ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

الأئمّة عليهم‌السلام ، حيث إنّه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المأخوذ من اللّه‏ عزوجل ؛ إذ نصوص كتاب اللّه‏ التي هي حجّة ـ بدون الحاجة إلى تحقيق المراد بها ـ قليلة ، والبواقي ممّا لا بُدَّ فيها من سماع تفسيرها وتأويلها من هؤلاء العلماء الذين نزل الكتاب في بيتهم ، وتعلّموا معناه من جدّهم ـ كما سيأتي مفصّلاً ـ وما سوى ذلك ليس بحجّة عندهم أصلاً .

نعم ، الإجماع الذي عُلم دخول قول هؤلاء الأئمّة فيه ، فهو حجّة عندهم أيضاً ، لكن لا من حيث كونه إجماعاً ، كما توهّمه مخالفوهم ؛ حيث لم يفهموا معنى الحديث الآتي ، بل من جهة كون قول أئمّتهم الداخل فيه حجّة ؛ لما هو ظاهر ممّا مرّ وسيأتي أيضاً ؛ لأنّ الحقّ أنّ هذا هو معنى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لا تجتمع اُمّتي على الخطأ » (١) ؛ لأنّه مهما اجتمعت جميع طوائف الاُمّة دخلت فيهم الطائفة المحقّة التي لا تزال ظاهرين على الحقّ ، فلزم كون مثل هذا المجتمع عليه حقّاً ، وإذ قد ظهر أنّ هؤلاء هم أهل الحديثين المذكورين ظهر أنّ صدق هذا الاجتماع لأجل دخول قول هؤلاء . وقد بيّنّا ويتّضح أيضاً أنّ قول هؤلاء حجّة ، فظهر أنّ حجّيّة الاجماع لأجل حجّيّة قول هؤلاء الداخل في الأقوال ؛ ولهذا قال بعض المحقّقين : إذا اجتمع اثنان وعرفنا دخول قول الإمام المعصوم في قولهما فهو حجّة وإلاّ فلا وإن اجتمع عليه جميع ما سوى الإمام عليه‌السلام (٢) .

وليس معناه أنّ كلّ اجتماع من الاُمّة حجّة وإن لم تكن الطائفة المحقّة من جملتهم ؛ إذ لا دليل على هذا ، بل دليل بطلانه موجود ، كما يأتي في

__________________

(١) المستصفى ٢ : ٣٩٥ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٨ : ١٢٣ ، و ٢٠ : ٣٤ .

(٢) انظر : الذريعة للسيّد المرتضى ٢ : ١٥٤ ـ ١٥٥ .

٣٦١

بحث الإجماع مفصّلاً ، فافهم حتّى تعلم أنّ الإماميّة لأجل جميع هذه الاُمور المذكورة صرّحوا بأنّ الدليل الشرعي منحصر في الكتاب والسنّة ، أي : الآيات والروايات المعلومة الحجّيّة ، وماسواهما من خطوات الشيطان ، كسائر ما هو متداول بين سائر الطوائف من الآراء والتخيّلات الظنّيّة .

وأمّا ما يوجد في بعض كتب هذه الطائفة من المكالمات الخياليّة والمناظرات العقليّة ، وكذا ما هو موجود بينهم أيضاً من الخلاف في بعض المسائل ، لا سيّما الفرعيّة (١) ـ فإنّ عمدة المسائل الاُصوليّة ممّا لم يختلف فيه علماء الإماميّة ببركة (٢) العترة الطاهرة ـ فليس بمناقض لما عليه أساس مذهبهم أصلاً ، ولا منافٍ لأصل طريقتهم بوجه أبداً ، ولا يلزم عليهم بذلك توهّم مشاركتهم مع غيرهم من سائر الطوائف في وجود الاختلاف المذموم بينهم والافتراق واستعمال الرأي والظنّ الممنوع الذي سبب الخطأ والشقاق ؛ لأنّ الحقّ الصحيح والبيّن الصريح ـ كما ينادي به تفحّص أحوالهم وتصفّح أقوالهم ـ أنّ ذلك ليس لأجل ما زعمه بعض المتوهّمين من دلالته على كون اعتقادهم مدخلية الرأي في الدين ، بل إنّما هو أمر حادث عرضهم اضطراراً ، وابتلوا به من جهة المخالفين .

ولا بأس في تبيين ذلك هاهنا ؛ لنفعه في غير موضع ممّا سيأتي في ضمن نقل بعض المقال ، ودفعه أوهامَ جماعةٍ ممّن جهل حقيقة الأحوال ، فاستمع لما يتلى عليك ، واقبل الحقّ الذي يظهر لديك .

اعلم أنّه لمّا استقام بناء حكاية السقيفة ، حتّى انجرّ الأمر إلى تعيين

__________________

(١) في النسخ : «الفروعيّة» . والصحيح ما أثبتناه .

(٢) في « م » زيادة : «ما اختارته» .

٣٦٢

كلّ اُناس الخليفة انتهى ذلك إلى تسلّط حُكّام الجور والظلم المستشعرين لعداوة آل محمّد عليهم‌السلام ، لا سيّما أعيان أهل البيت عليهم‌السلام الذين كان يظهر منهم ادّعاء الإمامة أو آثارها ، على الخصوص هؤلاء الأئمّة المعلومين المشتهر في العالم حالهم وكمالهم وجلالة شأنهم ، بحيث كثر حُسّادهم ، وانتشر بغاة الشرّ لهم ، وطلاّب ما يُنفّر الطباع عنهم ، لا سيّما من العلماء الذين كانوا على خلاف مذهبهم متمسّكين بضدّ مسلكهم ، على الخصوص الذين كان لهم مصاحبة مع السلاطين والحُكّام ، وشهرة بين الأنام ، ورغبة في الأمانيّ والآمال ، وتملّقات إلى أرباب الدول لتحصيل الجاه والمال ؛ ضرورة أنّ ميل أكثر الناس إلى أهل الدّول وطلب الدنيا ورفاه الحال ـ وإن كان مضرّاً لهم بحسب العاقبة والمآل ـ فلم يزل كان أمثال هؤلاء في كلّ عصر يتجسّسون عن أحوال علماء أهل البيت عليهم‌السلام وطريقتهم حتّى فتاويهم ، لا سيّما هؤلاء الأئمّة وشيعتهم ، حتّى من كان يدخل فيهم ، ومهما وقفوا على شيء منهم مخالف لما عليه الحُكّام أو عامّة الأنام ، شهروه بين الخاصّ والعامّ ، لا سيّما مجالس الحُكّام ، ليشتدّ بذلك بغضهم وعداوتهم والطعن عليهم ، بل وصول أشدّ الأذى والإهانة إليهم ، بحيث سمّوهم الرفضة ، ونسبوهم إلى البدعة وأمثال ذلك ، حتّى افتروا عليهم بأشياء خسيسة ومذاهب سخيفة لم يرض بها أحمق الناس .

وكفى في الجزم بشيوع ما ذكرناه بينهم تصفّح ما نقله عرفاء أهل السير في ضمن ذكر أحوال العلماء والخلفاء وعُمّالهم ، بل أحوال سائر أهل زمانهم ، كما قد أشرنا سابقاً إلى نبذ من ذلك ، وكذا تتبّع ما صدر من الأذى والوشي ، والسعاية والطعن ، والإهانة من الحُكّام وأتباعهم بالنسبة إلى

٣٦٣

هؤلاء الأئمّة وأصحابهم وأشياعهم ، حتّى قتلوا جماعة من الشيعة ، وسمّوا كثيراً من الأئمّة عليهم‌السلام ، ونهبوا أموالهم ، وحرّقوا كتبهم وأمثال ذلك ممّا مرّ ويأتي بعض منها .

وبالجملة : كان مدار أئمّة الضلال بل ورؤساء سائر طوائف الاُمّة على الاهتمام في استبطال آثار هذه الطائفة ، وإطفاء أنوار هؤلاء الأئمّة ، لكن أبى اللّه‏ إلاّ أن يتمّ نوره ، ولأجل هذا صارت التقيّة والإخفاء من الأعداء عند الشيعة وأئمّتهم شايعة ، كما سيأتي مفصّلاً ، فكان مدار الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام على التقيّة والوصيّة بها في كثير من اُمور الدين ، بحيث إنّهم كانوا كثيراً ما يفتون أصحابهم ورُواة الحديث منهم (١) حتّى الخواصّ منهم على ما يوافق مذهب المخالفين ، أو ما هو المشهور عندهم ، أو ما عليه حُكّامهم وقُضاتهم في ذلك الوقت إمّا لكون السائل أو أحد من حُضّار مجلسه من المخالفين ، أو ممّن كان يروي لهم ، أو ممّن كان تصل روايته إليهم ، أو إلى حُكّامهم ولو بوسائط ، أو ممّن كان له المعاشرة معهم ، أو مع حُكّامهم ولو غصباً عليه ، أو كان يعلم الإمام من حال السائل ، أو أحد من الحضور أنّه من المبتلين بالعمل على وفق مذهب المخالفين ولو في بعض حين مستلزم للضرر عليه أو على غيره من إخوانه المؤمنين ، أو لغير ذلك من الوجوه المستلزمة للتقيّة أو الاتّقاء ، حتّى أنّهم عليهم‌السلام كانوا لأجل ما ذكرنا قد يورّون في الكلام ، ويجملون في نقل الأحكام على حسب مقتضى المقام ، بحيث كان يفهم كلّ مستمع منه نوعاً من المرام .

ولهذا اختلفت أخبارهم والرواية عنهم ، وتخالفت فتاويهم وما ورد

__________________

(١) في «ش» : «عنهم» .

٣٦٤

منهم ، فنقل وروى كلّ مستمع عن إمامه ما سمع منه على وفق فهمه وسماعه وإن لم يعلم كون صدوره على جهة التقيّة ، أو نهج مرّ الحقّ ، فصار هذا النوع من الاختلاف سبب حدوث الخلاف الذي بين أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام ، وكذا علماء الإماميّة .

ومن البيّنات الواضحة أنّ هذا ليس من قبيل الاختلاف الذي بين سائر الطوائف ؛ ضرورة وجود بون بعيد بين هذا وبين ما عليه اختلاف سائر الطوائف من الاستنباط بالآراء والأهواء الظنّيّة الخياليّة ، وادّعاء كون ذلك المستنبط حكم اللّه‏ رجماً بالغيب ؛ إذ خلاصة كلام هؤلاء الطائفة أنّه لمّا ثبت بالكتاب والسنّة وسائر الأدلّة القاطعة إنّا مكلّفون بإطاعة هؤلاء الأئمّة فيما قالوا وفعلوا إلاّ أن يظهر لنا أنّ ذلك الصادر منهم كان على جهة التقيّة والدفاع عنّا وعنهم ، ولم يكن لنا حاجة إلى العمل بذلك ، فمهما لم يتبيّن هذا لنا لا بأس علينا في الأخذ بذلك الصادر ، كما وردت الرخصة بذلك في صريح أخبار الأئمّة ، منها قوله عليه‌السلام : «لا يسع الناس حتّى يسألوا ويتفقّهوا ويعرفوا إمامهم ، ويسعهم أن يأخذوا بما يقول وإن كان تقيّة (١) » (٢) .

فعلى هذا إذا حصل الاختلاف بيننا في مثل هذا الصادر بأن عمل به بعضنا حيث لم يدر بالحال ، وعمل بخلافه البعض الآخَر الذي عرف حقيقته واطّلع على وجه وروده ولو بحسب القرائن التي ظهرت عليه ، لا طعن على أحد منهما بوجه من الوجوه ؛ ضرورة أنّ كلّ واحد متمسّك بما ورد عن إمامه على وفق فهمه المأمور به ؛ إذ ليس التقصير منهما

__________________

(١) في النسخ : كانت تقيّة ، وما أثبتناه من المصدر .

(٢) الكافي ١ : ٣١ / ٤ (باب سؤال العالم وتذاكره) ، منية المريد : ٣٧٦ ، بحار الأنوار ١ : ٢٢١ / ٦١ .

٣٦٥

ولا أحد منهما سبب الاختلاف ، حتّى لا يكونا معذورين ، بل إنّما سبب ذلك والتقصير التامّ من الذين صاروا سبب ضعف الإمام عليه‌السلام ، حتّى ألجأوا إلى هذا النوع من الكلام .

ولهذا قال من قال من الإماميّة : إنّ اختلاف أصحابنا ليس باختلاف حقيقةً ، بل لا خلاف بينهم أصلاً ؛ إذ كلٌّ منهم متمسّك بما هو حجّة في حقّه قطعاً (١) ، كما أنّ مثله كان متداولاً في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا طعن ولا كلام ؛ إذ كثيراً ما كان ينزل حكماً ، ثمّ ينسخ إلى غيره ، فكان من لم يدر بالناسخ عاملاً بالمنسوخ ، وغيره بالناسخ ، وكذلك كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد يجيب سائلاً (عن شيء) (٢) على وفق مقتضى حال ذلك السائل ، أو على وجه الرخصة ، أو نحو ذلك ، ويجيب غيره في ذلك الشيء بعينه بخلاف الأوّل ؛ لملاحظة حال هذا الغير ، أو على جهة الأفضليّة أو نحو ذلك ، وكان كلٌّ يعمل على وفق جوابه ولم يُعدّ أحد منهما مخالفاً للحقّ ، حتّى أنّه ربّما كان بعض من السائلين أو الحاضرين يفهم من اللفظ ما لم يروه سيّد المرسلين ، فكان يعمل على وفق فهمه إلى أن يظهر عليه خلافه من غير مؤاخذة على ذلك ولا معاتبة .

نعم ، كانت المعاتبة والمخالفة في العمل بعد ظهور الحال ، أو بمحض الرأي من غير سؤال ، فهكذا أيضاً شأن الأئمّة عليهم‌السلام وأصحابهم وسائر فقهائهم في هذه الأحوال .

فتأمّل صادقاً ، لا سيّما فيما ذكرناه آنفاً ، حتّى يتبيّن لك عياناً عدم

__________________

(١) ورد ما بمضمونه في الحدائق الناضرة ٦ : ١٤٢ ، والاُصول الأصيلة للفيض الكاشاني : ١٠٦ .

(٢) ما بين القوسين لم يرد في « ن » .

٣٦٦

ورود طعن على الإماميّة أصلاً من جهة السبب الآخر الذي وقع به الاختلاف بينهم أيضاً ، أي : من حيث فهم معاني الأخبار ومحاملها ، والجمع بينها ، والتفحّص عن مواردها سنداً ومتناً ، وعموماً وخصوصاً ، ومطلقاً ومقيّداً ، ومجملاً ومفصّلاً (١) ، وأمثال ذلك ممّا ذُكر في علم الدراية .

ثمّ تدبّر متبصّراً وتفكّر جدّاً فيما بيّنّاه من المرام في هذا المقام ، حتّى يظهر لك أيضاً معنى الحديث الذي ذكره المخالفون في كتبهم ، واستندوا إليه في ترويج ضلالهم وبدعهم ، حيث رووا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما سيأتي ـ أنّه قال : « إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد » (٢) فإنّ الحقّ إن كان الخبر صحيحاً أن يحمل المراد بالاجتهاد بذل الجهد في فهم ما ورد عن اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى يفهمه على ما هو حقّه بنحو ما أشرنا إليه ، دون أن يكون المراد أنّ كلّ من اختار شيئاً بخياله وأفتى في الدين برأيه فله الأجر ، فافهم .

على أنّ الأئمّة عليهم‌السلام قنّنوا لشيعتهم قانوناً ضابطاً للعمل بما ورد من رواياتهم ، رافعاً لما يتوهّم من نقص الاختلاف عن رُواتهم ، رحمةً من اللّه‏ تعالى ولطفاً على هذه الطائفة التي اقتضت حكمة اللّه‏ عزوجل أن يكونوا هم وأئمّتهم في مدّة مديدة مبتلين بمخالطة مخالفيهم ، وحسن ظاهر السلوك فيهم ، وستر الدين عن أعاديهم ، وبالمداراة معهم بالتقيّة والكتمان ، والصبر على الأذى ، وإخفاء معالم الإيمان ، كما كان كذلك حال بني إسرائيل وقوم فرعون وهامان ، بل كان هكذا شأن أهل الحقّ والباطل في كلّ

__________________

(١) في « م » : «مبيّناً» بدل «مفصّلاً» .

(٢) انظر : مسند أحمد ٤ : ٢٢٢ / ١٧٣٢٠ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٧٦ / ٢٣١٤ ، صحيح مسلم ٣ : ١٣٤٢ / ١٧١٦ .

٣٦٧

زمان كما بيّنّاه سابقاً بأبين تبيين ، حتّى ظهر أنّه هكذا كانت سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه في أوائل الإسلام مع المشركين ، بل في المدينة أيضاً مع بعض المخالفين المنافقين .

ثمّ إنّ ذلك القانون هو مضمون الأخبار التي رواها عنهم جمع من أجلّة أصحابهم منهم عمر بن حنظلة (١) في روايته المقبولة عند كلّ الإماميّة ، قال : سألت أبا عبداللّه‏ عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَيْن أو ميراث ، فتحاكما إلى السلطان أو إلى القُضاة ، أيحلّ ذلك ؟ قال : « من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً وإن كان حقّاً ثابتاً له ؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر اللّه‏ أن يُكفر به ، قال اللّه‏ عزوجل : ( يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ ) (٢) » .

قلت : فكيف يصنعان ؟

قال : « ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حَكَماً فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً ، فإذا حكم بحكمنا ، فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه‏ ، وعلينا ردَّ ، والرادّ علينا رادٌّ على اللّه‏ ، وهو على حدّ الشرك باللّه‏ » .

قلت : فإن كان كلّ واحد اختار رجلاً من أصحابنا ، فرضيا أن يكونا

__________________

(١) يكنّى أبا صخر العجلي البكري ، عدّه الشيخ في رجاله تارة من أصحاب الباقر عليه‌السلام ، واُخرى من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، وعن الشهيد أنّه قال : الأقوى عندي أنّه ثقة ؛ لقول الصادق عليه‌السلام في حديث الوقت : « إذاً لا يكذب علينا » .

انظر : رجال الطوسي : ١٤٢ / ١٥٢٩ ، و٢٥٢ / ٣٥٤٢ ، تنقيح المقال ٢ : ٣٤٢ / ٨٩٨٦ .

(٢) سورة النساء ٤ : ٦٠ .

٣٦٨

الناظرَيْن في حقّهما واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلف في حديثكم ؟

قال : « الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخَر » .

قال : قلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما على صاحبه ؟

قال : فقال : « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المُجمع عليه من أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المُجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الاُمور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيُتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيُجتنب ، وأمر مشكل يُردّ علمه إلى اللّه‏ وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشُبهات نجا من المحرّمات ، ومن أخذ بالشُبهات ارتكب المحرّمات ، وهلك من حيث لا يعلم » .

قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين ، قد رواهما الثقات عنكم ؟

قال : « يُنظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويُترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة » .

قلت : جعلت فداك أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنّة ، ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخَر مخالفاً لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ ؟

قال : « ما خالف العامّة ففيه الرشاد » .

فقلت : جعلت فداك فإن وافقها الخبران جميعاً ؟

قال : « يُنظر إلى ما إليه أميل حُكّامهم وقُضاتهم فيُترك ، ويؤخذ

٣٦٩

بالآخَر » .

قلت : فإن وافق حُكّامهم الخبرين جميعاً ؟

قال : «إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات » (١) .

ومنهم : سَماعة (٢) في روايته المقبولة عند الأكثر ، قال : سألت أبا عبداللّه‏ عليه‌السلام عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه كلاهما يرويه ، أحدهما يأمره والآخَر ينهاه عنه ، كيف يصنع ؟

قال : « يُرجئه حتّى يلقى من يُخبره فهو في سعة حتّى يلقاه » . وفي رواية اُخرى : « بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك » (٣) .

حتّى أنّ هذا الأخير رواه الحسن بن الجهم (٤) عن الرضا عليه‌السلام

__________________

(١) الكافي ١ : ٥٤ ـ ٥٥ / ١٠ (باب اختلاف الحديث) ، تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١ / ٨٤٥ ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ٨ / ٣٢٣٣ ، الاحتجاج ٢ : ٢٦٠ / ٢٣٢ ، الأنوار النعمانيّة ٣ : ٥٢ .

(٢) هو سَماعة بن مِهران الحضرمي الكوفي ، يكنّى أبا ناشرة ، وقيل : يكنّى أبا محمّد ، ثقة ، كان يتّجر في القزّ ، عدّه الشيخ رحمه‏الله تارة من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، واُخرى من أصحاب الكاظم عليه‌السلام ، توفّي سنة ١٤٥ هـ .

انظر : رجال الطوسي : ٢٢١ / ٢٩٥٨ ، و٣٣٧ / ٥٠٢١ ، تنقيح المقال ٢ : ٦٧ / ٥٢٧١ .

(٣) الكافي ١ : ٥٣ / ٧ (باب اختلاف الحديث) ، بحار الأنوار ٢ : ٢٢٧ / ٦ .

(٤) الحسن بن جَهم بن بكير بن أعين ، يكنّى أبا محمّد ، من أصحاب الكاظم والرضا عليهما‌السلام ، ثقة بالإتفاق ، وله كتاب معروف يرويه عدّة من أصحابنا منهم الحسن بن عليّ بن فضّال ، وإبراهيم بن هاشم وغيرهما ، ويروي عن أبيه ، وجدّه ، وعمّه عبداللّه‏ بن بكير .

وله احتجاج لطيف في إثبات قبر مولانا أمير المؤمنين صلوات اللّه‏ عليه في كامل

٣٧٠

صريحاً ، وقبله ثقات رؤساء الإماميّة أيضاً ، حيث قال في آخر حديثٍ له ذكره الطبرسي في كتاب الاحتجاج ، وكذا غيره : قلت له : جعلت فداك يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين فلا نعلم أيّهما الحقّ ؟

قال : « إذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت » (١) .

ومنهم : زرارة في روايته المسلّمة عند الإماميّة ، قال : سألت أبا جعفر الباقر عليه‌السلام فقلت : جعلت فداك يأتي منكم الخبران المتعارضان فبأيّهما آخذ ؟

فقال : « يا زرارة خُذْ بما اشتهر بين أصحابك » ثمّ ذكر سائر الصٌّور إلى أن قال أخيراً : « فخُذْ بما فيه الحائطة لدينك » (٢) .

أقول : خلاصة الحال أنّ هذا القانون الذي يظهر من هذه الأخبار وغيرها إنّما وُضع لأجل أنّه مهما وجد أحد اختلافاً فيما روي عن هؤلاء الأئمّة عليهم‌السلام في شيء وجد أيضاً طريق الأخذ فيه بأحد الوجوه المرجِّحة المرويّة عنهم أيضاً ، حتّى لا يضرّه هذا الاختلاف رأساً ، حيث إن عمله حينئذٍ على قول الإمام عليه‌السلام أبداً من دون مدخليّة رأي فيه أصلاً ؛ ضرورة عدم الفرق في لزوم العمل بين ما ورد عنهم في خصوص حكم من الأحكام ، وبين ما ورد عنهم في باب اختلاف الحكم الوارد عن الإمام عليه‌السلام .

وخلاصة مضمون أصل هذا القانون أنّ الواجب ترجيح العمل بالخبر الذي يكون موافقاً لما يدلّ عليه محكم القرآن أو السنّة الثابتة من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

الزيارات .

انظر : كامل الزيارات : ٣٢ / ٨ ، تنقيح المقال ١ : ٢٧١ / ٢٤٩٦ ، أعيان الشيعة ٥ : ٣٩ .

(١) الاحتجاج ٢ : ٢٦٤ / ٢٣٣ .

(٢) غوالي اللآليء ٤ : ١٣٣ / ٢٢٩ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٤٥ / ٥٧ .

٣٧١

سيّد الإنس والجانّ ـ والوجه في هذا ظاهر واضح لا سترة فيه ـ أو يكون مخالفاً لما عليه فقهاء العامّة أو حُكّامهم وقُضاتهم كلّهم ، أو أكثرهم أو أشهرهم ، لا سيّما في زمان ورود الحديث ، وإنّما السبب في هذا الأخير ليس ما هو دأب المخالفين من تركهم بعض الاُمور الشرعيّة عندهم ، بل المرغوبة لأجل محض صيرورتها من شعار الشيعة ، كالتختّم باليمين ، وتربيع القبور وغيرهما ؛ لأنّ هذا من الحميّة الجاهليّة ، بل السبب ما سبق من أنّ القوم لمّا ضيّعوا السبيل الذي هو الرحماني اتّبعوا السبل التي هي طرق الاستنباط بألرأي الذي هو الشيطاني ، فصار مدارهم على هذا الحال ، والظاهر أنّه عين موقع الخطأ والضلال . فلا محالة عامّة أحكامهم خلاف حكم اللّه‏ المتعال ؛ ولهذا قال الرضا عليه‌السلام لمن سأله أنّه لم يجد شيعةً يستفتيه : «ائت فقيه البلد واستفته في أمرك فإذا أفتاك بشيء فخُذْ بخلافه فإنّ الحقّ فيه» (١) وقد كان الأئمّة أيضاً يفتون على ما يوافقهم ـ كما مرّ ـ غصباً عليهم .

وأمّا كثرة التقيّة وشيوعها ، لا سيّما في زمان الأئمّة عليهم‌السلام فواضحة ؛ ولهذا قال أبو عبداللّه‏ الصادق عليه‌السلام لعبيد بن زرارة (٢) : « ما سمعتَ منّي يشبه

__________________

(١) علل الشرايع : ٥٣١ ، باب ٣١٥ / ٤ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧٥ / ١٠ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٣٣ / ١٤ .

(٢) عبيد بن زرارة بن أعين الشيباني ، عدّه الشيخ رحمه‏الله في رجاله من أصحاب الصادق عليه‌السلام ، ويكفي في جلالته ما ورد عن أبي عبداللّه‏ عليه‌السلام : « ثقة ثقة ، عين ، لا لبس فيه ولا شكّ » .

انظر : رجال النجاشي : ٢٣٣ / ٦١٨ ، رجال الطوسي : ٢٤٣ / ٣٣٥٥ ، تنقيح المقال ٢ : ٢٣٥ / ٧٥٨٢ .

٣٧٢

قول الناس ففيه التقيّة ، وما سمعتُ منّي لا يشبه قول الناس فلا تقيّة فيه» (١) .

وفي صحيحة أبان بن تغلب قال : سمعت الصادق عليه‌السلام يقول : « كان أبي يفتي في زمان بني اُميّة : أنّ ما قتل البازي والصَقر فهو حلال ، وكان يتّقيهم ، وأنا لا أتّقي الآن ، فهو حرام » (٢) ، ونحوه موجود بسند صحيح في كتاب صفوان عن الحلبي ، عنه عليه‌السلام (٣) .

ولأجل هذا مهما يتتبّع الماهر في الحديث يزداد علماً بأنّ أكثر اختلاف الروايات من هذا القبيل ، ومن ثَمَّ قد يقدّم هذا على سائر الوجوه ، فلا تغفل .

ثمّ إنّ من وجوه الترجيح : أن يختار العمل بالخبر الذي يكون مسلّم الثبوت صدوره عن الإمام عليه‌السلام إمّا بكثرة روايته أو رُواته أو بزيادة ورعهم وعلمهم وصدقهم والوثوق بهم أو بغير ذلك ، على الخبر الذي لم يكن بهذه المثابة .

لكنّ الحقّ أنّ أكثر موارد هذا الوجه من الترجيح مهما لم يحتمل الورود على نهج التقيّة ، كما هو واضح ممّا مرّ .

ومنها : ما هو من جملة دراية الحديث وفهم معناه ، بأن يجمع بين العمل بالخبرين جميعاً بنوع من التوجيه والتأويل ، كحمل أحدهما ـ مثلاً ـ

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٨ : ٩٨ / ٣٣٠ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٥٢ / ٧٠ ، وفيهما بتفاوت يسير .

(٢) الكافي ٦ : ٢٠٨ / ٨ (باب صيد البزاة والصقور وغير ذلك) ، من لا يحضره الفقيه ٣ : ٣٢٠ / ٤١٤٢ ، تهذيب الأحكام ٩ : ٣٢ / ١٢٩ ، الاستبصار ٤ : ٧٢ / ٢٦٥ ، وفي المصادر : «وهو حرام» ، وفي من لا يحضره الفقيه زيادة : «ما قتل الباز والصقر» .

(٣) انظر : الكافي ٦ : ٢٠٧ / ١ (باب صيد البزاة والصقور وغير ذلك) التهذيب ٩ : ٣٢ / ١٣٠ ، الاستبصار ٤ : ٧٢ / ٢٦٦ .

٣٧٣

على الفضل ، والآخَر على الرخصة أو على تقييد أحدهما بالآخَر ، أو على معنى يجتمع مع الآخَر ، أو نحو ذلك ممّا يعلمه الماهر في فهم الحديث .

لكن هذا أيضاً بشرط ظهور ذلك الحمل ، بل مع التأييد بدلالة حديثٍ ثالثٍ عليه ، كما كان كذلك دأب أكثر قدماء المحدّثين من الإماميّة ، كالكليني والطوسي (١) وغيرهما ، فإنّ هذا الخبر الثالث في الحقيقة قول من يخبر عمّا في الأوّلين ، فيدخل تحت ما مرّ (٢) من قوله عليه‌السلام : « يُرجئه حتّى يلقى من يُخبره » .

ثمّ إن لم يمكن اختيار العمل بأحد الوجوه المذكورة وأمكن التوقّف والإرجاء ، أو العمل بما فيه الاحتياط ، كما مرّ في الأحاديث السابقة ، وإلاّ فيختار العمل بأحدهما من باب التسليم ووسعه . هذا ، كما هو نصّ الحديث .

وظاهر أنّ بناءً على هذا ، إن حصل بعض اختلاف من اختيار بعض

__________________

(١) هو محمّد بن الحسن بن عليّ بن الحسن الطوسي ، يكنّى أبا جعفر ، المعروف بـ : شيخ الطائفة ، والشهير بالشيخ الطوسي فقيه الشيعة ، كان تلميذ الشيخ المفيد ، وعارفاً بالأخبار والتفسير والرجال والفقه والاُصول والكلام والأدب ، هاجر إلى العراق ، وهو ابن ثلاثة وعشرين عاماً فهبط بغداد ، وكانت داره في الكرخ مأوى الناس ، وبلغت عدّة تلاميذه ٣٠٠ من مجتهدي الشيعة ، واُحرقت كتبه عدّة مرّات بمحضر الناس في رحبة القصر ، وله كتب كثيرة منها : تفسير التبيان ، وتهذيب الأحكام ، والمبسوط وغيرها .

ولد سنة ٣٨٥ هـ في طوس ، وتوفّي سنة ٤٦٠ هـ ، وقبره في النجف .

انظر : تنقيح المقال ٣ : ١٠٤ / ١٠٥٦٣ من أبواب الميم ، أعيان الشيعة ٩ : ١٥٩ ، الرجال لابن داوُد : ١٦٩ / ١٣٥٥ ، سير أعلام النبلاء ١٨ : ٣٣٤ / ١٥٥ ، طبقات المفسّرين للداودي ٢ : ١٣٠ / ٤٧٦ ، الأعلام ٦ : ٨٤ .

(٢) في ص ٣٧٠ .

٣٧٤

الوجوه المذكورة ، أو المعاني المستفادة على بعض بسبب العذر الذي بيّنّاه ، لا يقاس بذلك الاختلاف الآرائي الذي بين غيرهم ، بل الحقّ أنّ هذا لا ينبغي أن يُعدّ اختلافاً ، كما بيّنّا وجهه سابقاً .

نعم ، شواذّ من المتأخّرين عن أزمنة الأئمّة وأرباب النصوص من الإماميّة ، حيث إنّهم ابتلوا من بدو تحصيلهم بمعاشرة مخالفيهم ومخالطتهم وممارسة كتبهم ومذاكرتهم اكتسبوا نبذاً من روائج طريقتهم ، فزعموا صحّة بعض ما هو من نتائج قواعدهم (ومع هذا لم يجدوا جمّة (١) من الروايات التي كانت متداولة في زمان أرباب النصوص على حالها في الكثرة والاعتبار بسبب ضياع بعض الكتب ، وعدم بقاء الاطمئنان في بعضها بكونها هي تلك الكتب المعتبرة في تلك الأعصار ؛ لما هو كالشمس في رابعة النهار من كثرة ورود الأذيّة على الإماميّة والإضرار ، بحيث لم يمكنهم الاجتماع مدّة ، بل ولا ما سوى كمال الاختفاء من خوف الأشرار ، فبنى هؤلاء وهماً (٢) منهم أن يستدلّوا أحياناً بما هو من ذلك القبيل غفلةً عن عدم كون ذلك من أفراد حقّ الدليل على مذهب الإماميّة ، المأخوذ من الأئمّة الهداة عليهم‌السلام إلى خير السبيل ، فتورّطوا (٣) بذلك مثل اُولئك حتّى وقعوا معهم في مهوى الخطأ والاختلاف والتضليل .

لكن هذا ممّا لا يقدح في أصل مذهب الإماميّة وطريقتهم المأخوذة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، بل إنّ القدح إنّما هو في مثل هذا المقال الصادر من هؤلاء

__________________

(١) في «م» : «حجّة» ، بدل «جمّة» .

(٢) في « م » : «خوفاً» ، بدل «وهماً» .

(٣) في «ش» : «فتوحّلوا» بدل «فتورّطوا» .

٣٧٥

الرجال ، كما أنّ خطأ الطوائف المعدودة من المسلمين لا يقدح في أصل الدين المأخوذ من سيّد المرسلين ، ومن نسب مثل هذا إلى مطلق متأخّري الإماميّة ، كشارح المواقف ومن تبعه ـ حيث قال : إنّ الإماميّة كانت أوّلاً على مذهب أئمّتهم عليهم‌السلام ، حتّى تمادى بهم الزمان واختلفوا في الروايات عن أئمّتهم ، فاختلفوا وتشعّب متأخّروهم (١) ـ فقد أخطأ في تلك النسبة وتوهّم ، إذ لا شكّ في عدم صدور مثل ما ذكرناه من الاستدلال إلاّ عن بعضهم .

وعلى هذا ، غاية ما يلزم من هذا على الإماميّة أنّ فيهم من ضلّ عن طريقتهم ، وأخطأ في أدلّتهم ، وصار من أهل الخلاف عليهم والاختلاف عنهم ، بحيث صار سبب توهّم وجود الاختلاف فيهم .

وهذا ممّا لا ينكروه ولا يضرهّم ، كما قال اللّه‏ عزوجل : ( عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) (٢) ولهذا لم يعتمد على كلام هؤلاء ، ولم يعبأ بكتبهم وتصانيفهم من عرف حالهم واطّلع على منشأ مقالهم من محقّقي المحدّثين الذين تمسّكوا في جميع مسائل الدين بما ورد عن الأئمّة المعصومين صلوات اللّه‏ عليهم أجمعين .

على أنّ الذي يظهر من كلام بعض هؤلاء ، بل غيرهم أيضاً ، كما أومأ إليه الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه‏الله في مبسوطه (٣) ، وذكره العلاّمة الحلّي في بعض فوائده : أنّ ارتكاب الذين ارتكبوا ما ذكرناه آنفاً ليس محض ما مرّ ،

__________________

(١) شرح المواقف ٨ : ٣٩٢ .

(٢) سورة المائدة ٥ : ١٠٥ .

(٣) انظر : المبسوط ١ : ١ ـ ٢ .

٣٧٦

بل إنّما عمدة علّة ذلك إرادتهم بيان بطلان أكثر المسائل ـ التي هي مختار مخالفيهم ـ على النهج ، الذي هو المعمول فيهم ، دفاعاً عن أنفسهم ما كان به يطعن بعض مخالفيهم عليهم ، حيث صرّح بأنّ الإماميّة إنّما التجأوا إلى ما ادّعوه من انحصار الحجّيّة فيما كان وارداً من الشارع سمعاً ، لأجل عجزهم ـ بسبب قلّة قوّة عقلهم وفكرهم ـ عن استنباط المسائل عقلاً ، وإسكات الخصم وردّه بمثل ما استدلّ به ممّا جعله عليهم حجّة ، فسهّلوا الأمر على أنفسهم في كلّ مسألة بنقل رواية ولو لم يجدوا لما نقلوه أصلاً ؛ فلهذا جرى هؤلاء الرهط في أكثر الأدلّة على تلك الطريقة ليبيّنوا كذب تلك النسبة على من ربّما يتوهّم صدق تلك الفرية .

ولا يخفى أنّ من هذا يظهر وجه ما ذكرناه سابقاً أيضاً من وجدان بعض المكالمات الخياليّة ، والمناظرات العقليّة في بعض من كتب الإماميّة لا سيّما في المسائل الاُصوليّة ، (فإنّ الوجه فيه ما ذكرناه هاهنا ، لا سيّما الوجه الأخير ؛ إذ كثيراً ما يحتاج الإنسان في إسكات الخصم وإلزامه وردّ شُبهه إلى التكلّم معه بما هو من الطرق التي هي المقبولة عنده وإن كان أصل اعتماد المتكلّم على غيره) (١) ، فافهم ولا تتوهّم .

وبالجملة : خلاصة ما أشرنا إليه من مذهب الإماميّة أنّهم يقولون : إذا ثبتت نبوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (وصدق كلامه) (٢) وكتابه بالمعجزات وغيرها ممّا سيأتي ، وكذا وصاية المعلومين من آله وإمامتهم ، وكون قولهم حجّةً كقوله ـ كما سيظهر أيضاً ـ كفانا ما ثبت عنهم عندنا (حتّى في التوحيد

__________________

(١) ما بين القوسين مشطوب عليه في «س» .

(٢) ما بين القوسين لم يرد في «ن» .

٣٧٧

والصفات والعدل والمعاد ، وسائر ما يتعلّق بوجود الواجب بالذات ، وكذا في كلّ ما يتعلّق بعباده من الأنبياء والأوصياء وسائر المخلوقات ، وكذلك فيما يتعلّق بأحكامه وأوامره ونواهيه و (١) سائر الأحكام والأخلاق والمعاصي والقربات) (٢) من غير حاجة لنا ، بل من غير أن يكون جائزاً علينا أن نتشبّث بما تشبّث به غيرنا ممّا حصل به عندهم ما مرّ من الاختلافات (٣) ، وإنّ هذا هو مناط تفرّدنا عن غيرنا من سائر أصحاب المقالات .

(وهذا هو مراد شارح المواقف ، حيث قال : إنّ طائفة من العلماء ذهبوا إلى أنّه يجب أخذ اُصول الدين وفروعه من أصحاب العصمة ، وإلى أنّه لا يستقلّ العقل بتحصيلها كما ينبغي ، وقد صرّح بمثله شارح المقاصد (٤) أيضاً . وفيهما ما لا يخفى من المناداة بتكذيب من ادّعى كون هذا المذهب من الحادثات ، كما سيأتي في محلّه ، فتدبر) (٥) .

ولنشر أيضاً إلى جملة من العقائد التي تفرّدت بها هذه الطائفة ببركة التمسّك بأصحاب العصمة .

فاعلم أنّ الذي هو خلاصة مذهب هذه الطائفة في معرفة اللّه‏ عزوجل واكتساب العلم بالذات والتوحيد والصفات أنّ إدراك حقيقة الذات المقدّسة ، والعلم بكنه صفاته الذاتيّة ـ التي سيظهر أنّها عين الذات ـ ممّا لا مطمع فيه للملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين ، فضلاً عن غيرهم ، كما

__________________

(١) في «ش» : زيادة : «من» .

(٢) ما بين القوسين مشطوب عليه في «س» .

(٣) في «م» : «الاختلاف» .

(٤) انظر شرح المواقف ٨ : ٣٥٠ ، شرح المقاصد ٥ : ٢٥٥ .

(٥) ما بين القوسين مشطوب عليه في «س» .

٣٧٨

ينادي به صريح الآيات والروايات التي منها قوله تعالى : ( وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ) (١) ، وقول رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما عرفناك حقّ معرفتك » (٢) ، وقول حجّته أبي عبداللّه‏ الصادق عليه‌السلام : « كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم ، مردود إليكم ، ولعلّ النمل الصغار تتوهمّ أنّ للّه‏ تعالى زبانتين ، فإنّ ذلك كمالها ، وتتوهّم أنّ عدمها نقصان لمن لا يتّصف بهما ، وهكذا حال العقلاء فيما يصفون اللّه‏ تعالى » (٣) وقال أيضاً : « إنّ اللّه‏ لا يوصف ، وكيف يوصف وقد قال في كتابه : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (٤) فلا يوصف بقدر إلاّ كان أعظم من ذلك » (٥) وقال في معنى كلمة «اللّه‏ أكبر» و«سبحان ربّي الأعلى» (٦) ونحو ذلك : « إنّ المراد اللّه‏ أكبر وأعلى وأجل وأعظم من أن يقدر العباد على صفته أو يبلغوا كنه عظمته » (٧) ، الخبر .

ولهذا لا يجوز عندهم ما ورد النهي الصريح فيه من التفكّر في ذاته تعالى ، والتكلّم في حقيقته ، كما في الخبر المتواتر بين المؤالف والمخالف الذي رواه من المخالفين الطبراني ، وابن عدي ، والبيهقي ، والحافظ الاصفهاني وغيرهم : عن ابن عبّاس وغيره ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « تفكّروا في خلق اللّه‏ ولا تفكّروا في اللّه‏ فتهلكوا » (٨) ورواه أيضاً من الإماميّة جمع .

__________________

(١) سورة طه ٢٠ : ١١٠ .

(٢) غوالي اللآلئ ٤ : ١٣٢ / ٢٢٧ ، بحار الأنوار ٦٩: ٢٩٢ .

(٣) نور البراهين ١ : ٩٢ ـ ٩٣ ، بحار الأنوار ٦٩ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ بتفاوت .

(٤) سورة الأنعام ٦ : ٩١ ، وسورة الزمر ٣٩ : ٦٧ .

(٥) الكافي ١ : ٨٠ / ١١ (باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى) .

(٦) في « م » زيادة : «وبحمده» .

(٧) انظر : التوحيد : ٢٣٨ ـ ٢٤٠ / ١ في ضمن الحديث .

(٨) انظر : المعجم الأوسط ٦ : ٣٢٦ / ٦٣١٩ ، الكامل لابن عدي ٨ : ٣٨٥ ، شعب

٣٧٩

منهم : محمّد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام قال : « إيّاكم والتفكّر في اللّه‏ ، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظم خلقه » (١) .

ومنهم : أبو بصير وغيره عنه عليه‌السلام قال : « تكلّموا في خلق اللّه‏ ولا تكلّموا في اللّه‏ ، فإنّ الكلام في اللّه‏ لا يزداد صاحبه إلاّ تحيّراً » (٢) .

وعن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « من نظر في اللّه‏ كيف هو ؟ هلك » (٣) .

وقال في قوله تعالى : ( وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ) (٤) «إنّ المعنى : أنّه إذا انتهى الكلام إلى اللّه‏ تعالى فأمسكوا » (٥) .

وفي رواية عن الباقر عليه‌السلام قال : « إنّه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به ، وطلبوا علم ما كفوه ، حتّى انتهى كلامهم إلى اللّه‏ عزوجل فتحيّروا ، حتّى كان الرجل ليُدعى من بين يديه فيجيب من خلفه » ، وبالعكس (٦) ، وفي رواية : « حتّى تاهُوا في الأرض » (٧).

بل كمال المعرفة عندهم أن تعرف أنّك لا تقدر على كنه المعرفة ،

__________________

الإيمان ١ : ١٣٦ / ١٢٠ ، وورد نصّه في كتاب العظمة : ١٨ / ٤ ، وحكاه عن حلية الأولياء السيوطي في جامع الأحاديث ٤ : ١١٢ / ١٠٥٠٦ بتفاوت .

(١) الكافي ١ : ٧٣ / ٧ (باب النهي عن الكلام في الكيفيّة) ، التوحيد : ٤٥٨ / ٢٠ .

(٢) الكافي ١ : ٧٢ / ١ (باب النهي عن الكلام في الكيفيّة) ، التوحيد : ٤٥٤ / ١ .

(٣) المحاسن ١ : ٣٧١ / ٨٠٨ ، الكافي ١ : ٧٣ / ٥ (باب النهي عن الكلام في الكيفيّة) ، بحار الأنوار ٣ : ٢٦٤ / ٢٤ .

(٤) سورة النجم ٥٣ : ٤٢ .

(٥) المحاسن ١ : ٣٧٠ / ٨٠٦ ، الكافي ١ : ٧٢ / ٢ (باب النهي عن الكلام في الكيفيّة) ، التوحيد : ٤٥٦ / ٩ ، بحار الأنوار ٣ : ٢٦٤ / ٢٢ .

(٦) المحاسن ١ : ٣٧١ / ٨١٠ ، الكافي ١ : ٧٣ / ٤ (باب النهي عن الكلام في الكيفيّة) ، الأمالي للصدوق : ٥٠٣ / ٦٨٩ ، بحار الأنوار ٣ : ٢٥٩ / ٣ .

(٧) الكافي ١ : ٧٣ / ٤ (باب النهي عن الكلام في الكيفيّة) في ذيل الحديث .

٣٨٠