موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٧

عباس العزاوي المحامي

موسوعة تاريخ العراق بين احتلالين - ج ٧

المؤلف:

عباس العزاوي المحامي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

١
٢

٣
٤

عواطف صديق إلى :

العزاوي مؤرخ العراق

رأيت الرجال بآثارهم

وتاريخ (عباس) آثار

فأعظم بتاريخه المستفيض

وأكبر فقد حق اكباره

نماه إلى [الضاد] فرع شأى

فجاز الفراتين مضماره

تباهت به [العزة] المصطفاة

وضم العروبة إيثاره

فمن كأبي فاضل في الرجال

وأصل التواريخ أسفاره

كمال عثمان

٥
٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين. (وبعد) فهذا التاريخ يتلو عهد المماليك مباشرة ويتناول أيام العراق من عهد علي رضا باشا اللاز إلى آخر زمن مدحت باشا وفيه حوادث ومشاكل عانى منها ما عانى وتهم معرفتها. وهو مليء بالأحداث العظيمة القريبة. ومن الضروري التوسع فيها لتكون أمكن في المعرفة والعلاقة بها أجل. وإذا كان العراق لم يهدأ في وقت من توالي الوقائع وتنوعها. فالحاجة ملحة بنا أن ندرك ماضينا القريب لمساسه بشؤوننا التي لا نزال نتحدث بها ، ونذكر ما جرى من غرائبها ومهماتها.

نظرة عامة

هذا العهد يبدأ من سنة ١٢٤٧ ه‍ ـ ١٨٣١ م وينتهي بانتهاء ولاية مدحت باشا سنة ١٢٨٩ ه‍ ـ ١٨٧٢ م. ومن ذلك يتكون قسم كبير من تاريخه الحديث. دخل العراق في عهد جديد زالت به إدارة المماليك ، وصار يعتقد الخير كله في هذا الانتقال والتحول ، فلم يلبث أن تقلصت آماله ، بل شعر بالخطر ، ومن ثم استعصى على الإدارة أمره وشمس عليها أو جمح جموحا لا هوادة فيه. فجعلها في ريب من أمرها. ارتبك الأمر في المدن ، واضطربت الحالة في العشائر ، ودخلت الأمة في جدال

٧

عنيف. تريد الدولة أن تستقل بالعراق ، والشعب يأمل الرفاه والراحة ، فاختلفت وجهات النظر وزادت الشؤون تعقيدا وقويت المشادة ..

كانت الحالة في أشد التوتر ، فلم تتغلب الدولة على المدن إلا بشق الأنفس وبعد تعديل سياستها. ولم تغير أوضاعها ألا بعد أن شعرت بالخطر ... وكانت العشائر في غالب أوضاعها بنجوة. جربت الدولة تجارب عديدة ، فباءت كلها أو أغلبها بالفشل فلم تستطع الإخلال بالمعهود ، ولم تقدر أن تتجاوز حدود المألوف.

وحوادث العالم نبهت إلا أن التدخل كان قليلا والتجدد غير مشهود. والإدارة تبغي المال لدولتها وتلح. والولاة همّهم أن ينالوا نصيبا أيضا ومن جهة تحاول الدولة تأسيس حكم مباشر وأن تقضي على الإمارات وعلى العشائر الكبيرة وأن تنظم إدارة المدن كما هو الشأن في أصل الدولة ... لتتمكن من الاستغلال ، فكان دون ذلك خرط القتاد.

لم توفق في ذلك إلا بعض التوفيق بعد عناء كبير وكلفة عظيمة. فإذا كان هذا حال الأمة في سياسة الدولة فلا شك أن الإدارة خابت في الثقافة أكثر من جراء أن مؤسساتنا عظيمة. لم تخذل من كل وجه. والحكومة في كل أعمالها لم تتمكن إلا من بعض الشيء في حين أن الأفكار تنبّهت في هذا الاضطراب السياسي والثقافي وتهيأت لتقوية الثقافة من ناحية الاتصال بالغرب.

كانت المشادة بالغة غايتها بين الحكومة والشعب. يراد بالعراق أن يتابع الدولة في إدارتها وأن ينقاد بلا قيد ولا شرط فلم يسلس قياده ، ولم تربح الدولة قضيتها. وبقي النضال مستمرا. فلم تستطع إدارته إلا أن تمضي بمألوفه. تريد أن توجهه إلى سياستها فخابت أو باءت بالفشل الذريع. ولا شك أن الحالة الاقتصادية في أمر كهذا نراها مضطربة قطعا. تعينها حوادث كثيرة وتوضح هذا الاضطراب العلاقة المشهودة.

٨

وتاريخ هذا النضال أولى بالتفهم. ومنه ندرك الحالة الاجتماعية أيضا ، والاتصال بالشعب في هدوء نفسياته واضطرابها ، فيتجلى تاريخ ذلك بوضوح ، ونتبيّنه في حالاته كلها مجموعة بالالتفات إلى حوادث الجدال وظواهر الحياة وهدوئها أو اطراد الأوضاع أو اختلالها.

٩

المراجع التاريخية

نعلم قطعا أن تبدل الحالات ، وما يبدو من الحوادث العظيمة ظواهر لا يصح أن تهمل أو أن تبقى بلا تفسير صحيح. والعراق من أعظم الأقطار حوادث وأكثرها مشاكل. لا يهدأ لحالة ، ولا يرضخ لسياسة ، ولا يقبل بفرض ثقافي أو اقتصادي ... وكل هذه تحتاح إلى مراجعة وثائق عديدة في تدوين تاريخه إلا أننا في هذا التدوين تهمنا الوثائق العامة ذات المساس بالوقائع على أن نذكر الخاصة في حينها نظرا لقيمتها في تفسير وقائع القطر وبسطها ، بل هي الأولى والأجل لعلاقتها بنا. وهذه كثيرة جدا. وقد بذلت منتهى الجهد في جمع شتاتها وتنظيمها.

المراجع العامة :

١ ـ سياحتنامه حدود. وهذه من أجل الآثار في بيان حالة القطر الاجتماعية كتبها خورشيد بك باللغة التركية وكان من موظفي الخارجية أمره السلطان عند إجراء تحديد الحدود العراقية الإيرانية أن يدوّن عن العراق وما جاوره من قرى وبلدان وعشائر وشعوب وأحوال تاريخية واجتماعية واقتصادية ما يستطيع تدوينه ، فقام بالمهمة. ولم نر من تعرض لمثل مباحثه مجموعة كما تعرض ... وقفت مدوناته في أواخر سنة ١٢٦٨ ه‍ ـ ١٨٥١ م. عندي نسخة مخطوطة منها بلغت الغاية في نفاستها

١٠

وإتقانها. وكان خورشيد بك قد عيّن بصحبة درويش باشا الفريق. ثم إنه صار خورشيد باشا وتقلب في مناصب عديدة. وكان من مماليك يحيى باشا الجليلي والي الموصل. فدخل قلم الخارجية فصار مكتوبيا. وتوفي سنة ١٢٩٦ ه‍ ـ ١٨٧٩ م. وهو وال على أنقرة. وعلاقته بالعراق مشهودة. ولا شك أنه متمكن من التفاهم مع الأهلين رأسا من جراء اتقانه اللغة العربية والعامية الدارجة. فهو عراقي عارف وكتابه جلا صفحة عن أحوال العراق.

٢ ـ تقرير درويش باشا الفريق كتبه باللغة التركية. وكان أستاذا في المهندسخانة. فعهد إليه أمر (تحديد الحدود) بين إيران والعراق. وكان خورشيد بك في صحبته. طبع تقريره هذا مرات. وكان مقتضبا. يفسره كتاب (سياحتنامه حدود) وفائدته كبيرة في التعريف بالشعوب العراقية الإيرانية في الحدود كسابقه. توفي مؤلفه في ١١ المحرم سنة ١٢٩٦ ه‍ ـ ١٨٧٩ م. كانت علاقته بالوقائع التاريخية كبيرة. وهذا التقرير نقلته وزارة الخارجية العراقية إلى اللغة العربية وطبع في مطبعة الحكومة ببغداد سنة ١٩٥٣ م.

٣ ـ مرآة الزوراء. في تاريخ بغداد لما بعد دوحة الوزراء باللغة التركية للمرحوم سليمان فائق والد الأستاذ صاحب الفخامة حكمت سليمان. توفي في ٢٧ جمادى الأولى سنة ١٣١٤ ه‍ ـ ١٨٩٦ م. وهو مهم جدا في بيان أحوال القطر لو لا نقص وتشوش في أوراق مسوداته ومع هذا كانت فائدته عظيمة ، وبياناته جليلة في امتداد الحوادث إلى ما بعد المماليك حتى أيام نامق باشا الكبير. وكان يتعرض لما بعد ذلك بإشارة خفيفة أو بيان موجز فأتم ما هنالك بما أو ضحه في رسالتيه في المنتفق. ولا شك أنه من أجل الوثائق لتاريخ العراق للمدة التي ذكرها. وكتب الأستاذ المرحوم متلازمة يوضح بعضها البعض. ونفعها عظيم.

١١

٤ ـ رسالتان في المنتفق. له أيضا مخطوطتان عندي نسخها. ولا تخلوان من نقص. وفيهما بيان عن أعظم مشاكل القطر في حوادث المنتفق وعلاقة الدولة بها.

٥ ـ التاريخ المجهول المؤلف. كتب باللغة العربية بدأ بأيام داود باشا ومضى في حوادثه إلى سنة ١٢٧٩ ه‍. بعض أوراقه ساقطة وكانت حوادثه غير مطردة. وفيه تحامل على الولاة. لغته عامية ويعول على كتاب (ألف با) ، وكتاب (تاريخ المنتفق) للرفاعي. وفي كل أحواله يعد صفحة كاشفة عن الأهلين ، والولاة. وهو يبين روح الكاتب وأثر الوقائع في نفسه. ينسب بعض الحوادث إلى الولاة ببيان خرقهم أو قلة معرفتهم ولم يدر أن ذلك تطبيق لمنهاج الدولة. وقد حاولنا أن نعثر على كتاب (تاريخ المنتفق للرفاعي) والتمسناه كثيرا ، فلم نتمكن من الحصول عليه. ولعل الأيام تظهره.

٦ ـ تاريخ الشاوي. تأليف الأستاذ محمود بن سلطان الشاوي المتوفى سنة ١٩٣٢ م يبدأ بسنة ١٢٤٦ ه‍ ويمتد إلى احتلال بغداد سنة ١٣٣٥ ه‍ ـ ١٩١٧ م. مختصر جدا. ولا يخلو من بعض المهمات وإن كانت أغلاطه كثيرة. اعتمدناه فيما توسع فيه أو انفرد به عن غيره مما اعتقدنا وثوقه. عندي مخطوطته.

٧ ـ الزوراء. أول صحيفة عراقية ظهرت في بغداد بل في العراق. ولم تسبقها غيرها كانت حكومية تعين ما كان يجري ببغداد حذر أن تشوش الأخبار. أو تشوه. ويأتي الكلام عليها.

٨ ـ تاريخ السيد رشيد السعدي. ويسمى (قرة العين في تاريخ الجزيرة والعراق وبين النهرين). كتبه إلى سنة ١٢٩٤ ه‍. طبع سنة ١٣٢٥ ه‍ في بومبي. وتوفي السيد رشيد السعدي سنة ١٩٣٩ م. ومن أولاده الأستاذ أحمد السعدي.

١٢

٩ ـ مؤلفات أبي الثناء الآلوسي. وهذه كثيرة والتاريخ منتشر خلال سطورها. وأحوال الولاة لهذا العهد ذكرها في رحلاته بإشارة وتلميح أو بسط وتوضيح. وربما كانت الإشارة أبلغ. وهو العارف بالموارد والمصادر. وأبو الثناء هو السيد شهاب الدين محمود الآلوسي المتوفى في ٢٥ ذي القعدة سنة ١٢٧٠ ه‍ ـ ١٨٥٥ م ويعد من أعاظم مؤرخي العراق لهذه الحقبة.

وهناك مراجع ذكرناها في المجلد السابق. تمتد حوادثها إلى هذه الأيام مثل (تاريخ لطفي) ، وجريدة (تقويم وقائع). وهكذا اعتمدنا الجوائب وكنز الرغائب وتواريخ جديدة ... كما أن الوثائق الخاصة كثيرة لا تكاد تحصى وبينها ما يخص حادثا أو يوضح أمرا.

وفي هذا العهد كثرت المراجع العربية والأجنبية إلا أننا في الغالب نلتمس منها المحلية ، ونصحح ما جاء مغلوطا من تلقيات الأجانب ، وبالتعبير الأصح نعين تاريخنا بالنقل من رجالنا مع العلاقة بأصل الدولة. وإلا وقعنا بأوهام لا تعد ولا تحصى سواء كانت فارسية أو تركية أو غريبة والتمحيص صعب. والمقابلة تكشف.

لم يتسع المجال للمناقشات أو النقد العلمي وإنما تكفي المقابلة لإظهار ما وقع الآخرون به من خطأ. نقدم الزبدة الصافية فيما نعتقد ، وإلا طال بنا الأمر.

وإذا كان الأجنبي يشكو من قلة الوثائق فلا شك أننا بذلنا أقصى جهودنا في سبيل تذليل المصاعب فتيسر لنا الكثير. والمادة عندنا غزيرة ومع هذا نرى فينا رغبة عظيمة لاستطلاع ما يزيد أو يوضح. وليس لنا إلا أن نحكي ما وصل إلينا خبره.

وعلى كل حال نرى المراجع الخاصة كثيرة وليس في الوسع تعدادها. وإنما يهمنا منها ما نذكره في حينه. وأكثر فائدة ما أوردناه.

١٣

المباحث

العراق للحقبة من انتهاء حكم المماليك إلى آخر أيام مدحت باشا طافح بالأحداث العظيمة نبهت حوادثه الغافل والساهي. وكانت محل استفادة المعتبر والسياسي البارع. والجهل بها لا يعذر ، والغفلة لا تعوّض. واستعراضها ليس بالأمر السهل. ومن أجل ما هنالك :

١ ـ فتح بغداد وتحول الحكم وعودته إلى الدولة العثمانية. وهذا يعد (دور انتقال) تخلله اضطراب. أدى ألى نتائج مبصرة في بيان نزعات الأهلين ، وآمال الدولة. وما كان من جراء ذلك من مشادة.

٢ ـ التحول العام في سياسة الدولة بإعلان (التنظيمات الخيرية) والوعد بالإصلاح وهل تحقق لهذه التنظيمات من أثر في العراق؟

٣ ـ القضاء على بعض الإمارات العراقية وانقراضها مثل إمارة الرواندزي ، وإمارة العمادية ، وإمارة الجليليين ، وإمارة بابان. ولكن الدولة لم تتسلط على إمارة المنتفق ولا على العشائر. وإنما بقيت في جدال عنيف.

٤ ـ الجرائد والمطابع. تكونت في آخر هذا العهد. وصارت مبدأ تحول لم يظهر أثره في حينه وإنما فقدت الفائدة المطلوبة مدة.

٥ ـ مجاري السياسة. وهذه ظهرت في الحوادث المتوالية في نفس العراق وفي الولاة والقضاة وفي مالية الدولة ورغباتها الأخرى في الجندية ... وأن المجاري العامة أثرت كثيرا ...

٦ ـ الثقافة العلمية ومدارس الدولة. وهذه الأخيرة لم تشاهد نتائجها في هذا العهد. وإنما ظهر أثرها في عصر تال ، ولكنها لا تخلو من علاقة ما. وبجانب هذه تكونت المدارس الأهلية.

وكل هذه من أوضح المطالب وأجل الأوضاع. ولا نتوغل فيها

١٤

الآن. وإنما يأتي تفصيلها. وعندنا برزت أوضاعها عيانا. والحوادث التي نذكرها مما يهم العراق أكثر وهي ذات علاقة مباشرة بنا ولها ملامسة بأوضاعنا وحالاتنا الأخرى. ولا ننس ما له اتصال قلّ أو كثر مما يؤثر تأثيرا مشهودا.

كل هذه مما نبّه العراق وجعله يفكر في مصالحه ويراعي ثقافته ويقرر اقتصادياته للنهوض بمستواها فوجد نفسه مكتوف الأيدي كما شاعت حوادث العالم وانتشرت فكان أثرها أكبر وإن كانت تلك ذات صلة أمكن.

ولا شك أن هذه دروس عملية لا تقتبس من كتاب وإنما أقرّها التاريخ. وهي نتيجة اتصال بالحوادث وصفحاتها المتحولة والمشهودة كل يوم فتتكرر وتمضي فلا تزول بزوال الشخص ولا تموت بموته بل هي حياة عامة. وحوادث العصر الثابتة هذه تحقق ما وراءها.

وهنا لا نقتصر على المهم العام وحده وإنما نراعي تسلسل المطالب للارتباط البين. ومن الله تعالى التيسير.

حوادث سنة ١٢٤٧ ه‍ ـ ١٨٣١ م

الوزير

علي رضا باشا اللاز

لا يختلف هذا العهد عن الأزمان السابقة. وأن التنظيمات الخيرية لم تؤثر فيه إلا قليلا فكان بعيدا عن الإصلاح. توالى فيه وزراء كثيرون يحملون عقليات جافة ـ كما حدثت فيه أحوال سياسية مهمة وأوضاع داعية للالتفات تيسرت لنا وكشفت عن أحوال هؤلاء ولم تتيسر لغيرنا ممن شكا من قلتها.

وهذا الوزير أحد ولاة الدولة. لا يفترق عنهم بما يمتاز به.

١٥

دخل بغداد ليلة الخميس ٨ ربيع الأول سنة ١٢٤٧ ه‍ ـ ١٨٣١ م وبذلك انقاد العراق لدولته رأسا ، فأزال عنه المتغلبة ، فكان أول وزير بعد المماليك ، إلا أن الأهلين لم يلبثوا أن تذمروا منه ، وأن المماليك عادوا من طريق آخر للتدخل في الإدارة ، يعرفون التركية وهم أبصر بالمداخل فاستعانت بهم.

لم يستطع الأهلون أن يتغلبوا من جراء أن الثقافة التركية في الأهلين كانت ضعيفة ، وهؤلاء متسلحون بها ، والتفاهم سهل .. إلا أن الإمارة زالت منهم.

صار العراق تتحكم به سلطة الدولة مقرونة بسيطرة المماليك باسم موظفين وعلي رضا باشا اللاز قد سكر بخمرة الانتصار ، فتحكم به أتباعه وموظفوه ، وتجاوزوا الحد في الظلم والاعتداء.

ومن مختلف المراجع تتعين أوضاع هذا الوالي ، وتعرف وقائعه ، وبين هذه ما هو حكومي وما هو أهلي .. وعرض مثل هذه يجعلنا على يقين من أمره. وكانت شهرته قد زادت في مقارعة داود باشا بل لم يكن ليعرف لولا هذه الحادثة .. وقد قيل لأم المخطئ الهبل ، فالأوضاع ساعدته أكثر ، وأن أكبر مسهل له الوباء والغرق وإلا لتغيرت الأوضاع. ولله إرادات في خذلان داود باشا.

وهنا لا نود أن نعيد ذكرى (حادث بغداد) ، وإنما يهمنا بيان ما جرى في أيام علي رضا باشا من وقائع أخرى. لنكون على بينة منها ، وفيها ما يكفي للتبصر بها وبما خفي من أحواله الأخرى.

أخذ داود باشا

إلى استنبول

من أهم الوقائع أن أخذ داود باشا إلى استنبول في شهر ربيع

١٦

الثاني. ويقال إن الحكومة احتفظت به ولم تقتله لئلا يتطير محمد علي باشا خديو مصر ، فلا يتقرب من الدولة.

وحذره الوزير علي رضا باشا أن يتحرك بحركة أثناء سفره لأنه أمر المحافظين بأنه إذا حصلت حركة إنقاذ أو هرب فلا يتأخر في قتله. ولذا منع من أي عمل طائش مثل هذا فإنه يضرّ به.

هذا ما شاع عن داود باشا. ورأيت في وثيقة تاريخية لم أتمكن من معرفة مؤلفها في تاريخ ولاة بغداد وسميتها (التارخ المجهول) في حوادث أيامهم. قال :

أما هذا الوزير ـ داود باشا ـ فقد انقضت أيامه عند خلاص الطاعون من بغداد ، وأما وقائعه فما تذكر لقبحها ، ولمزيد ظلمه ـ قبحه الله ـ وليس له مادة حسنة كي يعتني المؤرخون بذكرها ـ حتى لو أننا نذكر من تعديه على عباد الله لأفضى إلى كفره وإنكاره. وأسس أشياء من الظلم ما تخطر في قلب فرعون. وكان بخيلا جدا مع زيادة أمواله ، يغصب الناس أموالهم ظلما وعدوانا ، والحال سيّر إلى استنبول بأمر السلطان محمود ، سيره علي باشا مهانا كما ذهب الحمار بأم عمرو ...» اه (١).

هذا مؤيد بغيره. كان قاسيا إلا أن غالب أعماله مصروفة إلى المصلحة العامة. لا تزال أعماله الخيرية محل الانتفاع. وهل كانت خالصة لله تعالى؟ وعلى كل حال نقول : إنما الأعمال بالنيات كما هو منطوق الحديث الشريف.

__________________

(١) التاريخ المجهول. ولفظه عامي فلم أتصرف به.

١٧

قتلة المماليك :

مرّ الكلام عليها في تاريخ المماليك ، جعلناها تتمة لمباحثهم. وكانت في ٢٢ شعبان (١).

سوء أعمال :

إن الوزير بعد أن فتح بغداد ، وقضى على المماليك نصب الحاج يوسف آغا الشريف وكيل كتخدا ، وكان من أعيان حلب. جاء بصحبة الوزير ، وكذا السيد محمد آغا سيّاف زاده (٢). نصبه متسلما للبصرة ، وأودع المهمات الأخرى لموظفين آخرين .. وصار يجمع بعجل مخلفات المماليك ، وهذه مما جمعه وادّخره هؤلاء خلال ٩٠ سنة ، أكثرها صار نهبا ، فلم يصل إلى الوزير منها إلا القليل. باعها علنا بالمزايدة ، وأرسل المبالغ المتحصلة إلى (الجيب الهمايوني) (٣) ، أو (الجيب السلطاني) ..

وفي شهر رجب ورد بغداد عارف الدفتري. أرسلته الدولة. ولما وصل إلى الأعظمية استقبل بحفاوة ، وأقيم في دار خاصة ، وأجريت له مراسيم الضيافة والحرمة. وما استحصل من أموال المماليك كان قليلا فبيع وأرسل إلى الجيب السلطاني (٤) .. فلم تحصل فائدة تذكر من مجيء الدفتري إلا أن الدفاتر التي هلكت أو نهبت كان قد جاء ببعض صورها فاستكتبت.

ومن جهة أخرى أن العشائر انتهبوا الأطعمة المدخرة بحيث إن

__________________

(١) هامش مطالع السعود مخطوطتي.

(٢) تذكرة الشعراء ص ٢١.

(٣) مرآة الزوراء ص ١٥٠.

(٤) تكاليف أو ضرائب تؤخذ من كل مدينة سنويا فترسل مبالغها إلى السلطان.

جاء ذكرها في ص ١١٤ من كتاب (تكاليف قواعدي) ويجوز أن يكون مقدارها متساويا أو متفاوتا بالنظر للولايات.

١٨

الدولة لم تنل ما كانت تتطلبه من هذا الفتح ، والوزير في بغداد لم يتمكن من إعاشة الجيش ولا استيفاء راتبه إلا من طريق التغريم والمصادرة .. فكان الملا علي (الخصي) كاتب مقاطعة الخالص ، ومحمد الليلاني ، وآخرون أمثالهما أرادوا التقرب من الحكومة ، فأجروا مظالم بلغت الغاية في القسوة وتعرضوا بالمخدرات من النساء ، صاروا يعذبونهن بأنواع التعذيب .. فتجاوزوا على زوجة رضوان آغا المقتول في الواقعة. ضربوها بالفلقة ، وكووا بدنها بالسيخ (الشيش) (١) مع أنها من المخدرات ، وارتكبوا فجائع مما لا يأتلف والأخلاق المقبولة. آلموا الأهلين كثيرا (٢) .. وذلك بأمل تقديم مبالغ للجيب الهمايوني ، وسدّ جشع الوالي وأعوانه. فكان أثر هذه الواقعة كبيرا جدا. ثم أدركت الدولة غلطها ، وعلمت ما ولدته من نفرة في نفوس الأهلين ، فحاولت أن تتدارك الأمر فلم تفلح (٣) .. والبغض لا يبدل بسهولة فينقلب إلى حب.

آل رضوان آغا :

تنتسب إليه أسرته المعروفة باسمه. أعقب ولدا صغيرا لا يتجاوز عمره آنئذ الست سنوات اسمه عبد الوهاب ، فهربه الأهلون ، أخفوه في دار الأستاذ عبد الغني جميل ، وأصاب أمه الاعتداء. وهي نائلة خاتون من أسرة نقيب (مندلي). وكان التضييق عليها أدى إلى أن تظهر (مشربات) (٤) مملوءة ذهبا ، وبعد ذلك صدر العفو عن المماليك ، فعادوا

__________________

(١) السيخ والشيش عاميتان. مستعملتان اللفظة الأولى فارسية والثانية تركية. معربتان. دخلتا بعض كتب اللغة مثل محيط المحيط وأصل عربيتها (سفود) ومستعملة الآن في الموصل بهذا اللفظ وفي مصر وبلاد أخرى. والفلقة معروفة من مدة طويلة. وكانت مستعملة في الكتاتيب لتأديب الصغار.

(٢) مرآة الزوراء ص ١٥٣.

(٣) تاريخ الشاوي ص ٧.

(٤) المشربة جرة نحاسية أو إناء يستعمل لنقل الماء وغيره من السوائل أو لحفظه.

١٩

إلى بغداد ، وصار الحاج عبد الوهاب معروفا. أعقب أولادا لا يزال بعض بقاياهم.

عبد الغني جميل ـ السيد محمود الآلوسي :

العراق لم ير ما رآه في أيام علي رضا باشا. شاهد الأهلون منه قسوة شديدة. وكان الوزير قد استدعى الأستاذ عبد الغني جميل من الشام. فورد بغداد وعهد إليه بالإفتاء. وفي أثناء ذلك وجد ما يثير حفيظته فسخط على حكومته ، وثار ، وكذلك ثار لثورته جماعة كبيرة ، ولكن مؤرخي الترك لم يعيّنوا سبب الواقعة ، ولا ذكروا إيضاحا عنها فلا يودون إعادة أشجانها ، جاءت مراجع كثيرة تنبئ بماهية الحادث مما ذكر من الجيب الهمايوني (السلطاني) وما يلزم من المبالغ له.

وفي تاريخ لطفي لم يصرح باسم الثائر المقبوض عليه ، وراعى الكتمان والتخفي حذرا من توليد خواطر سيئة.

وفي مجموعة الآلوسي أن عبد الغني آل جميل قام على الوزير علي رضا باشا وأهل بغداد معه. حاولوا إخراجه وكلفوا بذلك. هاجموا دار الحكومة وقتلوا بضعة أشخاص ، وتقدموا نحو باب الحرم .. ولكن الوزير راعى الحكمة ، وقام بحركات قويمة. استعان بالجيش ، فتمكن من القضاء على الفتنة وفرق شمل الثوار .. اندلعت النيران في محلة قنبر علي ، وسلّم عبد الغني آل جميل المفتي إلى الحكومة ، ودخل في أمانها ، فأخمدت الغائلة (١).

وفي حديقة الورود :

«إن علي رضا باشا لما ولي العراق من قبل السلطان ... أبى أن

__________________

(١) تاريخ لطفي ج ٤ ص ٧١ ومجموعة الآلوسي. ومجموعة عبد الغفار الأخرس في شعر عبد الغني جميل نشرتها سنة ١٣٦٨ ه‍ ـ ١٩٤٩ م.

٢٠