موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٨

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٨

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

الآلوسي الذي كان في استنبول في إرجاعهم فعادوا بعد مدة قصيرة.

عزل والي بغداد

عبد الوهاب باشا

عزل الوالي عبد الوهاب باشا في سلخ شعبان سنة ١٣٢٣ ه‍. وخرج من بغداد يوم الخميس ١٠ شوال سنة ١٣٢٣ ه‍. فخلفه بالوكالة قائد الفيلق المشير سليمان باشا وهذا القائد كان بينه وبين كاظم باشا الفريق الأول نفرة ، وكاظم باشا صهر السلطان عبد الحميد ، وقائد الخيالة ، وكان يتولى الوكالات لبعض الولاة. وفي نتيجة النزاع عزل سليمان باشا ، ونفي إلى أرزنجان ، فلما وصلها أعيد ، وكان يعتقد في حساب الجفر ، ومما يحكى أن حسن المتقاعد من (الحجر الصحي) أخبره أنه سيعود ، فلما عاد أكرمه ، فقوي اعتقاده في صحة حساب الجفر. فأسند إلى أعدائه أمورا أثرت في استنبول. ووجدت أذنا صاغية ، فقبلت وأعيد.

والملحوظ أن رئيس أركان الجيش في أيام عبد الوهاب باشا كان فخري باشا.

ثم خلفه الوالي عبد المجيد بك. وكان يعرف بـ (مجيد بك) ، وهو كاتب قدير ، ورتبته (بالا). ورد بغداد في ٢٨ شوال سنة ١٣٢٣ ه‍.

حوادث سنة ١٣٢٤ ه‍ ـ ١٩٠٦ م

والي البصرة :

انفصل الفريق مخلص باشا والي البصرة وقائدها ، وأحيلت الولاية بالوكالة إلى والي بغداد مجيد بك. وهذا الوالي واقف على دقائق الأمور وغوامضها ، وله تجارب عديدة فيما عهد إليه ، وقام بالهمّات

١٨١

والمعضلات (١). ولم تمض مدة حتى عيّن لمنصب البصرة حسن بك فوصل إلى بغداد يوم الجمعة في ١٤ شوال سنة ١٣٢٤ ه‍ وفي ١٦ منه توجّه إلى البصرة (٢).

مصطفى وفي آل جميل :

توفي ليلة ٢٨ شهر رمضان سنة ١٣٢٤ ه‍ وشيّع جثمانه الأهلون ، وكان دينا ، عاقلا ، كاملا محسنا ، وإن وفاته ضياع أليم (٣). وكان عالما وأديبا. ذكرته في التاريخ الأدبي. وهو من أشراف بغداد.

عزل الوالي مجيد بك

صدرت الإرادة بنصب والي مناستر أبي بكر حازم بك واليا لبغداد وأن ينتظر الوالي السابق مجيد بك إلى إشعار آخر (٤).

سافر مجيد بك إلى استنبول يوم السبت ٢٦ ذي الحجة سنة ١٣٢٤ ه‍ وأجريت له المراسم المعتادة (٥).

وكان سبب عزله حركة كربلاء حينما وجه رشيد باشا ابن الأستاذ محمد فيضي الزهاوي وكيل المتصرف فوقع قتال بين العجم وبين الجند بسبب أخذ الرسوم. وعندي رسالة خطية باللغة الفارسية في تفصيل هذه الواقعة.

__________________

(١) الزوراء عدد ٢٠٧٧ في ١٨ ربيع الأول سنة ١٣٢٤ ه‍.

(٢) الزوراء عدد ٢٠٩٦ في ٤ شعبان سنة ١٣٢٤ ه‍.

(٣) الزوراء عدد ٢١٠٤ في ٨ شوال سنة ١٣٢٤ ه‍.

(٤) الزوراء عدد ٢١٠٩ في ١٣ ذي القعدة سنة ١٣٢٤ ه‍.

(٥) عن تعليق بخط المرحوم الأستاذ الحاج علي علاء الدين الآلوسي على كتاب (كلشن خلفا) ومثله مجموعة ابن حموشي.

١٨٢

حوادث سنة ١٣٢٥ ه‍ ـ ١٩٠٧ م

والي بغداد

أبو بكر حازم بك

وصل إلى بغداد يوم الجمعة ٣ المحرم سنة ١٣٢٥ ه‍ فأجريت له المراسم والاحتفالات المعتادة. وهنأوه بمنصبه (١). وكان برتبة (بالا). ولد سنة ١٨٦٤ م وتقلب في مناصب تحريرية أولها سنة ١٢٩٤ ه‍ وهو من سلالة مراد باشا صاحب الخيرات العميمة في (نيكده).

وهذا الوالي أصل محلته (تبه وايران) فصارت تبه يران (تپيران) وهذا ما اتخذه هذا الوالي عنوانا له في أيام أتاتورك (٢).

كان حدث في كربلاء قتل أربعين شخصا من الإيرانيين الأمر الذي دعا إلى توجيه منصب الولاية إليه ، فوردها براتب ثلاثين ألف قرش.

وهذه ترجمة الفرمان :

«افتخار الأعالي والأعاظم ، مختار الأكابر والأفاخم ، المستجمع لجميع المعالي والمكارم ، المختص بمزيد عناية الملك الدائم ، من أعاظم رجال دولتي العلية ، والي ولاية مناستر ، الذي أحسن بتوجيه إيالة ولاية بغداد لعهدة استيهاله ، الحائز والحامل للوسامين العليّين العثماني والمجيدي حازم بك دام علوه.

لقد بلغك توقيعي الرفيع الملوكي فاعلم أن أقصى آمالي الملوكية هو تزييد العمران في ولاية بغداد وتكثير ثروتها على حد ما لها في ذلك من الاستعداد والقابلية ، وكذا تمهيد سبل الأمن لأهالي الولاية ، وتوطيد

__________________

(١) عن تعليق بخط المرحوم الأستاذ الحاج علي علاء الدين الآلوسي. على كتاب (كلشن خلفا).

(٢) خواطر أبي بكر حازم ص ٩ وما بعدها.

١٨٣

طرق الراحة من جميع الوجوه لقطّانها وتكميل أسباب الرفاه والسعادة فيها فتلك أمور ملتزمة لدى جنابي الملوكي غاية الالتزام ، وحيث إن ظهور الخدمات الحسنة منك طبق آمالي السلطانية هو مأمول ومترقب لدى جانبي السلطاني لكونك أنت المشار إليه من المتصفين بالدراية والروية ومن متميزي مأموري سلطنتي السنة الواقفين على الأصول الإدارية ، وإن أحاسن توجيهاتي شاملة لك ومقررة في حقك وجهت إلى عهدة اقتدارك إيالة ولاية بغداد بموجب إرادتي الملوكية السانحة والصادرة بالشرف من لدن عواطفي السنية ، وعوارفي الجليلة السلطانية في اليوم الخامس عشر من شهر شوال المكرم سنة ١٣٢٤ وأصدر من قبل ديواني الهمايوني جليل أمري هذا ناطقا بمأموريتك ، فعليك أنت أيضا حسبما جبلت عليه شيمتك البهية ، وبمقتضى ما اتصفت به من الدراية والأهلية أن تبذل الوسع كما تقتضيه مأموريتك في إيفاء مصالح الولاية وحسن تسوية أمورها وفق أحكام القوانين المؤسسة والنظامات الموضوعة متمسكا ومتوسلا في جميع الأحوال بالشريعة المطهرة النبوية وأن تخرج عند اللزوم إلى الملحقات وتطوفها ، وأن تخفض للجميع جناح الرأفة والشفقة فلا تجعل لسبب ما أحدا يؤخذ بالجور والأذى بغير حق وأن تهتم كل الاهتمام وتعتني غاية الاعتناء بالخصوصات المتعلقة بتزييد الثروة وتوفير التجارة ، وتنظيم أحوال قطّان الولاية وتبين ما يلزم إنهاؤه إلى سدتي الملوكية مما يقتضي اتخاذه وإجراؤه من التدابير النافعة على التعاقب وتسعى في أقصر مدة لإظهار ما يكفي للحصول على المطلوب من الآثار الفعلية وبالجملة فعليك أن تصرف القدرة لجعل مصالح الولاية العمومية على الوجه المطابق لمقصدي الملوكي دائرة على محورها المطلوب ، مجدّا في استجلاب الدعوات الخيرية لجانبي الأسنى الملوكي تحريرا في اليوم السادس والعشرين من شهر شوال المكرم لسنة أربع وعشرين وثلاثمائة وألف». ا ه.

١٨٤

قرىء الفرمان يوم الاثنين في ٥ المحرم سنة ١٣٢٥ ه‍ بمراسمه المعتادة وبمحضر من الأشراف والأمراء والأعيان وسائر الموظفين. وبعد انتهائه ألقى الوالي خطابا كانت هذه ترجمته :

«ينتظر مني أن ألقي خطابا موجزا أو مفصلا كما ألقى قبلي أسلافي الكرام ، وإنه من المتعذر إيراد الكلام الموزون في مثل هذا الوقت الذي أضحت به ألسنتنا العاجزة ، وأفكارنا القاصرة في غاية من البهت والحيرة لما أصابها من المهابة العظمى المتحصلة من بلاغة فرمان الحضرة الملوكية التي قرطت آذان المستمعين ، وعظيم اللذة الحاصلة في قلوب الحاضرين على أن الأمر الجليل الملوكي أوضح ما لحضرة سيدنا ومولانا أمير المؤمنين من الآمال الخيرية والمقاصد السنية المتعلقة بولاية بغداد كما أنه بيّن وظائف هذا العبد العاجز بتمامها ، فمهما أقول فهو شيء زائد بل عبث.

فنسأل الله تعالى رب العباد أن يزيد في عمر حضرة سيدنا ومولانا السلطان الأعظم والخليفة المعظم وفي شأنه وشوكته ، وأن يوفق الجميع ولا سيما هذا العاجز لما فيه رضاه ورضاء خليفته إنه هو الجواد الكريم» (١). ا ه.

ثم قرأ أمين الفتوى علي الخوجة الدعاء. وبعدها عاد الوالي إلى محله فهنأه القوم.

حوادث :

١ ـ اتخذت الحكومة قرارا في تزييد النخيل التي تعد من منابع الثروة في بغداد والبصرة ، وإعطاء الأراضي الأميرية مجانا لراغبي ذلك. وتقسيم أصنافها (٢).

__________________

(١) الزوراء عدد ٢٢١٥ في ٣ المحرم سنة ١٣٢٥ ه‍.

(٢) الزوراء عدد ٢١١٨ في ٢٤ المحرم سنة ١٣٢٥ ه‍.

١٨٥

٢ ـ أعطى امتياز تراموي النجف إلى عبد الرحمن الباجه جي (١). ولمحمد صالح الشابندر ، والمشروع بشكل (شركة مساهمة) معروفة بـ (آنونيم) (٢). ويقال : إن المرحوم الباجه جي قال : جئت من استنبول (بمفتاح الكيمياء) يقصد مشروع التراموي أي (المحجة بين النجف والكوفة).

٣ ـ تدمرت سدة الهندية من سنين. فكشف عليها الوالي لإجراء ما يجب.

٤ ـ جعلت البلديات بلدية واحدة.

٥ ـ حدث وباء في البصرة.

٦ ـ لأهمية ولاية بغداد عيّن لها المعاون ممتاز بك من دائرة ـ الملكية في شورى الدولة

فصدرت له الإرادة في ٢٨ ربيع الآخر سنة ١٣٢٥ ه‍ ووصل إلى بغداد في ١٥ جمادى الآخرة سنة ١٣٢٥ ه‍ (٣).

٧ ـ أحالت الحكومة عرق السوس بالمزايدة (٤).

٨ ـ صدرت الإرادة السنية بجعل فهد الهذال رئيسا على فرقة العمارات (٥).

٩ ـ سد الحويرة وسد الكنعانية :

جاء ذكرهما بمناسبة الفيضان. وإن سدة الحويرة ذكرها الأستاذ

__________________

(١) له أولاد كثيرون منهم نعمان والد جعفر صدقي ، وموسى والد معالي الدكتور عبد الهادي ، وشاكر ومن أولاده معالي نديم الباجه جي.

(٢) الزوراء عدد ٢١٢١ في ١٥ صفر سنة ١٣٢٥ ه‍.

(٣) الزوراء عدد ٢١٣٧ في ٤ جمادى الأولى سنة ١٣٢٥ ه‍.

(٤) الزوراء عدد ٢١٣٨ في ١١ جمادى الأولى سنة ١٣٢٥ ه‍.

(٥) الزوراء عدد ٢١٥٠ في ١٢ شهر رمضان سنة ١٣٢٥ ه‍.

١٨٦

معروف الرصافي في ديوانه بعنوان (السد في بغداد) ولا شك أن القصيدة نظمت في جمادى الأولى سنة ١٣٢٥ ه‍ ـ ١٩٠٧ م. مدح الوالي بها وجاءت في الديوان المطبوع سنة ١٣٤٣ ه‍ ـ ١٩٢٥ م طبعة ثانية. وله قصيدة (سوء المنقلب) ، وهي بعد تلك وجاءت في ص ٩٢ من ديوانه ندب بها حال بغداد وما أصابها من نكبات متوالية من أشدها قسوة الغرق وتلاقي مياه دجلة والفرات مما أفزع الناس. بكى على الكرخ واستبكى.

١٠ ـ توفي عبد اللطيف بك آل القائممقام في ١٠ ذي القعدة سنة ١٣٢٥ ه بعد أن طال مرضه نحو شهرين ودفن في الحضرة الگيلانية وأسرته من المماليك معروفة في بغداد (١). وهو والد درويش بك وجد الأستاذ فؤاد.

الهيئة الإصلاحية :

استقبلت الهيئة الإصلاحية وعلى رأسها ناظم باشا ذو الدولة (٢). وهذه قامت بأعمال جليلة في تأسيس ثقافة في العراق. فكانت أعمالها من أجلّ الأعمال.

ولما كان الوالي لم يأتلف مع رئيس الإصلاحات في بغداد طلب نقله ، فنقل (٣).

حوادث سنة ١٣٢٦ ه‍ ـ ١٩٠٨ م

أعمال الهيئة الإصلاحية :

قامت بأجلّ عمل يذكر ، فأسست في العراق ٢٤ مدرسة ابتدائية

__________________

(١) الزوراء عدد ٢١٥٧ في ١٦ ذي القعدة سنة ١٣٢٥ ه‍.

(٢) الزوراء عدد ٢١٥٢ في ٢٦ شهر رمضان سنة ١٣٢٥ ه‍.

(٣) خواطر أبي بكر حازم بك طبيران (تپيران) ص ٩.

١٨٧

للذكور ، وثلاث مدارس للإناث. وفتحت في ١٤ تموز سنة ١٩٠٨ م أي قبل إعلان الدستور بتسعة أيام. وأهميتها في أنها وافق فتحها إعلان المشروطية فعادت بالثقافة على القطر. وتكاملت عند تنسيق المدرسين فكان ذلك عملا مهما. وبذرة إصلاح جميلة.

وإن المدارس لم تكن تعدّ في الحقيقة مدارس ، ولم يكن عمل الحكومة صحيحا في إدارتها وفي هذه المرة قامت بخير عمل. وتاريخ تأسيس المدارس الرشدية يرجع إلى أيام مدحت باشا إلا أنها كانت بوضع غير مثمر وأما مدرسة الحقوق فإن الدولة العثمانية اتخذت (دار التدريس) في ديوان الأحكام العدلية في ربيع الآخر سنة ١٢٨١ ه‍ ـ ١٨٧٠ م ودام إلى أن شكلت (مدرسة حقوق) في عاصمتها في ٤ صفر سنة ١٣٠٤ ه‍ ـ ١٨٨٦ م وتأخر عندنا إلى قبيل المشروطية ولا شك أن ذلك دعا إلى ضرورة تكوّن عدة مدارس حقوق في البلدان الأخرى. وكانت المحاولات كثيرة في إلغائها وبقيت رغم كل ذلك ، فاضطرت الدولة أن تنظر إليها بنظر جدّ واهتمام. وكانت مدرسة الحقوق مؤسسة عدلية لدرس القوانين والحقوق والنظامات والحقوق الأساسية والإدارية فكانت لها قيمتها في تنبيه الآراء وتوجيه الأفكار (١).

الوالي نجم الدين

ولي بغداد الوالي نجم الدين منلا. ولا يفرق فرمانه ولا الاحتفال به عن سائر الولاة قبله. دخل بغداد يوم السبت ٢٣ ذي الحجة سنة ١٣٢٥ ه‍ ـ ١٩٠٨ م. واستمر حكمه إلى ما بعد (إعلان الدستور). دام إلى يوم الخميس ٢٣ ربيع الآخر سنة ١٣٢٧ ه‍.

__________________

(١) في مجلة القضاء مقال لي بعنوان كلية الحقوق في بغداد ج ٥ عدد ٢ ـ ٥ ص ٧٦ ٨٥.

١٨٨

عهد المشروطية

أو

إعلان الدستور

من أعظم العهود العثمانية وأجلّها لما حصل فيه من انكشاف فكري في الأقطار التابعة للدولة ومنها العراق. ويبدأ في ٢٤ جمادى الثانية سنة ١٣٢٦ ه‍ ـ ٢٣ تموز سنة ١٩٠٨ م. ووقائع هذا العهد أحدثت تغيرا كبيرا في الإدارة ، وظهورا في نفسيات الشعوب ، وصولة في تكسير قيود الاستبداد ، وسرعة في التطورات السياسية والعلمية والأدبية. تحاول الأمم أن تعيش حرة طليقة تعول على نفسها. والعراق لم يكن متأهبا مترقبا للأمر ، فلا تزال أوضاعه تتمخض عن حوادث جسيمة من أهمها الرغبة في تبديل السياسة وتحقيق ما تسمو إليه الأمة من عيشة راضية وحياة سعيدة.

ونرى حوادث العراق متأثرة بما كان يجري في العالم من الآراء والعقليات وفي حياة الأمم المشهودة ما يصلح أن يكون قدوة.

ويهمني هنا أن أوضح حوادثنا الخاصة ولا أتعرض إلا لما له مساس مباشر أو تفسير قطعي. ومراجعنا مستمدة من وثائق عديدة تخصنا أو دوّنت في حينها من الآخرين لمعرفة الأثر والتأثير. وكنت شاهدت الحالة. والوثائق تذكّر بها. وفيها بيان الآراء المتعاكسة. رجحت ما اعتقدته راجحا ، ولم ألتفت إلى ما سواه.

عزل الوالي

وهذا الوالي أدرك العهدين عهد الاستبداد ، وعهد الحرية ، وبقي مدة ، فلم يحصل منه ما يخالف النهج التشريعي إلا أنه لم يتمكن من القيام بإجراءات مهمة وإصلاحات كبيرة ، بل من أكبر ما يعد من حسنات

١٨٩

أيامه فتح المدارس الابتدائية للذكور والإناث ومدرسة الحقوق ، فكأن الحالة في انتظار هذا الانقلاب ، والتأهب للعهد الجديد.

وهو من أشراف يكيشهر (يني شهر) ابن علي طيفور بك ، ولد سنة ١٢٧٨ ه‍ وتقلّب في مناصب عديدة ، منها الموصل ، وأرضروم ، وديار بكر ، وقسطموني. ونال رئاسة الهيئة الإصلاحية في العراق. ثم عهدت إليه ولاية (يانية) في سنة ١٣٢٥ رومية. وقبل أن يذهب إلى منصبه الجديد وجهت إليه وزارة العدلية (نظارة العدلية) فاستشهد في حادث ٣١ آذار في ميدان أيا صوفية (١).

ومن المهم أن نقول : إن الدولة لم تستعض عن رجال إدارتها بغيره ، بل لم يسعها ذلك ، والموظفون آلة الوالي ، وواسطة تنفيذ قدرته ، وهؤلاء عرقلوا سير الأمور جهلا منهم ، أو بسبب سوء أعمالهم التي اعتادوها ، فاضطرت إلى إبقائهم ، على أن يزاولوا أعمالهم بكل جد واستقامة ، وقد عفا الله عما سلف ، وإنها سوف تحاسب من شذّ.

لم يبال الكثيرون بالتهديد القانوني ، وصاروا يستمرون على سوء أعمالهم ، أو جهلهم ، ولم يستطيعوا أن يمشوا على الأوامر المرسومة ، فبقي الحال على ما هو عليه ، والناس لم يسكتوا في أغلب الأعمال ، ولا كظموا الغيظ ، أطلقت ألسنتهم ، فتوسلوا بالشكاوى ، وزاد الضجيج بحق وبغير حق ، واعتمدوا الجرائد ، وعدّوها لسان حال الأمة ، فحصل اضطراب وترجرج في الإدارة.

وفي الوقت نفسه نرى أهل الباطل قد علا أيضا صوتهم ، وحاولوا أن يظهروا بمظهر المظلوم ، ويعودوا إلى سيرتهم الأولى ، فالتبس الأمر ، أو كاد. واستأجروا بعض الجرائد ، وأهل السوء لا يحصون في كل زمان ومكان.

__________________

(١) (سالمنامه ثروت فنون) ج ١ ص ١٩٨.

١٩٠

وهذه الحالة لا يقوم بإصلاحها وال من الأخيار ، وإن كان يودّ إقامة العدل إذ ليس له من الموظفين إلا من لا خلاق لهم أو من هم جهّال لا قدرة لهم على أداء الواجب على الأغلب وهذا شأن والينا. كان يضمر الخير ، ولكنه مقصوص الجناح ، يرغب في الإصلاح ويهمّ به إلا أنه لا يستطيع القيام لضعف في الآلة ، وجموح في طمع موظفيه. فلا يكفي أن يكون سديد الرأي وهو أعزل عن الموظفين القديرين.

مضت الحالة على هذا النمط حتى أواخر أيام هذا الوالي في بغداد.

يوم إعلان المشروطية

في ١٠ تموز سة ١٣٢٤ رومية و ٢٤ جمادى الثانية سنة ١٣٢٦ ه‍ (٢٣ تموز سنة ١٩٠٨ م) أعلن الدستور وتقررت الإدارة المشروطية (التشريعية) ، فكان هذا الحادث من أعظم الحوادث ، والناس في الغالب لا يعلمون عنه شيئا ، ولا يفهمون له مدلولا إلا أن هذه الحرية ساوت بينهم وبين غير المسلمين ، فرأوا في ذلك حيفا بل عدّوا من الإهانة ترديد ألفاظ الحرية والعدالة والمساواة والأخوة خصوصا أن خط گلخانه (التنظيمات الخيرية) يرمي إلى عين الغرض ، ولّد بوقته نفرة وسوء تأثير في النفوس ، وآخرون يعلمون حق العلم فائدة في هذه الحرية من جراء اتصالهم بالعالم الخارجي في مطالعة المجلات والجرائد أو اتصلوا برجال الدعوة ، فصار محيطهم أوسع ، وثقافتهم أكمل ، فلا رقيب عليهم ولا متجسس لأعمالهم.

وكان الإفهام صعبا ، والسواد الأعظم جاهل ، فكثر الخطباء ، وصدرت الجرائد ، وكتبت الأعمدة الطويلة في الجرائد تعيّن المراد في المقالات المسهبة في التوضيح والدعاية في صلاح الإدارة ، والتشويق لها ، ولكن الغالب لا يزال يعجب مما كان يسمع من شدة الضغط

١٩١

١٩٢

والتضييق في استنبول والأنحاء المجاورة لها ، لعلمه أنه كان بنجوة من الشرور ، ومن الاستبداد ويكرّرون أن الشريعة إذا كانت موجودة فما وجه الاعتماد على القانون الأساسي ، أو الحقوق الأساسية وما ذلك إلا من جراء التلقينات التي أشبعوا بها. فالناس بين مصدق ومكذب ، أو مثبت ومنكر. وكل ما فسرت به أن هذه الإدارة وسيلة لتدخل الأجانب.

ولا غرابة ، فالعراق لم ير عناء من عهد الاستبداد إلا قليلا ، ولا أصابته تلك الشدة إلا يسيرا ، فكأنه في حلم ، أو في غفلة عما كان يجري. إلا أن التلقينات المتكررة والعديدة أدت نوعا إلى التفهم لبعض المعاني ، ولا زالت تتكاثر ، وانتشرت الفكرة ، وأعلن ما كان ينشر في الخفاء من جرائد ومجلات ، فظهرت الآراء الحرة ، وذاعت ذيوعا شاملا. وقوتها مدرسة الحقوق ببغداد والمتخرجون العراقيون من كلية الحقوق باستنبول وكلية الملكية الشاهانية.

ومن المؤسف أنها فسرت عند بعض الناس في أن يكون حبل المرء على غاربه يسوغ له أن يتعاطى ما شاء من الموبقات ، وأن يرتكب المنكرات ، ويسرح ويمرح كما شاء له هواه ، فانقلبت الفائدة ، وما ذلك إلا لأن غالب الذين رأيناهم فسحوا لأنفسهم المجال في تعاطي هذه. حتى صار المفكرون ينددون بهؤلاء الذين فتحوا بابا واسعا لسوء الأحوال والأعمال الشائنة ، وعدم التقيد بواجبات الأسرة والانهماك في الملذات بحيث اتخذوها وسيلة لقضاء الوطر مستمرا.

وعلى كل حال كان الشعب يرى لهذا الإعلان مكانته في التنبيه ، وأثره في التلقين. فالتناصر تولد نوعا ، وصار مشهودا بين الحكومة وبين الأقطار لفك الأغلال مما لم يعرف نظيره ، ولا علم مثيله. وتتعين درجة ذلك بالحوادث والأحوال التي سنتناول موضوعها ونقرر شكلها الواقعي بقدر الإمكان ومساعدة الوثائق.

١٩٣

والعراق غالبه من العشائر ، فكان تأثير التلقين مقصورا على المتعلمين أو على قسم منهم. وكذا كان الموظفون من رجال الاستبداد لم يعتادوا غير إدارته السابقة ، ولا أثروا التأثير الكبير. والمتعلمون العارفون نظرا لقلتهم لم يتغلبوا على تلك العناصر.

وأعتقد أن في هذا كفاية لبيان الوضع والحالة الراهنة ، فلا نعجل بأكثر من هذا الإجمال. إلا أننا نقول من ظواهر هذا العهد :

١ ـ الجرائد والمجلات.

٢ ـ الكتب والنشرات.

٣ ـ التلقينات والمظاهرات.

٤ ـ الفائدة الفعلية في انكشاف المواهب.

ولا ينكر أن هذه الحركة مباركة وقهارة ، عظيمة الشأن من جراء إقامة صرح الحرية وتنبيه الناس لما لهم وعليهم قام بها نيازي وأنور ومحمود شوكت باشا ونعتهم المرحوم الأستاذ حافظ إبراهيم الشاعر بقوله :

ثلاثة آساد يجانبها الردى

وإن هي لاقاها الردى لا تجانبه

يصارعها صرف المنون فتلتقي

مخالبها فيه وتنبو مخالبه

روت قول بشار فثارت وأقسمت

وقامت إلى عبد الحميد تحاسبه

«إذا الملك الجبّار صعّر خدّه

مشينا إليه بالسيوف نعاتبه»

وإن المثقفين من العراقيين كانوا يناصرون هذه الحركة وهم كثيرون

١٩٤

وبذلك يحاولون أن يجدوا ناصرا من جراء هذا التكاتف والتعاون لاستحصال حقوقهم وحسن إدارتهم. ولكن لم تمض مدة حتى صار طلاب الحرية من الترك لا يقصدون إلا حرية مملكتهم وشعبهم ، ولا يبالون بالشعوب الأخرى ، بل قويت شوكتهم وتمكنت عنصريتهم وساروا على سياسة غير مألوفة ، هي أن لا تعتبر المملكة عثمانية بل تركية ، ولا ينظر إلى الشعوب الأخرى إلا بنظر من يحاول الانفصال أو يدعو لفكّ العلاقة ، وهكذا مما أدى إلى مشادات كثيرة ومخاصمات ، ومطالبات بحقوق يصح تلخيصها في :

١ ـ المطالبة باللغة. وكانت اللغة العربية مهملة مع أنها لغة الشعب العربي عامة.

٢ ـ الاشتراك في الإدارة ، وتساوي التوظيف في المملكة العربية ، وأن يكونوا من العرب كما يجب أن يكون في بلاد الترك من هم من العنصر التركي.

٣ ـ أن ينالوا الثقافة اللائقة كما نالها الأتراك ، فتكون لهم مؤسسات علمية وأدبية لا تفترق عن غيرها. وصاروا يقدمون الأرقام للمؤسسات التركية.

٤ ـ أن يراعى في التوظيف للبلاد العربية ترجيح من يحسن العربية ليتم التفاهم.

واشتد النزاع ، وقوي الجدال وطالت المطالبات وأذعنت الحكومة أحيانا وجاهرت بالإصلاح. حتى سقوط الدولة العثمانية وخروج بلاد العرب من الأيدي فلم يقوموا بأمر إصلاحي فعلي ، واكتفوا في الغالب بالمواعيد. فلم يمكنوا ثقافة الشعوب ليرتبطوا بهم ويكونوا يدا على من سواهم. فاختلف التلقي لمعنى الحرية ، ولمفهوم العدالة ، والمراد من المساواة ، مما كان يلهج به هؤلاء دوما وبإزعاج وإلحاح.

١٩٥

ـ نعم أعلنت المشروطية ، وانتشرت المطبوعات وتنبهت الأفكار فعلمنا الشيء الكثير ، والتفتنا إلى ما لم نكن نحلم به أو نهتم له ، وكان لهذا الاحتكاك في الآراء أثره. فخبرنا ما في العالم من أحداث أدّت إلى ما يزيل الغفلة ، وإلا فلم يعرض لحريتنا سوء ، فنرى في هذه الصفحات ما يعين الحالة ، ويميط اللثام عن درجة العلاقة بالأهلين ونواحي الاتصال بهم وانكشاف الأمر حتى لم يبق خفاء في العراق وغيره من الأحوال فذاعت مطالب قد تكون أوسع مما مر في عصور ، فكأن التاريخ تجمعت عصوره في هذه السنين ، زاد المطالعون ، وكثر القراء ، وانتشرت الجرائد والمجلات ، وزادت المدارس.

ولا شك أن المرء يتطلع إلى هذه الأيام التي ابتدأت بيوم إعلان المشروطية وهو يوم الحرية ، ويوم إطلاق القيود عن الأفكار ، وهو يوم استقلالها ، أو خروجها من قفص ضيق. كما أن الأهواء مالت إلى ما ترغب فيه ، وكل نال غرضه.

ولا شك أن الوقائع تميط اللثام عن الحالة بأمثلتها العديدة ، وعن الحزبيات وانتشارها ، وعن الآراء وتناطحها وهكذا. فظهرت الآراء الحرة. ولم تخل من فائدة ولا من انتباه ويقظة. إلا أن الأيام الأولى للمشروطية مضت والناس كان عليهم من الصعب جدا أن يفهموها إلا قليلا.

اتخذت الدولة هذا اليوم عيدا مليّا ، يحتفل به في كل سنة وتعاد ذكرياته كل عام ، ويجري له المهرجان في كل بلد وموطن ، وكانت قد قامت ثورة ضد الحرية ، ولكنها أخمدت بسرعة ، واستمرت فكرتها ورسخت في الأذهان إلا أننا نقول لم تقتصر فائدتها على الترك وحدهم بل إن العرب استفادوا منها أكثر من الأقوام الآخرين.

وكان تيّار معارض يكره الحرية ، ويظنها ضربة على الإسلام ،

١٩٦

ويعدها أمرا منكرا ، وما زالت الآراء تشيع في الخفاء ، وفي يوم ١٧ شهر رمضان سنة ١٣٢٦ ه‍ قام حزب بغداد ، وأجرى مظاهرة يريد بها الشريعة كأنها نهبت من البين ، أو سلبت من الأيدي ، ولا قصد لهم سوى المظاهرة على (حزب الاتحاد والترقي) ، وفي هذه الحادثة أوقف معروف الرصافي ، وعبد اللطيف ثنيّان بضع ساعات. وكان ذلك أيام الوالي (ناظم باشا).

ومن ثم نشاهد من صاحب الرقيب الأستاذ عبد اللطيف ثنيان قلما سيالا ، ومقالات ملتهبة في ذم هؤلاء وأمثالهم ممن يحاول ذمّ المشروطية ، والقيام عليها أو التنديد بها أو بأصحابها وهكذا ..

والآراء المناصرة قويت ، ووجدت تكاتفا ، وإن الحكومة لم تبال بمثل هؤلاء ، والقوة بيدها ، الأمر الذي أدّى أن تنال الإخفاق التام ، ولم يعد لها هبوب أبدا ولا عاد لها ذكر.

مجلس المبعوثين

أو مجلس الأمة

وهذا المجلس من أعظم ظواهر الأمة في حالتها التشريعية ، ولم ينجح المجلس الأول في أوائل أيام السلطان عبد الحميد.

أعلن الخط السلطاني ، والقانون الأساسي (الدستور) في ٧ ذي الحجة سنة ١٢٩٣ ه‍ ولم يعمل بهما إلا مدة قصيرة فتغلب استبداد هذا السلطان ، ولم يعد العمل بهما إلا في تموز سنة ١٩٠٨ م. وصارت الإدارة مشروطية (١).

__________________

(١) طبع الخط السلطاني والدستور (القانون الأساسي) في بغداد باللغة العربية سنة ١٣٢٦ في مطبعة دار السلام.

١٩٧

ومن أوضح ما جرى بعد المشروطية انتخاب مبعوثين (نوّاب) من بغداد والألوية العراقية كسائر البلدان العثمانية للقيام بمهمة التشريع ، وما يقتضي للمملكة من سير الحالة القانونية وحسن جريانها وكان الانتخاب من كل قطر بنسبة نفوسه. ثم صار موضع البحث قضية دخول العشائر في الحساب أو عدم دخولها. ولكن الأمة لا تعلم عن الانتخاب والمنتخبين ، وما كانت أرادته الحكومة قد جرى. وهكذا لم ينل هذا القطر حرية انتخابه وبيان رغبته.

افتتح مجلس المبعوثين (النواب) في ٢٣ ذي القعدة سنة ١٣٢٦ ه‍ ١٧ كانون الأول سنة ١٩٠٨ م وهذه هي الدورة الأولى. وانتخب فيها عن العراق :

١ ـ عن لواء بغداد :

(١) الأستاذ إسماعيل حقي بابان.

(٢) الحاج علي علاء الدين الآلوسي.

(٣) ساسون حسقيل.

٢ ـ عن الديوانية :

(١) شوكت باشا ابن رفعت بك والد فخامة الأستاذ ناجي.

(٢) السيد مصطفى نور الدين آل الواعظ والد صديقنا الأستاذ إبراهيم الواعظ.

٣ ـ عن كربلاء :

(١) الحاج عبد المهدي الحافظ.

٤ ـ عن البصرة :

(١) السيد طالب آل النقيب.

١٩٨

(٢) أحمد باشا الزهير.

٥ ـ عن المنتفق :

(١) رأفت السنوي. والد الأستاذ نشأت السنوي.

(٢) خضر لطفي عضو محكمة البداية في المنتفق.

٦ ـ عن الموصل :

(١) محمد علي فاضل حافظ. والد معالي الأستاذ الدكتور عبد الإله حافظ.

(٢) داود يوسفاني.

٧ ـ عن السليمانية :

(١) الحاج ملا سعيد كركوكلي زاده.

٨ ـ عن كركوك :

(١) الحاج علي ابن الحاج مصطفى قيردار. من أشراف كركوك وكان والده رئيس بلديتها وابنه جميل صار نائبا وحفيده أمين صار نائبا في المجلس.

(٢) صالح باشا آل النفطجي كان متصرفا في الحلة.

٩ ـ عن العمارة :

(١) عبد المحسن السعدون.

(٢) عبد المجيد الشاوي.

وكانت تعزى لهذا المجلس فوائد لا تحصى كما في المجالس النيابية للأمم الدستورية فلم يلبث أن خاب الظن فيه ، وتحوّلت إرادة المجلس لخدمة الدولة وحدها ، وبرزت أوضاع تستدعي النفرة منه ،

١٩٩

وقيام الشعوب للمطالبة بحقوقها ، والمعارضة لسلوك الدولة.

ومن جهة أخرى إن الانتخابات لم تكن حرة ، وإنما عينت الحكومة من رأته موافقا لرغبتها ، وملائما لسياستها. فصارت تعقب طريقة (هذا من شيعته وهذا من عدوه) ودعا ذلك أحيانا إلى حل المجلس ، ودعوة النواب للمرة الأخرى. كما أن المجلس وافق الدولة لأحوال حزبية. وكانت أصابت الدولة وقائع منها حرب طرابلس الغرب ، وحرب البلقان ، فالحرب العامة مما دعا أن لا تكون حرية للنواب ، ولا طريقا للمحاسبة ..

وبعد أمد وجيز صار ميل النواب إلى التوظف وأن يحرزوا منصبا في الدولة أكبر راتبا من النيابة ، وبهذا أهملوا النيابة ، وتركوا النضال والجهاد في سبيل الإصلاح وزال أمل أنهم يكافحون للأمة وإنهاضها فخابت الآمال في الكثير منهم ، فكانوا قد فرّوا من ساحات مشرفة ، ورأوا الراحة بما يطمئن أغراضهم. ولعل الكثيرين قطعوا بأن لا جدوى من الإصلاح والسعي في طريقه فمالوا إلى الهدوء.

والنواب كانوا في الأغلب بوضع عدم مبالاة ، ونال الكثير منهم الغرور ، ومزاولة الخطابة بوجه ما مقبول أو غير مقبول ، فكثر الشغب ، وتولدت الحزبية والمماحكة ، وحدثت مناوشات كلامية واختلافات شخصية أدت أحيانا إلى الملاكمة. ولم يكن للمجلس نظام داخلي ، ولا سلوك مرضي ، فلم تدقق القوانين بسبب الجدل والمماحكة.

ثم إن المجلس فسخ بإرادة ملكية في ٢٨ المحرم سنة ١٣٣٠ ه‍ على أن يجري الانتخاب الجديد. وهكذا توالت الانتخابات (١).

وكان قدّم المحامي رؤوف آل كتخدا في الدورة الأولى للمجلس

__________________

(١) (سالنماه ثروت فنون) ج ٢ ص ٣١٦ وج ٥ ص ٤٥.

٢٠٠