ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

في نفسه ، فمن الاختلاف الذي ذكروه : الاختلاف في حكاية فدك (١) فاطمة عليهاالسلام ، وقتال طائفة مالك بن نويرة ، وتعيين أبي بكر عمر ، وأمر الشورى الذي قرّره عمر ، ثمّ ذكر الشهرستاني وقوع اختلافات اُخَر في زمانهما أيضاً .

ثمّ ذكروا خلاف طلحة والزبير وعائشة ومعاوية ، والخوارج وأمر التحكيم وخروجهم على عليّ عليه‌السلام مصرّحين بكون الحقّ مع عليّ عليه‌السلام في جميع ذلك .

ثمّ ذكروا اختلاف الناس في مسائل اُصول الدين وفروعه وتشتّت المذاهب ممّا لا حاجة لنا إلى بيان تفصيلها هاهنا ؛ إذ يكفي هاهنا ظهور كون جميعها على وفق الرأي والقياس الذي ظهر بطلانه مطلقاً ، وكونه ضلالاً مستلزماً للضلال ، وكون جميع ذلك متفرّعاً عن بيعة السقيفة ، كما سيأتي مفصّلاً .

فليكن هذا آخر ما أردنا إيراده في هذا الفصل ، فإنّ حكاية تحقيق الإجماع الصحيح الذي هو اتّفاق الكلّ ، والفاسد الذي هو هذه المشهورات ، وتوضيح أنّ الأخير من أقسام الرأي ، وكذا بعض ما استند به أهل الرأي في مقابل ما ذكرناه هاهنا مع جوابه ، يأتي جميعاً في المقالتين

__________________

(١) فَدَك : قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان ، وقيل : ثلاثة ، أفاءها اللّه‏ على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في سنة سبع صلحاً ، فهي ممّا لم يوجف عليه بخَيل ولا ركاب ، فكانت خالصة لرسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيها نخيل كثيرة ، ووهبها رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله لابنته فاطمة سلام اللّه‏ عليها في حياته ، وهي التي قالت فاطمة سلام اللّه‏ عليها : «إنّ رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله نحلنيها» ، إلاّ أنّ الحُكّام قد غصبوها من فاطمة عليهاالسلام .

انظر : فتوح البلدان للبلاذري : ٤٢ـ ٤٧ . معجم البلدان ٤ : ٢٧٣ / ٩٠٥٣ ، السقيفة وفدك للجوهري : ٩٧ .

١٨١

الأوّلتين من المقصد الثاني .

مع أنّا قد أطنبنا في هذا الفصل أيضاً حتّى كرّرنا فيه ذكر بعض الأشياء ، حيث كان المراد توضيح بطلان مطلق الرأي أوّلاً ، ثمّ بيان أنّ جميع ما صدر من غير أمر اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من هذا الباب ثانياً ، حتّى حكاية السقيفة وقد بيّنّاه ـ بحمد اللّه‏ ـ على الوجه البيّن الراسخ الموقن لطالب الحقّ ، بحيث إن تأمّل أحد صادقاً عرف أنّ هذا وحده كافٍ في بطلان مذاهب المخالفين جميعاً حتّى بيعة السقيفة ، بحيث لا حاجة إلى ضمّ شيء آخَر ، فاحفظ هذا حفظاً ينفعك في سائر المواضع ، واللّه‏ الموفّق والمعين .

١٨٢

الفصل الثالث

في بيان أنّ دأب الأنبياء صلّى اللّه‏ عليهم ، وأتباعهم إنّما كان التسليم لأمر اللّه‏ وأخذ العلوم والأحكام جميعها من اللّه‏ : ( لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (١) ، دون ما سوى ذلك ممّا بيّنّا بطلانه .

اعلم أنّ من تأمّل مع الاتّصاف بالإنصاف فيما تقدّم في الفصول السابقة ـ لا سيّما الأخيرين ـ لم يبق له مجال شبهة في أنّ حال الأنبياء وأتباعهم يجب أن يكون على هذا المنوال دائماً ، بل لم يزل دأب الأنبياء عليهم‌السلام من زمان آدم عليه‌السلام ، وكذا دأب أتباعهم الذين لم يحصل منهم ما يخالف مسلك أنبيائهم ، كأوصيائهم وأوليائهم كان كذلك من غير تخلّف عن ذلك ؛ ولهذا لم يكن خلاف ولا اختلاف ، اللّهمّ إلاّ بالنسخ مثلاً ، وإنّ هذه الحالة كانت لهم أيضاً بأمر اللّه‏ عزوجل ، بحيث لم يجز لهم غير ذلك ، اللّهمّ إلاّ بتفويض من اللّه‏ في بعض الأشياء ، وسيأتي في المقالات الآتية مزيد بيان لهذا أيضاً .

ومع هذا نذكر هاهنا بعض الآيات والروايات وغيرها الدالّة على هذا المطلب ، فإنّ أكثر الآيات قد مضت في الفصلين الأخيرين ، كما هو غير خفيٍّ على المتأمّل فيها ، وربّما نعيد ذكر بعضها هاهنا :

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ : ٢٧ .

١٨٣

قال اللّه‏ عزوجل وعلا : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ) إلى قوله : ( قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ ) (١) .

وقوله حكاية عن الملائكة : ( سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) (٢) .

وقال عزوجل : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) (٣) .

وقال : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (٤) ، الآية .

وقال : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (٥) .

وقال : ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) إلى قوله : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ ) (٦) الآية .

وقال : ( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ *‏ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (٧) .

__________________

(١) سورة البقرة ٢ : ٣١ ـ ٣٣ .

(٢) سورة البقرة ٢ : ٣٢ .

(٣) سورة الحديد ٥٧ : ٢٥ .

(٤) سورة الشورى ٤٢ : ١٣.

(٥) سورة الحديد ٥٧ : ٢٦ .

(٦) سورة الأنبياء ٢١ : ٧٢ ـ ٧٣ .

(٧) سورة الأنبياء ٢١ : ٢٦ ـ ٢٧ .

١٨٤

وقال : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَىٰ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ *‏ هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) (١) .

وقال : ( وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) (٢) ، الآية .

وقال : ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً ) (٣) ، الآية .

وقال في موسى عليه‌السلام أيضاً : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا ) (٤) ، الآية .

وقال عزوجل حكايةً عن عيسى عليه‌السلام : ( سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ) إلى قوله : ( مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ) (٥) ، الآية .

وقال سبحانه في نقل قول يعقوب لبنيه : ( أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) (٦) .

وقال حكايةً عن يوسف : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ) (٧) .

__________________

(١) سورة غافر ٤٠ : ٥٣ ـ ٥٤ .

(٢) سورة الإسراء ١٧ : ٢ .

(٣) سورة الأنعام ٦ : ١٥٤ .

(٤) سورة القصص ٢٨ : ١٤ .

(٥) سورة المائدة ٥ : ١١٦ ـ ١١٧ .

(٦) سورة يوسف ١٢ : ٩٦ .

(٧) سورة يوسف ١٢ : ١٠١ .

١٨٥

وقال في الخضر : ( وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ) (١) .

وقال في آصف : ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ ) (٢) الآية .

وقال حكايةً عن سليمان عليه‌السلام : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ) (٣) ، الآية .

وقال فيه وفي داوُد أبيه عليهما‌السلام : ( وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) (٤) ، الآية .

وقال في طالوت : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ) (٥) ، الآية ، وغيرها .

وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ‏ِ ) (٦) .

وقال : ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (٧) .

وقال : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (٨) .

أقول : ملاحظة هاتين الآيتين جميعاً يرشد إلى ما تواتر عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المراد بالاُولى لزوم أخذ العلوم من الأئمّة العالِمين بما في القرآن ، فإنّهم أهل الذكر الذين علّمهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع ما في القرآن ،

__________________

(١) سورة الكهف ١٨ : ٦٥ .

(٢) سورة النمل ٢٧ : ٤٠ .

(٣) سورة النمل ٢٧ : ١٦ .

(٤) سورة الأنبياء ٢١ : ٧٩ .

(٥) سورة البقرة ٢ : ٢٤٧ .

(٦) سورة الرعد ١٣ : ٣٨ .

(٧) سورة النحل ١٦ : ٤٣ .

(٨) سورة النحل ١٦ : ٤٤ .

١٨٦

وهم المراد بمن عنده علم الكتاب ، كما سيأتي مفصّلاً في فصل الآيات من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل .

وقال سبحانه : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ) (١) .

وقال : ( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ) إلى قوله : ( فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ) (٢) .

وقال أيضاً : ( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ) (٣) ، الآيات وأمثالها ممّا تقدّم بعضها .

وقال عزوجل : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (٤) الآية.

وقال : ( وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ) (٥) ، الآية .

وقال : ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٦) .

وقال لنوح عليه‌السلام : ( فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) (٧) .

وقال عزوجل : ( قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ

__________________

(١) سورة النحل ١٦ : ٨٩ .

(٢) سورة المائدة ٥ : ٤٨ .

(٣) سورة النساء ٤ : ١٠٥ .

(٤) سورة فاطر ٣٥ : ٣٢ .

(٥) سورة النساء ٤ : ١١٣ .

(٦) سورة الإسراء ١٧ : ٣٦ .

(٧) سورة هود ١١ : ٤٦ .

١٨٧

الْغَيْبَ ) إلى قوله : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ) (١) ، الآية .

وقال : ( قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ) إلى قوله : ( إِلَّا بَلَاغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ ) (٢) .

وقال : ( قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) (٣) ، الآية .

وقال : ( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ ) (٤) ، الآية .

وأمثالها كثيرة كقوله : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) (٥) .

وقوله : ( كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ) (٦) .

وقوله : ( وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (٧) .

وقوله : ( وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ) (٨) .

وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا *‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ٥٠ .

(٢) سورة الجن ٧٢ : ٢١ ـ ٢٣ .

(٣) سورة يوسف ١٢: ١٠٨ .

(٤) سورة الأنبياء ٢١ : ٤٥ .

(٥) سورة الأنعام ٦ : ١٩ .

(٦) سورة الرعد ١٣ : ٣٠ .

(٧) سورة النحل ١٦ : ٦٤ .

(٨) سورة الكهف ١٨ : ٢٧ .

١٨٨

رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ) (١) .

وقوله : ( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (٢) .

وقوله : ( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) (٣) ، الآية .

وقوله : ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ *‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ) (٤) ، الآية .

وغيرها من الآيات التي ذكرنا بعضها سابقاً ، وما لم نذكر منها أكثر ؛ لكفاية ما ذكرناه ، مع ما مرّ سابقاً من قوله تعالى : ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ ) (٥) ، وقوله : ( وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (٦) ، وأمثالهما ممّا يدلّ على دلالة القرآن على كلّ شيء ، بحيث لا حاجة إلى غيره ، وأنّه لأجل هذا لم يكن رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله مأموراً إلاّ به ، ولم يحتج إلى رأي ولا قياس ولا غيرهما ، كما أنّه هكذا كان حال كلّ نبيّ ووصيّ ، لعلمهما بما في كتابهما ، فهكذا حال من يعلم كتاب اللّه‏ من هذه الاُمّة ، قال سبحانه : ( وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ) (٧) ، وسيأتي العالم

__________________

(١) سورة الإنسان ٧٦ : ٢٣ ـ ٢٤ .

(٢) سورة الكهف ١٨ : ٢٩ .

(٣) سورة الإسراء ١٧ : ١٠٥ .

(٤) سورة المائدة ٥ : ١٥ ـ ١٦ .

(٥) سورة يس ٣٦ : ١٢ .

(٦) سورة الأنعام ٦ : ٥٩ .

(٧) سورة الرعد ١٣ : ٤٣ .

١٨٩

بالكتاب وعلاماته ، لا سيّما في فصل الآيات من المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل .

وممّا يدلّ على أنّ المراد بالكتاب القرآن ، وكذا بالكتاب المبين وأمثالهما قوله تعالى : ( حم *‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ *‏ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (١) .

وقوله : ( حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ *‏ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) (٢) ؛ إذ المتبادر الظاهر رجوع الضمير إلى الكتاب ، مع وجود شواهد اُخَر من الآيات المذكورة وغيرها ممّا لا تخفى على المتأمّل الصادق .

وهذا هو الذي ادّعاه عليّ عليه‌السلام وذرّيّته الأئمّة عليهم‌السلام ـ كما سيأتي مفصّلاً ـ من أنّ كلّ شيء في القرآن ، وأنّ عندهم علمه بتعليم اللّه‏ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣) ، كما قال : ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *‏ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (٤) ، ثمّ بتعليم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام وهكذا ، لا ما توهّمه بعض المتأوّلين (٥) الجاهلين بالحال ، ففسّر أمثال (الكتاب المبين) بما لم يفهم هو معناه باللّوح (٦) ، واللّه‏ الهادي .

__________________

(١) سورة الزخرف ٤٣ : ١ ـ ٣ .

(٢) سورة الدخان ٤٤ : ١ ـ ٣ .

(٣) انظر : الكافي ١ : ١٧٧ ، و١٧٨ (باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام عندهم جميع الكتب . . . ) و(باب أنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمّة عليهم‌السلام ) .

(٤) سورة القيامة ٧٥ : ١٨ ـ ١٩ .

(٥) في «س» و«ن» : «المأوّلين» .

(٦) انظر : مجمع البيان ٢ : ٣١١ ، و٣ : ١١٩ ، و٤ : ٢٣٢ ، ٣٧٧ ، الصافي ٢ : ١٢٥ و٤٣٢ ، معاني القرآن وإعرابه للزجّاج ٢ : ٢٥٧ ، التفسير الكبير للرازي ١٣ : ١١ ، و١٧ : ١٨٦ ، و٢٤ : ٢٢٤ .

١٩٠

ولنذكر هاهنا أيضاً بعض الروايات وغيرها ليتّضح بها مفاد الآيات ، لكن ليعلم أوّلاً : أنّ توضيح أصل المدّعى هاهنا ـ أعني : انحصار كون كلّ علوم الأنبياء وأتباعهم الأوصياء فيما يكون وارداً من اللّه‏ عزوجل دون غير ذلك من التصرّفات الخيالية التي مضت ـ موقوف أوّلاً : على أن يعلم أنّ وصول العلم من اللّه‏ إليهم إنّما هو من وجوه عديدة معلومة عندهم ، كلٌّ على حسب قابليّته ، كالوحي بالنسبة إلى خصوص الأنبياء ، وكالإلهام ، والمنام ، والتعلّم من الأنبياء ، وإخبار الملك حتّى من روح القدس الذي كان مع نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوصيائه عليهم‌السلام ، وكالرجوع إلى الكتب الإلهيّة ولو على سبيل الاستنباط ، وبعض القواعد الواردة من اللّه‏ منصوصاً ، ونحو ذلك بالنسبة إلى الكلّ ، حتّى أنّ من ذلك ما فوّض اللّه‏ إلى بعضهم خصوصاً ولو في بعض الأشياء ، كما سيأتي بيان ذلك كلّه مفصّلاً في مقالات المقصد الأوّل ، لا سيّما في أوّل فصول المقالة الأخيرة .

وخلاصة مفاد الجميع ـ كما هو معلوم على من لاحظها ـ أنّ جميع تلك الطرق على جهة العلم والقطع واليقين في أنّها مع مفادها من اللّه‏ ربّ العالمين ، من غير احتمال تطرّق شكّ أو خطأ في ذلك ، أو كونه على وجه الظنّ والتخمين ؛ ولهذا حكى اللّه‏ عنهم في مواضع بقوله : ( إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ) (١) ، وأمثال ذلك ممّا هو صريح في إفادة اليقين .

ثمّ موقوف أيضاً : على ملاحظة الآيات المذكورة وأمثالها بعضاً مع

__________________

(١) سورة الأنعام ٦ : ٥٧ .

١٩١

بعض ، ثمّ موازنتها مع غيرها من الأخبار وما ورد في سيرة الأنبياء والأوصياء الأبرار ، وملاحظة بعض من هذه أيضاً مع بعض ، ثمّ ملاحظة الجميع مع ما مضى ، لا سيّما في الفصلين السابقين في ذمّ الاختلاف والمنع منه ، وبطلان العمل بالرأي والاعتماد على الظنّ وضلالهما وأمثال ذلك .

وإنّما قلنا ذلك ؛ لأنّ دلالة الآيات والروايات المرويّة من طرق (١) المخالفين على ما نحن فيه فإنّما أكثرها على سبيل الإطلاق والإجمال الذي لا ينقطع لسان المعترض المجادل بملاحظة كلّ واحد واحد ، حتّى أنّه وإن ورد من طريق آل محمّد صلوات اللّه‏ عليهم ما فيه التصريح الصريح ، لكن يشكل الإلزام به وحده على المخالف المجادل ؛ لأنّ دأب القوم ـ كما ذكرنا غير مرّة ـ أنّهم قد يسقطون في بعض الأخبار ما أدركوا فيه منافاة لطريقتهم ، أو يغيّروه بحيث يحصل فيه نوع إجمالٍ ، وإذا جيء بما يعارضه من أهل البيت عليهم‌السلام أنكروه وكذّبوه .

فالعلاج حينئذٍ إنّما هو في أن لوحظ الجميع مجموعاً حتّى ما ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام ؛ ليكون (بعض منها لبعض مفسّراً أو مقوّياً مؤيّداً) (٢) أو دافعاً لشبهة أو تشكيك وأمثال ذلك ؛ إذ لا محالة حينئذٍ يحصل القطع بحيث لا يمكن القدح ؛ ولأجل هذا أيضاً نحن نسرد الكلام في هذا المقام ، بحيث يفهم البصير تفسير ما يحتاج إلى التفسير ، ويرتفع عنه الإشكال عمّا فيه الإجمال ، حتّى يتّضح ما هو أصل المرام بتوفيق الملك العلاّم :

قد مرّ في آخر الفصل الأخير من الباب السابق من كتاب الشهرستاني

__________________

(١) في «م» : «طريق» .

(٢) بدل ما بين القوسين في «م» هكذا : «بعض منها مفسّراً أو مقوّياً لبعض مؤيّداً» .

١٩٢

كلامٌ شافٍ من الأنبياء عليهم‌السلام في جواب أقوام أنكروهم ؛ استناداً إلى كفاية الاعتماد في فهم الأشياء على الدلالات العقليّة ، وفيه قولهم : إنّ حكمة اللّه‏ اقتضت أن يرفع بعض الناس فوق بعضٍ درجات ، وأن يصطفي منهم رجالاً يعلم بعلمه الكامل قابليّتهم لأن يطلعهم على حقائق أمره وحِكَمه ، فيلقي إليهم ويعلّمهم جميع ما هو على وفق إرادته ، ومقتضى حكمته ومصلحته ؛ ليوصلوا ذلك إلى سائر من ليس كذلك ، فيجمعوهم فيما أراد منهم على كلمة واحدة ، ويكونوا بذلك على يقين من أمرهم وبصيرة في شأنهم (١) .

وفي كتاب الشهرستاني أيضاً : أنّ اليهود قالوا : كان التوراة مشتملاً على أسفار ، وأنّ في سفر منه كان ذكر مبتدأ الخلق ، وكانت الأحكام والحدود والأحوال والقصص والمواعظ والأذكار في سفر سفر ، وأنزل اللّه‏ على موسى الألواح على شبه مختصر ما في التوراة يشتمل على الأقسام العلمية والعملية ، كما قال عزوجل : (وَكَتَبْنَا لَهُ فِى الاْءَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَىْ‏ءٍ مَّوْعِظَةً) إشارة إلى تمام القسم العلمي ، (وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَىْ‏ءٍ) (٢) إشارة إلى تمام القسم العملي .

وقالوا : كان موسى عليه‌السلام قد أوصى بأسرار التوراة والألواح إلى يوشع ابن نون وصيّه من بعده ، وعلّمه جميع ذلك ، وأمره أن يوصي بذلك بعده إلى شُبّر وشُبير أولاد هارون ؛ إذ الوصيّ كان هارون ، فلمّا مات قبل موسى عليه‌السلام انتقلت الوصاية إلى يوشع وديعةً ليوصلها إلى مقرّها ، وهو ابنا هارون (٣) .

__________________

(١) انظر : نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني : ٤١٧ ، وفيه مفصّلاً .

(٢) سورة الأعراف ٧ : ١٤٥ .

(٣) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١١ .

١٩٣

أقول : ويظهر من بعض ما رأينا من الكتب التي نقل فيها عن اليهود أنّ العلوم والوصاية المذكورة انتقلت بوصيّة موسى ويوشع من شُبّر إلى شُبير ، ثمّ إلى ابن شُبير وهلمّ جرّاً ، حتّى لم تكن في نسل شبّر أصلاً .

ثمّ ذكر الشهرستاني أنّ اليهود قالوا : إنّ الشريعة لا تكون إلاّ واحدة ، لكنّهم زعموا أنّها ابتدأت بموسى عليه‌السلام وتمّت به ، وأنّه لم يكن قبله إلاّ حدود عقليّة وأحكام مصلحيّة (١) ، وهو باطل خلاف صريح القرآن وغيره ، كما سيظهر .

ثمّ ذكر أيضاً : أنّ في التوراة أنّ الأسباط من بني إسرائيل كانوا يراجعون علماء بني إسماعيل ، ويعلمون أنّ في ذلك الشعب علماً لدُنّيّاً وإن لم يشتمل التوراة عليه (٢) .

أقول : ولعلّ حكاية موسى والخضر (٣) عليهما‌السلام أيضاً من هذه الجهة .

ثمّ إنّه أيضاً قال : وقد نقل في التاريخ أنّ بني إسماعيل كانوا يُسمَّون : آل اللّه‏ ، أي : أهـل اللّه‏ ، وأولاد إسرائيل : آل موسى وهارون عليهما‌السلام (٤) ، انتهى .

وقال القاضي عياض في كتاب الشفا : كان فيما ذكر المحقّقون أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذا سائر الأنبياء كانوا مجبولين على العلوم الكاملة والصفات الحسنة في أصل خلقتهم وأوّل فطرتهم ، لم تحصل لهم تلك باكتساب ولا برياضة (٥) إلاّ بجود إلهي وخصوصية ربّانيّة ، وأنّ علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعقله كان كاملاً جبلّيّاً من عطاء اللّه‏ تفضّلاً ، وأنّه عالم العلوم تماماً .

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١١ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١٣ .

(٣) في «س» و«م» و«ن» : «خضر» وما أثبتناه من «ش» .

(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢١٣ .

(٥) في «م» : «بوصاية» .

١٩٤

وقال : ومن طالع سِيَرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقّق ذلك ، كما عرف من حال موسى وعيسى ويحيى وسليمان وغيرهم ، بل غرزت فيهم هذه الأخلاق في الجبلَّة ، واُودعوا العلم والحكمة في الفطرة ، قال اللّه‏ تعالى : ( وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ) (١) .

قال المفسّرون : أعطى اللّه‏ يحيى العلم بكتاب اللّه‏ في حال صباه (٢) . وصدّق بعيسى عليه‌السلام وهو ابن ثلاث سنين (٣) .

قال : وقد نصّ اللّه‏ على كلام عيسى لاُمّه عليهما‌السلام عند ولادتها إيّاه ، ونصّ على كلامه في مهده فقال : ( إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ) (٤) ، الآية . وكذا سليمان ، فقال سبحانه : ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ) (٥) .

قال : وقد ذكر من حكم سليمان وهو صبيّ في قصّة المرجومة ، وفي قصّة الصبيّ وغيرهما ما اقتدى به داوُد أباه .

قال : وقال المفسّرون في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ ) (٦) ، الآية ، أي : هديناه صغيراً ، قاله مجاهد وغيره (٧) ، وقال

__________________

(١) سورة مريم ١٩ : ١٢ .

(٢) انظر : مجمع البيان ٣ : ٥٠٦ ، الوسيط ٣ : ١٧٨ ، معالم التنزيل للبغوي ٣ : ٦١١ ، زاد المسير ٥ : ٢١٣ ، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١١ : ٨٧ ، التفسير الكبير للرازي ٨ : ٣٨ .

(٣) الكامل في التاريخ ١ : ٣٠٠ ، وفيه نقله بلفظ «قيل» وحكاه عن الكامل المجلسي في بحار الأنوار ١٤ : ١٨٩ .

(٤) سورة مريم ١٩ : ٣٠ .

(٥) سورة الأنبياء ٢١ : ٧٩ .

(٦) سورة الأنبياء ٢١ : ٥١ .

(٧) التبيان ٧ : ٢٥٥ ، مجمع البيان ٤ : ٥٢ ، تفسير مجاهد بن جبير : ٤٧٢ ، تفسير الماوردي ٣ : ٤٥٠ ، الوسيط ٣ : ٢٤١ ، معالم التنزيل للبغوي ٤ : ٥٤ .

١٩٥

ابن عطاء (١) أي : اصطفيناه قبل إبداء خلقه (٢) .

قال : وقيل : إنّ استدلال إبراهيم عليه‌السلام بالكواكب والقمر والشمس كان وهو ابن خمسة عشر سنة ، وإلقاءه في النار كان وهو ابن ستّة عشر سنة ، وإنّ ابتلاء إسحاق أو إسماعيل بالذبح كان وهو ابن سبع سنين (٣) .

قال : وقيل : أوحى اللّه‏ إلى يوسف عليه‌السلام وهو صبيٌّ عند ما همّ إخوته بإلقائه في الجبّ ، بقوله : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا ) (٤) ، الآية ، إلى غير ذلك من أخبار سائر الأنبياء (٥) .

قال : وقد حكى أهل السير أنّ آمنة بنت وهب أخبرت أنّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله وُلد حين وُلد باسطاً يديه إلى الأرض ، رافعاً رأسه إلى السماء (٦) .

ثمّ ذكر شاهداً لما ذكره جملة من كمالات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فذكر في ذلك علمه بما في التوراة والإنجيل والكتب المنزلة ، وحكم الأنبياء ، وسير الاُمم الخالية ، وما كان وما يكون ، وقال : وإنّ كلّ ذلك ممّا علّمه اللّه‏ إيّاه وأطلعه عليه مع سائر عجائب قدرته وعظيم ملكوته ، كما قال سبحانه : ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) (٧) ، الآية ، من دون تعلّم من أحد ، ولا مدارسة ،

__________________

(١) لعلّه عمر بن عطاء بن أبي الخوار المكّي ، روى عن ابن عبّاس ، والسائب بن يزيد ، وعبيد اللّه‏ بن عياض ، وروى عنه ابن جريح ، وإسماعيل بن اُميّة .

أو أنّه ابن عطاء بن ورّاز الحجازي الذي روى عن عكرمة ، وسالم بن غياث .

انظر : المنفردات والوحدان للقشيري : ٢٢٢ / ١٠٩٢ ، تهذيب التهذيب ٧ : ٤٢٥ / ٨٠٣ ، و٨٠٤ ، و٨٠٥ ، لسان الميزان ٩ : ٤٧٨ / ١٥٤٣٨ .

(٢و٣) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٦ : ٥٦ .

(٤) سورة يوسف ١٢ : ١٥ .

(٥و٦) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ١٦ : ٥٦ ، وانظر : دلائل النبوّة لأبي نعيم ١ : ١٧٢ / ١٨٠ ، الشفا للقاضي عياض ١ : ٢١٢ ـ ٢١٣ ، الوفا بأحوال المصطفى ١ : ٩٥ .

(٧) سورة النساء ٤ : ١١٣ .

١٩٦

ولا مطالعة كتب من تقدّم ، ولا الجلوس إلى علمائهم (١) .

ثمّ قال أيضاً : ومن معجزاته الباهرة ما جمعه اللّه‏ تعالى له من المعارف والعلوم والاطّلاع على جميع مصالح الدّنيا والدّين (٢) ، ومعرفته باُمور شرائعه (٣) وقوانين دينه وسياسة الاُمّة ، وما كان في الاُمم قبله ، وقصص الأنبياء والرسل والجبابرة والقرون الماضية من لدن آدم عليه‌السلام إلى زمانه ، وحفظ شرائعهم وكتبهم ، وسائر صنوف العلوم ، كما تبيّن كلّ ذلك من محاجّته مع أهل الملل ، وتتبّع مجاري أحواله وأخباره بما أخبر ممّا مضى ويأتي ، وغير ذلك ممّا تواتر فيه (٤) .

أقول : سيأتي في المقالات ما يوضّح ما ذكره ، وأنّ جميع هذه الحالات ما سوى نزول الملائكة بالوحي كانت في عليّ وذرّيّته الأئمّة عليهم‌السلام حتّى بنقل المخالفين وإقرارهم ، فافهم .

وقد مرّ في ضمن نقل الأخبار والأقوال في الفصل السابق تصريح جمعٍ ، لا سيّما البخاري في صحيحه بأنّ علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما كان من اللّه‏ ، بحيث مهما سئل عن شيء لم يكن يجيب حتّى ينزل عليه حكمه (٥) ، كما أنّ هذا كان دأب سائر الأنبياء .

وقد تقدّم في أحاديث فاتحة هذا الكتاب بعض روايات صريحة فيما نحن فيه ، ولا سيّما في ضمن الحديث الثالث عشر ، بل الثاني عشر

__________________

(١) الشفاء للقاضي عياض ١ : ٢٠٧ ـ ٢١٨ بتقديم وتأخير في بعض الألفاظ .

(٢) كلمة «والدين» لم ترد في «ن» .

(٣) في «م» : «شريعته» .

(٤) الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض ١ : ٦٩٤ بتفاوت .

(٥) صحيح البخاري ٩ : ١٢٤ .

١٩٧

والحادي عشر أيضاً ، فلا بدّ من الرجوع إليها (١) .

وفيما تواتر عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه جماعة من الثقات عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، وأبي عبداللّه‏ الصادق عليه‌السلام بأسانيد عديدة ، أنّهما قالا : «إنّ العلم الذي نزل مع آدم عليه‌السلام لم يرفع ، وما مات عالم إلاّ وقد ورّث علمه» (٢) وفي بعض الروايات : «إلاّ وترك من يعلم مثل علمه أو ما شاء اللّه‏» (٣) ، «إنّ الأرض لا تبقى بغير عالم» (٤) ، «والعلم يتوارث» (٥) .

وفي رواية اُخرى : «إنّ اللّه‏ تعالى جمع لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله سنن النبيّين من آدم عليه‌السلام وهلّم جرّاً» ، قيل : وما تلك السنن ؟ قال : «علم النبيّين بأسره ، وأنّ رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله صيّر ذلك كلّه عند أمير المؤمنين عليه‌السلام» (٦) .

وفي روايات اُخَر عنهم أيضاً : «إنّ داوُد ورث علم الأنبياء ، وإنّ سليمان ورث داوُد ، وإنّ محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله ورث سليمان، وإنّا ورثنا محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٧) .

و«إنّ اللّه‏ لم يعط الأنبياء شيئاً إلاّ وقد أعطاه محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٨) .

__________________

(١) راجع الجزء الأوّل ص ٥٩ .

(٢) المحاسن ١ : ٣٦٦ / ٧٩٦ ، بصائر الدرجات : ١٣٦ / ٩ ، الكافي ١ : ١٧٣ / ٢ ـ ٥ و١٧٤ / ٨ ، (باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ورثة العلم) .

(٣) بصائر الدرجات : ١٣٧ / ١ ، الكافي ١ : ١٧٣ / ٣ و١٧٤ / ٨ (باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ورثة العلم) .

(٤) بصائر الدرجات : ١٣٤ / ٢ ، الكافي ١ : ١٧٤ / ٨ ، (باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ورثة العلم) .

(٥) انظر : بصائر الدرجات : ١٣٥ / ٤ ، الكافي ١ : ١٧٤ / ٧ (باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ورثة العلم) .

(٦) بصائر الدرجات : ١٣٧ / ١٢ ، الكافي ١ : ١٧٣ / ٦ ، (باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ورثة العلم) .

(٧) بصائر الدرجات : ١٥٥ / ٤ ، الكافي ١ : ١٧٥ / ٤ ، (باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ورثوا علم النبيّ وجميع الأنبياء).

(٨) بصائر الدرجات : ١٥٦ / ٥ ، الكافي ١ : ١٧٥ / ٥ ، (باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ورثوا علم النبيّ . . .)

١٩٨

« وإنّ عندنا علم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ، وتبيان ما في الألواح» (١) .

«وما في صحف آدم عليه‌السلام وإبراهيم عليه‌السلام » (٢) .

«وإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أعلم من جميع الأنبياء» (٣) .

«وكلّ كتاب نزل فهو عند أهل العلم ونحن هم ، ولكنّ الناس لا خير فيهم» (٤) .

وفي رواية : «إنّ الناس يمصّون الثماد (٥) ويدعون النهر العظيم الذي هو رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعلم الذي أعطاه اللّه‏» (٦) .

وفي بعض خطب عليّ عليه‌السلام كما في نهج البلاغة وغيره أنّه قال بعد ذكر خلق السموات والأرض : «ولمّا مهّد أرضه اختار آدم عليه‌السلام خيرةً من خلقه ، وجعله أوّل جبلّته» إلى قوله عليه‌السلام : «فأهبطهُ بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله ، وليقيم الحجّة به على عباده ، ولم يخلهم بعد أن قبضه ، ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته ، ويصل بينهم وبين معرفته ، بل تعاهدهم بالحجج

__________________

(١) بصائر الدرجات : ١٥٨ / ١٥ ، الكافي ١ : ١٧٥ / ٣ ، (باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ورثوا علم النبيّ وجميع الأنبياء) ، ولم يرد فيهما : (والفرقان) .

(٢) انظر : بصائر الدرجات : ١٥٥ / ١ ، الكافي ١ : ١٧٥ / ٤ ، (باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ورثوا علم النبيّ وجميع الأنبياء) .

(٣) انظر : تفسير فرات : ١٤٥ / ١٧٩ .

(٤) الكافي ١ : ١٧٦ / ٦ ، (باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ورثوا علم النبيّ وجميع الأنبياء) ولم يرد فيه : «ولكن الناس . . .» .

(٥) في «م» : «الثمار» ، وفي حاشية «س» و «ن» : «السماد» . والثماد : الماء القليل الذي لا مادّة له ، والسماد : السرقين الرطب ، انظر : كتاب العين ٨ : ٢٠ ، و٧ : ٢٣٥ .

(٦) بصائر الدرجات : ١٣٧ / ١٢ ، الكافي ١ : ١٧٣ / ٦ ، (باب أنّ الأئمّة عليهم‌السلام ورثة العلم . . .) ، بحار الأنوار ١٧ : ١٣١ / ٦ ، و٢٦ : ١٦٦ / ٢١ ، بتفاوت يسير .

١٩٩

البوالغ على ألسن الخيرة من أنبيائه ، ومتحمّلي ودائع رسالاته قرناً فقرناً ؛ حتّى تمّت بنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآلهحجّته» (١) ، الخبر .

وأمثال ذلك من الأخبار كثيرة سيأتي في بحث علوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام ، ويؤيّدها ما رواه المؤالف والمخالف من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ اللّه‏ لا ينزع العلم بعد ما أنزله انتزاعاً ينتزعه إليه ، ولكن يقبض العلماء فيتّخذ الناسُ رؤساء جهّالاً [ استُفتوا فأفتوا بغير علم (٢) ] ، فضلّوا وأضلّوا» (٣) .

وما رواه كلّ هؤلاء أيضاً ـ كما سيأتي ـ بأسانيد عن عليّ عليه‌السلام أنّه قال : «تعلّمت من رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ألف باب من العلم ، ينفتح لي من كلّ باب ألف باب» (٤) .

وكذا ما سيأتي أيضاً من قول عليّ عليه‌السلام الثابت المقطوع به : «سلوني قبل أن تفقدوني ، فإنّي بطرق السماء أعلم منّي بطرق الأرض» (٥) .

«سلوني عن كتاب اللّه‏ ، فواللّه‏ ، ما من آية إلاّ وأعلم حيث نزلت» (٦) .

«ولو ثُنّيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوارة بتوراتهم ، وأهل الإنجيل

__________________

(١) نهج البلاغة : ١٣٣ ، الخطبة ٩١ ، وفيه بتفاوت يسير .

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه من المصدر .

(٣) دعائم الإسلام١ : ٩٦ ، تحف العقول : ٣٧ ، غوالي اللآلئ ٤ : ٦٢ / ١٢ ، مسند الطيالسي : ٣٠٢ ، مسند أحمد ٢ : ٣٤٦ / ٤٧٥ ، و٣٩٣ / ٦٧٤٨ ، سنن الدارمي ١ : ٧٧ ، صحيح مسلم ٤ : ٢٠٥٨ / ٢٦٧٣ ، سنن ابن ماجة ١ : ٢٠ / ٥٢ ، سنن الترمذي ٥ : ٣١ / ٢٦٥٢ ، السنن الكبرى ١٠ : ١١٦ ، وفيها باختلاف .

(٤) انظر : الإرشاد ١ : ٣٤ ، إعلام الورى ١ : ٣١٨ ، عوالي اللآلئ ٤ : ١٢٣ / ٢٠٧ .

(٥) كتاب سليم بن قيس ٢ : ٧١٢ .

(٦) الطرائف ١ : ١١١ / ٨٩ بتفاوت يسير .

٢٠٠