ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

وفي روايات اُخَر عنهم عليهم‌السلام : « علم وشاء ، وأراد وقضى وأمضى » الخبر ، إلى أن قال عليه‌السلام : « فبالعلم علم الأشياء قبل كونها ، وبالمشيئة عرف صفاتها وحدودها وأنشأها قبل إظهارها ، وبالإرادة ميّز أنفسها في ألوانها وصفاتها وحدودها ، وبالتقدير قدّر أقواتها (١) وعرف أوّلها وآخرها ، وبالقضاء أبان للناس أماكنها ودلّهم عليها ، وبالإمضاء شرح عللها وأبان أمرها ، وذلك تقدير العزيز العليم » (٢) .

وقيل للرضا عليه‌السلام : لا يكون إلاّ ما شاء اللّه‏ وأراد وقضى وقدّر ، فقال : « ليس هكذا أقول ، بل أقول : لا يكون إلاّ ما شاء اللّه‏ وأراد وقدّر وقضى » .

فقيل ما معنى «شاء» ؟

قال : « ابتداء الفعل » ، وفي رواية : « هو الذكر الأوّل » .

قيل : فما معنى «أراد »؟

قال : « الثبوت عليه » ، وفي رواية : « هو العزيمة على ما شاء » .

قيل : فما معنى «قدّر» ؟

قال : « تقدير الشيء من طوله وعرضه » ، وفي رواية : « هو وضع الحدود من الآجال والأرزاق والبقاء والفناء » .

قيل : فما معنى «مضى» ؟

قال : « إذا قضاه أمضاه » ، وفي رواية : « هو إقامة العين ولا يكون إلاّ ما شاء اللّه‏ في الذكر الأوّل » (٣) .

__________________

(١) في التوحيد للصدوق : «أوقاتها» .

(٢) الكافي ١ : ١١٥ / ١٦ (باب البداء) ، التوحيد للصدوق : ٣٣٤ / ٩ .

(٣) انظر : المحاسن ١ : ٣٨٠ / ٨٣٩ و٨٤٠ ، والرواية الاُخرى في تفسير القمّي ١ : ٢٤ ، الكافي ١ : ١٢٠ / ٤ (باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين) ، مختصر بصائر الدرجات : ٣٧٩ / ٤٣٨ .

٤٢١

وبالجملة : ورود هذه الأشياء بهذه المعاني (ثابت مسلّم) (١) عند الإماميّة بنصوص الأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام ، حتّى أنّه ورد إطلاق الإذن أيضاً على ما هو بمعنى الأمر ، والعلم والإعلام ، والتوفيق والتيسير ، وبعض مراتب التقدير ونحو ذلك .

وظاهر أنّ جملة تلك المعاني التي لها مناسبة وتعلّق بالاُمور التكليفيّة التي هي بالنسبة إلى أفعال العباد ممّا لا تستلزم الجبر .

أمّا ما بمعنى العلم ومراتب التقدير ، فقد بيّنّا آنفاً عدم كون علم اللّه‏ وتقديره علّةً للفعل ، كما إذا علم المولى فرار عبد له فكتب ذلك في موضع ، كما علم مفصّلاً أو مجملاً ، فلا يقول أحد : كان هذا العلم والكتابة سبباً لفراره ، سيّما إذا لم يعلم به العبد ، ومنه يظهر عدم منافاة ما هو بمعنى البيان والإعلام ، بل الأمر أيضاً ؛ إذ كثيراً ما يأمر المولى ويبيّن ، والعبد لا يسمع ولا يأتمر .

ومن الواضحات أنّ اللّه‏ قضى في أفعال العباد الحسنة بالأمر بها ، وفي أفعالهم القبيحة بالنهي عنها ، كما أنّه قضى في أنفسهم بالخلق لها وفيما فعله هو فيهم بالإيجاد له .

وأمّا ما بمعنى الحكم ونحوه ، فهو أيضاً ممّا له معنى مناسب ، حتّى أنّه يمكن تعميم ما ورد بمعنى الخلق أيضاً حتّى يشمل التقدير ، كما أشرنا سابقاً .

ولنذكر هاهنا بعض الأخبار ممّا يتّضح منها ما ذكرناه ، بحيث لا يبقى غبار على ما نحن فيه عند أهل الاستبصار .

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في النسخ المعتمدة : «ثابتة مسلّمة» . والظاهر أنّ ما أثبتناه هو الصحيح .

٤٢٢

قيل للرضا عليه‌السلام : هل للّه‏ عزوجل مشيئة وإرادة في أفعال العباد ؟

فقال : « أمّا الطاعات فإرادة اللّه‏ عزوجل ومشيئته فيها الأمر بها والرضا لها والمعاونة عليها ، وإرادته ومشيئته في المعاصي النهي عنها والسخط لها والخذلان عليها » .

قيل : فهل للّه‏ عزوجل فيها القضاء ؟

قال : « نعم ، ما من فعل يفعله العباد من خير أو شرّ إلاّ وللّه‏ فيه قضاء » .

قيل : فما معنى هذا القضاء ؟

قال : « الحكم عليهم بما يستحقّونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة » (١) .

أقول : كلامه عليه‌السلام هاهنا في الإرادة شاهد لما ذكرناه من أنّه قد يراد بها الخذلان بالنسبة إلى العصيان .

وسئل عليّ عليه‌السلام عن القضاء والقدر ، فقال : « لا تقولوا : وكلهم اللّه‏ إلى أنفسهم فتوهنوه ، ولا تقولوا : أجبرهم (٢) على المعاصي فتظلموه ، ولكن قولوا : الخير بتوفيق اللّه‏ ، والشرّ بخذلان اللّه‏ ، وكلّ سابق في علم اللّه‏ » (٣) .

وقد روى جماعة من المؤالف والمخالف منهم : ابن أبي الحديد من كتاب «الغرر» لشيخه أبي الحسين (٤) ، عن الأصبغ بن نباتة ، ومنهم محمّد

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٢٤ / ١٧ ، الاحتجاج ٢ : ٣٩٨ / ٣٠٤ .

(٢) في بحار الأنوار وفي «ش» : «جبرهم» .

(٣) الاحتجاج ١ : ٤٩٢ ـ ٤٩٣ / ١٢٢ ، بحار الأنوار ٥ : ٩٥ / ١٦ .

(٤) هو أبو الحسين محمّد بن عليّ بن الطيّب البصري المتكلّم على مذهب المعتزلة ، له من التصانيف : المعتمد ـ في اُصول الفقه ـ ، تصفّح الأدلّة ، وغرر الأدلّة ، شرح

٤٢٣

ابن عمر الحافظ بإسناده عن ابن عبّاس وكذا غيرهما كلّهم عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قام إليه رجل بعد انصرافه من صفّين .

فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرنا عن خروجنا إلى الشام ، أبقضاءٍ وقدرٍ ؟

فقال له أمير المؤمنين : « نعم ، يا شيخ ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن وادٍ إلاّ بقضاءٍ من اللّه‏ وقدره » .

فقال الرجل : عند اللّه‏ أحتسب عنائي ، واللّه‏ ، ما أرى لي من الأجر شئياً .

فقال علي عليه‌السلام : « مه يا شيخ (١) ، قد عظّم اللّه‏ لكم الأجر في مسيركم وأنتم ذاهبون ، وعلى منصرفكم وأنتم منقلبون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرّين » .

فقال الرجل : فكيف لا نكون مضطرّين والقضاء والقدر ساقانا ، وعنهما كان مسيرنا ؟

فقال عليّ عليه‌السلام : « ويحك ، لعلّك ظننت قضاءً لازماً ، وقدراً حتماً ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد ، والأمر من اللّه‏ والنهي والزجر ، ولم تأت لائمة من اللّه‏ لمذنب ، ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء ، ولا المسيء أولى بالذمّ من المحسن ، تلك مقالة عبدة الأوثان ، وجنود الشيطان ، وخصماء الرحمن ،

__________________

الاُصول الخمسة وغير ذلك ، توفي في بغداد سنة ٤٣٦ هـ .

انظر : تاريخ بغداد ٣ : ١٠٠ / ١٠٦٩ ، الأنساب للسمعاني ٥ : ١٩١ ، وفيات الأعيان ٤ : ٢٧١ / ٦٠٩ ، سير أعلام النبلاء ١٧ : ٥٨٦ / ٣٩٣ .

(١) في «ش» زيادة : «بلى» ، وكذا في البحار ٥ : ٩٥ / ١٩ .

٤٢٤

وشهداء (١) الزور والبهتان ، وأهل العمى (٢) والطغيان ، وهم قدريّة هذه الاُمّة ومجوسها ، يا شيخ ، إنّ اللّه‏ تعالى أمر تخييراً ، ونهى تحذيراً ، وكلّف يسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يطع مكرهاً ، ولم يرسل الرسل عبثاً ، ولم يخلق السماوات والأرضين وما بينهما باطلاً ، ذلك ظنّ الذين كفروا ، فويل للّذين كفروا من النار » .

فقال الشيخ : فما القضاء والقدر اللّذان ما سرنا إلاّ بهما ؟

قال : « الأمر من اللّه‏ ، والحكم بالطاعة ، والنهي عن المعصية ، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية ، والمعونة على القربة إليه ، والخذلان لمن عصاه ، والوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، كلّ ذلك قضاء اللّه‏ في أفعالنا ، وقدره لأعمالنا ، أمّا غير ذلك فلا تظنّه ، فإنّ الظنّ له محبط للأعمال » ، ثمّ تلا قوله تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ) (٣) ، الآية .

فنهض الرجل مسروراً وقال : فرّجت عنّي يا أمير المؤمنين فرّج اللّه‏ عنك ، ثمّ شرع يقول هذا الشعر :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النشور من الرحمن رضواناً

أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً

جزاك ربّك عنّا فيه إحساناً

إلى آخر الأبيات (٤) .

__________________

(١) في «ش» : «شهود» ، وفي الهامش نسخة بدل : «شهداء» .

(٢) في «ش» : «أهل الغي» .

(١٣) سورة الإسراء ١٧ : ٢٣ .

(٤) الكافي ١ : ١١٩ / ١ (باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين) ، التوحيد : ٣٨٠ / ٢٨ ، تحف العقول : ٤٦٨ ، كنز الفوائد ١: ٣٦٣ ، بحار الأنوار ٥ : ١٢ / ١٩ ، شرح نهج البلاغة

٤٢٥

وهذا الخبر ممّا نقص منه (بعض من رواه) (١) بعض الكلمات ، ونحن ذكرناه تماماً بجمع جميع ما ورد فيه .

وقد روى هشام بن الحكم أنّ زنديقاً دخل على أبي عبداللّه‏ الصادق عليه‌السلام فسأله عن مسائل في التوحيد ، وذكر السؤال والجواب بما هو صريح في أنّ ما ذكرناه من نسبة القول بالتشبيه إلى هشام كان تهمةً وتوهّماً ، إلى أن قال : فقال الزنديق : أخبرني عن اللّه‏ كيف لم يخلق الخلق كلّهم مطيعين موحّدين وكان على ذلك قادراً ؟

فقال عليه‌السلام : « لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب ؛ لأنّ الطاعة إذا لم تكن فعلهم لم تكن جنّة ولا نار ، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ، ونهاهم عن معصيته ، واحتجّ عليهم برسله ، وقطع عذرهم بكتبه ؛ ليكونوا هم الذين يطيعون ويعصون ويستوجبون بطاعتهم له الثواب وبمعصيتهم إيّاه العقاب » .

قال : فالعمل الصالح من العبد هو فعله ، والعمل الشرّ من العبد هو فعله ؟

قال : « العمل الصالح من العبد يفعله واللّه‏ به أمره ، والعمل الشرّ من العبد يفعله واللّه‏ عنه نهاه » .

قال : أليس فعله بالآلة التي ركبها فيه ؟

قال : « نعم ، ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر بها على الشرّ الذي نهاه عنه » .

__________________

لابن أبي الحديد ١٨ : ٢٢٧ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ : ٥١٢ ، كنز العمال ١ : ٣٤٤ / ١٥٦٠ .

(١) ما بين القوسين لم يرد في « ن » .

٤٢٦

قال : فإلى العبد من الأمر شيء ؟

قال : « ما نهاه اللّه‏ عن شيء إلاّ وقد علم أنّه يطيق تركه ، ولا أمره بشيء إلاّ وقد علم أنّه يستطيع فعله ؛ لأنّه ليس من صفته الجور ، والعبث ، والظلم ، وتكليف العباد ما لا يطيقون » .

قال : فمن خلقه اللّه‏ كافراً يستطيع الإيمان وله عليه بتركه الإيمان حجّة ؟

قال عليه‌السلام : « إنّ اللّه‏ خلق خلقه جميعاً مسلمين ، أمرهم ونهاهم ، والكفر اسم يلحق الفعل حين يفعله العبد ، ولم يخلق اللّه‏ العبد حين خلقه كافراً ، إنّه إنّما كفر من بعد أن بلغ وقتاً لزمته الحجّة من اللّه‏ فعرض عليه الحقّ فجحده ، فبإنكاره الحقّ صار كافراً » .

قال : فيجوز أن يقدر على العبد الشرّ ، ويأمره بالخير وهو لا يستطيع الخير أن يعمله ، ويعذّبه عليه ؟

قال : « إنّه لا يليق بعدل اللّه‏ ورأفته أن يُقدّر على العبد الشرّ ويريده منه ، ثمّ يأمره بما يعلم أنّه لا يستطيع أخذه ، والإنزاع عمّا لا يقدر على تركه ، ثمّ يعذّبه على تركه الذي علم أنّه لا يستطيع أخذه » (١) ، الخبر فافهم .

وإذ قد عرفت هذا ، علمت تمام معنى الأمر بين الأمرين الذي هو مذهب الإماميّة ، المأخوذ من أهل بيت الإمامة والنبوّة ، ووضح لك أنّه هو الحقّ الذي لا فساد فيه ، ولا منافاة له مع المعاني التي ذكرناها للإرادة والقضاء وأمثالهما ، ومنه يتبيّن أنّ مبنى توهّم غيرهم ـ الذين وقعوا في الجبر والقدر وضلّوا من حيث لا يعلمون ـ على حملهم هذه الأشياء

__________________

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٢٢ ـ ٢٢٤ ، بحار الأنوار ٥ : ١٨ / ٢٩ .

٤٢٧

على خصوص المعنى الحتمي في جميع المواضع ، حيث جهلوا الفرق بين ما يتعلّق بالاُمور التكليفيّة كالعبادات والمعاصي والطاعات ونحوها ، وبين ما يتعلّق بغيرها كالخلق والرزق والصحّة والسقم والحياة والممات ونحوها ، فقاسوا أحدهما بالآخَر من غير بصيرة بالحال ، حيث لم يرتووا من مناهل علوم الآل ، واللّه‏ يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

ثمّ اعلم ، أنّ للتفويض معنيين آخَرين أيضاً قال بأحدهما الإماميّة وأنكروا الآخَر .

فأمّا الثاني : فهو الذي قال به جمع من الغُلاة ، حيث قالوا : إنّ اللّه‏ عزوجل خلق النبيّ والأئمّة صلوات اللّه‏ عليهم وفوّض إليهم أمر الخلق ، فهم يخلقون ويرزقون ويحييون ويميتون (١) .

وممّا يدلّ على كون القول به كفراً صريح أخبار الأئمّة عليهم‌السلام .

منها : قول الرضا عليه‌السلام في حديث له : « من زعم أنّ اللّه‏ عزوجل فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم‌السلام ، فقد قال بالتفويض ، والقائل به مشرك » (٢) .

ولهذا أنكره علماء الإماميّة قاطبة ، ومن نسبه إليهم فقد افترى عليهم مثل سائر التُّهم التي اتّهموهم بها .

نعم ، هم يقولون : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام قد يسألون اللّه‏ تعالى ذلك شفاعة ، أو لإظهار المعجزة فيستجيب لهم إعظاماً لشأنهم (٣) ، كما ورد

__________________

(١) انظر : الاعتقادات ٩٧ / ٣٧ (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ، ج٥) ، الغيبة للطوسي : ٢٩٣ / ٢٤٨ ، الاحتجاج ٢ : ٥٤٥ / ٣٤٥ .

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٢٤ / ١٧ ، الاحتجاج ٢ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨ / ٣٠٤ .

(٣) انظر : الغيبة للطوسي : ٢٩٣ / ٢٤٨ ، الاحتجاج ٢ : ٥٤٦ / ٣٤٥ .

٤٢٨

مثله في بعض الأنبياء صريحاً .

ومن العجائب أنّ طوائف الصوفيّة من المخالفين نسبوا إلى بعض مشايخهم مثل هذا ، بل أزيد ، ومع هذا طعنوا على الإماميّة بالغلوّ ، حيث نقلوا وقوع بعض الأشياء من الأئمّة عليهم‌السلام على سبيل الشفاعة أو إظهار المعجزة ، وهل هذا إلاّ عين الحميّة والعصبيّة ؟ و : كأنّ هذا هو موضع شعر الشاعر حيث قال بالفارسية :

روا باشد أنا الحقّ ازدرختى

چرا نبود روا از نيك بختى (١)

وأمّا الأوّل ـ أعني التفويض الذي قال به الإماميّة ـ فهو إنّهم يقولون : إنّ اللّه‏ عزوجل سيوفّض يوم القيامة إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه الأئمّة عليهم‌السلام ما لا يفوّض إلى أحدٍ غيرهم من الشفاعة والأمر والنهي والأخذ والعطاء وإدخال الجنّة والنار ، كما دلّت عليه متواتر الأخبار ، إرغاماً لأنف من عاندهم بالإنكار ، حتّى ورد في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُم ) (٢) : إنّ اللّه‏ عبّر بصيغة المتكلّم مع الغير حيث جعل لهؤلاء مدخليّةً في الحساب (٣) .

وكذا يقولون : قد فوّض اللّه‏ تعالى إلى هؤلاء في الدنيا أيضاً بعض أنواع التفويض .

وخلاصة بيان ذلك : أنّ اللّه‏ تعالى لمّا أدّب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله مع عصمته بكمال الآداب وأكمله ، حتّى قوّمه على ما أراد من كلّ باب ، وأيّده بروح

__________________

(١) قاله محمّد لاهيجي گيلاني ، انظر : شرح گلشن راز: ٧٣٥، نشر : علمي، الطبعة الاُولى .

(٢) سورة الغاشية ٨٨: ٢٥ و٢٦ .

(٣) انظر : الكافي ٨ : ١٦٢ / ١٦٧ (حديث الناس يوم القيامة) ، تأويل الآيات الظاهرة ٢ : ٧٨٨ / ٤ ـ ٧ .

٤٢٩

القدس الذي كان به مسدّداً موفّقاً معلّماً ، بحيث لم يكن يختار من الاُمور شيئاً إلاّ ما يوافق الحقّ والصواب ، بل جعل قلبه بدوام الإلهام ـ الذي لا زلل فيه ولا خلل ـ وعاءً لمشيئته ، بحيث لم يكن يخطر بباله ما يخالف مشيئته تعالى بسبب من الأسباب ، كما قال سبحانه : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ‏ُ ) (١) ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) (٢) ونحو ذلك ، فوّض إليه تفويضاً في بعض الأشياء ، فقال : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) .

فمن ذلك : تفويض تعيين بعض اُمور الخير إليه ولو بمحض الإلهام من غير حاجة إلى انتظار الوحي الصريح إظهاراً لشرفه وكرامته عنده ، وسلامته عن احتمال الخطأ والزلل ، وليعلم من يطع الرسول ممّن يعصيه ، كإضافة الركعتين الأخيرتين في الصلاة ، وتعيين النوافل فيها ، وصوم شعبان وبعض الأيّام المخصوصة ندباً ، وتحريم كلّ مسكر غير الخمر المحرّم بالوحي الصريح ، وطعمة الجدّ (٤) ، وغيرها ممّا هو مذكور في محلّه (٥) .

ولا يتوهّم منافاة هذا لقوله تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (٦) ؛ لوضوح أنّ ما ذكرناه ليس من الهوى ، بل هو من

__________________

(١) سورة الإنسان ٧٦ : ٣٠ .

(٢) سورة القلم ٦٨ : ٤ .

(٣) سورة الحشر ٥٩ : ٧ .

(٤) طعمة الجدّ: هي المقدار الذي سنّه رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله للجدّ بعد أن لم يفرض له، قيل: هي السدس .

انظر: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام ٣٩ : ١٣٩ .

(٥) انظر : الكافي ١ : ٢٠٧ (باب التفويض إلى رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلى الأئمّة عليهم‌السلام في أمر الدين) .

(٦) سورة النجم ٥٣ : ٣ و ٤ .

٤٣٠

الإلهام الذي هو شعبة من الوحي كما بيّنّا ، ولم نقل : إنّه كان له أن يحرّم ما شاء ، ويحلّل ما شاء من غير وحي ولا إلهام ، أو بغير ما اُوحي إليه برأيه حاشاه عن ذلك ، فافهم .

ومن ذلك : تفويض اُمور الخلق إليه من سياستهم وتأديبهم وتكميلهم ، وأمر الخلق بإطاعته فيما أحبّوا وكرهوا ، وفيما علموا جهة المصلحة فيه وما لم يعلموا .

ومن ذلك أيضاً : تفويض بيان العلوم والأحكام وأنواع المعارف والتفسير والتأويل وأمثال ذلك ، بحسب اقتضاء صلاح الوقت ، وعلى نحو ما أراه اللّه‏ المصلحة فيه ولو بالإلهام بسبب اختلاف عقول الناس ومراتب تحمّلهم وقبولهم ، ولما كان مأموراً به من التقيّة والمداراة ـ التي بيّنّاها سابقاً ، وفيما يأتي من المقالة التاسعة من المقصد الثاني ـ حتّى أنّه كان له أيضاً أن يسكت عن الجواب أحياناً ، أو يورّي في الكلام توريةً ، قال اللّه‏ عزوجل : ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ) (١) ، أي : بما ألهمك اللّه‏ وفهّمك ورخّصك به ، دون ما بالرأي والهوى ، كما في صريح الحديث عن أهل البيت عليهم‌السلام ، ولهذا كان له الاختيار أيضاً أن يحكم أحياناً بما يلهمه اللّه‏ تعالى ويعلّمه من الواقع ومُخّ الحقّ كما كان له أن يحكم بظاهر الشريعة .

ثمّ من ذلك أيضاً : التفويض في العطاء ، فإنّه كان له أن يعطي من شاء ما شاء ، ويمنع من شاء عمّا شاء ، وإن كان هذا أيضاً بحسب المصالح الإلهاميّة ، مع أنّ الحقّ الذي بيّن في موضعه أنّ الأرض وما فيها كلّها لمن

__________________

(١) سورة النساء ٤ : ١٠٥ .

٤٣١

هو الخليفة من اللّه‏ فيها من آدم عليه‌السلام وهلّم جرّاً إلى المهديّ عليه‌السلام ، قال اللّه‏ عزوجل : ( هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (١) .

وهذا الذي ذكرناه كلّه مع كونه معلوماً من سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى بنقل بعض المخالفين أيضاً ، كما هو غير خفيٍّ على المتتبّع منصوص صريحاً في أحاديث أهل بيته الأئمّة المعصومين صلوات اللّه‏ عليهم أجمعين (٢) .

وقد تواترت أخبارهم أيضاً بأنّ ما فوّض إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد فوّض أيضاً إلى أوصيائه الأئمّة عليهم‌السلام (٣) ؛ لاتّصافهم أيضاً بما كان فيه ، ما سوى نزول الوحي المختصّ بمنصب النبوّة ، فهم أيضاً كذلك وإن لم يخالفوا ما هو من سنّته ؛ ضرورة أنّ منصبهم حفظ شريعته .

هذا خلاصة قول الإماميّة في التفويض إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، فمن نسب إليهم غير هذا فقد افترى ، ومن أنكر عليهم هذا فقد افترى ، والسلام على من اتّبع الهدى.

ثمّ إنّ ممّا تفرّدت (٤) به الإماميّة القول بوقوع البداء ، بمعنى : أنّ اللّه‏ عزوجل قد يغيّر ما قدّره ولو بعد ما أخبر به أيضاً ، فيمحوه ويثبت غيره ، سواء كان ذلك من الأحكام ويُسمّى ذلك نسخاً ، أو من غيرها كالآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض والشقاوة والسعادة والإيمان والكفر وغيرها ، أيّ شيء كان وعلى أيّ نحو أراد أن يكون ، كما قال سبحانه :

__________________

(١) سورة ص ٣٨ : ٣٩ .

(٢) بصائر الدرجات : ٣٩٨ (باب التفويض إلى رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ) .

(٣) بصائر الدرجات : ٤٠٣ ـ ٤٠٧ / ١ ـ ١٣ ، (باب في أنّ ما فوّض إلى رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد فوّض إلى الأئمّة عليهم‌السلام .

(٤) في « م » : «انفرد» .

٤٣٢

( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (١) ، وقال : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (٢).

وقد تواترت فيه أخبار الأئمّة الأطهار ، بحيث وردت فيها المبالغة الأكيدة في وقوعه ، والزجر لمن مال إلى الإنكار ، حتّى قالوا صريحاً : « ما عُبد اللّه‏ بشيء مثل البداء » (٣) ، و« ما عُظّم اللّه‏ بمثل البداء » (٤) ، و«ما بُعث نبيّ إلاّ بالإقرار بالعبوديّة ، وخلع الأنداد ، وأنّ اللّه‏ يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء » (٥) ، و« أنّ الناس لو علموا ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه » (٦) .

بل كثير من منقولات العامّة وقصص الأنبياء تدلّ عليه أيضاً ، كخبر دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على يهوديٍّ بالموت (٧) ، وإخبار عيسى عليه‌السلام بموت رجل ثمّ لم يمت (٩) ، وأنّ الصدقة والدعاء يغيّران القضاء ، وغير ذلك (١٠) .

وبالجملة : هذا من ضروريّات مذهب الإماميّة ، لكن ليس مرادهم به ما يستلزم تغيير علم اللّه‏ تعالى وحدوث علم له بشيء بعد ما لم يكن ، كما

__________________

(١) سورة الرعد ١٣ : ٣٩ .

(٢) سورة الرحمن ٥٥ : ٢٩ .

(٣) الكافي ١ : ١١٣ / ١ (باب البَداء) ، التوحيد للصدوق : ٣٣١ ـ ٣٣٣ / ١ و٢ .

(٤) التوحيد : ٣٣٣ / ١ .

(٥) الكافي ١ : ١١٤ / ٣ (باب البداء) ، التوحيد : ٣٣٣ / ٣ .

(٦) الكافي ١ : ١١٥ / ١٢ (باب البَداء) ، التوحيد : ٣٣٤ / ٧ بتفاوت يسير .

(٧) الكافي ٤ : ٥ / ٣ (باب انّ الصدقة تدفع البلاء) ، بحار الأنوار ٤ : ١٢٣ .

(٨) انظر : الأمالي للصدوق : ٥٨٩ / ٨١٦ ، بحار الأنوار ٤ : ١٢٣ ، و١٤ : ٢٤٤ / ٢٢ ، كنز العمّال ٦ : ٣٧١ / ١٦١١٥ .

(٩) بحار الأنوار ٤ : ١٢٣ .

٤٣٣

يتوهّم بادئ الرأي من ظاهر لفظة البداء حيث إنّه ممدوداً ، بمعنى : ظهور رأي لم يكن ، حتّى قال الجوهري وغيره : بدى له في هذا الأمر بداءٌ ممدودٌ ، أي : نشأ له فيه رأي (١) ؛ إذ لا شكّ في أنّ ذلك كفر وضلال ، وادّعاء لما هو في حقّ اللّه‏ محال ، لا سيّما عند الإماميّة الذين بيّنّا خلاصة اعتقادهم في علم اللّه‏ تعالى ، وتفسيرهم إيّاه بأنّه لا يجهل شيئاً ، واتّفاقهم على كونه عين الذات قديماً لا يتغيّر ولا يزول ، بل عندهم أنّ إطلاق هذا وأمثاله على نوع من التجوّز ، كالوجه واليد والاستهزاء والمكر وغيرها ، كما سيأتي بيانه ، وكفى هاهنا شاهداً قوله تعالى : ( يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ) (٢) وأشباهه .

وقال الصادق عليه‌السلام : « ليس شيء يبدو للّه‏ تعالى إلاّ وقد كان في علمه ، إنّ اللّه‏ لا يبدو له عن جهل » (٣) .

وقال عليه‌السلام : « من زعم أنّ اللّه‏ عزوجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فأبرؤوا منه » (٤) .

وقد صرّح جماعة أيضاً من قدماء علماء الإماميّة وأرباب نصوصهم بهذا ، حيث قالوا : ليس البداء كما يظنّه جُهّال الناس بأنّه بداء ندامةٍ ، تعالى اللّه‏ عن ذلك علوّاً كبيراً (٥) ، بل كما أنّ نسخه بعض الأحكام ليس من جهل

__________________

(١) الصحاح ٦ : ٢٢٧٨ ، أقرب الموارد ١ : ٣٤١ ـ بدأ ـ .

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٥١ .

(٣) تفسير العيّاشي ٢ : ٣٩٨ / ٢٢٥٠ .

(٤) الاعتقادات للصدوق ٤١ / ١٠ (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد ، ج ٥) ، كمال الدين ١ : ٧٠ .

(٥) انظر : كمال الدين : ٧٠ .

٤٣٤

ولا ندامة ، بل لمصالح عائدة إلى الخلق فكذلك هذا .

وقالوا أيضاً : من قال بأنّ اللّه‏ تعالى لا يعلم الشيء إلاّ بعد كونه ، فقد كفر وخرج عن التوحيد (١) .

نعم ، قد وقع بعض اختلاف بين الإماميّة في بيان المراد به ، ونحن نكتفي هاهنا بذكر ما فهمه عمدة علماء الإماميّة من ظواهر الآيات والأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، بل تدلّ عليه النصوص الصريحة ، ولا تأبى عنه العقول الصحيحة .

فاعلم أوّلاً أنّ الأئمّة عليهم‌السلام إنّما بالغوا في البداء ردّاً على أقوام ، منهم : اليهود الذين يقولون : إنّ اللّه‏ قد فرغ من الأمر ، كما روي بأسانيد عديدة عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال في قوله تعالى : « ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) (٢) لم يعنوا أنّه هكذا ، وقال بيده إلى عنقه ، ولكنّهم قالوا : قد فرغ اللّه‏ من الأمر لا يحدث اللّه‏ غير ما قدّره في التقدير الأوّل ، فلا يزيد ولا ينقص ، فقال اللّه‏ جلّ جلاله تكذيباً لقولهم : ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (٣) أي : يقدّم ويؤخّر ، ويزيد وينقص ، وله البداء والمشيئة » ، ثمّ قال عليه‌السلام : « ألم تسمع اللّه‏ تعالى يقول : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٤) » (٥) .

ومنهم : النظام وبعض المعتزلة الذين يقولون : إنّ اللّه‏ عزوجل خلق

__________________

(١) الغيبة للطوسي : ٤٣٠ / ٤٢٠ في ذيل الحديث ، بحار الأنوار ٤ : ١١٥ / ٤٠ .

(٢ و٣) سورة المائدة ٥ : ٦٤ .

(٤) سورة الرعد ١٣ : ٣٩ .

(٥) انظر : تفسير القمّي ١ : ١٧٠ ، التوحيد : ١٦٧ / ١ (باب معنى قوله عزوجل : ( وقالت اليهود يد اللّه‏ مغلولة ) ، معاني الأخبار : ١٨ / ١٥ .

٤٣٥

الموجودات دفعةً واحدة على ما هي عليه الآن معدناً ونباتاً وحيواناً وإنساناً ، ولم يتقدّم خلق آدم على خلق أولاده ، وأنّ التقدّم إنّما يقع في ظهورها لا حدوثها ووجودها ، وإنّما أخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والبروز من كفرة الفلاسفة (١) .

وكذا منهم : بعض كفّار الفلاسفة وأتباعهم القائلين بالعقول العشرة والنفوس الفلكيّة ، وبأنّ اللّه‏ تعالى لم يؤثّر حقيقة إلاّ في العقل الأوّل ، وأنّ تأثيره فيه أيضاً على سبيل الإيجاب ، فإنّ هؤلاء يعزلونه تعالى عن ملكه ، وينسبون الحوادث إلى هؤلاء (٣) ، حتّى أنّ الفخر الرازي (٣) جعل هذا من جملة الوجوه التي ذكرها في تفسير قوله تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ ) (٤) الآية ، حيث قال : الوجه الرابع : لعلّه كان في اليهود من كان على مذهب الفلسفة ، وهو أنّه تعالى موجب لذاته ، وأنّ حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلاّ على نهج واحد ، وأنّه تعالى غير قادر على إحداث الحوادث على غير الوجوه التي عليها تقع ، فعبّروا عن عدم الاقتدار على التغيير والتبديل بغلّ اليد (٥) ، انتهى .

__________________

(١) انظر : الملل والنحل ١ : ٥٦ ، بحار الأنوار ٤ : ١٢٩ ـ ١٣٠ ، نبراس الضياء : ٥٨ .

(٢) بحار الأنوار ٤ : ١٣٠ .

(٣) هو محمّد بن عمر بن الحسين بن الحسن ، يكنّى أبا عبداللّه‏ ، الملّقب بـ «فخر الدين» المعروف بـ «ابن الخطيب» ، الفقيه الشافعي ، أصله من طبرستان ، له كتب كثيرة في فنون عديدة ، منها : تفسير القرآن ، والمطالب العالية ، والمحصّل وغيرها ، ولد سنة ٥٤٤ هـ في الري ، ومات سنة ٦٠٦ هـ في هراة .

انظر : وفيات الأعيان ٤ : ٢٤٨ / ٦٠٠ ، تاريخ الإسلام (الطبقة الحادية والستّون ٦٠١ ـ ٦١٠ هـ) : ٢٠٤ / ٣١١ ، سير أعلام النبلاء ٢١ : ٥٠٠ / ٢٦١ ، الأعلام ٦ : ٣١٣ .

(٤) سورة المائدة ٥ : ٦٤ .

(٥) التفسير الكبير للرازي ١٢ : ٤١ .

٤٣٦

فلأجل نفي تلك الأقوال بالغ الأئمّة في وقوع البداء ، وبيان أنّه تعالى كلّ يوم في شأن من إعدام شيء وإحداث آخَر ، وإماتة شخص وإحياء آخَر ، إلى غير ذلك ؛ لئلاّ يترك العباد التضرّع إلى اللّه‏ ومسألته (١) ، وطاعته والتقرّب إليه بما يصلح به اُمور دنياهم وعقباهم ، وليرجوا عند التصدّق على الفقراء وصلة الأرحام وبرّ الوالدين والمعروف والإحسان ما وعدوا عليها من طول العمر وزيادة الرزق ، وغير ذلك من المصالح والحِكَم العظيمة التي هو أعلم بها ، بل ربّما يظهر بعضها بإلهام من اللّه‏ على من تأمّل صادقاً فيها .

ثمّ اعلم ثانياً أنّ الآيات والروايات تدلّ على أنّ اللّه‏ تعالى خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات ، أحدهما : اللوح المحفوظ الذي لا تغيير فيه أصلاً ، وهو مطابق لعلمه تعالى ، والآخَر : لوح المحو والإثبات ، فيثبت فيه شيئاً ، ثمّ يمحوه ؛ للحِكَم الكثيرة التي أشرنا إلى بعضها ، مثلاً : يكتب في هذا اللوح أنّ عمر زيد خمسون سنة ، ومعناه مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره ، فإذا وصل الرحم مثلاً ، يمحي «الخمسون» ويكتب مكانه «ستّون» ، وإذا قطعها يكتب مكانه «أربعون» ، وفي اللوح المحفوظ أنّه يصل ـ مثلاً ـ وعمره ستّون ، كما أنّ الطبيب الحاذق إذا اطّلع على مزاج شخص فحكم بأنّ عمره بحسب هذا المزاج يكون ستّين سنة ، فإذا شرب سمّاً ومات أو قتله إنسان فنقص عن ذلك ، أو استعمل دواءً قوي مزاجه به فزاد عليه لم يخالف قول الطبيب .

فهذا التغيير الواقع في هذا اللوح يُسمّى بالبداء تجوّزاً ، كما أشرنا إليه ،

__________________

(١) في « م » زيادة : «والدعاء» .

٤٣٧

إمّا لأنّه يشبه بالبَداء بمعناه الظاهر ، كما في سائر ما يطلق عليه تعالى من الابتلاء والاستهزاء والمكر وأمثالها ، وإمّا لأنّه يظهر للملائكة أو للخلق خلاف ما علموا أوّلاً إذا كان لهم علم بالأوّل بسبب قراءة اللوح أو إخبار العالم به كالنبيّ أو الإمام مثلاً (١) .

وقد ورد في القرآن ما يرشد إلى هذا ، كقوله تعالى : ( وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) (٢) وأمثاله ، ولعلّ قوله تعالى : ( وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٣) إشارة إلى رفع توهّم تغيير علمه تعالى ، بأن يكون معناه عنده أصل الكتاب الذي لا يتغيّر ، فيكون المراد به اللوح المحفوظ .

كما قال الصادق عليه‌السلام أيضاً : « إنّ للّه‏ علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلاّ هو (ولم يطّلع عليه أحداً من خلقه) من ذلك يكون البداء ، وعلم علّمه ملائكته وأنبياءه ورسله ونحن نعلمه » (٤) ، فإنّ مفاد ظاهره كما ترشد إليه كلمة «من» في قوله « من ذلك » : إنّ البداء الذي قد يكون في العلم الثاني فإنّما هو على وفق العلم المخزون المكنون في اللوح المحفوظ ، حتّى أنّه ورد تفسير قوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا ) (٥) بذلك العلم المخزون ، وقوله : ( إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِن

__________________

(١) انظر : بحار الأنوار ٤ : ١٣٠ ـ ١٣١ .

(٢) سورة الزمر ٣٩ : ٤٧ .

(٣) سورة الرعد ١٣ : ٣٩ .

(٤) بصائر الدرجات : ١٢٩ / ٢ (باب في الأئمّة عليهم‌السلام أنّه . . . ) ، الكافي ١ : ١١٤ / ٨ (باب البَداء) . وما بين القوسين لم يرد فيهما ، بل ورد في ضمن روايات اُخر .

انظر : بصائر الدرجات : ١٣٠ / ٤ ، الكافي ١ : ١١٤ / ٦ .

(٥) سورة الجنّ ٧٢ : ٢٦ .

٤٣٨

رَّسُولٍ ) (١) بتعليم العلم الثاني (٢) .

وممّا يدلّ عليه أيضاً : ما ثبت وروده عن أمير المؤمنين ، بل وغيره من الأئمّة عليهم‌السلام أيضاً من قولهم : « لولا آية في كتاب اللّه‏ لأخبرتكم بما هو كائن وبما يكون إلى يوم القيامة ، وهي قوله عزوجل : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ) (٣) الآية» (٤) .

وفي روايات صحيحة الأسانيد من الإمام عليه‌السلام أنّه قال : « إذا كانت ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكَتَبةُ إلى سماء الدنيا ، فيكتبون ما يكون من قضاء اللّه‏ في تلك السنة ، فإذا أراد اللّه‏ أن يقدّم شيئاً أو يؤخّره أو ينقص منه أو يزيد أمر الملك أن يمحو ما يشاء ، ثمّ أثبت الذي أراد » قيل : فكلّ شيء يكون فهو عند اللّه‏ في كتاب ؟ قال : « نعم » (٥) الخبر.

وعن ابن عبّاس في قوله تعالى : ( ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) (٦) ، أنّه قال : قضى أجلاً من مولده إلى مماته ، وأجل مسمّى عنده من الممات إلى البعث لا يعلم أحد ميقاته سواه ، فإذا كان الرجل صالحاً واصلاً لرحمه زاد اللّه‏ في أجل الحياة من أجل الممات إلى البعث ، وإذا كان

__________________

(١) سورة الجنّ ٧٢ : ٢٧ .

(٢) انظر : الكافي ١ : ٢٠٠ / ٢ (باب نادر فيه ذكر الغيب) .

(٣) سورة الرعد ١٣ : ٣٩ .

(٤) التوحيد : ٣٠٤ / ١ (باب حديث ذِعلِب)، المناقب لابن شهر آشوب ٤ : ١٧٢، بحار الأنوار ٤٦ : ٩٧ / ٨٥ نقلاً عن المناقب.

(٥) تفسير العيّاشي ٢ : ٣٩٥ / ٢٢٤١ ، تفسير القمّي ١ : ٣٦٦ـ ٣٦٧ ، البرهان في تفسير القرآن٣ : ٢٦٦ / ٥٦١١ .

(٦) سورة الأنعام ٦ : ٢ .

٤٣٩

غير صالح ولا واصل نقصه اللّه‏ من أجل الحياة وزاد على أجل البعث (١) ، قال : وذلك قوله تعالى : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ) (٢) (٣) ، والأخبار من هذا القبيل كثيرة .

وما يكون ظاهره على خلاف هذا فهو مأوّل ، كقوله عليه‌السلام : « فأمّا ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذّب نفسه ولا نبيّه ولا ملائكته » (٤) ؛ إذ الظاهر أنّ المراد هاهنا ما أخبروه على سبيل الحتم ، فإنّ الذي يستفاد من ملاحظة الروايات بعضها مع بعض أنّ أخبارهم على قسمين :

أحدهما : ما وصل إليهم من اللّه‏ عزوجل بقيد أنّه من الاُمور المحتومة ، فهُم كانوا يخبرون كذلك ، فهذا الذي قال عليه‌السلام : إنّه كائن لا محالة ؛ ولهذا قال الإمام عليه‌السلام عند إخباره بخروج السفياني : « إنّه من المحتوم الذي لا بداء فيه » (٥) .

وثانيهما : ما وصل إليهم لا على هذا الوجه ، فهُم أيضاً كانوا يخبرون به كذلك ، وربّما أشعروا أيضاً باحتمال وقوع البداء فيه ، كما قال عليّ عليه‌السلام بعد ما أخبر عن بعض الأشياء : ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) (٦) ، الآية (٧) .

وكفى لما ذكرناه شاهداً ما ورد أنّه سأل رجل أبا جعفر عليه‌السلام أخبرني

__________________

(١) في «ش» : المبعث .

(٢) سورة فاطر ٣٥ : ١١ .

(٣) مجمع البيان ٢ : ٢٧٢ ـ ٢٧٣ ، الوسيط ٢ : ٢٥٢ .

(٤) تفسير العيّاشي ٢ : ٣٩٦ / ٢٢٤٤ ، بحار الأنوار ٤ : ١١٩ / ٥٨ .

(٥) الغيبة للنعماني : ٣٠١ / ٤ ـ ٦ ، الغيبة للطوسي : ٤٤٩ / ٤٥٢ ، بحار الأنوار ٥٢ : ٢١٥ / ٧١ ، وفيها « . . . لا بُدَّ منه » .

(٦) سورة الرعد ١٣ : ٣٩ .

(٧) التوحيد : ٣٠٤ / ١ (باب حديث ذِعلِب) ، بحار الأنوار ٤ : ١٣٤ .

٤٤٠