ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

وبالجملة : هذه الوجوه التي ذكروها ـ بل غيرها أيضاً ـ لا تدفع عمّا نحن فيه من إباء عمر شيئاً ممّا أوردنا عليه من البشاعة من حيث الرأي والقياس وترتّب الفساد منه والضرر على الناس ، لا سيّما إذا لوحظ كون ذلك الإباء في قبال تصريح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه يريد بما أمرهم أن يجمعهم على أمر لا يتطرّق به الضلال إليهم أبداً ، كما هو ظاهر على من له أدنى فهم وبصيرة .

بل بعد هذه الملاحظة مع التدبّر في خلاصة ما ذكرناه ، حتّى من لسان القوم أيضاً في أصل منشأ القياس وشُبهه يتّضح كمال الوضوح أنّ هذا الإباء ما ترك في المطابقة والمشابهة شيئاً ممّا مرّ في أقيسة السابقين ، لا سيّما قياس إبليس وشُبهه ، حتّى أنّه كما أنّ إباء ذلك عن السجود صار سبباً لوقوع بني آدم في الخطأ والضلال ، صار إباء هذا أيضاً سبباً لوقوع هذه الاُمّة في الخطأ والضلال .

هذا ، مع أنّه كانت هاهنا زيادة تأكيد وبيان في الأمر لم تكن هناك ، أعني التصريح بعلّة التكليف ، ونفع قبول الأمر ، وضرر الخلاف ، كما هو مفاد قوله : «لن تضلّوا» ، فتأمّل في جميع ما ذكرناه هاهنا حقّ التأمّل ، حتّى تظهر لك دلالة هذا الحديث على فضائح عظيمة تعدّى المخالفون عنها بالتغافل .

ثمّ إنّ الشهرستاني ، وكذا الآمدي وغيرهما قالوا : ومن جملة اختلاف الصحابة ونزاعهم ما كان في مرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أيضاً ، فنقلوا حكاية التخلّف عن جيش اُسامة (١) ، وهي حكاية مشهورة مسلّمة ، نقلها المخالف والمؤالف ، وستأتي في محلّها ، وخلاصتها :

__________________

وفدك للجوهري : ٤٥ ، دلائل النبوّة للبيهقي ٧ : ٢٢٤ ـ ٢٢٥ ، السنن الكبرى ٨ : ١٤٩ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٥١ ، و١٣ : ٣١ .

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٣ ، شرح المواقف ٨ : ٣٧٦ ، الطرائف ٢ : ١٥٨ .

١٤١

إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في مرض موته أمر اُسامة بن زيد على جيش فيه جُلّ المهاجرين والأنصار، منهم أبو بكر على ما رواه الأكثر كالبلاذري، والواقدي (١) ، والجوهري (٢) ، والزهري (٣) ، وهلال بن عامر (٤) ، ومحمّد بن اُسامة (٥) ،

__________________

(١) هو محمّد بن عمر بن واقد الأسلمي ، يكنّى أبا عبداللّه‏ ، ولي القضاء ببغداد حتّى مات فيها ، وله كتب منها : المغازي ، أخبار مكّة ، تاريخ الفقهاء ، ولد سنة ١٣٠ هـ ، ومات سنة ٢٠٧هـ .

انظر : المعارف : ٥١٨ ، الفهرست لابن النديم: ١١١ ، تاريخ بغداد ٣ : ٣ / ٩٣٩ ، وفيات الأعيان ٤ : ٣٤٨ / ٦٤٤ ، سير أعلام النبلاء ٩ : ٤٥٤ / ١٧٢ .

(٢) هو أحمد بن عبد العزيز الجوهري الكوفي ، عالم محّدث كثير الأدب ، له كتب ، كالسقيفة وفدك ، وقد اُرّخ وفاته بسنة ٣٢٣ .

انظر : رجال الشيخ : ١٥٥ / ١٧٠٠ ، نقد الرجال ١ : ١٢٩ / ٢٤٧ ، تنقيح المقال ١ : ٦٤ / ٣٨٢ ، قاموس الرجال ١ : ٤٨٩ / ٤٠٢ ، معجم رجال الحديث ٢ : ١٤٢ / ٦٢٣ .

(٣) هو محمّد بن مسلم بن عبيداللّه‏ بن عبداللّه‏ بن شهاب الزهري المدني ، يكنّى أبا بكر ، روى عنه جماعة منهم : مالك بن أنس ، وسفيان بن عيينة ، وسفيان الثوري ، ولد سنة ٥٢هـ ، ومات سنة ١٢٤هـ .

انظر : رجال الشيخ : ٢٩٤ / ٤٢٩٢ ، نقد الرجال ٤ : ٣٢٤ / ٧٢١ ، منتهى المقال ٦ : ٢٠٢ / ٢٨٧٤ ، قاموس الرجال ٩ : ٥٨٢ / ٧٢٧٦ ، المعارف : ٤٧٢ ، الثقات ٥ : ٣٤٩ ، تهذيب الأسماء واللغات ١ : ٩٠ / ٢٤ ، وفيات الأعيان ٤ : ١٧٧ / ٥٦٣ .

(٤) هلال بن عامر بن عمرو المزني الكوفي : روى عن رافع بن عمرو المزني ، وأبيه عامر ، وروى عنه مروان بن معاوية ، وأبو معاوية الضرير ، ويحيى بن سعيد الاُموي ، وسيف بن عمر التميمي .

انظر : التاريخ الكبير ٨ : ٢٠٦ / ٢٧٢٦ ، الثقات ٧ : ٥٧١ ، اُسد الغابة ٤ : ٦٣٥ / ٥٣٩٠ ، تهذيب الكمال ٣٠ : ٣٤٠ / ٦٦٢٣ ، تقريب التهذيب ٢ : ٣٢٤ / ١٣٦ .

(٥) محمّد بن اُسامة بن زيد بن حارثة الكلبي المدني مولى رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، روى عن أبيه ، وروى عنه الأعرج ، وسعيد بن عبيد السبّاق ، وعبداللّه‏ بن دينار ، وعبداللّه‏ بن محمّد بن عقيل ، مات في زمن الوليد بن عبد الملك الاُموي .

انظر : التاريخ الكبير ١ : ١٩ / ١٢ ، المعارف : ١٤٥ ، الثقات ٥ : ٣٥٣ ، تهذيب الكمال ٢٤ : ٣٩٣ / ٥٠٥٢ ، تقريب التهذيب ٢ : ١٤٣ / ٣٤ .

١٤٢

ومحمّد بن إسحاق (١) ، وعروة بن الزبير وغيرهم ، وهو الذي في روايات أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، وإن أنكر كونه منهم بعض أهل الخلاف غصباً عليه ، ومنهم : عمر ، وأبو عبيدة بن الجرّاح (٢) ، وعبد الرحمن بن عوف (٣) ، وطلحة ، والزبير ، وغيرهم من المهاجرين ، وأسيد بن حضير (٤) ، وبشير بن سعد (٥) ، وجماعة من أمثالهما من أكابر الأنصار ، وأمره أن يغير على مؤتة ،

__________________

(١) محمّد بن إسحاق بن يسار بن خيار المطلبي المدني ، يكنّى أبا بكر ، رأى أنس بن مالك وسعيد بن المسيّب ، وروى عن أبيه وغيره ، وروى عنه : يحيى بن سعيد ، وشعبة الثوري ، والحمّادان وغيرهم .

له كتب منها : كتاب الخلفاء ، كتاب السير والمغازي ، ولد سنة ٨٠ هـ ، واختلف في وفاته على أقوال منها : أنّه مات سنة ١٥١هـ .

انظر : رجال الطوسي : ٢٧٧ / ٣٩٩٨ ، تنقيح المقال: ٢: ٧٩ / ١٠٣٨٠ من أبواب الميم، الطبقات لابن سعد ٧ : ٣٢١ ، طبقات خليفة : ٤٧١ / ٢٤٣٢ ، المعارف : ٤٩١ ، الفهرست لابن النديم : ١٠٥ ، وفيات الأعيان ٤ : ٢٧٦ / ٦١٢ ، سير أعلام النبلاء ٧ : ٣٣ / ١٥ .

(٢) هو عامر بن عبداللّه‏ ، أو عبداللّه‏ بن عامر الجرّاح ، يكنّى أبا عبيدة ، عامّي ، أحد ركني خلافة أبي بكر ، والآخَر عمر ، مات سنة ١٨هـ .

انظر : قاموس الرجال ٥ : ٦٠٣ / ٣٨٠٠ ، طبقات خليفة : ٦٥ / ١٥٩ ، المعارف : ٢٤٧ ، تقريب التهذيب ١ : ٣٨٨ / ٥٢ .

(٣) عبدالرحمن بن عوف بن الحارث الزهري القرشي ، يكنّى أبا محمّد ، أحد الستّة الذين أوصى عمر لهم بالخلافة ، وكان موالياً لعثمان بن عفان ، كان له مال كثير من ذهب وغيره ، ولد بعد عام الفيل بعشر سنين ، ومات سنة ٣٢هـ .

انظر : رجال الشيخ : ٤٢ / ٢٨٣ ، قاموس الرجال ٦ : ١٣٢ / ٤٠٥٧ ، المعارف : ٢٣٥ ، تهذيب الأسماء واللغات ١ : ٣٠٠ / ٣٥٧ .

(٤) اُسيد بن حضير بن سمّاك بن عتيك بن رافع ، يكنّى أبا يحيى ، وأبا عتيق ، وأبا عتيك ، وكان موالياً لعمر بن الخطّاب ، مات سنة ٢٠هـ .

انظر : طبقات خليفة : ١٤٠ / ٥٠٨ ، الإمامة والسياسة : ٣٠ ، المسترشد للطبري : ٣٧٨ / ١٢٦ ، السقيفة وفدك للجوهري : ٤٤ ، الاستيعاب ١ : ٩٢ / ٥٤ .

(٥) بشير بن سعد بن خلاس بن زيد الأنصاري ، يكنّى أبا النعمان ، أوّل من بايع أبا بكر

١٤٣

حيث قُتل أبوه زيد ، فخرج اُسامة ومعه بعض منهم ، وتخلّف جمع معتذراً بعضهم بالاشتغال في التجهيز ، وبعضهم بالتشويش من جهة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ونحو ذلك ، حتّى أنّ جمعاً منهم كرهوا تأميره ، لا سيّما من جهة حداثة سنّه ، فتكلّم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك عليهم وأوصى به إليهم وأمرهم بالتجهيز والسير معه ، وكان يقول مراراً : «أَنفِذُوا جيشَ اُسامة ، لعن اللّه‏ من تخلّف عنه (١) » (٢) فبقي اُسامة خارج المدينة ليلحق به البقيّة وقد كان فيهم من يقول : يجب إطاعة قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإجابة أمره ، ومن يقول : اصبروا حتّى نشوف (٣) كيف يكون ، فجاءه الخبر من اُمّه بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد حضر موته ، فرجعوا من فورهم إلى المدينة ، فوافوا ساعة وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فركض من ركض إلى السقيفة ، فاشتغلوا بأمر الخلافة وبايعوا أبا بكر ، ثمّ لم يسر معه فيما بَعْدُ أصلاً بعض منهم أبو بكر وعمر (٤) .

ولا يخفى أنّ هذه القضية من قبيل ما مرّ في مخالفة الأمر المحتوم المؤكّد باللعن ، كما هو مسلّم ثابت ، بمحض الحكم بالرأي ومقتضى الهوى

__________________

من الأنصار ؛ حسداً منه لابن عمّه سعد بن عبادة ، مات سنة ١٢هـ .

انظر : طبقات خليفة : ٣٢٤ / ١٤٩٩ ، الاستيعاب ١ : ١٧٢ / ١٩٣ ، تهذيب الأسماء واللغات ١ : ١٣٤ / ٨٣ ، تقريب التهذيب ١ : ١٠٣ / ٨٧ .

(١) في «م» : «عن جيش اُسامة» .

(٢) المغازي للواقدي ٣ : ١١١٩ ، السقيفة وفدك للجوهري : ٧٥ ، ورواه الشهرستاني في الملل والنحل ١ : ٢٣ ، والشريف الجرجاني في شرح المواقف ٨ : ٣٧٦ .

(٣) كذا وردت في نسخنا ، وهي من اللغة العامية العراقية بمعنى نرى .

(٤) انظر : أنساب الأشراف ٢ : ١١٥ ، المغازي للواقدي ٣ : ١١٧ ، الاستغاثة : ٢٥ ـ ٢٧ ، الخصال : ١٧١ / ٢٢٦ ـ ٢٢٧ ، المناقب لابن شهر آشوب ١ : ٢٢٦ ، الصراط المستقيم ٢ : ٢٩٦ ـ ٢٩٨ ، دلائل النبوّة للبيهقي ٧ : ٢٠٠ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١ : ١٥٩ ـ ١٦٠ ، و١٧ : ١٨٢ ـ ١٨٣ .

١٤٤

واستحسان عقلهم وقياسهم ؛ إذ غاية ما أظهروا من العذر فيه التشويش من جهة مفارقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على تلك الحالة ، وذلك محض استحسان عقلي في مقابل صريح الأمر ، كما استحسن الشيطان عدم سجوده لآدم عليه‌السلام بأنّه لا يسجد لغير اللّه‏ ، كما ذكره في الشبهة الرابعة من شُبهه السبع التي أوردناها سابقاً (١) ، وكذا ما ظهر في بدو الأمر من كراهة تأميره هو بعينه من قبيل أقيسة إبليس وتلامذته في الاستكبار عن الأمر .

وأمّا ما برز أخيراً من حكاية الخلافة والسعي فيها فهو من علائم مدخلية الهوى أيضاً ، (كما سيظهر) (٢) حتّى أنّه لو وجد أو فرض هناك سبب آخَر لكان (٣) كذلك أيضاً ؛ إذ لا أقلّ من كون مخالفة أمر الرحمن من خطوات الشيطان ، كما مرّ بيانه مبسوطاً .

لكن مع هذا صرّح الشهرستاني وكذا غيره ـ ممّن نقل هذه الحكاية والسابقة ـ بما نقلناه عنهم من كون غرض هؤلاء إقامة مراسم الدين وصلاح المسلين (٤) .

ولا يخفى أنّ هذا أيضاً ـ كما مرّ بيانه سابقاً ـ محض قول بلا هدى ، ودعوى على مقتضى الهوى ، بل إنّ الحقّ أنّ هذه (٥) القضيّة ينبغي أن تعدّ من باب صريح مخالفة أمر اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله المؤكّد باللعن بمحض الرأي الناشئ من اقتضاء الهوى ، لا سيّما الذي ترك الأمر رأساً فلم يخرج مع الجيش أخيراً ؛ إذ لا كلام ـ كما لا مِرية أيضاً ـ في عدم سقوط أوامر

__________________

(١) في ص ٩٣ .

(٢) ما بين القوسين لم يرد في «ن» ، وفي «م» زيادة : «أيضاً» .

(٣) في «م» زيادة : «ذلك» .

(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٣ ، شرح المواقف ٨ : ٣٧٦ .

(٥) في «م» و«ش» : «أصل» بل «هذه» .

١٤٥

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بموته من وجوه :

منها : كونها أمر اللّه‏ بصريح الآيات والروايات ، لا سيّما في الأمر بالجهاد الذي من أعظم الطاعات ، خصوصاً في حقّ من كان من المأمورين بعينه كعمر بالاتّفاق وكذا أبي بكر على تصريح الأكثر ؛ إذ معلوم أنّ مثلهما من الأعيان لم يكن يتحرّك أمثال هذه الحركة إلاّ عند التعيين ، مع أنّ في رواية الحكاية تصريحاً بأنّهما مع جماعة من الأعيان كانوا معيّنين بالخروج مع الجيش ، حتّى أنّ هذا الأمر كان بحيث سألوه الرخصة عنه ولو محض تأخير أيّام ، فلم يرض أبداً ، بل أكّد عليهم بتعجيل التجهيز ولعن المتخلّف عنه (١) .

ومن موضحات القرائن ، بل الدليل القاطع على كون مبنى هذه المخالفة على الهوى لا غير ـ سوى ما مرّ ـ أنّ أوّلاً :

معلوم أنّ معظم أعيان الجيش ـ كما مرّت أساميهم ـ كانوا أهل أساس حكاية السقيفة ، وعلى أيديهم استقامت خلافة أبي بكر .

ثمّ معلوم أيضاً أنّ رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عالماً ـ كما أخبر مراراً ـ بارتحاله عن الدنيا في تلك الأوقات ولو على سبيل الاحتمال ، وكان المرض أيضاً كالرسول لذلك ، ومع هذا كان عالماً أيضاً باحتياج الناس إلى تعيين الخليفة ، وأنّ لهؤلاء القوم مدخلاً في ذلك ولو في تحقّقه على نحو (٢) خاصّ ، وأنّهم إذا رحلوا عن المدينة ربّما لم يحضروا وفاته ولم يحصل ذلك كما كان الظاهر ، فلو كان يعلم أنّ إصلاح الاُمّة وقوام الدين إنّما هو فيما جرى على أيديهم من أمر الخلافة وعلائقها ، أو غير ذلك ممّا أمكن

__________________

(١) راجع ص ١٤٤ .

(٢) في «م» : «معنى» .

١٤٦

فرض كونه سبب المخالفة ، لما أمر بشيء ممّا ذكر ، لا سيّما اللعن على المتخلّف ؛ لما هو معلوم من إشفاقه على اُمّته وسعيه في جمعهم على الحقّ وما فيه صلاحهم والأصلح بحالهم ، واستخلاصهم عن موجبات الضلالة ومرجوحات الجهالة ، بل كلّ ذلك كان واجباً عليه ، فلمّا لم يفعل ذلك ، بل جدّ ـ كما ظهر ـ في خلاف ذلك ، مع ما ذكر من علمه وإشفاقه ولطفه وسعيه وتمام تبليغه ، وأنّه ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ ) (١) ثبت بالضرورة عدم انحصار الصلاح عنده في ذلك .

فحينئذٍ وجب القول إمّا بعلمه بعدم كون ذلك صلاحاً للدين والاُمّة ، كما هو الظاهر من جِدّه في خلاف ذلك ، كالأمر الأكيد بخروجهم وعدم حضورهم ، ومن المفاسد التي ترتّبت على تلك المخالفة ولا أقلّ ممّا نحن فيه من الضلالة الحاصلة من الاختلافات المتناقضة ، كما مرّ غير مرّة ، أو بعلمه بعدم كون ذلك أصلح ولو بالنسبة إلى ذهابهم .

وعلى التقديرين لا يستقيم التوجيه بكون مراد الصحابة في ذلك الاختلاف ، ـ بل المخالفة ـ مراعاة صلاح المسلمين وإقامة مراسم الدين بنحو ما لهج به الشهرستاني وأمثاله ، كما مرّ (٢) ؛ ضرورة أنّ الصحابة لم يكونوا أعرف من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالحال ، ولا كانوا جاهلين بكون النبيّ أعلم بالحال والمآل ، وأنّه لم يقل إلاّ ما هو الأصلح للعباد وأوفق لمرضاة اللّه‏ وأقرب إلى السداد ومع هذا خالفوا ، ولا معنى لمتابعة الهوى إلاّ مثل هذا ، لا سيّما بعد ملاحظة ما صدر منهم بعد تلك المخالفة من إغفالهم عن

__________________

(١) سورة النجم ٥٣ : ٣ ـ ٤ .

(٢) تقدّم في ص ١٣٢ .

١٤٧

تجهيز خير الخليقة ، وركضاتهم إلى السقيفة ، وقالاتهم (١) في تقمّص الخلافة ، مع التأمّل فيما ترتّب عليها من المفاسد التي منها : ما نحن فيه ، كما تبيّن من حصول الاختلافات والوقوع في أنواع الضلالات ، وسيأتي غير ذلك أيضاً في محلّه من المفاسد العظام .

فتأمّل جدّاً حتّى يظهر لك مشاركة هذه القضيّة مع سابقتها في كون المخالفة في كلٍّ منهما اُمّ الفساد في هذه الاُمّة ، ومبنيّة على تمحّلات في هوى تحصيل الخلافة ، وسبباً لوقوع الناس في الضلالة ، وفي التطبيق على ما سنّه إبليس من القياس والتلبيس ، وغير ذلك حتّى الاشتراك في طرق إثبات هذه المطالب ، وكذا يظهر لك أنّ مراد رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ كما كان في الحكاية السابقة ـ تمهيد خلافة عليّ عليه‌السلام ، ودفع طمع غيره على ما بيّنّاه ، حتّى باعتراف من عمر ، كذلك هاهنا يستفاد ممّا يلوح من إرسال مثل هذا الجيش الخاصّ المشتمل على هؤلاء الجماعة المخصوصين في هذا الوقت المخصوص مع ذلك التأكيد الخاصّ في التعجيل ، وعدم تخلّف أحد ، وجِدّهم مع هذا في التخلّف ، أنّ مراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان منه أيضاً تمهيد خلافة عليّ عليه‌السلام ، ودفع المانعين منها عن المدينة ، كما ورد التصريح بهذا في روايات أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام (٢) ؛ لما هو معلوم من عدم اقتضاء المصلحة تصريح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بما في قلبه وقلوبهم ، وإلزامهم ببعض الاُمور التي كان يعرف منهم الإجهار بالمخالفة إن لم يُدارِ معهم .

__________________

(١) القالة : هي القول الفاشي في الناس وإيقاع الخصومة والنميمة .

انظر : لسان العرب ١١ : ٥٧٤ ـ قول ـ .

(٢) انظر : الخصال ٢ : ٣٧١ / ٥٨ ، الاختصاص : ١٧٠ ، الإرشاد ١ : ١٨٠ ـ ١٨١ ، إعلام الورى ١ : ٢٦٣ ، قصص الأنبياء عليهم‌السلام للراوندي : ٣٥٧ / ٤٣٢ .

١٤٨

كما يظهر كلّ هذا من الذي ذكرناه في التبيان من جريان عادة اللّه‏ بالامتحان ، ومن الذي يأتي في الباب الخامس من اقتضاء مصلحة رفع عذاب الاستئصال لزوم عدم التصريح والإلزام بالشيء في بعض الأحوال ، ومن الذي يأتي أيضاً في بحث المداراة والتقيّة وغير ذلك ، وكذا يظهر لك غاية تعسّف المخالفين في التمحّل والتمويه مهما رأوا شيئاً يلوح منه خلاف ما هم عليه ، حتّى أنّهم حينئذٍ يصيرون كأنّهم سكارى يلهجون بما هو مثل دعوى غروب الشمس في رابعة النهار .

ألا ترى إلى هؤلاء الذين قصدوا توجيه مثل هاتين الحكايتين اللّتين فيهما ما بيّنّاه علانية من أقسام المفاسد التي منها مخالفة اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله جهاراً فيما أخبرهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّة بوقوع المخالف في الضلال ، واُخرى (١) بإصابة اللعن والنكال ؟ ! كيف قالوا صريحاً : إنّ غرض هؤلاء المخالفين كان إقامة مراسم الدين ؟ أكان دين ذلك اليوم غير تسليم ما فيه إطاعة اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أم كان المبعوث رحمة للعالمين يلعن مَن غرضه ترويج الشرع المبين ؟

اللّهمّ إلاّ أن يقال : مراد هؤلاء بالشرع والدين : خصوص خلافة من سُعي ذلك اليوم (٢) في خلافته لا مطلق ما جاء به سيّد المرسلين ، بل وإن استلزم مخالفته ، وقد نُقل عن أبي هاشم شيخ المعتزلة أنّه قال في كتابه الذي سمّاه بالجامع : فإن قيل : أفيجوز أن يخالف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما يأمر به ؟ قيل له : أمّا ما كان من ذلك من طريق الوحي فليس يجوز مخالفته على وجه من الوجوه ، وأمّا ما كان من ذلك على طريق الرأي فسبيله فيه سبيل

__________________

(١) في «م» : «مرّة» .

(٢) في «س» و«ن» و«ل» : «القوم» .

١٤٩

الاُمّة من أنّه لا يجوز أن يخالف في ذلك في حال حياته ، وأمّا بعد وفاته فقد يجوز أن يخالف ؛ يدلّك على ذلك أنّه قد أمر اُسامة بأن يخرج بأصحابه في الوجه الذي بعث فيهم ، فأقام اُسامة عليه وقال : لم أكن لأسأل عنك الركب ! ثمّ إنّ أبا بكر استرجع عمر وقد كان في أصحابه ، ولو كان ذلك بوحي لم يكن لاُسامة أن يقيم ويقول ما قال ، ولا كان لأبي بكر استرجاع عمر (١) ، انتهى .

فانظر إلى ما صدر من هذا الرجل عند اضطرابه تعصّباً من الهفوات التي تضحك منها الثكلى ؛ حيث ادّعى أوّلاً استعمال الرأي والحكم بغير أمر اللّه‏ على الرسول الذي شهد اللّه‏ عزوجل له في محكمات كتابه مراراً وكراراً بأنّه لا ينطق عن الهوى ، ولا يتكلّم إلاّ بما يوحى إليه (٢) ، ولا يتّبع ظنّاً ، ولا يقول بخلاف الهدى ، ونحو ذلك ممّا مرّ ويأتي من دلائل تنزيهه عن تلك الحال التي تبيّن عياناً كونها مطلقاً علامة أهل الباطل وأصل الوقوع في الضلال ، ثمّ أفتى بجواز مخالفته بمحض هذا الافتراء ، وهو خلاف صريح نصوص محكمات الكتاب وثابتات السنّة ، كما مرّ مجملاً ويأتي مفصّلاً مع كفاية ما مرّ من قوله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) (٣) ، وقوله : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٤) ، وقوله : ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (٥) ،

__________________

(١) حكاه عنه ابن طاووس في الطرائف ٢ : ١٥٨ .

(٢) كلمة «إليه» لم ترد في «ش» .

(٣) سورة الحشر ٥٩ : ٧ .

(٤) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٦ .

(٥) سورة النساء ٤ : ٥٩ .

١٥٠

وقوله : ( إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ) (١) وأمثالها .

ثمّ جعل تلك القضيّة (ممّا كان) (٢) بغير أمر اللّه‏ وجائز المخالفة رجماً بالغيب ، مع كونها هي الأمر بالجهاد الذي هو من أعظم أركان الدين وأجلّ أحكام ربّ العالمين ، لا سيّما في خصوص هذا الموضع الذي أكّده بما مرّ من التعجيل وغيره ، حتّى اللعن على من تخلّف عنه ، وهل يجوز على ذي عقل وبصيرة ـ بل على عامّة من العوام ـ أن يصدّق بصدور اللعن من مثل رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أكمل المخلوقين ورحمة اللّه‏ على العالمين بالنسبة إلى جمع من المؤمنين ، بل من أصحابه الكاملين بمحض أن صدر منهم ما خالف رأيه ممّا كان جائزاً لهم مخالفته (٣) فيه شرعاً ، بل راجحاً أيضاً ؛ لكون غرضهم ـ بزعم الموجّه ـ إقامة مراسم الدين ؟ !

ثمّ استند هذا الرجل في جّلّ تلك الدعاوي والفتاوى التي تبيّن حالها بما هو ـ مع سخافته ـ عين المصادرة من صدور المخالفة من اُسامة وأبي بكر وعمر ، فإنّ خلاصة مآل كلامه إلى التزام جواز مخالفة قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره مهما لم يسنده حاضراً إلى وحي خاصّ وإن أكّده بالتأكيدات الشديدة ، بل وإن احتمل احتمالاً ظاهراً قويّاً دخوله تحت الأوامر التي وردت وحياً صريحاً كالجهاد مثلاً ؛ استناداً إلى محض مخالفة بعض الصحابة له ، كما في القضيّة المذكورة ، مع وجود الآيات والروايات وغيرها الصريحة في عدم جواز المخالفة مطلقاً ، وقيام احتمال كون صدور الذي صدر جهالة ؛ لعدم عصمة الصحابي ولا كون فعله حجّة .

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ : ٣١ .

(٢) ما بين القوسين لم يرد في «ن» .

(٣) في «م» : «من مخالفتهم له» .

١٥١

هذا ، مع توهّم هذا الرجل بالتطبيق أيضاً ؛ لأنّ مدّعاه جواز المخالفة بعد الوفاة ، كما صرّح به في عبارته ، كما قالوا في سائر المجتهدين ، مع أنّ مخالفة أُسامة التي هي سنده كانت في حياته أيضاً ، إلاّ أن يلتزم كون أُسامة في الاجتهاد مثل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولهذا خالفه في حياته أيضاً ! فاعتبروا يا اُولي الأبصار ! !

وقد كتب بعض العلماء الأجلّة من الإماميّة رسالة منفردة في شرح هذا الحديث بما لا مزيد عليه ، وسنذكر بعض إفاداته في محلّه .

ثمّ من التمويهات أنّ هذا الرجل نسب المخالفة إلى اُسامة ، وليس كذلك ، بل كان أصلها من غيره ـ وإن تكلّم هو أيضاً ببعض ما يدلّ على إرادة الرخصة فلمّا لم يحصل عزم وخرج ، كما هو ظاهر حديثه (١) ـ حتّى عن بعض ما سيأتي في محلّه : أنّ المجتهد في هذه المخالفة هو المجتهد في الحكاية السابقة أيضاً .

ثمّ قد صدر مثل هذا التمويه في الحكاية السابقة أيضاً عن بعضٍ منهم ، كما مرّ (٢) في نقل صاحب المواقف قول الآمدي من التعبير الذي ذكره ، فإنّه ـ كما نقلنا عنه ـ يوهم ظاهراً أنّ أصل الاختلاف ذلك اليوم كان من جمع من الصحابة إلى أن قال عمر ما قال وليس كذلك ، بل ابتداء الردّ والكلام كان من عمر ، كما هو صريح حديثه ، فتأمّل تفهم .

ثمّ اعلم أيضاً أنّ الشهرستاني وكذا غيره ، بعد أن ذكروا بعض اختلافات اُخَر جزئيّة لا حاجة لنا إلى نقلها ، قالوا : وأمّا الخلاف بعد موت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فهو الذي وقع أوّلاً في الإمامة .

__________________

(١) في «م» : «خدمته» .

(٢) في ص ١٣٢ .

١٥٢

قال الشهرستاني : وأعظم خلاف بين الاُمّة خلاف الإمامة ؛ إذ ما سلّ سيـف في الإسلام على قاعـدة دينيّة مثـل ما سـلّ على الإمامة في كـلّ زمان .

ثمّ نقل مجملاً من حكاية السقيفة وخلافة أبي بكر ، وما جرى بين الصحابة في تلك القضيّة (١) ـ وسيأتي تفصيلها في مقالات المقصد الثاني لا سيّما الرابعة منها ـ وهي أيضاً بعينها من قبيل ما سبق من حكايتي الكتاب والجيش ، وغيرهما في المشابهة بأقيسة إبليس وتلامذته وشُبههم وتلبيساتهم ، لا سيّما من حيث كون البناء على أساس استحسان الرأي واقتضاء الهوى وقياس العقل ، حتّى في مقابل الأمر وفي استلزام الضلال والإضلال .

فإنّ خلاصتها ـ على ما هو مفاد صحاح أخبار القوم والجمع بينها وملاحظة بعضها مع بعض ـ أنّه لمّا توفّي رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله اشتغل عليّ عليه‌السلام مع بعض الخواصّ بغسله وتجهيزه بأمره ووصيّته ، ولزوم تعجيل التجهيز الذي هو من أعظم حقّ الميّت ، لا سيّما مثل رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبقي اُناس حيارى في همّ وغمّ عظيم بإصابة تلك المصيبة العظمى ، واغتنم الفرصة من لم يشتغل بذاك ولم يضطرب بذا ، فذهب أبو بكر وعمر مع أبي عبيدة بن الجرّاح فوراً إلى جماعة من الأنصار بسقيفة بني ساعدة ، وشرعوا في إظهار لزوم تعيين الأمير والخليفة ، أي : رئيس للناس يكون في مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإماماً لهم ، بحيث زعم الناس منهم أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعيّن أحداً لذلك ، بل ترك الاُمّة ورأيها ليختاروا من أرادوا ، وأنّ هذا أمر فوريّ لا بُدّ من تعجيل لتشخيصه (٢) ، فطمع فيها كلّ طامع ، ومدّ عينه إليها كلّ رطب ويابس ، وكان

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٤ .

(٢) في «ش» : «تشخيصه» .

١٥٣

ممّن طمع فيها من الأنصار سعد بن عبادة رئيس الخزرج ، فدار الكلام بل المخاصمة بينهم ، وشرع كلٌّ يجرّ إلى جانبه حتّى انجرّ إلى العمل بما رآه عمر وأبو عبيدة من استخلاف أبي بكر ، فبايعه عامّة من حضر هناك بإعانة بعض من حسد سعداً من بني عمّه وأعيان الأوس .

وقد كانت تلك البيعة حينئذٍ بدون حضور كثير من الصحابة ، لا سيّما المهاجرين ، بل ولا واحد من بني هاشم ، بل ولا باطّلاع (١) منهم ؛ حيث لم يتوجّه بل لم يتفطّن أحد من القوم لعجلتهم وللالتهاء (في القيل والقال) (٢) وغير ذلك إلى تكليف تأخير ذلك حتّى يفرغوا من تجهيز نبيّهم ، ويحضر سائر أعيان الصحابة وبنو هاشم وغيرهم جميعاً ، فقام حينئذٍ أبو بكر وعمر ومن معهما من اُولئك القوم بعد البيعة ، فدخلوا المسجد وهم (٣) في أخذ البيعة من كلّ من يلاقونه طوعاً أو كرهاً .

وهكذا كان عملهم إلى أن مضت أيّام ودبّروا تدبيرات حتّى استقرّ الأمر عليهم بإطاعة عامّة الناس ، من غير مشاورة اختيارية مع بقيّة أهل الشور من الصحابة والعترة ، بل بقوّة جبريّة مبنيّة على بيعة ذلك الحين ؛ ولهذا قال عمر : كانت بيعة أبي بكر فلتة (٤) ، على ما سيأتي تفصيل جميع ذلك في محلّه .

__________________

(١) في «م» و«ن»: «اطّلاع» .

(٢) ما بين القوسين في «ن» و«س» «ش» : «بالقال والمقال» .

(٣) كذا في النسخ ، والظاهر أنّ : «وهمّوا» أنسب ، فتأمّل .

(٤) المصنّف لعبدالرزّاق ٥ : ٤٤١ / ٩٧٥٨ ، المعيار والموازنة : ٣٨ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٨ ، الفائق في غريب الحديث ٣ : ١٣٩ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٤ ، الاكتفاء ٢ : ٤٣٨ ، صحيح ابن حبّان ٢ : ١٥٨ / ٤١٤ .

١٥٤

ثمّ لا ريب كما لا كلام في أنّ أحداً منهم لا ينسب شيئاً ممّا صدر منهم قولاً أو فعلاً ذلك اليوم إلى الورود من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، سوى ما أوردوه في دفع الأنصار عنها من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الأئمّة من قريش» (١) ، وهذا مع ملاحظة جزئيّات مقالاتهم يومئذٍ ينادي بأن لم يكن مناط ما استقرّ عليه أمرهم ، بل لم يكن دائراً بينهم ذلك اليوم ما سوى مرجّحات الرأي واستحسانات العقل ، وما فيه هوى غالبهم .

ولهذا لما اتّفق غالب من حضر ذلك الحين على خلافة أبي بكر ، واستحسنوا ما زعموه فيه من شيبته وقِدَم صحبته أو غير ذلك أيضاً ممّا سنذكره مع قرشيّته بايعوه وإن كان دخول جمع منهم لا سيّما من الأنصار في ذلك خوفاً من وصول الخلافة إلى من كانوا يحسدونه (٢) ، كما هو اللائح من فلتات ألسنة بعضهم وخبطات أعمال غير واحد منهم ، كما سيظهر في محلّه .

ثمّ إذا لوحظ هذا (٣) مع ما ورد ثابتاً مسلّماً في عليّ عليه‌السلام بنقل المؤالف والمخالف عن اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله والصحابة وغيرهم حتّى أعاديه عقلاً ونقلاً من المناقب العظيمة التي لا تخفى كثرةً المنادية بفضله على من سواه من الاُمّة ، حسباً ونسباً ، وباختصاصه بمزايا جليلة خلى عنها غيره ، كما سنذكر جملة (٤) منها مفصّلّة في فصول المقالة الأخيرة من المقصد الأوّل ، حيث لا

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣٤٣ / ٥٤١ ، مسند أحمد ٣ : ٢٩ / ١٢٤٨٩ ، المستدرك للحاكم ٤ : ٧٦ ، السنن الكبرى للبيهقي ٣ : ١٢١ .

(٢) الوارد في النسخ المعتمدة : «كان يحسدوه» والظاهر أنّ الأنسب ما أثبتناه ، كما هو في هامش «ش» فتأمّل.

(٣) يأتي جوابه في ص ١٦١ من قوله : «تبيّن . . .» .

(٤) في «س» و «ن» و«ش» : «جمّة» .

١٥٥

يمكن إحصاؤها جميعاً ، لا سيّما ما يدلّ على كمال غزارة علمه بكتاب اللّه‏ وغيره بنحو علوم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واطّلاعه على جميع الأحكام من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى صار من البيّنات المسلّمة أنّ غيره احتاج إلى الرجوع إليه مراراً وكراراً ، حتّى أبي بكر وعمر ، ولم يحتج هو إلى أحد منهم سوى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال عمر : تسعة أعشار العلم في عليّ عليه‌السلام ، وهو شريك الناس في العشر العاشر (١) .

وقال : لولا عليّ لهلكنا (٢) .

ومع هذا قد سُئل عن غوامض أنواع العلوم والحِكَم كراراً فأجاب بما هو الصواب دائماً ، حتّى أنّه أخبر في مواضع بما يكون ، ونادى على المنابر باطّلاعه على سائر كتب الأنبياء وعلى كلّ ما سُئل (٣) عنه ، كما كان يقول : «سلوني قبل أن تفقدوني» (٤) ، الخبر .

وبالجملة : كان حاله في هذا الباب كالحالة المختصّة بالأنبياء والأوصياء .

وكذا ما دلّ على تمام يقينه في دينه بحيث قال جهاراً : «لو كُشِفَ

__________________

(١) لم يرد هذا القول في المصادر عن عمر ، بل ورد عن ابن عبّاس بتفاوت يسير .

انظر : كشف الغمّة ١ : ١١٧ ، وذخائر العقبى : ٧٨ ، وكشف اليقين : ٥٧ ، والاستيعاب ٣ : ١١٠٤ .

(٢) نهج الحقّ : ٢٤٠ ، قواعد المرام : ١٨٤ ، ذخائر العقبى : ٨٢ ، الفضائل لأبي الفضل سديد الدين : ١١١ ، تمهيد الأوائل للباقلاني : ٤٧٦ ، الاستيعاب ٣ : ١١٠٣ ، شرح المواقف ٨ : ٢٧٠ .

وفي المصادر : « لولا عليّ لهلك عمر» .

(٣) كذا في النسخ ، والظاهر أنّ الأنسب «يُسأل» .

(٤) نهج البلاغة : ٢٨٠ ، الخطبة ١٨٩ ، بصائر الدرجات : ٢٨٦ ، الأمالي للصدوق : ١٩٦ / ٢٠٧ ، الإرشاد للمفيد ١ : ٣٥ و٣٣٠ ، نهج الحقّ ٢٤٠ و٢٤١ .

١٥٦

الغطاءُ مَا ازدَدْتُ يَقيناً» (١) ، ولم يقدر غيره على هذا ، حتّى أنّ عمر قال صريحاً : شككت يوم الحديبية (٢) .

وما يدلّ على شدّة تورّعه عن المعاصي ، وطهارته عن الأرجاس والأدناس ، وامتياز صلاحه ، وسداده عن سائر الناس ؛ بحيث خصّه اللّه‏ تعالى بمقارنة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في آية التطهير (٣) ، وبمشاركته معه في المباهلة ، وبتوفيق مماثلته له في عدم الشرك باللّه‏ أبداً ، وبما أنزل له خاصّة في سورة ( هَلْ أَتَىٰ ) (٤) من مدح إيثار الطعام الذي لم يصدر من غيره خالصاً للّه‏ عزوجل ، ومن التصريح بأنّه محفوظ من شرّ يوم القيامة قطعاً ، ووجبت له الجنّة جزماً ، وأنّه من ملوكها ، مع عدم ورود مثل ذلك في غيره أصلاً ، حتّى استدلّ بهذا جمع على اختصاصه بالعصمة التي في الأنبياء والأوصياء ، كما سيأتي في بيان ما هو الحقّ من كونه معصوماً من جميع أنواع الخطأ والزلل ، وكفى في هذا ثبوت قول رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه : «عليّ مع الحقّ ، والحقّ مع عليّ ، يدور معه أينما دار» (٥) وسائر ما يفيد هذا المفاد ممّا سيأتي في محلّه .

وكذا اتّفاق الألسن على ارتفاع ساحة جلال حاله علماً وعملاً عن

__________________

(١) غرر الحكم للآمدي ٢ : ١٤٢ ، شرح المائة كلمة للبحراني : ٥٢ .

(٢) المصنّف لعبد الرزاق ٥ : ٣٣٩ / ٩٧٢٠ ، المعجم الكبير ٢٠ : ١٤ / ١٣ ، تاريخ الإسلام (المغازي) : ٣٧١.

(٣) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٣ .

(٤) سورة الإنسان ٧٦ : ٨ ـ ١٠ .

(٥) الفصول المختارة : ٩٧ و١٣٥ و٢١١ ، (ضمن مصنّفات الشيخ المفيد) ح٢ ، المعيار والموازنة : ١١٩ ، الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ : ٩٨ ، تاريخ بغداد ١٤ : ٣٢١ / ٧٦٤٣ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ : ٤٤٨ ، و٤٤٩ ، ترجمة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٢ : ٢٩٧ ، و١٨ : ٧٢ .

١٥٧

وصول ما فيه أدنى شائبة من الخلل والزلل ، بحيث لم يصحّ فيه زلل في كلمة ، ولا خطأ في درهم ، ولا مسامحة في صغير أو كبير ، حتّى أنّه لم يأت أحد فيه بشيء يريد أن ينقصه به إلاّ وقد أظهر اللّه‏ كذبه بشهادة كلّ أحد على فريته ، أو بظهور وجود خلافه فيه ، أو بتحقّق مثله في رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما سيأتي بيان كلّ شيء في محلّه .

إذ لا شكّ في أنّ أقصى ما اعتذر به الذي دفع الخلافة عنه بعد الاعتراف باستئهاله لها ، كما صرّح به عمر ، حيث قال في خلافته : لو ولي هذا الأصلع لمشى بهم على المحجّة البيضاء [ إلاّ (١) ] أنّ فيه دعابة (٢) ـ يعني : المزاح ـ وحبّ بني عبد المطّلب ، ولا ريب في وجود كليهما في رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليسا بنقصٍ إن لم يخالف الشرع فيهما .

وكذا ما اعتذروا به من حداثة سنّه ، وبغض طوائف العرب له والمنافقين ؛ لدماء (٣) أراقها منهم في سبيل اللّه‏ ؛ إذ معلوم أنّه لا نقص في الأوّل (٤) بعد [وجود (٥) ] القابليّة ، كما (٦) كان فيمن قبله من جمع من الأوصياء ، ومع هذا قد أمّره رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله كراراً ومراراً على شيوخ الصحابة الذين منهم أبو بكر ، ولم يؤمّر عليه أحداً أبداً ، حتّى أنّ هذا من خصائصه المنادية بأولوّيته للخلافة ، وكفى في هذا ما سيأتي من حكاية

__________________

(١) أثبتناها من المصدر .

(٢) انظر : الصراط المستقيم ٣ : ١١٨ ، تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٨ .

(٣) في «س» و«ن» : «لدموم» ، وفي «م» : «لدمومهم التي» وما أثبتناه من «ش» .

(٤) في «ش» زيادة : «أيضاً» .

(٥) اضفناها لضرورة السياق .

(٦) في «م» : «كمن» .

١٥٨

سورة براءة ، وما تقدّم من تأمير اُسامة مع غاية حداثة سنّه على أبي بكر وعمر وأمثالهما ، حتّى أنّهما حين أخذا الإمارة كانا مأمورين بأمر اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله تحت يد اُسامة .

وكذا لا نقص في الثاني ؛ إذ (ظاهر أنّه) (١) من الكمال الذي كان شريكه الأعظم رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واندفع ضرره عنه بإعانة اللّه‏ وإطاعة المسلمين له ، وكان يندفع هنا أيضاً لو أطاعوه ، ثمّ لا يخفى ما في هذا العذر من دخول نقص على أبي بكر ، فافهم .

وكذلك ما اعترض به الخوارج (٢) عليه من رضاه بالتحكيم ، فهو أيضاً ممّا يطابق فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في عمرة الحديبية حذو النعل بالنعل ، كما سيأتي بيانه ومرّ أيضاً مجمل بيانٍ له .

وأمّا سائر ما شهّره (٣) به بنو أُمية في زمنهم ، وما ادّعاه معاوية وغيره من مقاتليه فلا شكّ في كون الجميع فرية باتّفاق المسلمين ، حتّى حكموا صريحاً بخطئهم جميعاً . وقد زالت أكثرها لذلك مع كمال شهرتها بين أعدائه ، حتّى إن وجد شيء في بعض الكتب من ذلك القبيل فهو من الغفلة عن حقيقة الحال .

__________________

(١) بدل ما بين القوسين في «م» هكذا : «ظاهراً كان» .

(٢) الخوارج : هم الفرقة المارقة عن الدين ، وقد أخبر بذلك رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والخارجة على أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام تحت شعارٍ يستبطن النفاق : لا حكم إلاّ للّه‏ ، وكان أشدّهم مروقاً وخروجاً الأشعث بن قيس ، ومسعود بن فدكي ، وزيد بن حصين وغيرهم ، ثمّ انقسموا إلى عشرين فرقة ، أكبرها سبع فِرَق : المحكّمة ، والبيهسية ، والأزارقة ، والنجدية ، والأصفرية ، والأباضية ، والعجاردة .

انظر : وقعة صفّين : ٥١٧ ، المقالات والفِرَق : ١٣٠ ، الفرق بين الفِرَق : ٧٢ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٤ ، وصدق الخبر في خوارج القرن الثاني عشر : ١٥ .

(٣) في «م» : «شهرته» .

١٥٩

وكذلك إذا لوحظ أيضاً ـ مع ما ذكرنا ـ استجماع جميع تلك الصفات فيه ، مع ما فيه أيضاً من الاختصاص (١) بقرابته القريبة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى أنّه من جهةٍ أقرب من العبّاس أيضاً ، وبتزويج فاطمة عليهاالسلام سيّدة نساء العالمين ، وبانحصار نسل رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلبه ، لا سيّما الأئمّة الطاهرين الذين أوّلهم سيّدا شباب أهل الجنّة وآخرهم مهدي هذه الاُمّة ، وبتشرّف تربية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله له عليه‌السلام من حين ولادته ، وملازمة كلٍّ للآخَر إلى حين الموت ، وبالمحبّة الخاصّة التي كانت بينه وبين اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن لغيره ، كما ينادي به ما سيأتي ثابتاً من حديث الطير (٢) ، ويوم خيبر (٣) وغيرهما ، حتّى أنّ اللّه‏ تعالى لأجل هذا ـ مع وفائه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من كلّ جهة ، لا سيّما بيعة الرضوان التي سيظهر أنّه لم يفِ بها أحد مثله ؛ حيث لم يفرّ من حرب أبداً ـ خصّه من بين جميع الاُمّة باُخوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل جعله بمنزلة النفس منه ، بل خلقه مع رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من نور واحد وطينة واحدة ، حتّى صار كشجرة واحدةٍ أصلها ثابت وفرعها في السماء ، فشرّف أحدهما بالنبوّة والآخَر بالوصاية والوزارة ، كما سيأتي اشتراكهما وإثباتهما معاً فيما جعله لنفسه أوّلاً من ولاية المؤمنين ، كما تنادي به آية تصدّق الخاتم (٤) ، وحكاية يوم الغدير .

__________________

(١) في «ش» و«س» زيادة : «له» .

(٢) انظر : المعجم الكبير ١٠ : ٣٤٣ / ١٠٦٦٧ ، المستدرك للحاكم ٣ : ١٣٠ ، تاريخ بغداد ١١ : ٣٧٦ / ٦٢٣٢ ، المناقب لابن المغازلي : ١٥٤ ـ ١٧٥ / ١٨٩ ـ ٢١٢ ، ترجمة الإمام عليّ بن أبي طالب من تاريخ دمشق ٢ : ١٠٦ / ٦١٠ .

(٣) انظر : المناقب لابن المغازلي : ١٧٦ ـ ١٨٩ / ٢١٣ ـ ٢٢٤ .

(٤) ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، سورة المائدة ٥ : ٥٥ .

١٦٠