ضياء العالمين - ج ٢

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]

ضياء العالمين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن بن محمّد طاهر العاملي [ العلامة الفتوني ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-319-332-4
ISBN الدورة:
978-964-319-330-0

الصفحات: ٤٦٩
الجزء ١ الجزء ٢

لا ينبغي الإهمال فيه بإجمال بعض الناقلين ، ولا نتغافل عن التمويهات والتمحّلات والتوهّمات التي في نقل المخالفين ، فإنّ أكثرهم في هذا المقام ـ كما مرّ غير مرّة أنّه دأبهم في كثير من المواضع ـ أغمضوا كثيراً عن التصريح بما فيه التلويح إلى ما هو الحقّ الصحيح ، حذراً عن التضرّر بذكره ، بل كثيراً ما توهّموا في النقل فنسبوا إلى بعض المذاهب ، لا سيّما الإماميّة ما ليس فيها ، وإذا عرفت هذا ، فاستمع لما يتلى عليك ، وأعط الإنصاف حقّه حتّى يظهر الحقّ لديك :

فاعلم أوّلاً أنّ تبيان المرام في هذا المقام إنّما هو في ضمن بيان مقدّمة ونقل مطالب ثلاثة :

أمّا المقدّمة : فاعلم أنّ نقلة المذاهب قد ينسبون الفرقة الذاهبة إلى (مذهبٍ إلى) (١) أصل من اُصول ذلك المذهب ، كما يقولون : الجبريّة والمشبّهة ونحو ذلك ؛ لكون مذهبهم الجبر والتشبيه ، وقد ينسبونها إلى كبيرهم الذي قال به ، فيقولون : الأشعريّة ؛ لكون كبيرهم أبا الحسن الأشعري (٢) ، والجهميّة ؛ لكون كبيرهم جهم بن صفوان (٣) ، وهكذا .

__________________

(١) ما بين القوسين ساقط من «ن» .

(٢) هو عليّ بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم ، يكنّى أبا الحسن ، من نسل أبي موسى الأشعري ، كان تلميذ الجبّائي وملازماً له أربعين سنة ، ثمّ ترك الاعتزال ، وله كتب منها : اللمع ، والموجز ، وإيضاح البرهان وغيرها .

ولد سنة ٢٦٠ أو ٢٧٠ هـ ، ومات سنة ٣٣٣ هـ ، وقيل : سنة ٣٢٤ هـ .

انظر : تاريخ بغداد ١١ : ٣٤٦ / ٦١٨٩ ، الأنساب ١ : ١٦٦ ، المنتظم ١٤ : ٢٩ / ٢٤٥٩ ، وفيات الأعيان ٣ : ٢٨٤ / ٤٢٩ ، الأعلام ٤ : ٢٦٣ .

(٣) هو جهم بن صفوان السمرقندي ، يكنّى أبا محرز ، رأس الجهميّة ، كان في عسكر

٢٤١

ثمّ إنّ لهم تفاسير مختلفة في بعض ألقاب المذاهب التي ذكروها ، بحيث تبرّأ كلٌّ منهم عن المذموم منها ونسبه إلى غيره مفسّراً ذلك بما يناسبه ، وفعلوا عكس ذلك في الممدوح .

ولا بأس إن بيّنّا بعض ذلك هاهنا ليتّضح ما هو الحقّ أيضاً ، فمن تلك الألقاب التلقّب بأهل السنّة والجماعة .

وقد روى بعض منهم ما يدلّ على مدحه كما هو المتبادر من اللفظ أيضاً ، فمن ذلك أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أخبر «بتفرّق اُمتّه إلى ثلاث وسبعين فرقة واحدة منها ناجية» قيل له : ومن الناجية ؟ قال : «أهل السنّة والجماعة» (١) ، الخبر .

وقد انتحل هذا اللقب أوّلاً الذين قالوا بخلافة أبي بكر وعمر ، واتّخذوه لأنفسهم في مقابل الشيعة ؛ لادّعائهم أنّهم على سنّة رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وما عليه جماعة المسلمين ومعظمهم ، ولقّبوا الشيعة الذين تمسّكوا بالكتاب والعترة وقالوا بخلافة عليّ عليه‌السلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بأهل البدعة والفرقة ! حيث ادّعوا أنّ مذهبهم مستحدث مخالف لما كان عليه عامّة الصحابة ، ثمّ بعد ذلك انتحله من بينهم معظم الفِرَق المقابلة للعدليّة ، فسمّوا أنفسهم به ؛ لادّعائهم أنّهم على مذهب سلفهم من أهل زمان الصحابة والتابعين ، وأهل العدل منهم يسمّون هؤلاء جبريّة .

__________________

الحارث بن شريح الخارجي يقصّ ويعظ ، فحاربهم نصر بن سيار فاُسر في الحرب ، مات في حدود سنة ١٢٨هـ .

انظر : المنتظم ٧ : ٢٦٧ / ٦٩٠ ، ميزان الاعتدال ١ : ٤٢٦ / ١٥٨٤ ، لسان الميزان ٢ : ٢٥٧ / ٢١٦٥ ، الأعلام ٢ : ١٤١ .

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٣ .

٢٤٢

والحقّ أنّ مصداق هذا اللقب هم الذين يكون مناط دينهم مقصوراً على محض الأخذ (بما علم أنّه) (١) من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، المنحصر فيما يدلّ عليه محكمات كتاب اللّه‏ ، وما نقله الثقات عن رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، دون غير ذلك أيّ شيء كان ؛ لوجوه كثيرة مرّ بعضها ، لا سيّما في بيان ذمّ الرأي والاختلاف ، ويأتي كثير منها .

كيف لا ؟ وإنّ آخر الحديث المذكور كالصريح في ذلك ؛ إذ تتمّة الحديث ـ كما صرّح به الشهرستاني وغيره ـ هكذا : قيل : يا رسول اللّه‏ وما السنّة والجماعة؟ فقال : «ما أنا عليه اليوم وأصحابي» (٢) ؛ إذ قد بيّنّا أنّ في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وآله لم يكن معمولاً ، بل ولا جائزاً إلاّ ما ذكرناه .

والذي هو مقطوع به أنّ عليّاً عليه‌السلام كان كذلك ، ولم يتخلّف بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك ؛ حيث كان عنده كمال العلم بذلك ، وأمّا غيره فلم يكن أحد بتلك المثابة حتّى باعتراف أعاديه .

ولقد كفى في هذا ما ظهر من غيره من الاختلافات والجهالات والرجوع إلى ما لم يكن في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من أنواع الآراء والاجتهادات ، حتّى من أبي بكر وعمر كما مرّ نبذ منها ويأتي أيضاً ، حتّى أنّ أحمد بن حنبل روى في مسنده عن أبي بكر : أنّه قام على المنبر بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بشهر ، فقال ـ وذكر كلامه إلى أن قال ـ : ولئن أخذتموني بسنّة نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله ما اُطيقها ؛ إنّه كان معصوماً من الشيطان ، وكان ينزل عليه الوحي (٣) .

__________________

(١) ما بين القوسين لم يرد في «م» .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٣ .

(٣) مسند أحمد ١ : ٢٤ / ٨١ .

٢٤٣

وفي كتابي الهروي (١) وابن راهويه (٢) أنّه قال : أَفتَظنّون أنّي أعمل بسنّة رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ إذن لا أقوم لها (٣) ، الخبر .

وفي صحيح النسائي : عن ابن عبّاس قال : سمعت عمر يقول : واللّه‏ ، لأنهاكم عن المتعة ، وإنّها لفي كتاب اللّه‏ ولقد فعلها رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ! (٤) .

وفي مسند ابن حنبل ، وصحيح مسلم والنسائي والترمذي وغيرها : عن أبي موسى الأشعري أنّه كان يفتي بالمتعة ، فقال له رجل : رويدك نقض (٥) فتياك! فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك . . قال : فلقيته بَعْدُ (٦) فسألته ، فقال عمر : قد علمت أنّ رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله فعله وأصحابه ولكنّي كرهت أن يظلّوا بهنّ مُعْرِسين (٧) تحت الأراك ، ثمّ

__________________

(١) هو عبد بن أحمد بن محمّد بن عبد اللّه‏ بن غفير ، يكنّى أبا ذرّ الأنصاري الهروي ، كان من الحفّاظ ، ومن فقهاء المالكيّة المعروف ببلده بابن سمّاك ، أصله من هراة ، وله كتب منها : السنّة ، والجامع ، والدعاء وغيرها ، ولد سنة ٣٥٥ هـ ، ومات سنة ٤٣٤هـ .

انظر : تاريخ بغداد ١١ : ١٤١ / ٥٨٣٨ ، سير أعلام النبلاء ١٧ : ٥٥٤ / ٣٧٠ ، الأعلام ٣ : ٢٦٩ .

(٢) هو إسحاق بن إبراهيم بن مَخلد الحنظلي المروزي ، يكنّى أبا يعقوب ، وكان حافظاً ، سمع سفيان بن عيينة ، وابن المبارك ، ووكيعاً وغيرهم ، كما روى عنه البخاري ، والترمذي ، وابن حنبل ، وله مسند مشهور .

واختلف في وفاته وولادته على عدّة أقوال منها : أنّه ولد سنة ١٦١ هـ ، ومات سنة ٢٣٨ هـ .

انظر : رجال الطوسي : ٣٥١ / ٥٢٠٢ ، قاموس الرجال ١ : ٧٤٩ / ٧٠٥ ، الفهرست لابن النديم : ٢٨٦ ، تاريخ بغداد ٦ : ٣٤٥ / ٣٣٨١ ، وفيات الأعيان ١ : ١٩٩ / ٨٥ ، سير أعلام النبلاء ١١ : ٣٥٨ / ٧٩.

(٣) حكاه عنهما السيوطي في جامع الأحاديث ١٣ : ٧٩ / ٢٩٠ .

(٤) سنن النسائي ٥ : ١٥٣ .

(٥) في المصدر : «ببعض» بدل «نقض» .

(٦) في «م» زيادة : «ذلك» .

(٧) في نسخنا : «معرسات» ، وما أثبتناه من المصادر .

٢٤٤

يروحون إلى عرفات تقطر رؤوسهم (١) ، وقد مرّ تصريحه في صلاة التراويح جماعةً بأنّها بدعة ، ونعم البدعة (٢) ! فإذا كان حال هذين الجليلين عندهم هكذا فكيف غيرهما ؟ !

فإذن ليس من أهل تلك الصفة إلاّ من اتّبع عليّاً عليه‌السلام في جميع العقائد والأفعال والأقوال ، ومن لم يكن كذلك فهو من أهل البدعة والفرقة .

وممّا ينادي بهذا ما تواتر من حديثي التمسّك بالثقلين (٣) ، «وأنّ الحقّ مع عليّ عليه‌السلام يدور معه حيثما دار» (٤) .

وما في نهج البلاغة وغيره من أنّ رجلاً سأل عليّاً عليه‌السلام وهو يخطب على المنبر بالبصرة ، فقال : أخبرني يا أمير المؤمنين ! من أهل الجماعة ومن أهل الفرقة ؟ ومن أهل السنّة ومن أهل البدعة ؟ فقال له : «ويحك إذا سألتني فافهم : أمّا أهل الجماعة فأنا (٥) ومن اتّبعني وإن قلّوا ، وذلك الحقّ عن أمر اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمّا أهل الفرقة فهم المخالفون لي ولمن تبعني وإن كثروا ، وأمّا أهل السنّة فالمتمسّكون بما سنّه اللّه‏ لهم وإن قلّوا ، وأمّا أهل البدعة فالمخالفون لأمر اللّه‏ وكتابه ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، العاملون بآرائهم وأهوائهم وإن كثروا» (٦).

__________________

(١) الطرائف ٢ : ١٧١ ، مسند أحمد ١ : ٨١ / ٣٥٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٩٦ / ١٢٢٢ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٩٢ / ٢٩٧٩ ، سنن النسائي ٥ : ١٥٣ ، السنن الكبرى ٥ : ٢٠ ، وفيها بتفاوت يسير .

(٢) انظر : البخاري ٣ : ٥٨ ، والمغنى لابن قدامة ١ : ٨٣٤ / ١٠٩٤ .

(٣) تقدم تخريجه في ص ١٢٩ .

(٤) تقدم تخريجه في ص ١٥٧ .

(٥) في نسخنا : «أنا» ، وما أثبتناه من المصدر .

(٦) شرح الأخبار للقاضي المغربي ٢ : ١٢٥ ـ ١٢٦ ، الاحتجاج ١ : ٣٩٥ / ٨٣ ، بحار

٢٤٥

فعلى هذا إن ادّعى هؤلاء الذين اتّخذوا هذا اللقب لأنفسهم أنّهم على هذه الطريقة كذبوا صريحاً ؛ إذ أوّل ما يكذّبهم أنّه كالشمس في الظهور كون مدار هؤلاء على الآراء والأقيسة ، التي تبيّن أنّها من سنّة إبليس ومادّة الاختلاف والضلال ، وأنّ حكم اللّه‏ منزّه عن ذلك ، حتّى أنّهم معترفون بأنّ أكثر المقالات الدائرة بينهم حدثت فيما بَعْدُ بحسب الرأي ، وصارت سبب الاختلاف ، وإلاّ لم يكن خلاف في زمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا اختلاف .

فإن زعموا أنّ استعمال الرأي عندهم إنّما هو بعد عدم وجدان الدليل من الكتاب والسنّة .

قلنا : بعد تسليم صدق دعواهم هذا ـ إذ قرائن كذبه كثيرة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها ، لو اتّبعتم عليّاً عليه‌السلام من كلّ جهة لم يكن هذا أيضاً ، لما هو بيّن ـ وظهر وسيتّضح أيضاً ـ من علم عليّ عليه‌السلام بكلّ ذلك من اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ولهذا ليس بين من اتّبعه وأوصيائه كالإماميّة اختلاف ، ولا لهم إلى الرأي احتياج ، كما هو معلوم على من تتبّع اُصول عقائدهم المأخوذة عن أئمّتهم .

فإن قالوا : نحن لا نخالف عليّاً عليه‌السلام أصلاً فيما وصل منه إلينا .

قلنا : هذا أيضاً كذب صريح ؛ إذ لا أقلّ من أنّ كتبهم مشحونة بأشياء كثيرة منه عليه‌السلام في العقائد وغيرها ، وهم لم يعبأوا بها ، بل خالفوها صريحاً وإن وافقت الآيات والأخبار النبويّة أيضاً بمحض عدم موافقتها لآرائهم الناقصة التي من سنّة إبليس ومشوبة بما يوافق هواهم .

__________________

الأنوار ٣٢ : ٢٥٧ / ١٩٩ ، كنز العمّال ١٦ : ١٨٣ / ٤٤٢١٦ وفيها بتفاوت يسير ، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ١ : ٣٥٨ / ١١٨ .

٢٤٦

وكفى في هذا أنّ عامّتهم يحبوّن كثيراً من جاهر (١) بعداوته ومخالفته ومنازعته ، بل تضليله ولعنه ، كيف لا؟ وهذا معاوية قد عاداه وقاتله ولعنه هو وبنو اُميّة على رؤوس المنابر.

وبعد مسامحتهم في هذا أيضاً نقول : قد ثبت عندنا وعندهم ـ بل صار كالشمس في رابعة النهار ـ أنّ عليّاً عليه‌السلام لعن معاوية وأمر أصحابه بذلك ، وأحلّ قتله ، وحكم بفسقه وكفره ونفاقه وضلاله وظلمه وكذبه (٢) . وقد لعن اللّه‏ أيضاً الكاذبين والظالمين لا سيّما لآل محمّد عليهم‌السلام ، وكذا ورد غير ذلك من اللعن وغيره عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك الرجل ، كما سيأتي في المقالة السادسة من المقصد الثاني .

ومع هذا أكثر هؤلاء الجماعة يحرّمون لعنه ، بل يحكمون بأنّه كان خيراً مؤمناً من أهل الجنّة ! ! وهل هذا إلاّ مخالفة عليّ عليه‌السلام صرحياً ، بل (٣) تكذيبه أيضاً حتّى فيما وافق فيه قوله قول اللّه‏ ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فأين المتابعة ؟ وأنّى لهم المحبّة والموافقة ؟

على أنّهم لو كانوا صادقين في متابعة عليّ عليه‌السلام ومحبّته كالإماميّة لنقلوا مثلهم أخباره ، وتتبّعوا آثاره حتّى استغنوا بذلك عن غيره ، ولا أقلّ في رؤوس مسائل دينهم ، مع أنّهم لم ينقلوا عنه ، حتّى في رواياتهم إلاّ أقلّ قليل ، بل أكثر رواياتهم عن أعاديه ومن لم يكن بشأنه ، كما يظهر من ملاحظة رواياتهم .

وأمّا تركهم سائر الأوصياء من العترة ، مع اعترافهم بمزيد علمهم وكمالهم وعقلهم وصدقهم وصلاحهم وعظم شأنهم عند اللّه‏ ، بحيث

__________________

(١) في «س» و«ش» و«ن» : «ممّن أجهر» .

(٢) الإيضاح لابن شاذان : ٦٣ ، وفيه : ورد لعن عليّ عليه‌السلام لمعاوية .

(٣) في «م» : «وتكذيبه» .

٢٤٧

لم ينقلوا عنهم ولا (١) بقدر أدنى شيخ من مشايخهم ، فكالشمس في رابعة النهار ، كما سيظهر في فصل التمسّك بالثقلين .

وبالجملة : الحقّ أنّ هؤلاء بالتلقّب بأهل البدعة والفرقة أولى وأنسب ، كما قد صرّح بعضهم بأنّ أكثر العقائد المشهورة عند عامّة هذه الفِرَق ممّا هو حادث بعد زمان الصحابة (٢) (٣) ، وستأتي أخبار منهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تدلّ على كونهم أهل الفرقة ؛ لكثرة الاختلاف فيهم .

وفي الحديث أنّ رجلاً سأل عليّاً عليه‌السلام عن السنّة والبدعة ، فقال : «السنّة ما سنّ رسول اللّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والبدعة ما اُحدث بعده» (٤) ، وقد مرّ ويأتي من كتب القوم ما يدلّ صريحاً على هذا ممّا رووه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حتّى نقل الزمخشري في تفسيره عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «من مات على حبّ آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله مات على السنّة والجماعة» (٥) ، وقد بيّنّا سابقاً في محلّه أنّ محبّتهم عند إطاعتهم .

ومنه يظهر أنّ اتّخاذهم هذا اللّقب من قبيل تسمية الزنجي بالكافور ، كما روى صاحب كتاب دولة الأشرار عن مالك بن أنس ، عن عمر ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في حديث له ذمّ فيه (٦) بعض من سيأتي بعده : «السنّة عندهم بدعة والبدعة فيهم سنّة» (٧) ، الخبر .

__________________

(١) «ولا» لم ترد في «ش» و«ن» .

(٢) في «ش» و«ن» زيادة : «أيضاً» .

(٣) انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٣٠ .

(٤) معاني الأخبار : ١٥٤ ـ ١٥٥ / ٣ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٢٦ / ٢٣ .

(٥) الكشّاف للزمخشري ٥ : ٤٠٦ ، وعنه القرطبي في تفسيره ١٦ : ٢٣ .

(٦) كلمة «فيه» لم ترد في «ن» .

(٧) المصدر غير متوفّر لدينا ، وروي الحديث بسند آخَر في المعجم الكبير للطبراني ١١ : ٩٩ / ١١١٦٩ ، ومجمع الزوائد ٧ : ٢٨٧ ، وجامع الأحاديث ٩ : ٢٢٥ / ٢٨١٦١ .

٢٤٨

نعم ، إنّما يمكن أن يكونوا مصداق هذا اللقب إن فسّروه بغير هذا المعنى ، كأن يكون مرادهم ـ مثلاً ـ بالسنّة : طريقة عامّة الصحابة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ حيث أنّهم كما تركوا التمسّك بالعترة علماء التنزيل والتأويل ، ولم يفهموا من الكتاب إلاّ الشيء القليل ، شرعوا في الاعتماد على ما استحسنه عقلهم العليل ، فقالوا في دين اللّه‏ ما قالوا ، وتبعهم هؤلاء ، والجماعةِ : اجتماعهم يوم السقيفة ، أو مطلق جماعة الصحابة ، بل مطلق جماعة الاُمّة ، أي أكثرهم .

وممّا يؤيّد هذا ما سيأتي في بيان مذهب الجبريّة ، وما نقله أكثر أهل الكتب ومؤرّخيهم : أنّ بني اُميّة جدّوا في سبّ عليّ عليه‌السلام وسمّوه سُنّة حتّى اشتهر بهذا الاسم بين الناس اشتهاراً زائداً ؛ بحيث إنّ عمر بن عبد العزيز لمّا منع الخطباء عن السبّ ، فأوّل ما خطبوا ولم يسبّوا صاح الناس : أين السنّة! أين السنّة! لِمَ ضيّعتم السنّة ؟ (١) .

وبالجملة : لا كلام في تسميتهم السبّ سُنّة ، ولعلّ أصل اشتهار هذا اللقب كان أوّلاً لهذا ، ثمّ لمّا ارتفع ذلك وبقي هذا اللقب حملوه على غير ذلك المعنى !

ومن العجائب أنّ جمعاً من معتزلة بغداد من حيث إنّهم قالوا بضلال معاوية وأصحابه ، وبتفضيل عليّ عليه‌السلام على سائر الصحابة اتّخذوا لأنفسهم إطلاق لفظ الشيعة ، وقالوا : إنّما الشيعة نحن ، وسمّوا الإماميّة بالرافضة! ولم يعلموا أنّ الإماميّة من حيث متابعتهم عليّاً وذرّيّته الأوصياء عليهم‌السلام من كلّ جهة ، لا سيّما مع قولهم بما قال هؤلاء أولى بهذا اللقب وأحقّ ، كما قال

__________________

(١) انظر : شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٣ : ٢٢٢ .

٢٤٩

عليّ عليه‌السلام : « إنّ شيعتي» كذا وكذا ، وذكر صفاتٍ كلّها في الإماميّة ، بل في خواصّهم ، حتّى ورد أنّ من لم تكن فيه تلك الخصال ممّن اعتقد بإمامتهم فهو من الموالين والمحبّين ، وإنّما الشيعة من استجمع فيه تلك الخصال ، وسيأتي الحديث في محلّه .

وأمّا الرافضة فإن كان مرادهم رفض الحقّ فهم أولى به ، كما هو بيّن ممّا مرّ ويأتي ، وكفى تركهم العترة التي اُمروا بالتمسّك بها ، وتمسّكهم بالرأي الذي اُمروا بتركه بل يظهر من حديث رواه في حلية الأولياء أنّ أصل مصداق هذا اللقب بهذا المعنى هم الخوارج (الذين خرجوا) (١) على عليّ عليه‌السلام بعد كونهم من أصحابه ، والخبر هكذا :

قال عليّ عليه‌السلام : «قال لي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك وشيعتك في الجنّة ، وسيأتي قوم لهم نبز (٢) يقال لهم : الرافضة ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنّهم مشركون» (٣) ، الخبر .

فإنّه إذا لوحظ هذا مع ما مرّ ويأتي من حديث الخوارج ، وما فيه أيضاً من التصريح بوجود النبز فيهم ، والأمر بقتلهم وكونهم مشركين ، لا يبقى شكّ في أنّ المراد هاهنا أيضاً هم ، لا سيّما مع التأييد بإيراد كلمة «إذا» الدالّة على الجزم بالوقوع في قوله : «فإذا لقيتموهم» ، وبالإشعار بكونهم من جملة المدّعين بأنّهم من شيعته ، وبانحصار القوم الذين ادّعوا أوّلاً كونهم من شيعته ، ثمّ تركوا ذلك وخرجوا عليه فيهم ، ومنه يظهر أنّ مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله برفضهم : تركهم عليّاً عليه‌السلام .

__________________

(١) ما بين القوسين لم يرد في «ش» .

(٢) النبز : اللقب ، والجمع : الأنباز ، انظر : لسان العرب ٥ : ٤١٣ ـ نبز ـ .

(٣) حلية الأولياء ٤ : ٣٢٩ .

٢٥٠

وقد ذكر بعض المؤرّخين أنّ بعض عسكر عليّ عليه‌السلام كانوا يذكرون هؤلاء بهذا اللقب (١) ، هذا ، مع ظهور كونهم مصداقه قطعاً ، بل لا يبعد أن يقال : المراد بما نقله بعض المخالفين في بعض أخبارهم من توصيف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الرافضة بسبّ صحابته : سبّهم عليّاً عليه‌السلام ومن كان معه من الصحابة .

إلاّ أنّ الحقّ أنّ تلك الأخبار إمّا موضوعة من أصلها ، أو محرّفة بإدخال ما ليس منها ، كما سيأتي في المقصد الثاني وغيره .

وإن كان مرادهم بهذا اللّقب : رفض الباطل ، فلا شكّ أنّ الإماميّة هم مصداقه ، بل يفتخرون بذلك ، حتّى نقل أنّ القاضي ابن أبي ليلى قال يوماً لرجلٍ من أصحاب جعفر بن محمّد الصادق عليهما‌السلام لمّا شهد عنده بشهادة : كيف أقبل شهادتك وأنت جعفري رافضي؟! فبكى الرجل .

فقال القاضي : لِمَ تكون كذلك حتّى تتعيّر به فتبكي؟

فقال : واللّه‏ ، ما بكيت إلاّ لأنّك نسبتني إلى قوم طال ما أتمنّى أن يجعلني اللّه‏ منهم ، وأخاف أن لا يقبلوني ويتبرّؤوا منّي بسوء أعمالي (٢) .

وستأتي أخبار عن الصادق عليه‌السلام ، وأبيه ، وغيرهما من الأئمّة الأوصياء عليهم‌السلام في هذا اللقب ، وأنّه ممّا سمّى به قوم فرعون من آمن بموسى وهارون عليهما‌السلام من بني إسرائيل ، وترك طاعة فرعون وقومه (٣) ، حتّى ورد أنّه كان أيضاً في زمان إدريس عليه‌السلام ومن بعده من الأنبياء ، حيث إنّ

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣٣ / ٦ في ضمن الحديث .

(٢) انظر : التفسير للإمام العسكري عليه‌السلام : ٣١٠ / ١٥٧ ، والصراط المستقيم ٣ : ٧٦ .

(٣) الكافي ٨ : ٣٣ / ٦ في ضمن الحديث ، تفسير فرات الكوفي : ٣٧٦ / ٥٠٦ ، الصراط المستقيم ٣ : ٧٦ .

٢٥١

أتباع جبّاري كلّ نبيّ كانوا يلقّبون أتباع الأنبياء والأوصياء بهذا اللقب ، حتّى ورد صريحاً أنّهم قالوا لشيعتهم : إنّكم رفضتم الباطل وتمسّكتم بكتاب اللّه‏ وعترة نبيّكم كما أمركم به ، وهؤلاء رفضوا الحقّ وهو إطاعة عليّ عليه‌السلام والتمسّك بالعترة ، بل محكمات الكتاب أيضاً ، وتمسّكوا بمتابعة آراء كبرائهم وأسلافهم .

وقد ذكر الشهرستاني وغيره من نقلة المذاهب : أنّ جماعة من شيعة الكوفة لمّا خرج زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم‌السلام (١) رفضوه وتركوا إطاعته والخروج معه ، وقالوا : إنّه خالف مذهب آبائه وتابع آراء واصل بن عطاء ، ولم يتبرّأ من الذي تبرّؤوا منه ، ولم يطع أخاه الباقر عليه‌السلام ؛ فلهذا سمّوا رافضة (٢) ، وهذا أيضاً مؤيّد لكون أصل وجه التسمية تركهم الباطل .

لكنّ الحقّ أنّ نقل هذه الحكاية بهذا النحو من التعبير لا يخلو من نوع تمويه وتحريف ؛ فإنّ الذي هو صريح كلام الذين فارقوا زيداً أنّ سبب المفارقة لم يكن إلاّ أنّهم زعموا أنّه يدّعي الإمامة لنفسه ، وأنّ ذلك علّة

__________________

(١) هو زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ أمير المؤمنين صلوات اللّه‏ وسلامه عليهم أجمعين ، يكنّى أبا الحسين ، نشأ في حجر أبيه السجّاد ، ثمّ لازم أخاه الباقر وابنه الصادق عليهم‌السلام ، وكان عابداً ورعاً فقيهاً سخيّاً شجاعاً ، وظهر بالسيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وقد قتله هشام الاُموي على يد يوسف بن عمر الثقفي والي العراق ، ثمّ صلبوه في منطقة الكناسة بالكوفة لمدّة أربع سنوات ، وكانت شهادته سنة ١٢٢هـ .

انظر : الإرشاد للمفيد ٢ : ١٧١ ، رجال الطوسي : ١١٣ / ١١٢٦ ، منهج المقال : ١٥٤ ، الطبقات لابن سعد ٥ : ٣٢٥ ، وفيات الأعيان ٥ : ١٢٢ / ٢٢٧ ، سير أعلام النبلاء ٥ : ٣٨٩ / ١٧٨ .

(٢) انظر : الفرق بين الفِرَق : ٣٤ ـ ٣٧ ، الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٥٥ ـ ١٥٦ .

٢٥٢

مخالفته لأخيه في ترك الخروج ، وقد كان ثابتاً عندهم أنّ الإمامة للباقر عليه‌السلام دونه ؛ لما سيأتي من علائم الإمامة ، دون غير ذلك من ملفّقات العامّة .

إلاّ أنّ الذي يظهر من أخبار الصادقَين عليهما‌السلام أنّ زيداً ـ بخصوصه من بين أئمّة الزيديّة ـ لم يكن يدّعي الإمامة لنفسه ، بل يعدّ نفسه من الدعاة إلى آل محمّد عليهم‌السلام ، وكان في نفسه أنّ الأمر إن استقام له وغلب على بني اُميّة وسائر مخالفي العترة وأعداء أهل البيت عليهم‌السلام ، سلّم الأمر إلى أخيه الإمام من اللّه‏ عزوجل (١) ، ولكنّه لمّا لم يكن ليظهر هذا الأمر صريحاً لعدم اقتضاء المصلحة ، توهّم الناس أنّه مُدّعٍ للإمامة ، فرفضه من الشيعة من كان عالماً بشرائط الإمامة الآتية ، وقال بإمامته من لم يعلم بالحالة ، فافهم .

ثمّ إنّ من تلك الألقاب التلقّب بالقدريّة ، والمرجئة ، فإنّ صريح أخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في ذمّ المرجئ والقدريّ ، فقد روى السيوطي في جامعه من صحيحي الترمذي وابن ماجة عن ابن عبّاس ، ومن صحيح ابن ماجة أيضاً : عن جابر ، ومن كتاب الخوارزمي : عن ابن عمر ، ومن كتاب أوسط الطبراني : عن أبي سعيد الخدري ، كلّهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «صنفان من اُمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة ، والقدريّة» (٢) .

ومن كتاب الأوسط أيضاً ، وكتاب الحلية : عن واثلة (٣) ، وعن جابر ،

__________________

(١) انظر : الكافي ٨ : ٢٦٤ / ٣٨١ .

(٢) سنن الترمذي ٤ : ٤٥٤ / ٢١٤٩ ، سنن ابن ماجة ١ : ٢٤ / ٦٢ ، ٢٨ / ٧٣ ، تاريخ بغداد ٥ : ٣٦٧ وفيه بتفاوت يسير ، المعجم الأوسط ٦ : ٣٩ / ٥٥٨٧ ، جامع الأحاديث ٦ : ٨٧ / ١٣٥٧١ .

(٣) هو واثلة بن الأسقع بن عبد العزّى بن عبد ياليل الليثي ، أسلم والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يتجهّز إلى تبوك ، وكان من أهل الصفّة والفقراء النازلين في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وروى عنه

٢٥٣

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «صنفان من اُمّتي لن تنالهما شفاعتي يوم القيامة : المرجئة ، والقدريّة » (١) .

ومن كتاب الأوسط أيضاً : عن أنس بن مالك ، قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «صنفان من اُمّتي لا يردان عليّ الحوض ولا يدخلان الجنّة : المرجئة والقدريّة» (٢) .

وروى أيضاً من كتاب الخوارزمي : عن ابن عمر ، ومن كتاب ابن عدي : عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «عزمت على اُمّتي أن لا يتكلّموا في القدر» (٣) .

وفي رواية اُخرى عن أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله مثله ، مع زيادة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ولا يتكلّم في القدر إلاّ شرار اُمّتي في آخر الزمان» (٤) .

حتّى روى بعضهم كالشهرستاني وغيره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «القدريّة خصماء اللّه‏ في القدر» (٥) .

ورووا أيضاً ، كما في صحيح أبي داوُد ، ومستدرك الحاكم : عن ابن

__________________

مكحول ، وعبداللّه‏ بن عامر اليحصبي ، وشدّاد بن عمارة وغيرهم ، مات بدمشق سنة ٨٥ أو ٨٣هـ .

انظر : تنقيح المقال ٣ : ٢٧٧ / ١٢٦١٢ ، طبقات خليفة : ٦٩ / ١٨١ ، الجرح والتعديل ٩ : ٤٧ / ٢٠٢ ، الثقات ٣ : ٤٢٦ ، حلية الأولياء ٢ : ٢١ / ١٢٠ ، الاستيعاب ٤ : ١٥٦٣ / ٢٧٣٨ ، سير أعلام النبلاء ٣ : ٣٨٣ / ٥٧ .

(١) المعجم الأوسط ٢ : ١٩٧ / ١٦٤٨ ، ٦ : ١٢٧ / ٥٨١٧ ، حلية الأولياء ٩ : ٢٥٤ ، وفيه : عن أنس ، جامع الأحاديث ٦ : ٨٧ / ١٣٥٦٨ .

(٢) المعجم الأوسط ٤ : ٤٦٤ / ٤٢٠٤ ، جامع الأحاديث ٦ : ٨٧ / ١٣٥٦٩.

(٣) الكامل لابن عدي ٥ : ٥٠٥ / ١١٤١ ، تاريخ بغداد ٢ : ١٨٩ / ٦٠٨ ، جامع الأحاديث ٦ : ١٧٢ / ١٤١٣٠ و١٤١٣١ .

(٤) الكامل لابن عدي ٥ : ٥٠٥ / ١١٤١ ، جامع الأحاديث ٦ : ١٧٢ / ١٤١٣١ .

(٥) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ٤٣ .

٢٥٤

عمر ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «القدريّة مجوس هذه الاُمة» (١) .

وفي رواية : «المرجئة يهود هذه الاُمّة» (٢) .

وفي مسند أحمد بن حنبل : عن ابن عمر ، عن (٣) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لكلّ اُمّة مجوس ، ومجوس هذه الاُمّة الذين يقولون : لا قدر ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم» (٤) .

وفي صحيح ابن ماجة ، وكتابي ابن عدي والضياء المقدسي وغيرهما : عن جابر ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال ـ وذكر نحو الخبر هكذاـ : «إنّ مجوس هذه الاُمّة المكذّبون بأقدار اللّه‏ إن مرضوا» إلى أن قال : «وإن لقيتموهم فلا تسلّموا عليهم» (٥) .

وفي كتاب الدارقطني : عن عليّ عليه‌السلام قال : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لعنت القدريّة على لسان سبعين نبيّاً» (٦) .

ولأجل هذا اختلفوا في تفسير هذين اللقبين .

أمّا المرجئة . فقال الشهرستاني : الإرجاء على معنيين :

أحدهما : التأخير ، قال اللّه‏ تعالى : ( أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ) (٧) ، الآية ، أي : أمهله وأخّره.

__________________

(١) سنن أبي داوُد : ٤ : ٢٢٢ / ٤٦٩١ ، المستدرك للحاكم ١ : ٨٥ .

(٢) الإيضاح للفضل بن شاذان : ٤٧ .

(٣) في «ش» : «أيضاً قال» بدل «عن» .

(٤) مسند أحمد ٢ : ٢١٠ / ٥٥٥٩ .

(٥) سنن ابن ماجة ١ : ٣٥ / ٩٢ ، الكامل لابن عدي ١ : ٣٠٦ ، بتفاوت يسير .

(٦) حكاه عنه السيوطي في جامع الأحاديث ٥ : ٤١ / ١٧٠٧٤ .

(٧) سورة الأعراف ٧ : ١١١ .

٢٥٥

والثاني : إعطاء الرجاء (١) .

ولا يخفى أنّ المتبادر منه الأوّل ، وهو المشهور .

ثمّ ذكر الأقوال في تعيين أهل هذا اللقب ، فقال : قيل : الإرجاء هو تأخير عليّ عليه‌السلام من الدرجة الاُولى إلى الرابعة ؛ فعلى هذا الشيعة والمرجئة فرقتان متقابلتان (٢) .

أقول : هذا الكلام له معنيان :

أحدهما : أن يكون المراد بالمرجئة مَن قدّم خلافة الثلاثة على عليّ عليه‌السلام .

والثاني : أن يكون المراد مَن فضّلهم عليه ، بأن يكون الذمّ من جهة التفضيل دون الخلافة .

والظاهر أنّ هذا هو مرادهم ؛ لأنّه هو الأنسب بطريقتهم ؛ ضرورة أنّ القائل بخلافة الثلاثة لا يحمل هذا على ما ينافي طريقته .

نعم ، القول بتفضيل عليّ عليه‌السلام ـ كما سيأتي في محلّه ـ كان دائراً بين الصحابة ، وهو كلام جماعة من المعتزلة الذين يدّعون أنّهم هم المراد بالشيعة كما مرّ (٣) ، وإنّما اشتهر خلافه من زمان بني اُميّة المجاهرين بعداوة عليّ عليه‌السلام وتنقيصه .

ثمّ قال الشهرستاني : وقيل : الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى القيامة ، فلا يقضى عليه بحكمٍ في الدنيا من كونه من أهل الجنّة ، أو من

__________________

(١ و٢) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٣٩ .

(٣) انظر : ص٢٥٠ .

٢٥٦

أهل النار (١) .

وقال صاحب المغرب (٢) : المرجئون هم الذين لا يقطعون على أهل الكبائر بشيء من عفو أو عقوبة ، بل يرجئون الحكم في ذلك ، أي : يؤخّرون إلى يوم القيامة ، يقال : أرجأت الأمر ، بالهمزة ، وأرجيته ، بالياء ، إذا أخّرته .

ثمّ قال : وقد تفرّد مقاتل بن سليمان من هؤلاء بأنّ اللّه‏ تعالى لا يُدخل أحداً في النار بارتكاب الكبائر ، وأنّه تعالى يغفر ما دون الكفر لا محالة ، وأنّ المؤمن العاصي ربّه يعذّب يوم القيامة على الصراط ، وهو على متن جهنّم يصيبه فيح النار ولهيبها ، فيتألّم بذلك على مقدار المعصية ، ثمّ يدخل الجنّة (٣) .

والمشهور بين الناس ـ وقد ذكره الشهرستاني (٤) وغيره أيضاً ـ أنّ المرجئة هم الذين يقولون : لا يضرّ مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، لكن لهم في تفصيل بيان هذا المعنى أقوال سنذكرها . وخلاصة أقوالهم راجعة إلى عدم مدخليّة العمل في الإيمان ، بل يدخل أيضاً فيها القول الأخير الذي ذكرناه آنفاً ، فعلى هذا يكون المرجئة مقابل

__________________

(١) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٣٩ .

(٢) هو ناصر بن عبدالسيّد بن عليّ المُطرّزيّ ، يكنّى أبا الفتح من أهل خوارزم ، كانت له معرفة بالنحو واللغة العربيّة ، وكان حنفيّ المذهب ، له كتب منها : كتاب المغرب ، وشرّ المقامات ، ولد سنة ٥٨٣ هـ ، ومات سنة ٦١٠ هـ .

انظر : إنباه الرواة ٣ : ٣٣٩ / ٧٨٥ ، وفيات الأعيان ٥ : ٣٦٩ / ٧٥٨ ، سير أعلام النبلاء ٢٢ : ٢٨ / ٢٣ .

(٣) المغرب في ترتيب المعرب ١ : ١٠١ ـ ١٠٢ .

(٤) الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١٣٩ ، جامع الاُصول ١٠ : ١٣٠ .

٢٥٧

الوعيديّة (١) الذين سيأتي أيضاً بيان مقالتهم .

وعلى أيّ تقدير ، ليس أحد من كلّ هؤلاء الفِرَق موافقاً لقول الإماميّة كما سيظهر ، ومنه يتبيّن توهّم من احتمل كون الإماميّة مصداق المرجئة بمعنى إعطاء الرجاء؛ إذ لو فرض كون الإرجاء بهذا المعنى دون التأخير ، فلا شكّ في عدم وجـود قائلٍ في الإماميّة بلزوم ذلـك على اللّه‏ مطلقاً ، كما هو قول هؤلاء القائلين بعدم مدخليّة العمل في الإيمان بوجـه . نعم ، إنّهم يقولون : إنّ اللّه‏ عزوجل لمّا وعـد أن يتفضّل على مـن يشاء من المؤمنين بالعتـق مـن العقاب؛ إنّه لا يخلف الميعاد ، فنحن نرجـو أن يدخلنا في ذلـك بفضله ، وهذا ممّا لا شكّ في صحّته كتاباً وسنّةً ، بل إجماعاً أيضاً ، فافهـم .

وأمّا القدريّة : فقد ذكروا للقدر تفسيرَين يشمل أحدهما المفوّضة الذين هم المعتزلة وأشباههم ، والآخَر الجبريّة الذين هم الأشاعرة وأمثالهم ، كما سيأتي ، وقد نسب كلّ واحدٍ الآخَر إلى هذا اللقب وبرّأ نفسه منه مع أنّ كلاًّ منهما واقع فيه من حيث لا يشعر ؛ لأنّ الحقّ الذي بيّنه اللّه‏ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قد علّم به وصيّه عليّاً والأوصياء الأئمّة عليهم‌السلام ، كما صرّح به كلّ واحد منهم في أخبارهم المتواترة أن «لا جبر ولا تفويض ، بل أمرٌ بين

__________________

(١) الوعيديّة : هم الذين لا يجوّزون العفو عن الكبائر ويذهبون إلى القول بالإحباط ، قيل : هم من المعتزلة ، قالوا بتكفير صاحب الكبيرة وتخليده في النار ، ثمّ اختلفوا ، فقال أبو عليّ الجبائي بالإحباط ، أي : إحباط الكبيرة لجميع أعماله الصالحة ، وقال ابنه أبو هاشم بالموازنة وقيل : الوعيديّة داخلة في الخوارج .

انظر : الملل والنحل للشهرستاني ١ : ١١٤ ، تلخيص المحصّل : ٤٠٣ ـ ٤٠٤ و٤٦٧ ، دائرة معارف القرن العشرين ١٠ : ٧٨٨ ، معجم الفِرَق الإسلامية : ٢٦٧ .

٢٥٨

الأمرين» (١) ، بنحو ما سيأتي بيانه في ذكر مذهب الإماميّة ؛ إذ على هذا يكون القول بالقدر ـ بالتفسير الذي مآله إلى كون الخير والشرّ كلّه من اللّه‏ من غير ثبوت استطاعةٍ للعبد ، وأنّ أفعال العباد كلّها بالقضاء الحتم والقدر اللازم ، كما سيأتي في بيان مذاهب الأشاعرة وأمثالهم من الجبريّة ـ باطلاً ، وكذا يكون باطلاً بالتفسير الذي ـ يأتي في بيان مذاهب المعتزلة وأشباههم من المفوّضة المنكرين لقضاء اللّه‏ وقدره في أفعال العباد ـ مآله إلى كون الخير والشرّ كلّه إلى العبد ، من غير مدخليّة للّه‏ عزوجل في شيء من ذلـك .

ولعلّ هذا هو السرّ في تعبير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بلفظة «القدريّة» لاشتمالها ـ بحسب تعدّد تفسيرها ـ سائر المذاهب الباطلة ، كما أنّ المرجئة أيضاً كذلك ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اُعطيت جوامع الكلم» (٢) ، وأخبر بهلاكة ما سوى الواحدة من البضع والسبعين .

لكنّ الذي يظهر من بعض ما مرّ من الأخبار مشعر بصدقها على القائل بالتفويض المذكور ، كما هو المشهور الوارد في أكثر أخبار أهل البيت عليهم‌السلام ، إلاّ أنّه لا ينافي صدقها على الجبريّة أيضاً ، كما يظهر من بعضٍ آخَر من أخبارهم ، كما رواه محمود الخوارزمي في كتاب الفائق وكذا غيره : عن جابر ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «يكون في آخر الزمان قوم يعملون بالمعاصي ويقولون : إنّ اللّه‏ قدّرها عليهم ، الرادّ عليهم كالشاهر

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٢٤ / ١٧ ، التوحيد : ٢٠٦ / ٩ في ذيل الحديث .

(٢) شعب الإيمان ٢ : ١٦٠ / ١٤٣٦ ، تاريخ مدينة دمشق ٤ : ٨ ، مجمع الزوائد ٨ : ٢٥٨ ، كنز العمّال ١٦ : ١١٢ / ٤٤٠٨٧ .

٢٥٩

سيفه في سبيل اللّه‏» (١) .

وفي الكتاب المذكور وغيره أيضاً : عن محمّد بن عليّ المكيّ (٢) بإسناده قال : إنّ رجلاً قدم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال له : أخبرني يا رسول اللّه‏ بأعجب شيء رأيت ، فإنّي رأيت قوماً ينكحون اُمّهاتهم وبناتهم وأخواتهم ، فإذا قيل لهم : لِمَ تفعلون هذا؟ قالوا : قضاه اللّه‏ علينا وقدّره ؟ ! فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «سيكون في اُمّتي أقوام يقولون مثل مقالتهم ، اُولئك مجوس اُمّتي» (٣) .

وسيأتي بعض أخبار أهل البيت عليهم‌السلام أيضاً في إطلاقها بهذا المعنى .

فالحقّ إذن ما ذكرناه من دخول كلٍّ منهما في ذلك بوجهٍ ، فافهم .

وإذ قد تبيّن هذا ، فلنذكر أوّلاً خلاصة كلّ واحد واحد ممّا اشتهر من المذاهب الآرائية ، ثمّ المذاهب الإماميّة الاثني عشريّة ، وحيث إنّ عمدة أسباب افتراق تلك الفِرَق الآرائية اختلافهم فيما سوى الإمامة من سائر اُصول العقائد ، حيث اتّخذوها بالآراء دون الأخذ من اللّه‏ تعالى ، جعلنا مناط تميّزهم ذلك ، نعم ، إذا كان خلاف بعض منهم بحسب الإمامة بيّنّاه أيضاً ، ولم نتعرّض لعامّة عقائد أكثرهم ، ولا اختلافهم في الفروع ، احترازاً من

__________________

(١) لم نعثر عليه في الفائق ، وحكاه عنه ابن طاووس في الطرائف ٢ : ٣٦ ، والمجلسي في بحار الأنوار ٥ : ٤٧ / ٧٥ .

(٢) لعلّه هو محمّد بن عليّ بن زيد المكّي الصائغ ، يكنّى أبا عبداللّه‏ ، سمع من : القعنبي ، وخالد بن يزيد العمري ، ويحيى بن معين وغيرهم ، وحدّث عنه : دعلج ابن أحمد ، وسليمان الطبراني ، وخلق كثير ، مات بمكّة سنة ٢٩١هـ .

انظر : سير أعلام النبلاء ١٣ : ٤٢٨ / ٢١٢ ، العبر ١ : ٤٢١ ، شذرات الذهب ٢: ٢٠٩ .

(٣) لم نعثر عليه في الفائق ، وحكاه عنه ابن طاووس في الطرائف ٢ : ٣٥ ـ ٣٦ ، والمجلسي في بحار الانوار ٥ : ٤٧ / ٧٤ بتفاوت .

٢٦٠