ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

فمن لم يأخذ به فقد (١) خالف أمر اللّه‏ سبحانه ، وأمثال هذه الآية بل وأصرح منها أيضاً كثيرة في القرآن ، كما سيأتي أيضاً .

ثمّ إذا عرفت هذا كلّه ، فاعلم : أنّ هذه القضيّة أيضاً من قبيل ما مرّ من قياسات إبليس وتلامذته وشبهات آرائهم ، بل ما تركت مثلها شيئاً من لوازم الحكم بالهوى في مقابل النصّ :

أمّا أوّلاً : فلأنّ الذي منع من الكتاب ذلك اليوم قد خالف ما أمره اللّه‏ به من إجابة قول نبيّه ، حيث أبى عن ذلك ، لا سيّما باستنادٍ له إلى خيال باطل مضلّ ـ كما سيظهر ـ مركّب من قياسين :

أحدهما : قياس أمر رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله بل أمر اللّه‏ بأمر غيره ، وحالة نبيّ اللّه‏ بحالة نفسه وأمثاله من الخالين من نور العصمة في احتمال الخلل الذي أشرنا إلى تنزّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه قطعاً ولو في حال شدّة المرض ، كما ينادي به أصل الإباء من إجابة أمره فضلاً عن نسبة الهجر وغيره .

ولا يخفى أنّ هذا مع كونه فاسداً ينطبق (٢) على حذو أصل قياس الشيطان ، كما ظهر وسيتّضح ، ومستلزم لتنزيل (٣) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مرتبته وتشبيهه برعيّته فيما هو منزّه عنه .

وثانيهما : قياس نفسه بل غيره أيضاً بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في الاطّلاع على ما في القرآن إلى حدّ كمال القدرة على الاستنباط منه ، حتّى الذي أراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كتابته لهم من غير احتمال الغفلة عن ذلك ، فإنّ الظاهر البيّن أنّ عزم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما أراد ذلك اليوم كان إمّا لكونهم عنده غير عالمين به

__________________

(١) كلمة «فقد» لم ترد في «ش» .

(٢) في «م» و«س» : «منطبق» .

(٣) في «م» : «يستلزم تنزيل» .

١٢١

وبفهمه من القرآن ، أو لخوف غفلتهم عن ذلك ، أو صدور استنكار من أحد فيه .

وعلى أيّ تقدير يكون منع المانع عن ذلك ـ لا سيّما مع استظهاره فيه بقوله : حسبنا كتاب اللّه‏ ـ كالتصريح منه بأنّ الأمر ليس كذلك ، فكأنّه قال : لا حاجة لنا إلى بيان ما أردته لنا ؛ حيث إنّا من المنزّهين عمّا خفت علينا ، والعالمين بالكتاب والاستنباط منه .

ولا يخفى أنّه عين الغلوّ والارتفاع على حذو ما مرّ من القياس ، والكلام من تلامذة إبليس في جواب دعوة الأنبياء مع كونه فاسداً أيضاً ، كما هو ظاهر وسيتّضح كمال الوضوح .

وأمّا ثانياً : فلأنّ المنع الذي صدر من ذلك المانع كان في نفسه خطأً وضلالاً ، ناشئاً من خطأ وضلال ، موقِعاً في الخطأ والضلال والإضلال ، مستعقباً لشُبهٍ في ضلال ، كما كان كذلك بعينه إباء إبليس عن سجدة آدم عليه‌السلام ، وتلامذته عن قبول الأنبياء ، وقد مرّ بيان وجوه ضلال ما صدر من الشيطان وتلامذته ، وسنبيّن هنا وجوه ضلال هذا المنع بحيث يظهر على من لاحظها جهة انطباقها ، فنقول :

أمّا كون ذلك المنع خطأً وضلالاً ، فمن وجوه ، منها : ما مرّ آنفاً .

ومنها : ما مرّ سابقاً في حكاية الشيطان من أنّ العباد مكلّفون بالتسليم للّه‏ ولرسوله في كلّ شيء ، من غير جواز سؤال سببه وحكمته أو خيال سقمه وصحّته ، قال عزوجل : ( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ) (١) ، وقال : ( ا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ) (٢) وأمثالهما كثيرة .

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٠٨ .

(٢) سورة الأنبياء ٢١ : ٢٣ .

١٢٢

مع ما في خلاف التسليم من الدلالة على ضعف الاعتقاد باللّه‏ ورسوله ، كما هو ظاهر في نفسه ، وصريح ما مرّ في جواب شبهات إبليس من عند اللّه‏ عزوجل ، بل بداهة كلّ عقل يحكم بقباحة المواجهة بمثل هذا بالنسبة إلى أوساط الناس ، فضلاً عن المطاعين ، لا سيّما بالنسبة إلى اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، خصوصاً على رواية قوله : إنّ النبيّ يهجر (١) ، أي : يهذي ولا يتكلّم من عقله ! فافهم .

ومنها : ما سيظهر من كونه من الخطأ والضلال وموقعاً فيه ، ونحو ذلك ممّا يستلزم كونه خطأ وضلالاً .

وأمّا كونه ناشئاً من الخطأ والضلال فمن وجوه أيضاً :

أحدها : كون منشئه الرأي والقياس مطلقاً ، كما هو مفاد الاقتصار في الاعتذار عن المنع على قوله : قد غلبه الوجع ! وحسبنا كتاب اللّه‏ ؛ إذ لو كان له عذر غير ذلك لذكره ، ولو ذكر لنُقل إلينا ، لا سيّما أتباعه الذين بذلوا جهدهم في توجيه ما صدر منه ، وقد تبيّن بطلان الاعتماد على مقتضى الرأي والقياس مطلقاً ، وكونهما ضلالاً ، لا سيّما في مقابل النصّ .

لا يقال : لعلّ أصل مبنى كلامه كان على حجّيّة ما في القرآن ، وليس ذلك برأي .

لأنّا نقول : لو كان له أو لأمثاله علم بشيء من القرآن نافع في الصيانة عن الوقوع فيما كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خائفاً منه من الخطأ والضلال ، لأمكن التوجيه المذكور ، لكن ليس الأمر كذلك ؛ ضرورة أنّهم لو علموا ذلك لنادوا به، ولما وقعوا بالتمسّك به فيما خاف منه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم من أنواع الضلال التي سنذكر شيوعها لديهم . هذا ، مع ما سيأتي من شواهد فساد هذا الخيال .

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١١٧ ، هامش ٤ .

١٢٣

وثانيها : كون خصوص هذا المنشأ أمراً فاسداً ، مع قطع النظر عن بطلان مطلق الرأي والقياس ؛ وذلك لأنّ وجود الفارق في أقيسته واضح ؛ لما هو بيّن ضرورة ، وقد بيّنّا آنفاً شيئاً منه أيضاً ، ويأتي في محلّه مفصّلاً من وجود صفات كمال وحالات جلال لرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لا سيّما من نوع لوازم العصمة وغزارة العلم والحكمة ، سيّما فيما يتعلّق بأحوال الاُمّة ـ ما لا يوجد في غيره ممّن لم يكن من أهل مرتبته ، لا سيّما مثل هذا الرجل الذي لم يكن يعلم مثل هذا الفرق الواضح ، حتّى وقع في مثل هذا القياس الفاضح ، حتّى أنّه مع استظهاره في ردّ قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقوية قياسه بقوله : حسبنا كتاب اللّه‏ ، كان جاهلاً بكثير من واضحات آيات القرآن ، فضلاً عن الغامضات ، كما اعترف بذلك صريحاً في مواضع سنذكر كلاًّ منها في محلّه على وفق نقل أتباعه ، لا سيّما في الخاتمة والختام .

مثل ما سيأتي في نقل حكاية وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من إنكاره موته زعماً منه أنّه لا يموت ، فلمّا قرأوا (١) عليه قوله تعالى : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ) (٢) ، وقوله : ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ ) إلى قوله : ( أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ) (٣) الآية ، رجع عن قوله وقال : كأنّي ما سمعت بهما أبداً (٤) ! !

وكذا مثل ما سيأتي من أنّه منع في خلافته عن غلاء المهر ، وقال : كلّ ما زاد من المهر عن خمسمائة درهم أخذته ووضعته في بيت المال ،

__________________

(١) في «م» : «قرئ» .

(٢) سورة الزمر ٣٩: ٣٠ .

(٣) سورة آل عمران ٣ : ١٤٤ .

(٤) انظر : السيرة لابن هشام ٤ : ٣٠٥ ، صحيح البخاري ٥ : ٨ ، و٦ : ١٧ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٣ ، جامع الاُصول ٤ : ٨٥ / ٢٠٧٤ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٢٣ ، تاريخ الخميس ٢ : ١٦٧ .

١٢٤

فقامت امرأة ، وقالت : أتمنعنا ممّا جعل اللّه‏ لنا ؟ وتلت قوله تعالى : ( وَإِنْ أَرَدْتُمُ ) إلى قوله : ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) (١) ، فقال : كلّ الناس أفقه من عمر حتّى النسوان (٢) ! ! وفي رواية : حتّى المخدّرات (٣) .

ومثل ما سيأتي أيضاً من أنّه منع من عمرة المتعة ؛ مستدلاًّ بتقديم اللّه‏ الحجّ في قوله تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ) (٤) ، بعد اعترافه بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر بها ، فلمّا سمع ابن عبّاس بذلك قال : وقد قال سبحانه أيضاً في الميراث : ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَىٰ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) (٥) (٦) ، مع أنّ الدَّيْن مقدّم على الوصيّة عند كافّة الاُمّة .

وأمثال ما ذكر ممّا يدلّ على كمال نقص فقاهته ، واعتماده كثيراً على استحسان عقله ولو في مقابل النصّ كثيرة موجودة في كتب القوم وإن لم يفهموا مفادها ، حتّى أنّ من عجيب أمرهم أنّهم استدلّوا بمحض قوله في الحديث المذكور : حسبنا كتاب اللّه‏ ، على أنّه كان كاملاً في العلم بما في القرآن من غير النظر إلى مناداة ما ذكرنا صدوره منه وأمثال ذلك بخلافه ، فلو أنّهم وجّهوا قوله ذلك بأنّه قال ذلك اعتماداً على وجود من يعلم

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٢٠ .

(٢) انظر : سنن سعيد بن منصور ١ : ١٦٦ / ٥٩٨ ، تمهيد الأوائل للباقلاني : ٥٠١ ، السنن الكبرى للبيهقي ٧ : ٢٣٣ ، الجمع بين الصحيحين ٤ : ٣٢٤ ، الأربعين للرازي ٢ : ٣٠٣ ـ ٣٠٤ ، التفسير الكبير للرازي ١٠ : ١٣ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ١٨٢ ، الجامع لأحكام القرآن ٥ : ٩٩ .

(٣) نهج الحقّ : ٢٧٨ .

(٤) سورة البقرة ٢ : ١٩٦ .

(٥) سورة النساء ٤ : ١٢ .

(٦) انظر : مسند الشافعي : ٥٩٠ / ١٧٤٥ ، السنن الكبرى ٦ : ٢٦٨ ، الدرّ المنثور ١ : ٥٠٣ .

١٢٥

كعليّ عليه‌السلام مثلاً ، لكان أولى وأجمل وإن لم ينفع فيما نحن فيه ؛ إذ لا أقلّ من ورود الاعتراض بأنّك إذا عرفت الاحتياج إلى الغير الذي ليس علمه كعلم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لوجب عليك إطاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمره بالتعلّم منه .

وثالثها : كون استناده إلى دفع ضرر الضلال بالقرآن محض ادّعاء وقول بلا عمل ، كما هو ظاهر ممّا سيأتي صريحاً من وقوع أقوام في الضلال حتّى من الصحابة من غير دفع لذلك المانع بل ولا لغيره عنهم ، ولا نفع لكتاب اللّه‏ لهم ، بل كثيراً ما استدلّ كلٌّ منهم به على مذهبه ، كما قال اللّه‏ عزوجل : ( مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ) إلى قوله : ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ) (١) حتّى أنّه قد مرّ غير بعيد عن عمر أنّه قال صريحاً : إنّه يأتي ناس يجادلون بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن (٢) ، الخبر .

وكأنّه للإشارة إلى هذا وأمثاله ورد ما رواه الشافعي في مسنده عن عبيد اللّه‏ بن أبي رافع (٣) ، عن أبيه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا ألفينّ أحدكم متّكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ، وما وجدنا في كتاب اللّه‏ اتّبعناه» (٤) ، فتأمّل .

وأمّا كونه ـ أي المنع المذكور ـ موقعاً في الخطأ والضلال والإضلال

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٧ .

(٢) سنن الدارمي ١ : ٤٩ .

(٣) عبيداللّه‏ بن أبي رافع ، مولى رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام وكاتبه ، له كتاب قضايا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وتسمية من شهد مع أمير المؤمنين عليه‌السلام الجمل وصفّين والنهروان من الصحابة ، وقد اعتبره القوم ثابت الحديث عن عليّ عليه‌السلام .

انظر: رجال البرقي: ٤، منتهى المقال ٤: ٢٨١ / ١٨٥٤، قاموس الرجال ٧: ٥٦ / ٤٧٠٧، التاريخ الكبير ٥ : ٣٨١ / ١٢١٧ ، الثقات ٥ : ٦٨ ، تاريخ بغداد ١٠ : ٣٠٤ / ٥٤٥٣ .

(٤) مسند الشافعي : ٢٧٥ / ٧٢٩ ، وأورده أيضاً أبو داوُد في سننه ٤ : ٢٠٠ / ٤٦٠٥ ، والترمذي في سننه ٥ : ٣٧ / ٢٦٦٣ .

١٢٦

مستعقباً لشُبه في ضلال ، فظاهر ؛ إذ لا شكّ أوّلاً في صدق أخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأقواله جميعاً ، ومعلوم أيضاً أنّ مفاد منطوق قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لن تضلّوا بعده» هو نجاتهم عن الضلال إذا كتب ذلك لهم، فمفهومه عدم النجاة إذا لم يكتب ، ومع هذا قد ورد جزماً أنّه أخبر بما مرّ ويأتي من افتراق اُمّته على فِرَق أكثرها هالكة ، وأنّ جمعاً من أصحابه يساقون يوم القيامة إلى النار لارتدادهم بعده ، وأمثال ذلك ، مع ما قد ترى أيضاً من تفرّقهم بعده إلى يومنا هذا ، بما أخبر به من مذاهب ( (١) كثيرة مختلفة ، حتّى على طرفي نقيض ؛ بحيث لا يمكن الجمع بينهما أصلاً ، ولا الحكم بصحّتهما معاً ، بل كثير منهم يكفّر بعضهم بعضاً ، ويحكم بقتله وخلوده في النار صريحاً ، مثلاً :

قال قوم منهم بخلافة من تقدّم على عليّ عليه‌السلام وكفر من كفّرهم .

وقد قال قوم أيضاً بكفرهم وكفر من لم يكفّرهم (٢) .

وقالت طائفة باُلوهيّة عليّ عليه‌السلام (٣) ، وطائفة بإمامته (٤) ، وطائفة بكفره (٥) .

وقال جمع بالجبر ، والتشبيه ، والرؤية وأمثالها مكفّرين من لم يقل بذلك ، وقد كفّرهم جماعة وقالوا بالعدل ، واستحالة الرؤية والتشبيه ونحو ذلك ، حتّى قالت فرقة بنفي الصفات عن اللّه‏ بالكلّيّة (٦) ، وفرقة بثبوت

__________________

(١) من هنا بياض في «ن» إلى ص ١٣١ ، هامش (١) .

(٢) انظر : الفِرَق بين الفرق : ٣٠ ـ ٣٤ و٣٢١ .

(٣) انظر : التبصير في الدين : ١١٩ و١٢٣ ، المقالات والفِرَق : ٦٠ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٧٤ و١٧٥ .

(٤) انظر : المقالات والفِرَق : ١٧٠ / ١٣٤ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٤٦ و١٦٢ .

(٥) انظر : المقالات والفِرَق : ٥ / ١٣ ، و١٤ / ٤٨ ، الفرق بين الفِرَق : ٧٣ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٢٠ .

(٦) ذهبت طائفة من القدرية إلى ذلك .

١٢٧

جميعها له حتّى اللّحية ! (١) .

ألا ترى إلى ما سيأتي من كثرة المرجئة والقدريّة ، مع كثرة ما ينادي بكفرهم من الأخبار النبويّة ؟ ! .

وبالجملة : كثرة وجود أهل الضلال في هذه الاُمّة ممّا لا شكّ فيه ، وإنكاره سفسطة محضة .

ثمّ لا ريب أيضاً في أنّ هذا الاختلاف كلّه من متفرّعات ذلك الإباء والمنع ؛ إذ لو تُرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإرادته لكتب لهم ما يصونهم أبداً من الوقوع في الضلال ، كما أخبرهم به في صريح المقال ، ولأجل هذا قال ابن عبّاس في آخر الخبر : الرزيّة كلّ الرزيّة (٢) ، إلى آخره ، وفي بعض الروايات أنّه بكى حتّى ابتلّت لحيته ، وقال : يوم الخميس وما يوم الخميس (٣) ، فسئل عن ذلك فنقل الحديث .

لا يقال : إنّ كثرة اختلاف الاُمّة طول المدّة قد وصل إلى حدٍّ لا يمكن تمييز الحقّ من ذلك عن الباطل ـ بحيث يظهر للناس حال كلّ ضالّ من غيره ـ إلاّ بتسويد كثار (٤) من الكتب والدفاتر ، فضلاً عن مثل الكتف وغيره ، فكيف يمكن حينئذ أن يدّعى أنّ قصد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان كتابة دفع

__________________

انظر : التبصير في الدين : ٦٣ ، والفرق بين الفِرَق : ٣٣٤ ، والملل والنحل للشهرستاني ١ : ٤٣ .

(١) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٠٥ .

(٢) تقدّم تخريجه في ص١١٧ هامش٧ .

(٣) المسند للحميدي ١ : ٢٤١ / ٥٢٦ ، مسند أحمد ١ : ٣٦٦ / ١٩٣٦ ، و٥٨٥ / ٣٣٢٦ ، صحيح مسلم ٣ : ١٢٥٧ / ١٦٣٧ (٢٠ ، ٢١) ، مسند أبي يعلى ٤ : ٢٩٨ / ٢٤٠٩ ، دلائل النبوّة للبيهقي ٧ : ١٨١ ، الكامل في التاريخ ٢ : ٣٢٠ ، شرح صحيح مسلم للنووي ١١ : ٨٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٥٤ .

(٤) في «س» و«ش» و«ن» : «كبار» .

١٢٨

جميع ذلك حتّى يلزم منه كون مانعه سبباً في الجميع ؟ هذا مع حدوث جلّ ذلك بعد زمان الصحابة بسنين وأعوام .

لأنّا نقول : إنّما كان قصد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كتابة خلاصة شيء يندفع به جميع ذلك ، لا تفصيل دفع الجميع واحداً واحداً ، وذلك قد يكون بكلمتين أيضاً ، فإنّه لو كتب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مثلاً ـ ما ادّعى الإماميّة أنّه كان يريد أن يكتبه من التصريح بأسامي أوصيائه المعصومين المعيّنين من اللّه‏ لتعليم جميع اُمور الدين كعليّ عليه‌السلام وأحد عشر من ذرّيّته العلماء الحكماء المسلّمين في كلّ كمال ، كجدّهم عند كافّة المسلمين ، وإيجاب الاُمّة إطاعتهم ، والحثّ على عدم التخلّف عن أمرهم ، وبالجملة : لو كتب تعيين أسامي اُولي الأمر الذين قرنهم اللّه‏ في كتابه بنفسه وبرسوله في وجوب الطاعة ؛ حيث قال : «أَطِيعُوا اللّه‏َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ» (١) ، وتشخيص أشخاص العترة الذين قرنهم اللّه‏ والنبيّ بكتاب اللّه‏ في وجوب التمسّك ؛ حيث قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين» ـ وفي رواية «خليفتين» (٢) ـ ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا : كتاب اللّه‏ ، وعترتي أهل بيتي» (٣) ، الخبر ، وتصريح ما بيّنه يوم

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ٥٩ .

(٢) كمال الدين : ٢٣٩ / ٦٠ ، العمدة لابن البطريق : ٦٩ / ٨٢ ، نهج الإيمان : ٢٠٣ ، مسند أحمد ٦ : ٢١٠٦٨ ، الجامع الصغير للسيوطي ١ : ٤٠٢ / ٦٢٣١ ، الدر المنثور ٢ : ٢٨٥ ، كنز العمّال ١ : ١٧٢ / ٨٧٢ ، و١٨٦ / ٩٤٧ .

(٣) وردت هذه الرواية بألفاظ مختلفة وأسانيد متعدّدة من العامّة والخاصّة .

انظر : بصائر الدرجات ٤٣٢ / ١ ـ ٦ ، (باب في قول رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله: إنّي تارك فيكم الثقلين) ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٥٧ / ٢٥ ، و٢ : ٣٠ / ٤٠ ، معاني الأخبار : ٩٠ / ٤ ، و٩١ / ٥ ، أمالي الطوسي : ١٦١ / ٢٦٨ ، المصنّف لابن أبي شيبة ١١ : ٤٥٢ / ١١٧٢٥ ، مسند أحمد ٣ : ٣٨٨ / ١٠٧٢٠ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٣٢ ، كتاب

١٢٩

الغدير من معنى الولاية في قوله : «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» ، حيث قال أوّلاً : «ألست أولى بكم من أنفسكم» (١) لكفى (٢) ذلك من غير شكّ ؛ لأنّ الناس لو اجتمعوا على إطاعة عليّ عليه‌السلام كما اجتمعوا على إطاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لما حصل اختلاف ولا فساد ، ولما احتاجوا إلى رأي ولا اجتهاد ، لما سيتّضح تمام (الموضوع بتمام) (٣) الوضوح من علمه بجميع الأشياء ، آخذاً من اللّه‏ ورسوله . وهكذا في عصر كلّ واحد من سائر الأوصياء المذكورين ، كما أنّه كذلك حالهم في عصر المهديّ عليه‌السلام باتّفاق المؤالف والمخالف ؛ لما هو ميسّر له من الحكم المسلّم له على كافّة الناس .

فعلى هذا ، مَنْ مَنَع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذلك الكتاب ليس إلاّ هو السبب لما ذكرناه من الضلال والفساد .

نعم ، إذا قيل : إنّ مراده كان كتابة غير هـذا ، لورد ما ذكرتم ؛ لما هو ظاهر مسلّم من عدم كون علوم غيرهم بهذه المثابة ، ولا من هذا الطريق ، فلا أقلّ من حصول الخطأ الذي هو مصداق الضلال أيضاً ـ شرعاً وعرفاً ـ في بعض الأحكام والعقائد التي لم تكن مأخوذة من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ألا تـرى إلى هـذا العالم المملوء بما ذكرناه مـن أنواع الاختلافات

__________________

السنّة لابن أبي عاصم ٢ : ٦٢٩ / ١٥٤٩ ـ ١٥٥٨ ، سنن الترمذي ٥ : ٦٦٣ / ٣٧٨٨ ، زين الفتى في شرح سورة هل أتى ١ : ٤٣٥ / ٢٧٠ ، المؤتلف والمختلف للدارقطني ٢ : ١٠٤٦ ، المستدرك للحاكم النيسابوري ٣ : ١٤٨ ، تاريخ مدينة دمشق ١٩ : ٢٥٨ / ٢٣٢٨ ، و٤١ : ١٩ / ٤٧٣٥ ، و٤٢ : ٢١٦ / ٤٩٣٣ ، و٥٤ : ٩٢ / ٦٦٢٠ ، فضائل الخمسة في الصحاح الستّة ٢ : ٥٢ ـ ٦٠ (باب قول النبيّ : إنّي تارك فيكم الثقلين) .

(١) معاني الأخبار : ٧٣ / ٨ ، الخصال : ٣١١ / ٨٧ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٥٥ / ٢٠ ، كمال الدين ٢ : ٣٣٧ / ٩ ، المناقب للخوارزمي : ١٣٤ / ١٥٠ ، و١٥٥ / ١٨٣ .

(٢) قوله : «لكفى» جواب لقوله : «لو كتب» في ص ١٢٩ .

(٣) ما بين القوسين في «ن» : بياض ، وهو لم يرد في «س» و«ش» .

١٣٠

وأقسام) (١) الضلالات ، مع أنّ عند القوم كان تمام إصلاح الناس في خلافة أبي بكر ، التي هي أساس ما ترى ، ولو من جهة اعتياد الناس منها على اختيارهم الخليفة والإمام من عندهم ، حتّى انجرّ إلى تسلّط يزيد وأمثاله الفجرة اللّئام ، وقمع أعلام العلماء الكرام ، فاتّخذ الناس حينئذٍ رؤساء جهّالاً ، فضلّوا وأضلّوا ، كما مرّ صريحاً في صحيح الحديث عن سيّد الأنام عليه وآله الصلاة والسلام .

ثمّ ممّا يؤكّد هذا الذي ذكرناه أنّه كان قصد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ما سيأتي في محلّه مفصّلاً من كتاب «تاريخ بغداد» المشهور ، عن ابن عبّاس أنّه قال ما خلاصته : إنّ عمر بن الخطّاب سأله يوماً في أوائل خلافته عن عليّ عليه‌السلام ، وقال : أَبقي في نفسه شيء من الخلافة يزعم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جعلها له ؟ فأجابه بقوله : فقلت له : نعم ، وغير ذلك أيضاً ، إنّي سمعت أبي يحكي تصديقه ، قال : وإنّ عمر لمّا سمع ذلك منه قال كلاماً فيه تصديق أيضاً ، حتّى أنّه قال صريحاً : أراد ـ يعني النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ في مرضه أن يصرّح بإسمه فمنعت [من ذلك (٢) ] اشفاقاً (٣) على الإسلام ، وعلم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّي علمت ما في نفسه فأمسك (٤) . وسيأتي أيضاً بعض المؤيّدات من الروايات .

فافهم ما ذكرناه في هذا المقام في شرح الحديث المذكور بالتمام ، حتّى يظهر لك ـ مع ما ظهر ـ ركاكة تأويلات نتجت من خطوات شياطين المخالفين في هذا المقام ، وسخافة تسويلات نسجت عليها تخيّلات أتباع

__________________

(١) من ص ١٢٧ هامش (١) إلى هنا بياض في «ن» .

(٢) ما بين المعقوفين من المصدر .

(٣) في «ن» شفقة .

(٤) حكاه عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٢ : ٢٠ ـ ٢١ .

١٣١

هذا الرجل في تحقّق هذا الكلام ، ولنذكر خلاصة نبذ منها :

قال شارح المواقف في أواخر شرحه ، عن الآمدي ، إنّه قال : كان المسلمون إلى عند وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على عقيدة واحدة وطريقة واحدة إلاّ من كان يبطن النفاق ويظهر الوفاق ، ثمّ نشأ الخلاف (١) بينهم أوّلاً في اُمور اجتهادية لا توجب إيماناً ولا كفراً ، وكان غرضهم منها إقامة مراسم الدين وإدامة مناهج الشرع القويم ، وذلك كاختلافهم عند قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرض موته : «ائتوني بقرطاس أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي» ، حتّى قال عمر : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد غلبه الوجع (٢) . وذكر مضمون الحديث المذكور ، وكذا ما سيأتي من تخلّف (٣) جيش اُسامة .

وهكذا الشهرستاني بعد ذكره ما نقلناه عنه من المطاعن البليغة على أهل الجدال بالرأي والقياس في كلّ زمان حتّى في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه من أفعال المنافقين ، وأنّ أصله من شبهات قياس إبليس وخطوات الشيطان (٤) قال :

وأمّا الاختلافات الواقعة في حال مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد وفاته بين الصحابة ، فهي اختلافات اجتهادية ، كما قيل : إنّ غرضهم كان فيها إقامة مراسم الشرع وإدامة مناهج الدين ، ثمّ نقل ما ذكرناه عنه من أنّ أوّل تنازع وقع في مرضه ما رواه البخاري (٥) ، وذكر الحديث (٦) .

__________________

(١) في «ش» زيادة : فيما .

(٢) شرح المواقف ٨ : ٣٧٦ .

(٣) في «م» زيادة : عن .

(٤) في «ش» : الشياطين .

(٥) تقدم تخريجه في ص ١١٦ ، هامش (٦) .

(٦) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢ .

١٣٢

وقد قال أيضاً غيرهما مثل قولهما (١) .

وقد تبيّن ممّا ذكرنا سخافته ، بل كونه محض التحكّم في الدعوى والتكلّم بالهوى ، كيف لا ؟ ! وقد تبيّن كالشمس عدم فرق بين ما في هذه الحكاية وبين غيرها من سائر الخصومات التي قد مرّ ذكرها ، مع أنّ هؤلاء ـ بل وغيرهم أيضاً ـ يسلّمون ضلالة تلك الخصومات ، وكذا الانطباق على ما جعلوه أصلاً في الضلالات من أقيسة إبليس وتلامذته ، وشبهاتهم في مقابل أوامر اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما تبيّن ممّا مرّ مراراً وكراراً ، حتّى أنّ كثيراً من تلك الخصومات المذكورات كانت من بعض أصحاب الأنبياء ، بل من بعض صحابة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً ، كحكاية يوم الحديبية مثلاً .

فهل هذا الاستثناء هاهنا إلاّ محض الدعوى على وفق مقتضى الهوى ؟ بل مع المنادي بنقيض المدّعى ؛ إذ قد تبيّن أوّلاً : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أظهر لهم أنّ مراده دفع الضلال عنهم بالكتابة ، والمانع لم يرض بذلك ، مع ظهور ما تبيّن أيضاً من كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أعلم بجميع الأحوال وأشفق وأحرص على اُمّته من سائر الرجال ، وأنّه معصوم عن الخطأ في أقواله في جميع الأحوال ، بل لا ينطق إلاّ بوحي من اللّه‏ المتعال ، ويجب اتّباعه بلا سؤال ولا جدال .

وتبيّن ثانياً : أنّ الناس واقعون صريحاً (حتّى إلى الآن في أنواع) (٢) من الضلالات التي كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يخاف عليهم من أدناها بمنع ذلك المانع . هذا ، مع سائر ما ذكرناه من مفاسد هذا المنع ، فعلى هذا كيف يخفى على

__________________

(١) انظر : الشفا للقاضي عياض ٢ : ٤٣١ ـ ٤٣٤ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٥٥ .

(٢) بدل ما بين القوسين في «م» : «في النزاع» .

١٣٣

ذي عقل نبيه كون مثل هذا التوجيه عين التحكّم ومحض التمويه !

نعم ، إن كان مرادهم أنّ صدور هذه الأشياء من بعض أعيان الصحابة لم يكن لنفاق منهم ولا تعمّد في الإضلال ، بل كان سببه أنّهم ـ بحسب اعتقادهم متانة آرائهم الكاسدة ، وجهلهم بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يتكلّم أبداً إلاّ بما فيه تمام المصلحة مأخوذاً من اللّه‏ على وفق حكمته الكاملة ، وأنّ قوله هو الصواب دون خلافه ـ زعموا أنّ ما وافق رأيهم إنّما هو (١) صلاح المسلمين والخير في الدين ، فارتكبوا المخالفة ، وإن كان ذلك غلطاً واقعاً ، لا سيّما إذا كان صدوره من عمر أوّلاً ، حيث لم يكن هذا منه أوّل قارورة كسرت ، بل كان من ديدن هذا الرجل ـ كما ظهر في مواضع كثيرة ، التي منها ما مرّ آنفاً ـ أنّه كان يشاجر ويكابر بمحض استحسان عقله شيئاً وميل هواه إلى أمر حتّى مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل في أوامر اللّه‏ الشرعيّة الصريحة جهلاً أو تجاهلاً ؛ لما كان فيه من الغلظة والجلافة والكبر والعناد .

فحينئذٍ يصير ما ذكروه من دعواهم المذكورة توجيهاً لدفع من استدلّ بصدور هذه الأشياء منهم على نفاقهم ، وهو شيء آخَر اللّه‏ أعلم به ، وسيأتي الكلام فيه في موضعه .

ولكن لا يندفع به ما نحن فيه من الدلالة على وقوع هؤلاء أيضاً في مثل ما وقع فيه الشيطان وتلامذته الكفرة والمنافقون من الضلال والإضلال ، لأجل التمسّك بالرأي والقياس حتّى في مقابل النصّ ، فإذا سلّموا ذلك كفانا في هذا المقام ، سواء كان سبب ذلك نفاقهم أو جهالتهم .

هذا ، مع صدور الاعتراف من بعض هؤلاء الموجّهين بكون الاعتراض على كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله علامة النفاق ـ كما مرّ ويأتي ـ ومع دلالة ما

__________________

(١) في «ن» و«س» زيادة : «ما فيه» .

١٣٤

مرّ في هذا الفصل وفصل الاختلاف وما سبق عليه من الآيات على أنّ أكثر الاختلافات كانت مع العلم بالحقّ بحسب البغي والعناد ، ومن الروايات على اقتفاء هذه الاُمّة سنن من كان قبلهم ، سوى ما مرّ ويأتي من سائر قرائن شيوع النفاق في الصحابة ، وعدم الاعتماد على كثير منهم .

على أنَّ الحقّ أنَّ مثل هذه الجهالة ، لا سيّما في مثل هذه الحكاية بالنسبة إلى أعيان الصحابة في غاية القبح والفضيحة ، بل اُخت النفاق وبمنزلة الكفر ، وأصل منشئها الكبر والعناد ، كما هو ظاهر على المتأمّل الصادق في تمييز الفساد عن السداد ، لا سيّما مع ملاحظة ما ذكرناه من حديث تاريخ بغداد ، خصوصاً قوله : وعلم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّي علمت ما في نفسه فأمسك (١) ، الدالّ على إخفاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن عمر اهتمامه في تعيين عليّ عليه‌السلام ؛ بحيث لمّا علم اطّلاعه على ذلك كفّ عنه ، كما كان كذلك دأبه في المداراة معهم ـ كما سيأتي ـ ضرورة صراحة ملاحظة الجميع في كمال انحراف لعمر (٢) عن خلافة عليّ عليه‌السلام ، وسعيه في دفعها عنه إلى حدّ منعه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن التصريح به ، وارتكابه التمحّلات الباطلة لدفع ذلك ، كما ينادي به قوله : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غلبه الوجع أو يهجر ! وحسبنا كتاب اللّه‏ ! وغير ذلك ، بل إلى حدّ ادّعائه أنّه كان أشفق على الإسلام من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ في خلافة عليّ عليه‌السلام ـ التي كان فيها رضا اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل أمرهما ـ لم يكن صلاح الإسلام ، مع أنّه كما ترى ؛ ضرورة أن لا أحد أشفق على الإسلام ولا أعرف بما يصلح له من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما مرّ بيانه .

هذا ، مع ما أشرنا إليه آنفاً ، وسيأتي مفصّلاً من وضوح وجود

__________________

(١) تقدّم في ص١٣١ .

(٢) كذا وردت في نسخنا ، والأولى : «عمر» .

١٣٥

المفاسد التي ترتّبت على ما أراده عمر ، فافهم حتّى تعلم أنّ هذه الأشياء التي اعترف بها هؤلاء القوم في رواياتهم وغيرها ، ممّا يوجب اتّهام عمر في فعله يوم السقيفة أيضاً ، كما ورد في أحاديث الشيعة صريحاً (١) ، وتعلم مع هذا أنّهم عند العصبيّة بحيث إنّهم يتكلّمون في موضع بشيء ، وفي آخَر بنقيضه صريحاً من غير إدراك منافاتهما أصلاً .

أما سمعت قُبيل هذا ما نقلناه عن الشهرستاني في تحقيقه شبهات أهل الدنيا إلى هذه الاُمّة من كلامه المشتمل على كون منشأ شبهات هذه الاُمّة (٢) من المنافقين في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ حتّى أنّه صرّح في بيان علّة ذلك بقوله : إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى ، وشرعوا في المجادلة فيما لا يجوز الجدال فيه عملاً باستحسان العقل ، وحكماً بالهوى في مقابل النصّ ، إلى أن صرّح بقوله هذا : إنّ المنافقين كانوا يخادعون ويظهرون الإسلام ، وإنّما كان يظهر نفاقهم في كلّ وقت بالاعتراض على حركات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وسكناته وكلماته (٣) ، ومع هذا في هذا المقام ذهل عن تحقّق وجوه الانطباق ، ووجود قرائن دخوله تحت المصداق ، فقال تحكّماً : إنّ هذا ليس من ذلك ، مع ما فيه ممّا ذكرنا وبيّنّا ، فتدبّر .

ثمّ إنّ من تلك التأويلات الركيكة ما قاله بعض علماء القوم من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما أراد أن يكتب خلافة أبي بكر ! (٤) فإنّ سخافته واضحة ممّا مرّ وغيره من جهات عديدة ، ولا أقلّ من كون عامّة أهل الاختلاف

__________________

(١) انظر : كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧٩٤ / ٢٧ ، الإرشاد ١ : ١٨٤ ، الأمالي للمفيد : ٣٦ / ٣ ، إعلام الورى ١ : ٢٦٥ ، المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٩٢ .

(٢) في «ش» زيادة : «أيضاً» .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١ ـ ٢٢ .

(٤) دلائل النبوّة للبيهقي ٧ : ١٨٢ ، و١٨٤ ، شرح صحيح مسلم للنووي ١١ : ٩٠ .

١٣٦

والضلالات من القائلين بخلافة أبي بكر ، كما ظهر ويظهر ، على أنّه (١) لا يندفع به كون عمر سبب الضلالة بالمنع من ذلك ؛ ضرورة كون ذلك حينئذٍ سبباً لضلالة منكري خلافة أبي بكر وأمثاله .

ومنها : ما نقله القاضي عياض من توجيه بعض منهم المنع من كتابة الكتاب بأنّه : ربّما كان أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك على سبيل الندب ، ولمّا أن رأى اختلافهم وصواب رأي عمر كفّ عنه (٢) .

وسخافته أوضح من أن يحتاج إلى البيان ؛ إذ قد بيّنّا آنفاً أنّ مثل هذا الأمر ليس ممّا يتطرّق إليه جواز المخالفة ، وأنّ ممّا ينادي به قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لن تضلّوا» (٣) .

ثمّ لا يخفى أنّ اللازم من قول هذا القائل : ولمّا رأى الاختلاف وصواب رأي عمر كفّ عنه ، كون وقوع الناس في الضلال صواباً ؛ إذ قد تبيّن أنّ هذا هو مآل مقتضى رأي عمر ، مع أنّ عمر نفسه أشعر في رواية البغدادي (٤) بأنّ إمساك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا أراد أوّلاً إنّما كان لحسن مداراته معهم ، وخوفه من إجهارهم بمخالفته ، لا تصويب رأيهم ، كما ينادي به أيضاً قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قوموا عنّي» (٥) فافهم .

ومنها : ما ذكره القاضي أيضاً ، وكذا العسقلاني (٦) شارح البخاري ، عن

__________________

(١) في «م» زيادة : «ممّا» .

(٢) الشفا للقاضي عياض ٢ : ٤٣٥ .

(٣) انظر : ص ١١٦ .

(٤) تقدّم تخريجه في ص ١٣١ ، هامش (٤) .

(٥) تقدّم تخريجه في ص ١١٦ ، هامش (٦) .

(٦) هو شهاب الدين أحمد بن عليّ بن محمّد الهيثمي الكناني العسقلاني المصري ،

١٣٧

النووي (١) ، من التوجيه : بأنّ عمر خشي أن يكتب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اُموراً يعجزون عنها فيخالفوه صريحاً فاستحقّوا (٢) العقوبة بترك المنصوص (٣) ، ورأى أنّ الأرفق بالأُمّة في تلك الاُمور سعة الاجتهاد ، وعدم سدّ بابه على العلماء .

ولا يخفى أنّ هذا الكلام مع ما فيه من المفاسد الجليّة عين ادّعاء مزيد علم عمر وفهمه على علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وفهمه ، حيث أدرك ما لم يدركه ! وصريح الاعتراف بصحّة ما تبيّن كون فساده واضحاً مسلّماً عند الكلّ ، وأنّه من شبهات إبليس وأتباعه في كلّ زمان من الحكم بالهوى في مقابل النصّ ، بل مخالفة اللّه‏ ورسوله صريحاً بمحض خيال عقلي ، بل خرص احتمالي ، وقد قال عزوجل : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ

__________________

يكنّى أبا الفضل ، المعروف بـ «الحافظ ابن حجر» ـ غير ابن حجر ، المعادي لآل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كان من كبار المجتهدين على المذهب الشافعي وأعظم متأخّري فقهائهم ، له تصانيف عديدة ، منها : فتح الباري في شرح البخاري ، نزهة الألباب ، تقريب التهذيب ، الإصابة ، تهذيب التهذيب وغيرها ، ولد سنة ٧٧٣ هـ ومات سنة ٨٥٢ هـ .

انظر : روضات الجنّات ١ : ٣٤٥ / ١٢٢ ، طبقات الحفّاظ : ٥٥٢ / ١١٩٠ ، هدية العارفين ٥ : ١٢٨ ، معجم المؤلّفين ٢ : ٢٠ .

(١) هو يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن الحزام الشافعي الدمشقي ، يكنّى أبا زكريّا ، النووي الشافعي نسبةً إلى «نوى» قرية بالشام ، وهو حافظ محدّث لغويٌّ مشارك في بعض العلوم ، له كتب كثيرة ، منها : تهذيب الأسماء واللغات ، روضة الطالبين ، شرح صحيح مسلم ، الأربعون النووية في الحديث ، ولد في مدينة «نوى» سنة ٦٣١هـ ، ومات فيها سنة ٦٧٧هـ .

انظر : طبقات الشافعية للسبكي ٨ : ٣٩٥ / ١٢٨٨ ، طبقات الشافعية للأسنوي ٢ : ٢٦٦ / ١١٦٢ ، البداية والنهاية ١٣ : ٢٧٨ ، شذرات الذهب ٥ : ٣٥٤ ، معجم المؤلّفين ١٣ : ٢٠٢ .

(٢) كذا في النسخ ، والظاهر أنّ الأنسب : «فيستحقوا» .

(٣) انظر : الشفا للقاضي عياض ٢ : ٤٣٥ ، فتح الباري ٨ : ١٠٩ ، شرح صحيح مسلم للنووي ١١ : ٩٠ .

١٣٨

أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (١) .

نعم ، سكوت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا أراد لمّا رأى القال والقيل منهم يمكن أن يكون خوفاً من إجهارهم بمخالفته ـ كما ذكرناه آنفاً ـ واستحقاقهم نزول العذاب عليهم ـ كما سيأتي تحقيقه في الباب الخامس ـ مع إتمامه الحجّة عليهم ، وتبليغه الحقّ بما أخبرهم أوّلاً وأراد لهم دفعه بما لم يرضوا به ، بل مع حصول ما مرّ في التبيان سابقاً من إرادة اللّه‏ امتحان العباد أيضاً .

وأمّا عمر الذي لا مدخل له في تأسيس الشرع ، ولا شراكة له مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا العلم بما يكون ، بل كان هو أصل وقوع فتنة هذا الجدال ، وأوّل من أبدى صفحته بالمخالفة لهذا المقال ، كيف يجوز (فيه هذا التوجيه ) (٢) ، لا سيّما بعد بروز ما ذكرنا من سرّ منعه ومفاسد رأيه (٣) ؟ فافهم .

ومنها : ما ذكره القاضي من التوجيه أيضاً : بأنّ منع عمر كان إشفاقاً على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب ، وأن يدخل عليه مشقّة من ذلك (٤) .

وسخافته أظهر من غيره ؛ إذ لا أقلّ من كمال ظهور أنّ تحمّل مثل هذه المشقّة كان أسهل وأحسن وأولى وأحرى لا سيّما عند النبيّ الرؤوف الشفيق الحريص على خير اُمّته من ترك الناس حتّى يقعوا في الضلال .

ومنها : ما ذكره هو أيضاً بقوله : وقد قيل : إنّ عمر خشي تطرّق (٥) المنافقين ومَن في قلبه مرض لمّا كتب ذلك الكتاب في الخلوة ، وأن

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٦ .

(٢) بدل ما بين القوسين في «م» : «فيه التوجيه» ، وفي «ن» : «له هذا التوجيه» .

(٣) في «م» : «فهمه» بدل «رأيه» .

(٤) الشفا للقاضي عياض ٢ : ٤٣٥ .

(٥) في هامش النسخ المعتمدة : «تصرّف» بدل «تطرّق» .

١٣٩

يتقوّلوا في ذلك الأقاويل ، كادّعاء الرافضة الوصيّة وغير ذلك (١) .

وهو أيضاً كغيره ؛ إذ لا أقلّ من إمكان علاج هذا بأن يأمر بقراءته على الناس ولو على المنبر ، ونحو ذلك .

وأمّا ما نسبه إلى الرافضة ، فقد تبيّن ـ ويظهر أيضاً في محلّه ـ أنّه ليس بتقوّلٍ ، كما يقوّل هؤلاء القوم بأنّه أراد أن يكتب خلافة أبي بكر ، كما ذكرناه مع بيان سخافته ، بل هو ممّا دلّ الدليل عليه ، وأخبر به كلّ أهل البيت وغيرهم حتّى عمر ، كما مرّ آنفاً .

هذا ، مع أنّه قد ذكر النووي في شرح صحيح مسلم ، وكذا القاضي عياض : أنّ طائفة من العلماء ذكروا في توجيه منع عمر : أنّه لم يكن ردّاً على النبيّ ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يبدأ هو بالأمر بذلك ، بـل بعض أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله طلب منه كتابة الكتاب ، فأجابه بما قال ، فمنعه عمر من الإجابة ؛ لبعض هذه الوجوه التي مرّت ، فقبل كلامه (٢) ، ويظهر من كلام بعض منهم أنّ الطالب له كان العبّاس .

ولا يخفى أنّه أيضاً وإن كان توجيهاً ظاهر السخافة ؛ لما مرّ في قباحة الردّ مطلقاً ، وسخافة كلّ الوجوه المذكورة إلاّ أنّه يؤيّد إرادة الوصيّة ؛ إذ في أخبار القوم أيضاً ما يدلّ على أنّ العبّاس كان يسعى أن يصدر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تصريح بالأمر ، وكان يقول ما يدلّ على سوء ظنّه بالناس حتّى كان يقول لعليّ عليه‌السلام : أنت بعد ثلاث عبد العصا (٣) .

__________________

(١) الشفا للقاضي عياض ٢ : ٤٣٦ .

(٢) انظر : شرح صحيح مسلم للنووي ١١ : ٩٣ ، الشفا للقاضي عياض ٢ : ٤٣٦ ـ ٤٣٧ .

(٣) المصنّف لعبد الرزّاق ٥ : ٤٣٥ / ٩٧٥٤ ، الطبقات الكبرى ٢ : ٢٤٥ ، الأدب المفرد : ٣٧٣ / ١١٣٣ ، صحيح البخاري ٦ : ١٥ ، تاريخ الطبري ٣ : ١٩٣ ، السقيفة

١٤٠