ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

الإطالة بلا طائل ، بل نكتفي بذكر خلاصة ممّا لا بدّ من ذكره ، فهاهنا ثلاثة مطالب :

المطلب الأوّل :

في بيان الفِرَق التي معدودة من القسم الأوّل ، وهم على أصناف شتّى : كالمفوّضة ، والجبريّة ، والمشبّهة ، والمرجئة ، والوعيديّة ، والخوارج وغيرها ؛ بحيث يشتمل كلّ صنف أيضاً على فِرَق عديدة يرتقي ما اشتهر منها وتميّز عن غيره ـ ولو بحسب بعض اُصول العقائد ـ إلى ستّين فرقة ، وها نحن نبيّن ما يحتاج إلى البيان من فِرَق كلّ صنف في ضمن أربعة مباحث :

المبحث الأول : في بيان الفِرَق المعدودة من صنف المفوّضة الملقّبة عند الأكثر بالقدريّة؛ لاجتماع عامّتهم على أنّ اللّه‏ تعالى فوّض جميع اُمور العباد إليهم ومكّنهم عليها ، حتّى صاروا مستقلّين في أفعالهم ؛ بحيث لا حاجة لهم في شيء منها إليه ، وليس له تعالى فيها صنع ، لا بالتوفيق والعصمة والخذلان وأمثالها ، ولا بالمشيئة والإرادة والقضاء والقدر ونحوها .

قالوا : ولأجل هذا صار العباد يستحقّون على ما يفعلون الثواب والعقاب في الآخرة على وفق وعد اللّه‏ ووعيده عدلاً منه سبحانه ؛ ولهذا يقال لهم : العدليّة أيضاً ، لكن كما قال الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام : «إنّ هؤلاء الجماعة أرادوا أن يصفوا اللّه‏ بعدله فأخرجوه من سلطانه» (١) .

وقد قال الرضا عليه‌السلام : «إنّ هؤلاء القدريّة لم يقولوا بقول اللّه‏ ولا بقول

__________________

(١) التوحيد : ٣٨٢ / ٢٩ .

٢٦١

أهل الجنّة ، ولا بقول أهل النار ، ولا بقول إبليس ؛ فإنّ اللّه‏ عزوجل قال : ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ) (١) ، وإنّ أهل الجنّة قالوا : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) (٢) ، وقال أهل النار : ( رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ ) (٣) ، وقال إبليس : ( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) (٤) (٥) ، الخبر .

وقد قيل : إنّ مآل كلام هؤلاء أن يكون ما شاء إبليس ولا يكون ما شاء اللّه‏ ، كما أخبر اللّه‏ مثله عن اليهود بقوله تعالى : ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) (٦) ، الآية .

ثمّ إنّ هؤلاء قد يسمّون بأهل التوحيد وبالمعتزلة ، بل إنّهم اشتهروا بالأخير :

أمّا الأوّل : فلأنّهم ينفون وجود قديمٍ غير اللّه‏ عزوجل ، وينزّهونه عمّا ادّعاه الأشاعرة وأتباعهم من التشبيه والرؤية بالأبصار وأمثال ذلك ، ومن الصفات القديمة الزائدة على الذات المقدّسة ؛ ولهذا اتّفقوا على أنّ كلامه حادث ليس بقديم .

وأمّا الأخيـر : فلأنّ هـذا المذهب ـ بـل أصـل الاختـلاف والكـلام في الاُصـول ، كما صرّح بـه الشهرستاني وغيره ـ حدث في زمان عبد الملك

__________________

(١) سورة الإنسان ٧٦ : ٣٠ .

(٢) سورة الأعراف ٧ : ٤٣ .

(٣) سورة المؤمنون ٢٣ : ١٠٦ .

(٤) سورة الحجر ١٥ : ٣٩ .

(٥) المحاسن ١ : ٣٨٠ / ٨٤٠ ، الكافي ١ : ١٢٠ / ٤ (باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين) ، مختصر بصائر الدرجات : ٣٧٩ / ٤٣٨ ، بحار الأنوار ٥ : ١٢٢ / ٦٩ .

(٦) سورة المائدة ٥ : ٦٤ .

٢٦٢

ابن مروان (١) بدعة من معبد الجهني (٢) ، وغيلان الدمشقي (٣) وغيرهما (٤) ، وكان منهم واصل بن عطاء الغزالي مولى بني مخزوم ، وقيل : مولى بني ضبّة (٥) ، وكان أوّلاً تلميذاً لعبد اللّه‏ بن محمّد بن الحنفيّة ، المشتهر بأبي هاشم (٦) ، ثمّ صار تلميذاً للحسن البصري (٧) ، ثمّ اعتزل عنه وعن أصحابه ،

__________________

(١) هو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص الاُموي ، يكنّى أبا الوليد وأبا «ذيّان» لبَخره ، جدّه الحكم طريد رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويلقّب : رشح الحجر ؛ لبخله ، ولد سنة ٢٦ هـ ، ومات سنة ٨٦ هـ .

انظر : طبقات خليفة : ٤٢٠ / ٢٠٦١ ، التاريخ الكبير ٧ : ٣٦٨ / ١٥٧٩، المعارف : ٣٥٥ ، مروج الذهب ٣ : ٩١ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٢٤٦ / ٨٩، تقريب التهذيب ١ : ٥٢٣ / ١٣٤٧ .

(٢) هو معبد بن عبد اللّه‏ بن عويمير ـ أو عويم، أو عليم ـ الجُهني، هو أوّل من تكلّم بالقدر في البصرة ، سمع الحديث من ابن عبّاس ، وابن عمر ، وعمران بن حصين وغيرهم . وحدّث عنه قتادة ، ومالك بن دينار ، وزيد بن رفيع وغيرهم ، مات حدود سنة ٨٠ هـ .

انظر : التاريخ الكبير ٧ : ٣٩٩ / ١٧٤٥ ، المعارف : ٦٢٥ ، الفهرست لابن النديم : ٢٠١ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ١٨٥ / ٧٦ ، ميزان الاعتدال ٤ : ١٤١ / ٨٦٤٦ .

(٣) هو غيلان بن مسلم الدمشقي ، يكنّى أبا مروان ، ثاني من تكلّم بالقدر ، ودعا إليه بعد معبد الجهني ، وتنسب إليه فرقة «الغيلانيّة» من القدريّة ، وله رسائل ، قيل : إنّها في نحو ألفي ورقة ، مات بعد سنة ١٠٥هـ .

انظر : التاريخ الكبير ٧ : ١٠٤ / ٤٥٩ ، المعارف : ٤٨٤ ، الثقات ٩ : ٣ ، الفهرست لابن النديم : ١٣١ و١٣٩ ، ميزان الاعتدال ٣ : ٣٣٨ / ٦٦٧٨ .

(٤) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٤٦ .

(٥) أمالي المرتضى ١ : ١٦٣ ، تاريخ الإسلام ( حوادث ١٢١ ـ ١٤٠ ) : ٥٥٨ .

(٦) هو عبداللّه‏ بن محمّد بن الحنفيّة ، يكنّى أبا هاشم ، أحد زعماء العلويّين في العصر المرواني ، وروى عنه الزهري ، وعمرو بن دينار ، وسالم بن أبي الجعد ، وكان سليمان بن عبد الملك الاُموي قد دسّ له السّم ، مات سنة ٩٨ هـ .

انظر : عمدة الطالب : ٣٥٣ ، وتنقيح المقال ٢ : ٢١٢ / ٧٠٤١ ، وقاموس الرجال ٦ : ٥٨١ / ٤٤٩٨ ، وطبقات خليفة : ٤١٧ / ٢٠٤٦ ، والمعارف : ٢١٦ ، والفهرست لابن النديم : ٢٠٢ ، وسير أعلام النبلاء ٤ : ١٢٩ / ٣٧ .

(٧) هو الحسن بن يسار البصري ، وأبوه مولى زيد بن ثابت ، يكنّى أبا سعيد ، أخو

٢٦٣

واختار في بعض المسائل رأياً غير رأيه ، فسُمّي هو وأصحابه : معتزلة ثمّ غلب على سائر المفوّضة التي ذكرنا اعتقادها .

ويقال لأصحاب واصل المذكور : «الواصلية» أيضاً انتساباً إلى كبيرهم ، وهم عمدة القائلين بما مرّ من التفويض والقدر .

قال الشهرستاني : ومن مذهبهم ـ أي : الواصلية ـ أنّ صاحب الكبيرة لا مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً ، بل هو في منزلة بين المنزلتين ، لكنّه إذا خرج من الدنيا ولو على كبيرة بلا توبة فهو من أهل النار خالداً فيها إلاّ أنّه يخفّف عنه العذاب وتكون دركته فوق دركة الكفّار.

قال : ومن مذهبهم أيضاً أنّ أحد الفريقين من أصحاب الجمل مخطئ لا بعينه ، يعني أنّ أحدهما على الخطأ في نفس الأمر ، لكن نحن لا نعلم أنّه أيّهما ؟ ! ولهذا قالوا : لو شهد عندنا عليّ عليه‌السلام وطلحة والزبير وعائشة على باقة بقلٍ لم نحكم بشهادتهم ، وكذا قالوا في عثمان وقاتليه وخاذليه : إنّ أحد الفريقين فاسق لا محالة ، كما أنّ أحد المتلاعنين فاسق لا محالة لكن لا بعينه .

قال : ويجوّزون أن يكون عليّ عليه‌السلام وعثمان على الخطأ .

قال : وقد وافق هؤلاء في المذهب عمرو بن عبيد ، وكان تلميذ واصل ، لكن زاد عليهم في تفسيق أحد الفريقين لا بعينه من أهل الجمل وصفّين (١) .

__________________

محمّد بن سيرين من التابعين ، نشأ بوادي القرى ، وأدرك كثيراً من الصحابة ، وله كتب منها : التفسير ، وكتاب في فضائل مكّة ، مات سنة ١١٠هـ .

انظر : المعارف : ٤٤٠ ، الثقات ٤ : ١٢٢ ، الفهرست لابن النديم : ٢٠٢ ، مروج الذهب ٣ : ٢٠٣ ، وفيات الاعيان ٢ : ٦٩ / ١٥٦ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٥٦٣ / ٢٢٣ .

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٤٨ ـ ٤٩ بتفاوت .

٢٦٤

أقول : كفى في بطلان هؤلاء وضلالتهم ما هو الثابت بالآيات المحكمة والأخبار المتواترة ، بحيث صار من ضروريّات دين الإسلام من حسن حال عليّ عليه‌السلام علماً وعملاً ، وأنّه مع الحقّ والحقّ معه يدور أينما دار (١) ، فافهم .

قال : واعلم أيضاً إنّ هؤلاء الشيوخ ممّن صرّح بجرحهم جماعة منهم ، فقالوا في عمرو بن عبيد : إنّه مبتدع قدريٌ كاذب ، كان أوّلاً شرطيّاً للحجّاج (٢) ، حتّى قال بعضهم : إنّه كان من الدهرية (٣) .

وذكر الذهبي أنّ واصلاً كان يحرّف الكلمات من القرآن ؛ لأنّه لم يكن قادراً على إفصاح الراء بل كان يبدله بالغين ، حتّى قيل له يوماً : اقرأ أوّل سورة البراءة؟ فقال : عهد من اللّه‏ ونبيّه إلى الذين عاهدتم من الفاسقين ، فسيحوا في البسيطة هلالين وهلالين . ثمّ قال الذهبي : هذا جرأة على الكتاب العزيز (٤) .

وكذا ذكروا أشياء في معبد ، وغيلان ، والحسن وغيرهم من أصحاب المذاهب الآتية ممّا لا نطيل الكلام بذكره ، حتّى نقلوا أنّ ابن سيرين (٥) ما

__________________

(١) تقدّم تخريجه في ص ١٥٧ ، هامش (٥) .

(٢) انظر : ميزان الاعتدال ٣ : ٢٧٣ ، وفيه : كان أبوه من شُرَط الحجّاج .

(٣) ميزان الاعتدال ٣ : ٢٨٠ .

(٤) تاريخ الإسلام (حوادث ١٢١ ـ ١٤٠) : ٥٥٨ ـ ٥٥٩ .

(٥) هو محمّد بن سيرين البصري ، يكنّى أبا بكر ، كان بزّازاً ، وقد اشتهر بتعبير الرؤيا ، وله كتاب في تعبير الرؤيا ، ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر ، مات سنة ١١٠هـ .

انظر : قاموس الرجال ٩ : ٣٢٢ / ٦٨٢٠ ، المعارف : ٤٤٢ / ٢٢٦ ، الفهرست لابن النديم : ٢٣٥ و٣٧٨ ، وفيات الأعيان ٤ : ١٨١ / ٥٦٥ ، سير أعلام النبلاء ٤ : ٦٠٦ / ٢٤٦ .

٢٦٥

صلّى على جنازة الحسن (١) .

هذا خلاصة ما ذكر بعضهم في بعضٍ من الذمّ ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتب التواريخ .

ثمّ إنّ من المفوّضة : الهذليّة ، وهم أصحاب أبي الهذيل العلاّف (٢) ، وهو من شيوخ المعتزلة وكان تلميذ تلميذ واصل ، ثمّ انفرد عنهم بمسائل أخذ بعضها من الفلاسفة .

ومن أقرب أقواله إلى الحقّ قوله بأنّ الأرض لا تخلو عن جماعة ، هم أولياء اللّه‏ معصومون ، لا يكذبون ولا يرتكبون الكبائر ، فيهم الحجّة (٣) .

ولا حاجة إلى ذكر سائر أقواله .

ثمّ إنّ منهم : النظاميّة ، أصحاب النظام إبراهيم بن سيّار (٤) ، وهو وإن قيل : إنّه قائل بإمامة الأئمّة الاثني عشر ، لكن في الواقع ليس من أتباعهم ،

__________________

(١) وفيات الأعيان ٢ : ٧٣ ، ٤ : ١٨٢ نحوه .

(٢) هو محمّد بن الهذيل بن عبد اللّه‏ بن مكحول العبدي العلاّف ، يكنّى أبا الهذيل ، كان شيخ البصريّين في الاعتزال ومن أكبر علمائهم ، وصاحب مقالات في مذهبهم ومجالس ومناظرات ، وله كتب عديدة منها : ميلاس ، وهو اسم رجل مجوسي أسلم بعدئذٍ ، والإمامة على هشام ، وطاعة لا يراد اللّه‏ بها ، اختلف في ولادته ووفاته على عدّة أقوال منها : أنّه ولد سنة ١٣١ هـ ، ومات سنة ٢٣٥ هـ .

انظر : روضات الجنّات ٧ : ٢٧٣ / ٦٣٩ ، والفهرست لابن النديم : ٢٠٣ ، وتاريخ بغداد ٣ : ٣٦٤ / ١٤٨٢ ، ووفيات الأعيان ٤ : ٢٦٥ / ٦٠٦ ، وسير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٤٢ / ١٧٣ .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٥٣ .

(٤) هو إبراهيم بن سيّار بن هاني النظام ، يكنّى أبا إسحاق ، من شيوخ المعتزلة ، وتكلّم في القدر ، وانفرد بمسائل ، وله كتب كثيرة منها : إثبات الرسل ، والوعيد ، والطفرة وغيرها ، مات سنة ٢٢٠هـ .

انظر : الفهرست لابن النديم : ٢٠٥ ، تاريخ بغداد ٦ : ٩٧ / ٣١٣١ ، الحور العين : ١٥٢ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٤١ / ١٧٢ .

٢٦٦

لأنّه (١) ابتُلي بكتب الفلاسفة ، وخلط بين كلامهم وكلام المعتزلة ، ولم يجعل مناط دينه كلام أئمّته ؛ ولهذا صار في معزل عنهم ، حتّى قال بأنّ اللّه‏ تعالى ليس بقادر على فعل القبيح ، لا أنّه قادر ولم يفعل ولا يفعل .

وقال : إنّه لا يقدر على أن يزيد في عذاب أهل النار ، ولا أن ينقص منه شيئاً ، ولا على أن ينقص شيئاً من نعيم الجنّة ، وهكذا نفى قدرته على فعل ما ليس بصلاح (٢) .

وبالجملة : يلزمه (٣) أن يكون البارئ تعالى عنده مطبوعاً مجبوراً على ما يفعله .

وله أقوال سخيفة أخذها من الفلاسفة ، وأبدع هو بعضاً منها ، وأقوال صحيحة أخذها من الإماميّة ، ولا حاجة إلى الإطالة بذكرها .

ثمّ منهم : الخابطيّة وهم أصحاب أحمد بن خابط (٤) (٥) .

والحدثية : وهم أصحاب الفضل بن الحدثي (٦) .

وهما من أصحاب النظام ، لكن اختار كلٌّ منهما مذاهب هي الكفر الصريح .

قال الشهرستاني نقلاً عن ابن الراوندي (٧) : إنّهما كانا يزعمان أنّ

__________________

(١) في «م» : «فإنّه» .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٥٤ .

(٣) في «م» : «يلزم» .

(٤) في «ش» : «حائط» .

(٥) انظر : الفرق بين الفِرَق : ٢٢٨ ، و٢٧٣ ، و٢٧٧ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٦٠ ، الأنساب ٢ : ٣٠٢ .

(٦) انظر : الفرق بين الفِرَق : ٢٧٧ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٦٠ .

(٧) هو أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي البغدادي، يكنّى أبا الحسين، وله

٢٦٧

للخلق خالقين : أحدهما قديم وهو البارئ تعالى ، والآخَر محدَث وهو المسيح ، وقالا في المسيح بعض ما قاله النصارى فيه (١) .

وقال : إنّهما كانا يقولان بالتناسخ (٢) ، وذكر لهما عقائد سخيفة (٣) لا حاجة إلى ذكرها .

وقد عدّ من هذه الجماعة ، الإسكافيّة : أصحاب أبي جعفر الإسكافي (٤) .

والجعفريّة: أصحاب جعفر بن مبشّر (٥) ، وأصحاب جعفر بن حرب (٦) ؛

__________________

من الكتب المصنّفة نحو من مائة وأربعة عشر كتاباً منها: التاج، والزمرّد، وفضيحة المعتزلة وغيرها ، واختلف في وفاته على عدّة أقوال منها : أنّه مات سنة ٢٩٨ هـ .

انظر : روضات الجنّات ١ : ١٩٣ / ٥٠ ، أعيان الشيعة ٣ : ٢٠٤ ، الكنى والألقاب ١ : ٢٧٧ ، الفهرست لابن النديم : ٢١٦ ، وفيات الأعيان ١ : ٩٤ /٣٥ ، لسان الميزان ١ : ٤٩١ / ٩٩٩ .

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٥٩ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٦١ .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٦٠ ـ ٦٥ .

(٤) هو محمّد بن عبد اللّه‏ الإسكافي السمرقندي ، يكنّى أبا جعفر ، أحد متكلّمي معتزلة بغداد ، له كتب منها : اللطيف ، البدل ، المقامات وغيرها ، مات سنة ٢٤٠هـ .

انظر : الفهرست لابن النديم : ٢١٣ ، الأنساب ١ : ١٥٠ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٥٠ / ١٨٢ ، طبقات المعتزلة : ٧٨ .

(٥) جعفر بن مبشّر بن أحمد بن محمّد ، يكنّى أبا محمّد الثقفي البغدادي ، المتكلّم المعتزلي ، وهو أخو حبيش بن مبشّر الفقيه ، وله كتب منها : الأشربة ، والسنن والأحكام ، وتنزيه الأنبياء وغيرها ، مات سنة ٢٣٤ هـ .

انظر : أعيان الشيعة ٤ : ١٣٨ ، قاموس الرجال ٢ : ٦٥٦ / ١٤٩٤ ، الفهرست لابن النديم : ٢٠٨ ، تاريخ بغداد ٧ : ١٦٢ / ٣٦٠٨ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٤٩ / ١٨٠ ، طبقات المعتزلة : ٧٦ .

(٦) هو جعفر بن حرب الهمداني المعتزلي ، يكنّى أبا الفضل ، من أهل بغداد ، أخذ الكلام عن أبي الهذيل العلاّف بالبصرة ، وله كتب منها : متشابه القرآن ، الاستقصاء ، الاُصول وغير ذلك ، مات سنة ٢٣٦ هـ .

انظر : قاموس الرجال ٢ : ٦١٥ / ١٤٣١ ، الفهرست لابن النديم : ٢١٣ ، تاريخ بغداد ٧ : ١٦٢ / ٣٦٠٩ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٤٩ / ١٨١ ، طبقات المعتزلة : ٧٣ .

٢٦٨

لقرب مذهب بعضهم من بعض ، وقد قدح في هؤلاء قوم بحسب رواية الحديث أيضاً .

ثمّ منهم : البشريّة أصحاب بشر بن المعتمر (١) ، وقد تفرّدوا عن أصحابهم بمسائل لا حاجة إلى ذكرها .

ثمّ منهم : المرداريّة (٢) أصحاب عيسى بن صبيح (٣) المشهور بالمردار (٤) ، وكان يقال له : راهب المعتزلة ، من تزهّده ، وكان من تلامذة بشر بن المعتمر ، ثمّ خالفه في مسائل (٥) لا حاجة إلى ذكرها .

ثمّ منهم : المعمّريّة أصحاب معمّر بن عبّاد السلمي (٦) .

__________________

(١) هو بشر بن المعتمر الكوفي ثمّ البغدادي ، يكنّى أبا سهل ، من كبار المعتزلة ورئيس معتزلة بغداد ، وله قصيدة أربعون ألف بيت ردّ فيها على جميع المخالفين ، ولـه كتب منها : تأويل المتشابه ، الكفر والإيمان ، الردّ على الملحدين ، وغيرها ، مات سنة ٢١٠ هـ .

انظر : الفهرست لابن النديم : ٢٠٥ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٢٠٣ / ٤٦ ، طبقات المعتزلة : ٥٢ ، لسان الميزان ٢ : ٥٦ / ١٦٤٩ .

(٢) في «م» «المردادية» بدل «المردارية» .

(٣) يكنّى أبا موسى ، من المقدّمين وكبار المعتزلة ، وهو الذي أظهر الاعتزال في بغداد ، وعنه انتشر وفشا ، وله كتب منها : التوحيد ، الردّ على المجبّرة ، الردّ على الملحدين وغيرها ، مات سنة ٢٢٦ هـ .

انظر : الفهرست لابن النديم : ٢٠٦ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٤٨ / ١٧٨ ، طبقات المعتزلة : ٧٠ .

(٤) في «م» «المرداد» وفي «ن» و«س» و«ش» «المرداد» نسخة بدل .

(٥) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٦٨ .

(٦) هو معمّر بن عبّاد ، أو ابن عمرو السلمي البصريّ ، يكنّى أبا المعتمر ، أو أبا

٢٦٩

قال الشهرستاني : هو من أعظم القدريّة ، وإنّ من أقواله : إنّ اللّه‏ تعالى لم يخلق شيئاً غير الأجسام ، وأمّا الأعراض فإنّها من اختراعات الأجسام ، وإنّ اللّه‏ عزوجل محال أن يعلم نفسه ولا غيره (١) ، ونقل عنه أقوالاً سخيفة اُخرى تركنا ذكرها .

ثمّ منهم : الثُمامية أصحاب ثمامة بن أشرس (٢) ، وذكروا لهم أيضاً أقوالاً سخيفة تركنا ذكرها ، حتّى نسبوا إليه أنّ من أقواله : إنّ الفاسق المسلم مخلّد في النار إذا مات بغير توبة ، والكفّار من المشركين ، واليهود ، والمجوس ، والنصارى ، والزنادقة ، والدهريّة يصيرون في القيامة تراباً كالبهائم والطيور (٣) .

ثمّ منهم : الهشاميّة أصحاب هشام بن عمرو الفوطي (٤) .

__________________

عمرو المعتزلي ، كان هو رئيس أصحاب المعاني ، من ساكني البصرة ، ثمّ انتقل إلى بغداد ، وبينه وبين النظام مناظرات في أشياء من المذهب ، وله كتب منها : المعاني ، والاستطاعة ، والليل والنهار ، مات سنة ٢٢٥ هـ .

انظر : الفهرست لابن النديم : ٢٠٧ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٤٦ / ١٧٦ ، طبقات المعتزلة : ٥٤ .

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٦٥ ـ ٦٨ .

(٢) هو ثُمامة بن أشرس النميري البصري ، يكنّى أبا معن ، متكلّم من رؤوس المعتزلة المتكلّمين ، وكاتب بليغ ، اتّصل بالرشيد والمأمون ، وروى عنه تلميذه الجاحظ ، وله كتب ، منها : الحجّة ، والخصوص والعموم في الوعيد ، والمعارف وهو المعرفة وغيرها .

انظر : الفهرست لابن النديم : ٢٠٧ ، تاريخ بغداد ٧ : ١٤٥ / ٣٦٠١ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٢٠٣ / ٤٧ ، طبقات المعتزلة : ٦٢ ، ميزان الاعتدال ١ : ٣٧١ / ١٣٩٤ .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٧٠ ـ ٧١ .

(٤) هو هشام بن عمرو الفوطي ، يكنّى أبا محمّد المعتزلي الكوفي الشيباني ، كان من أصحاب أبي الهذيل فانحرف عنه ، فعمّ عليه المعتزلة وانحرفوا عنه ، وأخذ عنه

٢٧٠

قال الشهرستاني : مبالغته في القدر أشدّ من مبالغة أصحابه ، وكان يمنع من إطلاق إضافات الأفعال إلى اللّه‏ تعالى وإن ورد به التنزيل ، فكان يقول : إنّ اللّه‏ لا يؤلّف بين قلوب المؤمنين ، بل هم المؤلّفون ، وإنّ اللّه‏ لا يحبّب الإيمان إلى المؤمنين ، ولا يزيّنه في قلوبهم وأمثال ذلك .

قال : ومن بدعته قوله بأنّ الإمامة لا تنعقد في أيّام الفتنة واختلاف الناس ، بل إنّما يجوز عقدها في حال الاتّفاق والسلامة .

قال : وإنّما أراد بذلك الطعن في إمامة عليّ عليه‌السلام بعد قتل عثمان .

قال : ومن بدعته أنّ الجنّة والنار ليستا مخلوقتين الآن (١) .

ومنهم : العبّادية أصحاب عبّاد (٢) ، وهم من الطائفة السابقة ، لكن زادوا عليهم في بعض الأشياء ، حتّى كانوا يمنعون من إطلاق القول بأنّ اللّه‏ تعالى خلق الكافر ؛ لأنّ الكافر كفر وإنسان ، واللّه‏ تعالى لا يخلق الكفر .

ثمّ منهم : الجاحظيّة ، وهم أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ المشهور ، ونقلوا عنهم مذاهب سخيفة أيضاً ، كقولهم بأنّ أهل النار لا يخلّدون فيها

__________________

عبّاد ابن سلمان وغيره ، وله كتب ، منها : المخلوق ، الردّ على الأصمّ في نفي الحركات ، الاُصول الخمس ، وغيرها ، مات سنة ٢٢٦ هـ .

انظر : الفهرست لابن النديم : ٢١٤ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٧٢ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٤٧ / ١٧٧ ، طبقات المعتزلة : ٦١ .

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٧٢ .

(٢) هو عبّاد بن سلمان بن عليّ البصري المعتزلي ، يكنّى أبا سهل ، من أصحاب هشام الفوطي ـ الذي أسلفنا ذكره ـ وهو يخالف المعتزلة في أشياء ، ويختصّ بأشياء اخترعها لنفسه ، له كتب ، منها : إنكار أن يخلق الناس أفعالهم ، تثبيت دلالة الأعراض ، إثبات الجزء الذي لا يتجزّأ .

انظر : الفهرست لابن النديم : ٢١٥ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥٥١ / ١٨٣ ، طبقات المعتزلة : ٧٧ .

٢٧١

معذّبين ، بل يصيرون إلى طبيعة النار ، وأمثال ذلك ، حتّى نقل عنهم : أنّهم يزعمون أنّ القرآن جسم مخلوق وجسد ، يجوز أن يقلب مرّة رجلاً ومرّة حيواناً ، وهكذا .

قال الشهرستاني : أكثر مذاهب الجاحظ على وفق الطبيعيّين من الفلاسفة (١) .

ثمّ إنّ منهم : الخيّاطيّة أصحاب أبي الحسين الخيّاط (٢) اُستاد الكعبي (٣) .

قال الشهرستاني : هما ـ يعني الخيّاط والكعبي ـ من معتزلة بغداد ، وهما على مذهب واحد إلاّ في بعض المسائل ، ومن مذهبهم القول بثبوت المعدومات (٤) .

ثمّ منهم : الجبّائيّة والهاشميّة أصحاب أبي عليّ محمّد بن عبد الوهّاب

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٧٦ .

(٢) هو عبد الرحيم بن محمّد بن عثمان الخيّاط البغدادي المعتزلي ، يكنّى أبا الحسين ، اُستاذ أبي القاسم البلخي ، سئل عن أفضل الصحابة ؟ فقال : أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ؛ لأنّ الخصال التي فضل الناس بها متفرقة في الناس وهي مجتمعة فيه ، له كتب منها : الاستدلال ، نقض نعت الحكمة ، نقض كتاب ابن الراوندي وغيرها .

انظر : تاريخ بغداد ١١ : ٨٧ / ٥٧٧٠ ، سير أعلام النبلاء ١٤ : ٢٢٠ / ١٢١ ، طبقات المعتزلة : ٨٥ ـ ٨٨ ، لسان الميزان ٤ : ٣٤٢ / ٥١٥٦ .

(٣) هو عبد اللّه‏ بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي ، يكنّى أبا القاسم ، ويعدّ من معتزلة بغداد ، صنّف في الكلام كتباً كثيرة ، وفرقة الكعبيّة منسوبة له ، ومن كتبه : المقالات ، الجدل ، السنّة والجماعة ، التفسير الكبير وغيرها ، مات سنة ٣٠٩ ، أو ٣١٩ ، أو ٣٢٩ هـ .

انظر : الفهرست لابن النديم : ٢١٩ ، تاريخ بغداد ٩ : ٣٨٤ / ٤٩٦٨ ، المنتظم ١٣ : ٣٠١ / ٢٢٩٦ ، وفيات الأعيان ٣ : ٤٥ / ٣٣٠ ، سير أعلام النبلاء ١٤ : ٣١٣ / ٢٠٤ ، العبر ٢ : ٤ ، طبقات المعتزلة : ٨٨ ـ ٩٠ .

(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٧٦ ـ ٧٨ .

٢٧٢

الجبّائي (١) ، وابنه أبي هاشم عبد السلام ، وهما من معتزلة البصرة .

قال الشهرستاني : هما انفردا عن أصحابهما بمسائل ، وانفرد أحدهما عن الآخَر بمسائل (٢) ، ثمّ ذكر بعضها ، بل أكثرها ، وليس هاهنا موضع ذكرها .

وقد مرّ في أخير فصول الباب السابق تشابه هذه المذاهب ـ لا سيّما مذهب أبي هاشم ـ بمذهب نسطور الحكيم (٣) من النصارى ، وبعض مذاهب اليهود والفلاسفة .

ثمّ إنّ من المعتزلة القريبة من أواخرهم : أبو الحسين البصري (٤) ،

__________________

(١) هو محمّد بن عبد الوهّاب بن سلام بن خالد البصري ، يكنّى أبا عليّ ، المعروف بالجبّائي أحد أئمّة المعتزلة . أذعنت له سائر طبقات المعتزلة بالرئاسة ، وكان متوسّعاً في العلم ، وهو اُستاذ أبي الحسن الأشعري ، وكان الجبّائي إذا روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام : «أنا حربٌ لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم» يقول : العجب من هؤلاء النوابت يروون هذا الحديث ، ثمّ يقولون بمعاوية! وله كتب ، منها : الاُصول ، النهي عن المنكر ، الاجتهاد وغيرها ، مات سنة ٣٠٣ هـ بالبصرة .

انظر : وفيات الأعيان ٤ : ٢٦٧ / ٦٠٧ ، سير أعلام النبلاء ١٤ : ١٨٣ / ١٠٢ ، العبر ١ : ٤٤٥ ، طبقات المعتزلة : ٨٠ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٧٨ ـ ٨٥ .

(٣) هو بطريرك القسطنطنيّة ، المنسوبة إليه فرقة النسطوريّة ، كانت بالموصل والعراق وفارس وخراسان ، وقد ظهر في زمان المأمون ، وتصرّف في الأناجيل بحكم رأيه ، وله آراء فاسدة .

انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٢٢٤ ، الحور العين : ١٤٦ ، قاموس المذاهب والأديان : ٢٠٨ ، المنجد في الأعلام : ٧٠٨ ، دائرة معارف القرن العشرين ١٠ : ١٨٣ .

(٤) هو محمّد بن عليّ بن الطيّب البصري المعتزلي ، يكنّى أبا الحسين ، أحد أئمّة المعتزلة ، أخذ عن القاضي ودرّس ببغداد ، وكان جدلاً حاذقاً ، وله تصانيف ، منها : المعتمد في اُصول الفقه ، تصفّح الأدلّة ، غرر الأدلّة وغيرها ، مات سنة ٤٣٦ هـ .

انظر : روضات الجنّات ٧ : ٣٤٩ / ٦٦٥ ، تاريخ بغداد ٣ : ١٠٠ / ١٠٩٦ ، وفيات الأعيان ٤ : ٢٧١ / ٦٠٩ سير أعلام النبلاء ١٧ : ٥٨٧ / ٣٩٣ ، طبقات المعتزلة : ١١٨ .

٢٧٣

والزمخشري ، وابن أبي الحديد ، والقاضي عبد الجبّار (١) وأمثالهم ، وأكثرهم من معتزلة بغداد ، وهم خالفوا بعض مشايخهم السلف في بعض المسائل ، حتّى أنّ جمعاً منهم قالوا بعصمة الأنبياء ، بل إنّ بعضاً منهم ـ بل من سلفهم أيضاً ـ قالوا بأفضليّة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام على سائر الصحابة أجمعين ، حتّى أنّهم صرّحوا بضلالة معاوية وأصحابه (٢) ، بل منهم من صرّح بأنّ الخلافة كانت حقّاً لعليّ عليه‌السلام من وجوه ، منها : ورود الأمر من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تعريضاً إلاّ أنّ عليّاً عليه‌السلام رضي بما صدر من غيره في أخذ الخلافة منه ، فثبتت لهم (٣).

وقال جمع منهم : إنّ عليّاً عليه‌السلام هو الإمام والمقتدى في الدين بعد سيّد المرسلين ، وإنّما كانت خلافة من تقدّم عليه في جباية الخراج ، وإجراء الحدود ، وانتظام ضبط المسلمين من قبيل سائر السلاطين (٤) .

وبالجملة : أكثر هؤلاء الجماعة ادّعوا أنّهم هم المراد بالشيعة ، كما قد سبقت الإشارة إليه ، ولكن كما قال أئمّة الإمامّيّة الصادقون : «كذب من ادّعى أنّه من شيعتنا وهو متمسّك بعروة غيرنا» (٥) ، وسيأتي مثله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) عبد الجبّار بن أحمد بن عبد الجبّار الهمذاني المعتزلي ، يكنّى أبا الحسن ، قاضي القضاة ، شيخ المعتزلة ، ولي قضاء القضاة بالري ، كان في ابتداء حاله يذهب في الأُصول مذهب الأشعريّة ، وفي الفروع مذهب الشافعي ، وله كتب ، منها : المغني في الإمامة ، الدواعي والصوارف ، الاعتماد ، المبسوط وغيرها ، مات سنة ٤١٥ هـ .

انظر : تاريخ بغداد ١١ : ١١٣ / ٥٨٠٦ ، العبر ٢ : ٢٢٩ ، ميزان الاعتدال ٢ : ٥٣٣ / ٤٧٣٧ ، سير أعلام النبلاء ١٧ : ٢٤٤ / ١٥٠ ، طبقات المعتزلة : ١١٢ .

(٢) الحور العين : ٢٠٥ .

(٣) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٦١ .

(٤) لم نعثر عليه .

(٥) صفات الشيعة (ضمن فضائل الشيعة للصدوق) : ٨٢ / ٤ .

٢٧٤

أيضاً من كتب القوم .

فهؤلاء كلّهم من المشهورين بالتفويضيّة والقدريّة والعدليّة ، ويقال لهم : المعتزلة أيضاً ، كما مرّ ، وقد ارتقى عدد معظم مذاهبهم المختلفة إلى عشرين كما ظهر ، وليس أحد منهم ـ على ما سيأتي ـ من مسلك الإماميّة ؛ حيث تركوا التمسّك بأذيال عترة نبيّهم العلماء بعلم اللّه‏ الصادقين ، بل جعلوا مناط دينهم الاعتماد على الرأي والخيالات الكاسدة التي تبيّن ويتّضح أيضاً أن لا مدخل لها في شريعة سيّد المرسلين ، فقالوا ما قالوا بآرائهم وأهوائهم فاختلفوا وتفرّقوا .

نعم ، اتّفق لهم بعض كلام حقٍّ في ضمن سائر مقالاتهم السخيفة ، كنفي الجبر والتشبيه والصفات الزائدة القديمة عن اللّه‏ عزوجل ، وكقول بعضهم بعصمة الأنبياء ، وتفضيل عليّ عليه‌السلام ، والحكم بضلالة مخالفيه ونحو ذلك ؛ ولهذا صاروا أقرب من غيرهم إلى مذهب الإماميّة ، فتوهّم بعض الغافلين عن حقيقة الحال ، فقال : إنّ بعض ما ذهب إليه الإماميّة مأخوذ من هؤلاء ! وليس كذلك ؛ لما مرّ ويأتي من أنّ مناط مذهب الإماميّة ليس إلاّ الأخذ بما ثبت عندهم أنّه من أئمّتهم ، فافهم ولا تغفل عن لزوم الحكم بعدم كون الطائفة التي ورد أنّها ناجية فيهم من جهات اُخَر أيضاً .

منها : أنّ معظم تمييزهم عن سائر الفِرَق بالتفويض الذي قالوا به ، وهو ممّا لو اُغمض أيضاً عن بطلانه يرد عليه أنّه أمر مشترك بين فِرَق عديدة ، بحيث لا يتأتّى جعله مناط التمييز إلاّ بضميمة عقيدة غير مبتدعة تكون كاملة المدخلية في الدين ، ثابتة الحقّيّة بالأدلّة القطعيّة ، كمحكمات الكتاب وثابتات السنّة ، مختصّة بفرقة واحدة موجودة ، أي : فرقة لا يشاركها

٢٧٥

غيرها من الفِرَق الموجودة في تلك العقيدة . ودون إثبات وجود مثل هذه في أحد منهم خرط القتاد ، كما هو ظاهر على المتأمّل الصادق في مقالاتهم ، المتتبّع لسائر العقائد ، ولولا خوف التطويل لذكرنا التفصيل ، فتأمّل .

المبحث الثاني: في بيان الفِرَق الذين لم يعدّوهم من صنف المعتزلة السابقة وإن شاركهم بعضهم في بعض المسائل ، بل عدّوهم من الأصناف المشتهرة بالأشاعرة ، والصفاتيّة ، والمجبّرة ، والمشبّهة ، والمسمّين عندهم بأهل السنّة وإن كان مرجع عامّتهم إلى القول بالجبر ؛ فإنّ مصداق القول بالجبر واقعاً ـ كما قدّمنا الإشارة إليه ـ هو نفي استطاعة الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الربّ عزوجل ؛ ولهذا أكثر المعتزلة يسمّون من لم يُثبت للقدرة الحادثة أثراً في الإحداث والإبداع استقلالاً جبريّاً ، وهؤلاء كلّهم شركاء في ذلك ، إلاّ أنّ منهم : من لا يُثبت للعبد فعلاً ولا قدرةً على الفعل أصلاً ، ومنهم : من يُثبت للعباد قدرةً ، لكن غير مؤثّرة أصلاً ، ومنهم : من يُثبت لقدرتهم أثراً ما في الفعل ويسمّيه كسباً ، ويقول بأنّ القدرتين مؤثّرتان جميعاً (١) .

لكن بعض الأشاعرة التجأ من الرمضاء إلى النار ، فأنكر كون الأخير جبريّاً وسمّاهم صفاتيّة (٢) ؛ بناءً على ما عليه أيضاً عامّة هؤلاء الطوائف المذكورة من القول بكون صفات البارئ تعالى كلّها حتّى الكلام وغيره من صفات الفعل ، قديمة أزليّة زائدة على الذات المقدّسة ، بعكس المعتزلة ؛ حيث نفوا زيادة الصفات القديمة ، فقالوا بعينيّة صفات الذات وحدوث

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٨٥ .

(٢) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٩٣ .

٢٧٦

صفات الفعل (١) ، حتّى أنّ جمعاً من هؤلاء الطوائف نسبوا مذهبهم المذكور (٢) إلى أكثر سلفهم من الصحابة والتابعين ؛ ولهذا أشرنا سابقاً إلى أنّ الظاهر أنّ هؤلاء لأجل هذا خصّوا أنفسهم بأهل السنّة والجماعة ، بل إنّهم ادّعوا أيضاً على سلفهم : أنّهم كانوا يثبتون له تعالى صفات اُخرى أيضاً ، مثل اليدين والوجه ونحو ذلك؛ بناءً على ظواهر بعض الآيات والأخبار ، وأنّهم كانوا يقولون بالرؤية؛ ولهذا قال عامّتهم بهذا أيضاً وصاروا مشبّهةً حقيقةً ، كما مرّ أنّه مذهب جماعة من اليهود .

إلاّ أنّ منهم من رجع فقال : إنّا عرفنا بمقتضى العقل أنّ اللّه‏ تعالى ليس كمثله شيء فقلنا بذلك ، إلاّ أنّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد في تلك الآيات والأخبار (٣) .

ومنهم : من أوّلها لكن بما يرجع إلى التشبيه أيضاً (٤) ، كما هو مذكور في كتبهم .

ومنهم : من قال : لا بدّ من إجرائها على ظاهرها من غير تعرّض للتأويل ، وهم المشبّهة الصرفة عندهم (٥) .

وقد أشرنا (٦) أيضاً إلى أنّ من مذهب هؤلاء ـ حيث نفوا استقلال العبد في الفعل ـ كون جميع أفعال العباد بالقضاء الحتم والقدر اللازم ، وأنّه

__________________

(١) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٤٩ .

(٢) في «م» : «المشهور» ، بدل «المذكور» .

(٣) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٩٢ .

(٤) المصدر السابق ، بتفاوت .

(٥) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٩٣ .

(٦) في «م» زيادة : «سابقاً» .

٢٧٧

لهذا سمّوا قدريّة أيضاً .

ثمّ لهم مذاهب سخيفة اُخرى تركناها حذراً من الإطالة بلا طائل ؛ لما سيظهر من ضلالتهم والمطاعن الواردة عليهم ، حتّى أنّهم أنكروا الحسن والقبح العقليّين ، وحاصل كلامهم في ذلك : أنّ الفعل في نفسه لا له حسن ولا قبح ، بل هما تابعان للشرع ، بحيث لو أمر الشارع بالكذب المضرّ ، وأذيّة صاحب الإحسان ، ومَنَع عن الصدق النافع ، وشكر المنعم ، صار الأوّل حسناً واقعاً والآخر قبيحاً ، حتّى أنّه لو أثاب الكافر وعذّب المؤمن صار ذلك حسناً ؛ ولهذا يلزمهم تجويز أن يعذّب اللّه‏ سيّد المرسلين على طاعته ، ويثيب إبليس على معصيته ، ويُدخل موسى عليه‌السلام النار وفرعون الجنّة ! ومنه يلزم سفاهة من أتعب نفسه في الطاعة ، كما لا يخفى .

فمن هؤلاء : الجهميّة أصحاب جهم بن صفوان .

قال الشهرستاني : هو من الجبريّة الخالصة ، ظهرت بدعته بـ «ترمذ» في زمن بني اُميّة ، لكنّه موافق للمعتزلة في نفي الصفات القديمة الزائدة ، بل زاد عليهم بحيث لم يجوّز اتّصاف البارئ بوصف يوصف به خلقه ؛ استناداً إلى دعوى كونه تشبيهاً ، مثلاً : نفي كونه حيّاً عالماً ، وأثبت كونه قادراً فاعلاً خالقاً .

قال : ومن مذهبه نفي علم البارئ بالشيء قبل خلقه .

وقال : ومن مذهبه أنّ الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة ، وإنّما هو مجبور في أفعاله ، لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار ، وإنّما يخلق اللّه‏ تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات ، ونُسبت الأفعال إليه مجازاً ، كما تُنسب إلى الجمادات ، فيقال : أثمرت

٢٧٨

الشجرة ، وجرى الماء ، وتحرّك الحجر ، إلى غير ذلك .

قال : وقال : إنّ الثواب والعقاب جبر ، كما أنّ الأفعال جبر .

وكذا قال : وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضاً كان جبراً .

قال : ومن مذهبه فناء الجنّة والنار بعد دخول أهلهما فيهما ، وتلذّذ أهل الجنّة بنعيمها ، وتألّم أهل النار بحميمها ، وقد أوّل ما ورد من الخلود بالمكث الطويل ، كما هو مذهب جماعة من اليهود .

وقال (١) : ومن مذهبه أنّ من حصل له المعرفة ، ثمّ جحد بلسانه لم يكفر ، بل كان مؤمناً ، وأنّ إيمان الأنبياء عليهم‌السلام وإيمان الاُمَّة على نمط واحد ، والإيمان لا يتبعّض (٢) .

أقول : ولا بأس إن ذكرنا هاهنا نبذاً ممّا ورد على أصحاب أمثال هذا المذهب القائلين بالجبر ، كما سيأتي بيان مذهب بعضهم من الإلزامات المسكتة (٣) والحكايات المفضحة ، والكفر الصريح والضلال الشنيع .

فمنها : ما رواه جماعة عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال يوماً لبعض المجبّرة : «هل يكون أحد أقبل للعذر الصحيح من اللّه‏ تعالى ؟» فقال : لا .

فقال له : «فما تقول فيمن قال : ما أقدر وهو لا يقدر ، أيكون معذوراً أم لا ؟» فقال المجبّر : يكون معذوراً .

قال له : «فإذا كان اللّه‏ تعالى يعلم من عباده أنّهم ما قدروا على طاعته ، وقال لسان حالهم أو مقالهم يوم القيامة : يا ربّ ، ما قدرنا على طاعتك ؛ لأنّك منعتنا منها ، أما يكون قولهم وعذرهم صحيحاً على قول المجبّرة ؟»

__________________

(١) في «ش» : «قال» .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٨٦ ـ ٨٨ .

(٣) في «م» : «المضحكة» ، بدل «المسكتة» .

٢٧٩

قال : بلى واللّه‏ !

قال : «فيجب على قولك أنّ اللّه‏ يقبل هذا العذر الصحيح ولا يؤاخذ أحداً أبداً ، وهذا خلاف قول أهل الملل كلّهم» ، فتاب المجبّر من قوله بالجبر في الحال (١) .

وقد ذكر الديلمي أنّ هذا الكلام قاله الصادق عليه‌السلام لطاووس اليماني (٢) ، فلمّا تمّ كلام الصادق عليه‌السلام قام طاووس وهو يقول : ليس بيني وبين الحقّ عداوة ، اللّه‏ أعلم حيث يجعل رسالته ، فقد قبلت نصيحتك (٣) .

وروى جمع أيضاً أنّ أبا حنيفة دخل مع عبداللّه‏ بن مسلمة (٤) على جعفر بن محمّد عليهما‌السلام ، فإذا بجماعة من شيعته ينتظرون خروجه ، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث ، فقام الناس هيبةً له ، فالتفت أبو حنيفة فقال :

__________________

(١) الطرائف : ٢ : ٢٠ ، وعنه المجلسي في بحار الأنوار ٥ : ٥٨ / ١٠٧ .

(٢) هو طاووس بن كيسان الخولاني الهمداني اليماني ، يكنّى أبا عبد الرحمن ، أحد التابعين ، سمع من زيد بن ثابت وعائشة وأبي هريرة وزيد بن أرقم وابن عبّاس ، ولازم ابن عبّاس مدّة ، وهو معدود في كبراء أصحابه ، وله كلام مع هشام بن عبد الملك الاُموي يدلّ على شجاعته في قول الحقّ بوجه الظالمين ، مات سنة ١٠٦ هـ .

انظر : رجال الشيخ الطوسي : ١١٦ / ١١٦٦ ، قاموس الرجال ٥ : ٥٥١ / ٣٧٣٨ ، طبقات خليفة ٥١٦ / ٢٦٥٠ ، المعارف : ٤٥٥ ، و٦٢٤ ، حلية الأولياء ٤ : ٣ / ٢٥٥ ، وفيات الأعيان ٢ : ٥٠٩ / ٣٠٦ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٣٨ / ١٣ .

(٣) أعلام الدين : ٣١٧ ـ ٣١٨ ، وعنه المجلسي في بحار الأنوار ٥ : ٥٨ / ١٠٥ .

(٤) لعلّه هو عبداللّه‏ بن مَسلمة بن قَعْنب الحارثي ، يكنّى أبا عبد الرحمن ، المعروف بالقَعْنبي ، وكان قد أخذ عن مالك وهو أحد رواة كتابه «الموطّأ» وسمع من : شعبة ، وحمّاد بن سلمة ، وأفلح بن حميد وغيرهم ، وروى عنه : البخاري ، ومسلم ، وأبو داوُد ، وآخرون ، ولد بعد سنة ١٣٠ هـ ، ومات سنة ٢٢١ هـ .

انظر : تنقيح المقال ٢ : ٢١٨ / ٧٠٧٧ ، قاموس الرجال ٦ : ٦١٦ / ٤٥٣٣ ، طبقات خليفة : ٣٩٨ / ١٩٥٧ ، الفهرست لابن النديم : ٢٥١ ، وفيات الأعيان ٣ : ٤٠ / ٣٢٦ ، سير أعلام النبلاء ١٠ : ٢٥٧ / ٦٨ .

٢٨٠