذا أقبح من قياس إبليس ؛ لعدم علمه بأكثر ما في آدم من الكمال ، بخلاف هؤلاء المطّلعين على عليّ عليه‌السلام ـ كما تبيّن ـ على أكثر الأحوال.

وكما كان مبنى مخالفة إبليس وقياسه على محض رأيه واستحسان عقله ، حتّى أنّ أصل باعثه على هذا واقعاً كان الاستكبار والحسد ومتابعة هواه المرغّب له في عدم السجود ، كذلك هاهنا كان أصل مبنى ما صدر منهم ذلك اليوم ـ كما هو واضح من نقلهم قصّة ذلك اليوم ، كما أشرنا إلى خلاصتها آنفاً وستأتي في محلّها مفصّلة ـ على استحسان جمع منهم ـ لا سيّما بعض الأنصار ـ ما لفّقه بعض أعوان أبي بكر ممّا كان على مقتضى رأيهم بحسب ما كان هواهم فيه ، من دون ملاحظة غير ما هو من هذا القبيل ، كدلالة آية محكمة ، أو سنّة قائمة ، أو حجّة قاطعة ؛ بحيث إنّهم لم يتذكّروا وجود كتاب أو سنّة ، فضلاً عن ورود الأمر بالأخذ بهما ، مع صياح عمر يوم منع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكتابة : حسبنا كتاب اللّه‏ !

بل لم يتركوا فرصة لأحد في تذكّر الكتاب أو الرجوع إليه ، حتّى أنّهم لم يفعلوا أن يصبروا حتّى يفرغ الناس من تجهيز رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيجتمع جميع من حضر المدينة من بني هاشم والمهاجرين والأنصار ، ولا أقلّ من عليّ عليه‌السلام والعبّاس وسائر أعيان الصحابة الكبار من قبيل : سلمان ،

__________________

(١) انظر : نهج الحقّ : ١٧٣ ـ ١٧٤ ، والصراط المستقيم ١ : ١٨٤ .

١٦٣

وأبي ذرّ ، وحذيفة ، والمقداد ، وعمّار وأمثالهم المسلّمين في العلم والأمانة والخيريّة والاعتبار عند الرسول المختار ، فيستشيرونهم ويستفهمون ما عندهم ، فيعملون بما يستقرّ عليه قول الجميع ؛ إذ لا أقلّ من احتمال أن يكون عند بعض منهم شيء في ذلك من الكتاب أو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما كان هذا دأبهم في سائر الاُمور ، حتّى أبي بكر وعمر في خلافتهم .

وأيّ شيء أخرج هذا من سائر الأحكام ؟ أما كان عمر يصيح ـ كما ذكرنا (١) ـ لمّا أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الكتابة : حسبنا كتاب اللّه‏ ؟

أما أمرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتمسّك بالكتاب والعترة ـ كما بيّنّا ـ فأيّ شيء أنساهم عن جمع العترة والأصحاب والتمسّك بما ظهر من العترة والكتاب ؟ وأيّ شيء دلّهم على نسخ وجوب التمسّك بالكتاب والعترة ، وصيرورة حكم اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله مطلقاً أو في هذه المقدّمة مع عظمها منوطاً برأي خصوص هؤلاء الجماعة ، لا سيّما أبي بكر وعمر اللَّذَيْن هما هاهنا لا أقلّ بمنزلة المدّعي ، وفي مقام التهمة ، لا سيّما في هوى الرئاسة التي تقمّصوها ، وحسد الانتقال إلى الغير ؛ ضرورة شمولهما ما سوى المعصوم ، كما تنادي به التجربة حتّى في زهّاد الأخيار ؟

هذا ، مع دلالة ما مرّ في حكاية منع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكتاب من خبر تاريخ بغداد وغيره (٢) ، وما سيأتي في شكايا عليّ عليه‌السلام وغيرها على عدم إرادة الشيخين ، بل بعض آخَر أيضاً ، لا سيّما عمر ، استخلافَ عليّ عليه‌السلام ، فتدبّر .

__________________

(١) في ص : ١١٦ .

(٢) تقدّم في ص ١٣١ ، هامش (٥) .

١٦٤

وأمّا حسد بعض الأنصار ابن عمّه سعد بن عبادة في إعانتهم فظاهر ، كما سيأتي مفصّلاً في حكاية السقيفة .

ومن صريح الشواهد على هذا ، بل أوضح القبائح : ما أشرنا إليه آنفاً (١) من أنّ هؤلاء بعد بيعتهم الخاصّة في ذلك الموضع ومجيئهم إلى المسجد لم يفعلوا أيضاً أن يجمعوا فيما بعد الذين ذكرناهم ، ويستشيروهم في أمرهم على سبيل الشور والاختيار ، حتّى يتيسّر لمن كان عنده شيء من العلم والمصلحة في ذلك أن يبرز ما في قلبه إلى حدّ الإظهار ، بل مضوا على إجراء تلك البيعة على الصغار والكبار ولو على سبيل الحكم والإجبار ، بحيث لم يقدر أكثر الناس على التفوّه إلاّ بما لم يكن فيه شيء من روائح الإنكار ، حتّى أنّه لمّا تكلّم بعضهم ولو بما كان فيه من إظهار خطئهم نوع إشعار ، زجروه وأهانوه بما قدروا عليه حتّى سكت وأطاعهم ظاهراً ولو كان عندهم من كبار الأخيار .

وسيأتي في مقالات المقصد الثاني بيان ما ينادي بجميع ذلك مفصّلاً ، وأنّ هذا هو حقيقة حال ما تشبّث به الجمهور في تصحيح أمر السقيفة ، وبيعة الخلافة من دعوى الإجماع ، مع بيان تحقيق معنى ما هو المراد بالإجماع الذي روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنّ المراد به اجتماع جميع الاُمّة ، بحيث لم يبق أحد حتّى يقطع بدخول المحقّين فيه ، وتوضيح أنّ هذا ليس منه في شيء ، بل إنّ (٢) أصل مبناه على محض ما ذكرناه من رأي هؤلاء الجمع حتّى في مقابل الأمر ، بل ولم يكن من رأي جميع اُولئك

__________________

(١) في «ش» زيادة : «أيضاً» .

(٢) كلمة «إنّ» لم ترد في «م» .

١٦٥

الجمع أيضاً ؛ لما سيأتي في محلّه من عدم بيعة سعد بن عبادة الذي كان رئيس الخزرج ، ومن نقباء الصحابة الكبار الذين كانوا عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في كمال الاعتبار ، وكذا نفر من رَبعه (١) ذلك الوقت ، حيث لم يرضوا بذلك الرأي ، حتّى أنّ سعداً لم يبايع أبا بكر فيما بَعْدُ أيضاً .

هذا ، مع ظهور كون رأيهم هذا فاسداً في نفسه كرأي إبليس وتلامذته ؛ لما ذكرناه من بطلان أصل الرأي مطلقاً ، لا سيّما في مقابل الأمر ، وبطلان ما مرّ ويأتي من الوجوه التي ذكروها في ترجيح خصوص هذا الرأي أيضاً .

وكذا مع ظهور ما مرّ بيانه مجملاً سابقاً ، ويأتي بيان تفصيله في محلّه صريحاً واضحاً ، من الفسادات والضلالات التي ترتّبت على العمل بمقتضى هذا الرأي ، التي منها حصول الاختلافات التي هلكت بها بالوقوع في الضلالة اثنتان وسبعون فرقة عظيمة من هذه الاُمّة ـ كما سيأتي بيانه إلى حدّ العيان في الفصل الخامس الآتي ـ كما كان كذلك بعينه ما ترتّب على عمل إبليس برأيه من هلاكة نفسه وشياطينه وعامّة الجنّ والإنس ، حتّى أنّ هذا أحد القرائن الواضحة على عدم كون تلك البيعة لأجل ما ادّعوه من الإجماع الذي روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ؛ ضرورة أنّ ترتّب الفسادات والضلالات المذكورة على تلك البيعة يستلزم كونها خطأً في نفسها ، وقد

__________________

(١) أي : جماعته .

انظر : لسان العرب ٨ : ١٠٢ ، مادّة ـ ربع ـ .

(٢) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لن تجتمع اُمّتي على الضلالة أبداً فعليكم بالجماعة فإنّ يد اللّه‏ على الجماعة» .

انظر : المعجم الكبير ١٢ : ٤٤٧ / ١٣٦٢٣ ، مجمع الزوائد ٥ : ٢١٨ .

١٦٦

صرّح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على أنّ مثل ذلك الإجماع لا يكون على فساد ولا خطأ ، فكيف يمكن دعوى كون تلك البيعة من ذلك الإجماع ، لا سيّما بعد ملاحظة ما بيّنّاه أيضاً من أنّ الذي ينادي به تفحّص حقيقة الحال أنّ مبنى هذه البيعة إنّما كان على محض الاستبداد بالرأي والقياس من بعض الناس على مثل استبداد إبليس .

حتّى أنّه يظهر أنّ هذا مثل قياس إبليس أيضاً فيما مرّ (١) في قياسه من استلزام الغلوّ والتشبيه وغير ذلك ؛ حيث إنّهم غلوا في أبي بكر حتّى جعلوه في المرتبة التي سيأتي في محلّه أنّها مرتبة الأنبياء والأوصياء المعصومين العلماء بجميع الاُمور من اللّه‏ ربّ العالمين ، حتّى أنّهم قدّموه وفضّلوه على عليّ عليه‌السلام الذي كان من أعلم (٢) الأوصياء (٣) ؛ باستجماعه الكمالات المتقدّمة والآتية بنصّ (٤) خاتم النبيّين ، حتّى أنّه ربّما يقال : باستلزام تفضيلهم هذا أن يفضّلوه (٥) على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (٦) ولو فيما سوى النبوّة ؛ لما مرّ من كون عليّ عليه‌السلام بمنزلة النفس من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلقِهما من نور واحد (٧) ، وأمثال ذلك ممّا سيأتي .

ثمّ إنّهم لم يخصّوا ذلك بأبي بكر ، بل جعلوا عمر وعثمان أيضاً كذلك ، حتّى أنّهم غلوا في أنفسهم أيضاً ؛ حيث اتّخذوا مرتبة النبوّة بل

__________________

(١) في ص : ١٠٤ .

(٢) في «س» و«ش» : «أعظم» .

(٣) في «م» زيادة : «المعصومين» .

(٤) في «س» و«ش» و«م» : «ونصّ» وما أثبتناه من «ن» .

(٥) في «ن» : «فضّلوه» .

(٦) في «س» زيادة : «أيضاً» .

(٧) تقدّم في ص ١٠٠ .

١٦٧

الاُلوهيّة في تعيين الإمام الذي سيأتي كونه مختصّاً بهما ، بل لا يكون إلاّ بأمر من (١) اللّه‏ وتعيينه ، حتّى من دون مدخليّة الأنبياء أيضاً .

وكذا نقصوا حقّ عليّ عليه‌السلام وأنزلوه عن مرتبته ، وشبّهوه بسائر الناس فيما لا يشبههم كما هو ظاهر ؛ ولهذا كان عليّ عليه‌السلام يقول : «الدهر أنزلني وأنزلني حتّى قيل : قال عليّ وقال معاوية» (٢) .

بل إنّهم شبّهوا الإمامة الإلهيّة والقيام مقام الأنبياء بسائر الرئاسات المتعارفة ، ونقصـوا حالة الإمامـة عـن مرتبتها التي هي تالية النبوّة عنـد اللّه‏ عزوجل ، بل نقصوا رتبة النبوّة عمّا هي عليه أيضاً ، وكذا حقّ رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشبّهوه أيضاً بسائر الناس (٣) من جهاتٍ التي منها ما يلزم من تنقيص عليّ عليه‌السلام كما أشرنا إليه ، ومنها ما يلزم من تنقيص رتبة الإمامة التي مثل النبوّة في سائر الصفات ؛ إذ استئهالهم أبا بكر لها مع ظهور كونها من قبيل النبوّة أدلّ دليل على أنّهم لم يزعموا في النبوّة وكذا النبيّ تلك المرتبة العالية التي لهما واقعاً .

ومنه يظهر وجه التنقيص الذي يلزم من أصل مدخليّتهم في تعيين الخليفة ؛ حيث يدلّ ذلك على أنّهم زعموا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من حيث عرف أنّ تعيينهم أصلح للاُمّة فوّض ذلك إليهم ، وذلك إنّما يكون إذا لم يعلم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما علموا من وجه الصلاح ، أو علم عجزه عن إجراء ذلك مثلهم ، وإلاّ لفعل مثل ما فعلوا حتّى يكون ألزم كما هو واضح ، بل يلزم أن لا يعلم

__________________

(١) كلمة «من» لم ترد في «ش» .

(٢) لم نعثر عليه .

(٣) في «ش» : «الخلق» بدل «الناس» .

١٦٨

هو من بيده تجري المصلحة أيضاً ؛ لأنّه جعل أخيراً هؤلاء الذين جرت هذه المصلحة على أيديهم تحت جيش اُسامة ، حتّى أنّه لم يرخّصهم في التأخير أبداً ، لكنّهم ـ بزعم أتباعهم كما مرّ ـ من حيث علمهم بصلاح الاُمّة في تأخيرهم تخلّفوا حتّى جرت هذه المصلحة على أيديهم . وهذا مع كونه ظاهر السخافة ، يستلزم التنقيص على اللّه‏ عزوجل أيضاً ، كما هو ظاهر .

فتأمّل في جميع ذلك حقّ التأمّل ، حتّى تعرف أيضاً سخافة سائر التوجيهات من التمحّلات التي ذكرها جمع منهم في هذا المقام ؛ لتصحيح التعيين المذكور ، والتعجيل فيه ـ ممّا سيأتي كلٌّ مع جوابه الشافي في محلّه ـ التي عمدتها ما ذكروه في قِدَم صحبته من اختصاصه بمرافقة الغار ونزول الآية فيها ، وما ادّعاه جماعة أيضاً من أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أبا بكر بالإمامة في الصلاة ، ومن كون ميل أكثر الناس إليه وانحرافهم عن بني هاشم ، لا سيّما عليّ عليه‌السلام ، ومن كونه كالوالد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليّ عليه‌السلام كالولد ، ودخوله في المشاورات ، وإمارته في بعض الأسفار ، وممّا نقلوا فيه من بعض الآيات والأخبار ، حتّى اعتذر بعضهم عن التعجيل في تعيينه بخوف الناس من هجوم الأعراب ـ كمسيلمة وأمثاله ـ على المدينة ، وعن صرف ذلك عن عليّ عليه‌السلام إلى هؤلاء بإرادتهم إعلام أنّ هذا الأمر ليس كسلطنة سائر الملوك والحُكّام في التوريث بها ، وأمثال ذلك .

فإنّ أوّل ما يقلع أساس جميع ما بنوا عليه من أصله أن يقال أوّلاً (١) : لا شكّ فيما مرّت الإشارة إليه مراراً وسيأتي بيانه مع وضوحه كراراً ، من أن

__________________

(١) في «م» و«ن» : «لهؤلاء» بدل «أوّلاً» .

١٦٩

ليس على العباد في جميع ما ورد عن اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ الذي لا ينطق عن الهوى ، لا سيّما المعلوم أنّه (١) من وحي يوحى ـ إلاّ الطاعة والقبول والانقياد ، حتّى لا يجوز لهم السؤال عن وجه الحكمة في الأمر ، فضلاً عن التصرّف فيه بالردّ والاستنقاد ، ولا سيّما ترجيح الاستبداد بالرأي عليه الذي قد ظهر عياناً بطلانه مطلقاً ، واستلزامه الضلال والإضلال أبداً ، وكونه فعل الشيطان أوّلاً ، ودأب أهل الكفر والطغيان سابقاً ولاحقاً ، وأصل الشُبه المتولّدة من عدم الإذعان بحكمة اللّه‏ الناشئ من ذلك أيضاً كما هو ظاهر ، وينادي به ما نقله الشهرستاني ـ كما مرّ بيانه ـ في شُبه إبليس من أنّ اللّه‏ سبحانه أجابه عن جميع ما أورده من شُبهه : بأنّك لو كنت صادقاً في دعوى اعتقادك بأنّي ربٌّ حكيم ، مخلصاً بأنّي إلهك وإله الخلق أجمعين ، لما خالفت أمري وحكمت (٢) عليَّ بـ : لِمَ ، فأنا اللّه‏ الذي لا إله إلاّ أنا ، لا أُسأل عمّا أفعل والخلق مسؤولون (٣) .

وإنّ حال هؤلاء في فعلهم المذكور كان بعينه مثل ذلك ، فإنّهم لو اعتقدوا صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمره ، وأنّه لم ينطق عن الهوى ؛ حيث أمرهم بالتمسّك بعده بالكتاب والعترة دون غيرهما ، حتّى صرّح بانحصار الخلاص من الضلالة فيهما ، وعلموا أنّ ربّهم الذي أمرهم صريحاً بأخذ ما آتاهم الرسول وترك ما نهاهم عنه ، حكيم عليم مختار في أمره لا يُسأل عمّا يفعل ، وكانوا موقنين بصدق قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ

__________________

(١) في «م» «ن» ، وأنّه .

(٢) في «س» و«م» و«ن» : واحكمت ، وفي المصدر : «واحتكمت» .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٨ ، وتقدّم تخريجه أيضاً في ص ٩٤ ، هامش (٣) .

١٧٠

إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (١) ، لَما فعلوا ما فعلوا ممّا هو بيّنٌ صريحاً أنّه عين الترجيح بالرأي في مقابل أمر اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتمسّك المذكور ؛ ضرورة أنّ الواجب عليهم (٢) حينئذٍ كان أنْ لا يفعل أحد منهم شيئاً غير أن يحضروا عند العترة ويأتوا بالكتاب ، فيبنوا الأمر في شوراهم على ما اتّفق عليه دلالة الكتاب وشور العترة لا غير ذلك ، وإن رجّحه رأي ما سوى العترة وسائر الوجوه المرجّحة .

هذا ، مع أنّهم ـ كما أوضحناه ويتّضح أيضاً عياناً بحيث لا يتطرّق إليه الإنكار ـ لم يعبأوا بشأن الكتاب في السقيفة ولا العترة ، حتّى أنّهم لم يتوجّهوا إلى واحد منهما ، فضلاً عن التمسّك بهما معاً .

أمّا الكتاب فظاهر ـ كما مرّ صريحاً ـ أنّه لم يتفوّه أحد منهم ذلك الحين باسم الكتاب ، فضلاً عن المراجعة إليه أو الأمر به ، حتّى أنّ الذي كان يصيح يوم منع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الكتابة : حسبنا كتاب اللّه‏ ، لم يتذكّر ذلك الحيـن بوجـود كتاب مـن اللّه‏ ، وفيـه مالا يخفى على الناقد البصير ، حتّى أنّه لا يمكنهم الاعتذار باحتمال عدم وجود هذا الأمر أو ظهوره من القرآن ؛ لما سيأتي في محلّه واضحاً بيّناً من وجود كلّ شيء في الكتاب وظهور استنباطه على أهل العلم به ، وكفى في هذا مطلق أمر الناس بالتمسّك بالكتاب والعترة ، على أنّ هذا الاعتذار يشين الأمر شديداً على من منع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن استخلاص الناس من الضلال بقوله : حسبنا كتاب اللّه‏ ! فافهم .

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٦ .

(٢) في «م» زيادة : «من اللّه‏ ورسوله» .

١٧١

هذا ، مع أنّ الحقّ الواضح ـ كما سيأتي مفصّلاً في محلّه ـ أنّ في القرآن آيات كثيرة دالّة على خطئهم ذلك اليوم ، لا سيّما من جهة ما قالوا من تفويض اختيار الإمام إلى الاُمّة ، كقوله تعالى : ( لْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) إلى قوله : ( وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ ) (١) ، وأمثال ذلك ممّا يأتي ، وكذا من جهة الدلالة على اختصاص عليّ عليه‌السلام بالخلافة ، وهي أكثرها ، وتأتي أيضاً في فصول نقل فضائله وغيرها .

نعم ، عدم ظهور ما يدلّ على صحّة ما بنوا عليه أمرهم ، بل عدم وجوده فيه مسلّم ، وكان هذا هو وجه سكوتهم عن الكتاب ؛ إذ من البيّن أنّهم لو وجدوا ملجأً صحيحاً فيه ولو آية محكمة صريحة في أمرهم لتمسّكوا به حتّى يخلصوا عن التشبّث برأيهم ، بل لصاحوا به على المنابر ، كما ينادون بآية الغار مع أنّها ـ كما ستأتي في محلّها ـ لا تفيد لأبي بكر إلاّ العار والشنار .

وأمّا العترة ، فحالها في الترك أظهر من الكتاب ؛ ضرورة أنّ أهل التمسّك منهم ذلك اليوم كان منحصراً عرفاً في عليّ عليه‌السلام والعبّاس وواقعاً ـ لما سيأتي ـ في عليّ عليه‌السلام ، وعدم حضورهما في السقيفة واضح ؛ إذ لم يجز عندهما ترك تجهيز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل لم يخطر ببالهما ما فعل هؤلاء ، وأمّا هم ، فلم يخطر ببالهم حينئذٍ وجود العترة في الدنيا ، بل ربّما يقال بأنّه لم يُرد بعضهم حضورهما إن لم نجزم بذلك ، وكفى شاهداً أنّه لم يتكلّم أحد منهم بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمرنا بالتمسّك بالعترة ، فأين العترة ؟

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٦٤ .

١٧٢

وبالجملة : عدم مدخليّة العترة ذلك الحين في البيعة ولا في الشَّوْر لا شكّ فيه ، ولا يمكنهم إنكاره ، بل لم ينكروا أيضاً ، فإذاً لا يبقى مجال شكّ في عدم تمسّكهم حينئذٍ بالعترة ، وعدم تحقّق الإجماع الذي يأتي أنّه مجزوم الصحّة ، ولا أقلّ من عدم الجزم بتحقّقه .

ثمّ إنّهم بعد ذلك ـ كما أشرنا إليه آنفاً ويأتي مفصّلاً ـ لم يتعرّضوا أيضاً بما كان عليهم من التمسّك المذكور ، ولا أقلّ من تحقيق صحّة ما بنوا عليه أمرهم وسقمه منهما ولو على سبيل الاستشارة والاستفادة ، بل كان مبنى أمرهم على صحّة فعلهم المبتني على رأي بعضهم ، ومنتهى همّتهم على دعوة الناس إلى بيعتهم طوعاً أو كرهاً ، فتركوا ذكر الرجوع إلى ما في الكتاب بالمرّة ، بل رُدع من استمسك به ، كما ينادي به ما ذكروه في مشاجراتهم مع بعض مَنْ عارضهم ؛ حيث لم يجدوا فيه ما ينفعهم من المحكمات ، كما ذكرنا آنفاً .

وأمّا العترة ، فما نقله هم في كتبهم المعتبرة عندهم من مشاجرات (١) عليّ عليه‌السلام ، حتّى بعـض من تبعه أيضاً كالعبّاس والزبير وغيرهما معهم ، مـن أوّل الحال إلى أن انتهى إلى حدّ الإلجاء إلى الإطاعة ظاهراً من قلّة الأنصار وعدم الاقتدار وغير ذلك ـ كما سيأتي مفصّلاً ـ واضح الدلالة على ما هو خلاف شرط التمسّك ، فضلاً عمّا نقله أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وبعض الصحابة ممّا يدلّ صريحاً على أنّهم آذوا عليّاً عليه‌السلام حتّى بايع قهراً (٢) .

__________________

(١) في «م» : «مشاجراتهم مع» .

(٢) انظر : تفسير العيّاشي ٢ : ٢٠٤ / ١٧٥٦ ، الاختصاص : ١٨٦ ، اختيار معرفة الرجال : ٦ / ١٢ ، الاحتجاج ١ : ١٨٣ و٢١٣ .

١٧٣

مع أنّه يكفي هاهنا في صدق تركهم التمسّك ما هو مسلّم قطعاً من صدور الإباء من عليّ عليه‌السلام بأيّ نهج كان ، ومن أيّ جهة صدر ؛ إذ لا أقلّ من دلالة ذلك على عدم طيبة خاطرٍ له ، بل وجود كُرْهٍ منه ؛ إذ لو تحقّق التمسّك ولو في الشور لم يكن ذلك أصلاً ، بل الحقّ أنّ عدم إسراعه إلى الدخول معهم حجّة عليهم ؛ إذ شأنه أعلى من نسبة أدنى مداهنة إليه فيما فيه صلاح المسلمين ورضا اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورواج الدين ، ولا يمكنهم الاعتذار باشتغاله بأشغال اُخَر ؛ إذ عندهم أنّ هذا كان أعظم حتّى من تجهيز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومع هذا كان يمكن أن يحضرهم لحظة ويصوّب أمرهم ويرجع إلى شغله ، لا سيّما بعد الفراغ من التجهيز . نعم ، الحقّ ـ كما سيظهر ـ أنّ ما ورد من اعتذاره فإنّما هو دفاع منه عن الدخول معهم .

وبالجملة : لا يمكن إنكار عدم رضاه ، بل ولا عدم رضا جماعة من الأعيان بفعلهم ، كما سيظهر عياناً ، وبه يتحقّق تركهم الاستمساك المذكور ، فضلاً عن سائر ما نقل في هذا المقام .

وأمّا الإطاعة أخيراً فلا حجّيّة فيها أصلاً ، كما هو ظاهر ؛ ضرورة عدم استلزام ذلك رضاه عنهم باطناً . بل الحقّ ـ كما يظهر من فعله أوّلاً وشكاياته أخيراً ، وأمثال ذلك ممّا سيأتي مفصّلاً ـ عدم رضاه عنهم ، وعدم تصويبه فعلهم أصلاً ، وأنّ الإطاعة ظاهراً كانت لبعض المصالح والمداراة ونحوهما بعد إتمام الحجّة وبيان الحقّ بما فَعَل أوّلاً ، على أنّه يكفي لنا فيما نحن فيه كون أصل مبنى فعلهم على محض الرأي بدون التمسّك بالكتاب والعترة ، مع أنّ حقّ التمسّك بالعترة أن يجعلوا الخلافة لعليّ عليه‌السلام ، كما سيأتي أيضاً ، فتأمّل .

١٧٤

ثمّ إنّ لنا أن نرجع إلى أصل الجواب القالع (١) أساس بنيانهم ، فنقول ثانياً : إنّ جوابنا الأوّل كان على سبيل المماشاة معهم في ادّعاء عدم صدور تعيين الإمام من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإلاّ فالحقّ أنّ اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله عيّنا عليّاً عليه‌السلام وصيّاً لرسول اللّه‏ (٢) صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإماماً للمسلمين ، ومعلّماً لأحكام الدين ، وأنّ هؤلاء الجماعة خالفوا اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في فعلهم المذكور ، واستبدّوا برأيهم في مقابل أمر اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعين ما مرّ من أفعال الشيطان وتلامذته وسائر أتباعه من أهل الملل السالفة حذو النعل بالنعل ، التي منها حكاية هارون والعِجْل ، ومن دخل في وصاية أوصياء موسى وعيسى عليهما‌السلام مثلاً ، كما مرّ سابقاً .

وذلك لأنّه لا شكّ في أنّه قد ورد في عليّ عليه‌السلام مع استجماعه ـ كما ذكرنا مجملاً ـ الكمالات التي خصّت به أو عمّت خصوص من يأتي كونه مثله من نسله ما هو ثابت ، حتّى من نَقْل منكري خلافته ، بل مع اعترافهم أيضاً بصحّته ، ممّا ينادي بأنّه كان متعيّناً من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لهذا الأمر ، حتّى النصوص الصحيحة الصريحة في ذلك بالنسبة إليه خاصّة ، أو مع مشاركة بقيّة الأئمّة عليهم‌السلام من نسله معه أيضاً ، حتّى مع نفي مدخليّة غيرهم ، كما سيأتي جميع ذلك مفصّلاً ، لا سيّما في فصول اُخَر من مقالات المقصد الأوّل ، بحيث إنّ بعد التأمّل فيها سنداً وكثرةً ودلالةً ، وبحسب القرائن الحاليّة والمقاليّة وملاحظة بعضها مع بعض لا يبقى لمن فيه شائبة من الإنصاف شكّ ولا شبهة في وصولها إلى حدّ القطع بالورود ، والجزم بالدلالة على المقصود ، لا سيّما مع إضافة ما سيتّضح في سائر مقالات المقصد

__________________

(١) في «ش» : «القاطع» .

(٢) في «ش» و«س» : «للرسول» .

١٧٥

المذكور وغيرها من ثبوت لزوم ورود جميع الأحكام من اللّه‏ تعالى ، ووجود المعلّم طول بقاء التكليف ، وكونه إمّا نبيّاً أو وصيّاً متّصفاً بصفات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا سيّما العلم والعصمة واليقين ، وكون ذلك كذلك أبداً من زمان آدم عليه‌السلام .

هذا كلّه مع ادّعاء عليّ عليه‌السلام ذلك كلّه ، وأنّه الإمام في عصره ، مع كونه مسلّماً في العلم بحيث لا يحتمل توهّمه في دعواه ، وفي الصدق بحيث لا يمكن تكذيبه ، فافهم .

وإن تشبّث أحد بأنّ اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا كانا معيّنَين عليّاً عليه‌السلام للإمامة ، فلِمَ لم يحتّما على الاُمّة حتماً صريحاً ، بحيث لا يتمشّى لهم فيه الخلف والتبديل ، ولا يحتمل الاستنكار ؟

فجوابه : أوّلاً : إنّ هذا الكلام بعينه في مقابل ما ورد من الأدلّة من قبيل شُبهة إبليس وحكمه على اللّه‏ بـ : لِمَ ، وسؤاله عن الحكمة ، كما مرّ (١) ، وكذا أمثال ذلك من الشبهات التي أصلها من شُبهة الشيطان التي ذكرناها سابقاً مع جوابها .

وثانياً : بأنّ إرادة اللّه‏ تعالى ما مرّ سابقاً من امتحان العباد ، وتمييز الطيّب من الخبيث (٢) ، وكذا ما سيأتي من عدم تعذيب هذه الاُمّة بمثل عذاب الاستئصال ، وأمثالهما من سائر الحِكَم البالغة اقتضت ذلك النوع من البيان ، فصار ذلك ـ كما مرّ في حكاية الشيطان ـ سبب شبهة أهل الضلال ، الجاهلين بأسرار حكم اللّه‏ المتعالي ، المعترضين لذلك على ربّهم في ضمن السؤال ، بل هذا هو أدلّ دليل أيضاً على أنّ الاعتماد على مقتضى الرأي

__________________

(١) في ص ٩٣ .

(٢) انظر ج ١ : الباب الثاني .

١٧٦

يوقع في الضلال ، فتدبّر .

وإذا تبيّن هذا ، فاعلم أيضاً أنّ لكلّ واحدٍ من التمحّلات التي ذكرناها عنهم جواباً متفرّداً أيضاً مذكوراً في محلّه ، ولا بأس إن أشرنا إلى جُمل من ذلك لزيادة الاستبصار ، فنقول:

أوّلاً : جميع ما ذكروا في أبي بكر ممّا لا يعادل بعض ما كان في عليّ عليه‌السلام ، فضلاً عن الكلّ ، كما هو واضح على من له أدنى تمييز وإنصاف ومعرفة بأحوال الصحابة ، لا سيّما عليّ عليه‌السلام ، لا كابن حجر (١) الذي قلبه كالحجر ؛ حيث قال : لمّا لم ير الناس تحت أديم السماء خيراً من أبي بكر جعلوه خليفة (٢) ! ! ولم يتفطّن من شدّة تعصّبه بأنّ أقلّ ما يرد عليه قوله تعالى : ( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) (٣) .

ثمّ نقول : أمّا حكاية الغار والصلاة فسيأتي في الخاتمة بيانهما ، مع بيان أنْ لا فضل فيهما ، لا سيّما في مقابل فضائل عليّ عليه‌السلام ؛ إذ لا أقلّ ممّا في آية الغار من الدلالة على حرمان أبي بكر عن إنزال اللّه‏ السكينة عليه التي صرّح اللّه‏ تعالى في مواضع بإنزاله إيّاها على المؤمنين ، ولا يخفى أنّ فيه تمام العار .

__________________

(١) هو أحمد بن محمّد بن عليّ بن حجر الهيتمي أو الهيثمي العسقلاني الشافعي المكّي ، كان من أهل النصب والعداوة لمذهب آل البيت عليهم‌السلام ، ومّما يدلّ على نصبه وعداوته كتابه «الصواعق» ، وأشعاره وغيرهما ، وله كتب منها : تحفة المحتاج ، ومبلغ الأرب ، ومعدن اليواقيت ، ولد سنة ٩٠٩ هـ ، واختلف في وفاته على أقوال منها : أنّه مات سنة ٩٧٣ هـ .

انظر : روضات الجنّات ١ : ٣٤٥ / ١٢٢، خلاصة الأثر ٢ : ١٦٦ ، معجم المؤلّفين ٢ : ١٥٢ .

(٢) الصواعق المحرقة ١ : ٤٠ .

(٣) سورة الزّمر ٣٩ : ٩ .

١٧٧

وكذا لو ثبتت حكاية الصلاة ، وأنّ الأمر بها كان من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله، لا كما هو الحقّ من عدم اطّلاع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ـ كما يؤيدّه (١) ما ورد من عزله ، وما مرّ من كونه تحت جيش اُسامة ـ لا يفيد كمال الاعتبار :

أمّا أوّلاً : فلعدم دخول عليّ عليه‌السلام تحت مأموميّته ؛ لكونه مشغولاً حينئذٍ ـ كما ورد صريحاً ـ ببعض اُمور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعالجاته ، حتّى أنّه لأجل هذا أيضاً لم يأمره بالإمامة (٢) .

وأمّا ثانياً : فلأنّه لا كلام عندهم في جواز الصلاة خلف الفجّار والأبرار .

وأمّا الاعتذار بميل أكثر الناس إلى أبي بكر وانحرافهم عن عليّ عليه‌السلام ـ بل مطلق بني هاشم ـ فقد تبيّن سابقاً أنّ ميل الأكثر يكون إلى الباطل دائماً ، لا سيّما إذا ضمّ معه عداوة عليّ عليه‌السلام ؛ فإنّها ـ كما هو ثابت ـ علامة النفاق .

فحاصل اعتذارهم هذا يرجع إلى أنّهم لا حظوا مراعاة المنافقين وأهل الميل إلى الباطل ، فقدّموا محبوبهم على مبغوضهم مع عدم الاحتياج إليه ؛ لما مرّ من عدم احتمال صدور فساد منهم عند اتّفاق المسلمين على إطاعة عليّ عليه‌السلام ، كما كان كذلك حال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا ، مع ما في ميل مثل هؤلاء إلى أبي بكر من النقص العظيم ؛ ضرورة أنّ ذلك لا يحصل إلاّ بالمداهنة في الدين ، وإلاّ لكانوا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أميل ؛ لكون حسن خلقه أكمل ، فافهم .

__________________

(١) في «م» : «ويؤيّده» بدل «كما يؤيده» .

(٢) انظر : الإرشاد ١ : ١٨٥ ١٩١ ، وإعلام الورى ١ : ٢٦٧ .

١٧٨

وأمّا الاعتذار بالوالديّة والولديّة فمعلوم أنّ عمدة الميراث للولد ، مع أنّ أبا سفيان (١) أيضاً كانت له هذه الوالديّة ، فافهم ! !

وأمّا دخول الشَّوْر والإمارة فأكثرهم كانوا كذلك إلاّ أنّ عليّاً عليه‌السلام لم يأتمر عليه أحد غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بخلاف من سواه ، حتّى أنّ الحقّ المشهور أنّ أبا بكر حين أخذ الخلافة كان تحت إمارة اُسامة .

وأمّا الآيات والروايات فسيأتي في الخاتمة وغيرها بيان أنّها لا تفيدهم أصلاً .

وأمّا الاعتذار بأنّهم أرادوا أن لا تكون الخلافة بالتوريث كغيرها ، فهو مع كونه سخيفاً في نفسه ؛ إذ هم لم يأخذوا الخلافة من الأنصار إلاّ بالتوريث ، كما سيأتي مفصّلاً ، خلاف صريح الكتاب والسنّة ؛ ضرورة كون الأنبياء والأوصياء بعضهم من بعض ، كآدم وشيث إلى إدريس ونوح وولده سام إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وموسى وهارون ويوشع وداوُد وسليمان وزكريّا ويحيى وهلمّ جرّاً ، كما سيأتي مفصّلاً ، ودلالة القرآن لا تحتاج إلى البيان ، وكفى قوله تعالى بعد ذكر أسامي الأنبياء : «ذُرِّيَّةَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» (٢) ، فافهم.

__________________

(١) هو صخر بن حرب بن اُمية بن عبد شمس بن عبد مناف ، يكنّى أبا سفيان ، عداوته لرسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أشهر من أن تذكر ، ولم يزل يثير الأقوام ويشكّل الأحزاب على حرب رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في بدر الكبرى ، وبدر الصغرى ، وفي اُحد ، والأحزاب ، ولعنه رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في سبعة مواطن ، وابنه معاوية هو الذي نصب لواء العداوة لعليّ وأولاده عليهم‌السلام ، واختلف في موته على عدّة أقوال منها : أنّه مات سنة ٣١ هـ.

انظر : الخصال ٢ : ٣٩٧ / ١٠٥ ، الكنى والألقاب ١ : ٨٤ ، تاريخ الطبري ١٠ : ٥٧ ـ ٦٣ ، العبر ١ : ٢٣ ، سير أعلام النبلاء ٢ : ١٠٥ / ١٣ .

(٢) سورة آل عمران ٣ : ٣٤ .

١٧٩

فظهر أنّ هذا أيضاً عمل بالرأي في مقابل الكتاب والسنّة ، نعم لم يكن نبيّ ولا وصيّ إلاّ من لم يُشرك أبداً ، وسيأتي مفصّلاً ، فافهم .

وأمّا اعتذارهم عن التعجيل بما ذكروا فمن الواضحات البيّنة أنّهم لم يكونوا أعلم بحقيقة الحال من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا أشفق منه على الإسلام ؛ ضرورة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لو لم يكن مطمئنّاً من ذلك لما جيّش في عين مرضه جيش اُسامة ، بحيث جعل أكثر أعيان الصحابة معه حتّى هؤلاء الجمع الذين ادّعى لهم أتباعهم كونهم أشفق من غيرهم على حفظ بيضة الإسلام ، ولما عجّل عليهم أيضاً ذلك التعجيل ؛ إذ لا أقلّ من احتمال فوته بعد فراغ المدينة وبُعْد الجيش ، حتّى أنّه لا يمكن دعوى حدوث الخوف حين الفوت ؛ لوضوح كون حزم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر (١) من التغافل أو الغفلة عن هذا الاحتمال ، مع عدم نقل أحد ذلك الحدوث في ذلك الحين .

نعم ، سيأتي في المقصد الثاني والختام ما يستفاد منه ، بل يظهر أنّ سبب استعجالهم كان خوفهم من فراغ بني هاشم عن تجهيز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البيعة ، وادّعاءهم الخلافة لعليّ عليه‌السلام كما ادّعوا فيما بَعْدُ ، فاعتذر الأكثر بأنّ الأمر قد فات ، وقد مرّ من كتاب تاريخ بغداد وغيره (٢) بعض ما يؤيّد هذا ، بحيث يشعر بانحراف عمر عن خلافة عليّ عليه‌السلام ، فافهم .

واعلم أنّ الشهرستاني وكذا غيره (٣) ذكروا اختلافات اُخَر أيضاً كلّها متفرّعة على هذه الخلافة ، وضلالتها ناشئة من ضلالتها ؛ ضرورة أنّه لو لم تكن هذه لم تكن تلك أيضاً ، كما مرّ بيانه مراراً ويأتي أيضاً مع ظهوره

__________________

(١) في «ش» : «أزيد» بدل «أكثر» .

(٢) في ص ١٣١ هامش (٥) وص ١٣٥ .

(٣) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٦ ـ ٣٠ ، الفِرَق بين الفرق : ١٤ ـ ٢٠ .

١٨٠