غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-560-1
الصفحات: ٤٠٠

الفقه كتاب الزكاة كتاب الخمس

وعمل السلف ، وهو هنا غير معلوم.

وما استدلّوا به في جوازه من جهة عمومات الإجارة مستلزم للدور كما أشرنا سابقاً ، فإنّ صحّة الإجارة موقوفة على إباحة المنفعة ، والمفروض أنّ العبادات لا تصير مباحة إلا بالرجحان ، وإثبات إباحتها ورجحانها من عمومات الإجارة دَور.

فالحاصل أنّا نقول : إذا ثبت من الأدلّة وجوب النيّة في الزكاة ، فإذا كان المؤدّي هو المالك ، فإمّا أن يباشرها بنفسه في الإخراج والإيصال كليهما فالأمر واضح ، وتجب عليه النيّة مقارنة للدفع.

وإذا لم يباشرها بنفسه ، ولكن يحضر الإخراج والدفع ويخرجها غيره ويدفعها ، وإن لم يعلم ذلك الغير أنّ هذا المال أيّ شي‌ء هو ، سواء كان عاقلاً بالغاً ، أو صبيّاً أو مجنوناً ، فيكفي أيضاً قصده مقارناً للدفع ، والمجنون والصبيّ حينئذٍ في حكم الإله للإخراج والدفع ، ويد العاقل البالغ أيضاً كعدمها. ولو فرض عدم الاطلاع حينئذٍ حتّى حصل الدفع فلا يكفي ، إلا أنّ تلحقه النيّة بعده على تفصيل يأتي.

وإذا كان المؤدّي هو الوكيل ؛ فهو إمّا بأن يخرجها بنفسه من ماله مباشرة ، أو بوساطة غيره ، ثمّ يدفعها إلى من وكّله في الإيصال إلى المصرف على وجه الزكاة ، أو لا يخرجها بنفسه ، بل يوكّل غيره في الإخراج والإيصال معاً.

وحينئذٍ ؛ فإمّا أن يستحضر المالك حال الدفع إلى المصرف ويطّلع عليه ويقصد وينوي هو ، فيكفي أيضاً ، ولا حاجة إلى نيّة الوكيل.

وإن لم يحضره ولم يستحضره ، فحينئذٍ تجب النيّة على الوكيل ، ولا تصحّ الزكاة إلا مع النيّة ، بأن يقصد إخراج زكاة الموكّل نيابة عنه تقرّباً إلى الله ، فإنّ الفعل الذي هو مشروط بالنيّة إنّما صدر منه ، فلا تكفي نيّة الموكّل حين الإخراج في ذلك ؛ لوجوب المقارنة.

ولا تُقاس عليه الكفاية حين العزل مع النيّة ، بتقريب أنّه لا ضمان عليه مع التلف إذا لم يفرّط بعد العزل ، فلو لم يكن ذلك زكاة ولم تكف نيّة المالك حينئذٍ لما برئت ذمّته.

لأنّا نقول : إنّ العزل ليس معناه التزكية وأداء الزكاة ، بل هو أمر آخر أوجب سقوط

٢٠١

الزكاة عن المكلّف ، لا أنّه تزكية ، والنيّة المعتبرة فيه هي القصد إلى كونه مال الزكاة الذي يجب أن يخرجه ويضعه إلى أن يتمكن من الأداء ويؤدّيه ، ثمّ يقال : إنّه زكّى ماله ، وقبل حصول التمكّن لم يزكّ ، ولكن تسقط عنه الزكاة لو تلفت من دون تفريط.

نعم ، تكفي نيّة الموكّل حينئذٍ ، بمعنى أنّه لو لم يقصّر بالتأخير وتلفت في يد الوكيل من دون تقصير تسقط عنه. وهذا أيضاً ليس معناه أنّه زكّى ماله ، بل إنّه شي‌ء آخر مسقط للزكاة.

وأمّا لو لم ينوِ الموكّل ونوى الوكيل ولا يمكن فرض ذلك إلا مع قصد الموكّل الرياء أو غيره ، وإلا فلا ينفكّ التوكيل عن القصد ، والظاهر أنّ التوكيل في إعطاء ماله في الزكاة هو معنى النيّة كما صرّح به بعض الأصحاب أيضاً كما نقله الشيخ ابن مفلح رحمه‌الله ، فحينئذٍ يقع الإشكال في الكفاية ، وظاهر كثير من المتأخرين الإجزاء (١) ، خلافاً للشيخ (٢) والمحقّق (٣) والعلامة في التذكرة (٤).

ووجه الإشكال : من أنّ المكلّف مأمور بالزكاة محضاً لله تعالى ، فالزكاة هي إيصال المال المعهود من ماله إلى المصرف ، وهو قد يكون بالمباشرة ، وقد يكون بالتسبيب والتوكيل ، فيصدق على من وكّل غيره في أداء زكاته بعد أداء الوكيل أنّه زكّى ماله وامتثل ، فإذا كان ذلك امتثالاً للأمر فيلزمه لزوم النيّة للموكّل ، ولا تكفي نيّة الوكيل ، بل المعتبرة إنّما هي نيّته ، والوكيل كالالة.

ومن أنّ المكلّف مكلّف بالمباشرة.

ونعني بالمباشرة : ما يعمّ أمر عبده أو صبيّ أو مجنون أو غيرهم ، بإعطائه في حضوره ، ولو من غير علم منهم بأنّه أيّ شي‌ء ، وهو غير التوكيل ، إذ هو ظاهر الأوامر

__________________

(١) كالعلّامة في المختلف ٣ : ٢٥٥ ، والشهيد في الدروس ١ : ٢٤٧.

(٢) المبسوط ١ : ٢٣٣.

(٣) المعتبر ٢ : ٥٥٩.

(٤) التذكرة ٥ : ٣٢٩ مسألة ٢٤٠.

٢٠٢

كما لا يخفى. ولذلك يحتاج في إثبات صحّة التوكيل في المقامات إلى الدليل ، فالموكّل حينئذٍ ليس بمزكّ حقيقة ، بل المزكّي في صورة التوكيل إنّما هو الوكيل.

ولعلّه لأجل ذلك الإشكال ذهب المحقّق والعِمة في المعتبر والتذكرة كالشيخ قبلهما إلى اعتبار نيّتهما معاً.

ولا يبعد ترجيح مختار الشيخ ؛ لأنّ الخطاب بالزكاة متعلّق بالمالك ، ولم يظهر من الأمر إلا لزوم إخراج القدر المعين من المال ، وأمّا خصوص المباشرة فلا.

فإذا لم ينوِ الموكّل الزكاة ، ولم يقصد التقرّب في التوكيل أيضاً ، أو قصد خلافه ؛ لم يأتِ بالمأمور به ، بخلاف ما لو نوى الامتثال ووكّل ، فإنّ مال التوكيل حينئذٍ يرجع إلى التوكيل في الإخراج والإيصال وغيره ، وهذه أفعال إذا اجتمعت مع قصد المالك ونيّته تصير تزكية ، فما فعله الوكيل لا يسمّى تزكية ، فلا يصدق على المالك إذا لم يقصد التوكيل في إخراج الزكاة لله تعالى أنّه زكّى.

فمعنى قولهم : يخرج الزكاة بنفسه أو بوكيله ، هو تلك الأفعال ، لأنفس التزكية ، فكيف يصحّ أن يطلق على المالك أنّه امتثل إذا لم يباشر بنفسه ولم ينوِ الزكاة لله في توكيله ، بل مقتضى ذلك كفاية نيّة المالك عند الدفع إلى الوكيل وبقاء حكمها إلى حين الوصول إلى الفقير ولو بعدم حصول البداء والمبطل كالارتداد وغيره أيضاً ، وإن لم ينوِ الوكيل التقرّب والامتثال ، ولو لم تكن شبهة الإجماع في كلام العلامة في التذكرة لاكتفينا بذلك.

ولعلّ كلام العلامة وغيره مبتن على جعل النيّة هي المخطر بالبال ، وإن كان خطر ببالهم اعتبار الداعي واستمرار حكمه فلعلّهم لم يحكموا أيضاً بالبطلان مع عدم نيّة الوكيل أيضاً.

وإن اعتمدنا على ظاهر الإجماع المستفاد من كلام التذكرة (١) فلا بدّ أن نقف مع

__________________

(١) التذكرة ٥ : ٣٢٩ مسألة ٢٤٠.

٢٠٣

المحقّق والتذكرة من اعتبار نيّتهما معاً ، ويكفي في النيّة الداعي على دفع المال المعهود عن الزكاة التي أوجبها الله تعالى.

وكيف كان ؛ فالقصد إلى كونه ذلك المال لازم من الوكيل وإن لم ينوِ التقرّب ، بل ذلك واجب في الواجبات التوصليّة كأداء الدين أيضاً ، فإنّه لا يتشخص إلا بالقصد وتعيين المال.

إذا تحقّق هذا فلنذكر بعض عبارات الأصحاب :

فقال المحقّق في المعتبر : لو دفع الموكّل إلى الوكيل لم يجزِ عن نيّة الوكيل حالة الدفع ، ولو نوى الوكيل عند الدفع لم تجزِ عن نيّة الموكّل حال التسليم إلى الوكيل ، ولو دفع المالك إلى الساعي لم يحتج الساعي إلى نيّة عند الدفع ؛ لأنّ الساعي كالوكيل لأهل السّهمان (١).

وقال العلامة في التذكرة : الزكاة إن فرّقها المالك تولّى النيّة حالة الدفع ، وإن دفعها إلى وكيله ليفرّقها ، فإن نوى الموكّل حالة الدفع إلى الوكيل ونوى الوكيل حالة دفعه إلى الفقراء ، أجزأ إجماعاً ، وإن لم ينويا معاً ، بأن ينويا الصدقة دون الزكاة لم يجزئ ، وإن نوى المزكّي حالة دفعه إلى الوكيل ولم ينو الوكيل حالة الدفع إلى الفقراء لم يجزئ عندنا.

ثمّ قال : ولو نوى الوكيل حالة الدفع إلى الفقراء ، ولم ينو الموكّل حال الدفع إلى الوكيل لم يجزئه (٢).

وقال في الدروس : ويجب على الوكيل النيّة عند الدفع إلى المستحقّ ، والأقرب وجوبها على الموكّل عند الدفع إلى الوكيل ، فإن فقدت إحداهما فالأقرب إجزاء نيّة الوكيل. وقال الشيخ : لا تجزئ إلا نيّتهما (٣).

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٥٥٩.

(٢) التذكرة ٥ : ٣٢٩ مسألة ٢٤٠.

(٣) الدروس ١ : ٢٤٧.

٢٠٤

وقال في المدارك : واجتزأ العلامة ومن تأخّر عنه بنيّة الوكيل حال التسليم إلى الفقير ، وهو غير بعيد (١).

أقول : قد عرفت كلامه في التذكرة. نعم ذهب في المختلف إلى كفاية نيّة الوكيل عند الدفع وإن لم ينوِ المالك ؛ استناداً إلى أنّها عبادة تقبل النيابة (٢).

أقول : قد ظهر لك ممّا حقّقناه وجه هذه الأقوال ، وأنّ الأظهر عدم كفاية نيّة الوكيل ، إذا لم ينو المالك أصلاً ، وكفاية نيّة المالك إذا استمرّ حكمها إلى حين الدفع إلى المصرف ولم يطرأ شي‌ء ينافيها ، ولا ينفعها لحوق نيّة الوكيل حين الدفع إذا لم يستمرّ حكمها ، ولا بدّ أن لا تعرضها مبطلات الوكالة ، كموت الموكّل أو جنونه أيضاً ؛ هذا كلّه فيما لو عيّن المال وأفرزه ووكّله في الدفع ظاهر.

وأمّا لو وكّله في الإفراز والدفع ، بل في الحساب والإفراز والدفع كلّها أيضاً ، فالظاهر أنّ ذلك أيضاً يكفي في نيّة المالك ، فكأنّ المالك يقصد بينه وبين الله إعطاء ما يجب عليه في هذا البيدر أو في هذه الصرّة من باب الزكاة ، ويوكّل الوكيل في إخراجه وإيصاله إلى المستحقّ.

وممّا ذكرنا اتّضح لك : أنّ النيابة هنا إنّما هي في الإخراج والإيصال ، ونيّة الوكيل هي القصد إلى ما أراده الموكّل ، وهو دفع المال المعهود لأجل الامتثال ، فلا دليل على وجوب قصد الامتثال والتقرّب للوكيل.

نعم ، يستحبّ له ذلك ، لأجل أنّ ذلك وساطة في الخير ، وحصول الثواب فيه موقوف على قصد التقرّب بتلك الوساطة ، فالاعتماد في قصد التقرّب في الزكاة على فعل الموكّل لا غير.

ويؤيّده عدم وجوب قصد التقرّب على الإمام والساعي أيضاً.

نعم ، يجب على الوكيل التعيين حال الدفع ، كما كان يجب على المالك ، وأن يقصد

__________________

(١) المدارك ٥ : ٣٠٠.

(٢) المختلف ٣ : ٢٥٥.

٢٠٥

بأنّه هو المال الذي وكّله الموكّل في إخراجه ، وأنّه يعطيه على هذا الوجه ، فلو ظهر أنّ الوكيل لم يقصد بذلك الزكاة لم يجز ، كأن يوكّله الموكّل في إيصال الزكاة بعد إخراجها وإفرازها إلى المستحقّ ، فذهب بها وأعطاها إيّاه عوضاً عن دين نفسه إليه ، وكذا لو وكّله في مجموع الإفراز والإخراج والإيصال ، فذهب وأخرج ذلك المقدار بنيّة الغصب والتملّك ، وذهب بها وأعطاها الفقير لأداء دينه ، أو ليأخذ منه في عوضه شيئاً آخر ، فلو لحقته نيّة المالك عند الوصول أو بعده مع بقائها أو تلفها على وجه يصحّ قصد الزكاة به كما سيجي‌ء فهو ، وإلا فلا يجزي.

فالواجب على الوكيل إنّما هو قصد إخراج ما وكّله فيه موكّله وتعيين كون ذلك هو الزكاة الواجبة ، وهذا القصد ممّا يجب اعتباره في غير الزكاة أيضاً من الحقوق الماليّة المحضة ، فإنّ أداء الدين أيضاً يحتاج إلى النيّة بهذا المعنى.

وظنّي أنّ مراد الأوزاعيّ من عدم اشتراط النيّة أيضاً هو قصد التقرّب ، وإلا فلا ريب في لزوم قصد التعيين في أداء الدين أيضاً ، فإذا أعطى أحد ما يساوي دينه إلى الدائن بقصد الصدقة أو غيره فلا يحسب عن دينه ويبقى في ذمّته حتّى يعطي مساويه بقصد أداء الدين.

اللهم إلا أن يكون الوكيل ثقةً عادلاً عنده ، وقلنا بعدم وجوب تحصيل العلم بإيصال الوكيل إلى المستحقّ ، وكفاية الوصول إلى يد الوكيل العدل كما هو ظاهر الأخبار المتقدّمة ، وما سيجي‌ء من الأخبار الواردة فيمن يبعث زكاته إلى ثقة ليصرفها في المصارف ، فحينئذ تبرأ ذمّته وإن ظهر بعد ذلك فسقه ، وأنّه أعطاها إيّاه على غير وجه الزكاة ؛ لأنّ الأمر يقتضي الإجزاء ، كما لو بان الفقير غنياً.

وأمّا لو ظهر أنّه لم يخرجها من ماله ولم يعطها الفقير ، فالظاهر أنّه لا يجزي ويجب أن يخرجها.

وأمّا وليّ الطفل ، سيّما غير المميّز على القول باستحباب الزكاة في غلاته ومواشيه فهو حكم على حدة ، لولا النصوص واشتهار العمل عليها ، لقلنا ببطلانه ، فبهذه الأخبار ثبتت عبادة مستقلّة للوليّ ، فليس هذه زكاة الطفل ، بل هي زكاة الوليّ

٢٠٦

من مال الطفل ، وتصحّ نيّة التقرّب معه ، ولا مانع من القول باشتراطها أيضاً.

وأمّا الوصيّ فيمكن جعله من باب الوليّ ، ويمكن الاكتفاء بنيّة الموصي حيث أمره بإخراج الزكاة من ماله.

وينبغي التنبيه على أُمور :

الأوّل : إنّك قد عرفت أنّ معنى المقارنة هو كون الدفع إلى المستحقّ ناشئاً عن نيّة المالك أو الوكيل ولو ببقاء الداعي في مخزن الخيال ، فلا يكفي تقديم النيّة مع زوال حكمها عند الدفع.

وأمّا لو أعطاها بدون النيّة ، مثل : إن كان غرضه حين الدفع الرياء ، ثمّ أراد الإخراج في وجه الزكاة ؛ فالظاهر إجزاء النيّة بعد الدفع مع بقاء العين ؛ لبقائها على ملكه ، لعدم تحقّق الناقل الشرعيّ.

وكذا مع التلف إن كان القابض عالماً بالحال ؛ لاشتغال ذمّته بها حينئذٍ ، فتحسب من الزكاة كسائر الديون.

وأمّا مع جهله فلا دليل على الضمان ، فلا وجه لنيّته الزكاة حينئذٍ.

الثاني : إنّك قد عرفت سابقاً جواز التوكيل في إخراج الزكاة ، وأنّ الظاهر أنّه إجماعيّ ، ولا إشكال فيه.

فاعلم أنّ ظاهر أكثر كلماتهم أنّه يجوز للمستحقّ أيضاً التوكيل في الأخذ ، وأنّ ذلك يقبل التوكيل ، ولكن ابن إدريس منعها (١) تبعاً لابن البرّاج (٢) ، واختاره في المدارك تمسّكاً بأنّ إقامة الوكيل مقام الموكّل يحتاج إلى دليل (٣).

__________________

(١) السرائر ٢ : ٨٢.

(٢) المهذّب ١ : ١٧١.

(٣) المدارك ٥ : ٣٠١.

٢٠٧

وتمسّك ابن إدريس بمثل ذلك ، وبأنّ التوكيل إنّما ثبت فيما يستحقّ الموكّل المطالبة به ، والزكاة لا يستحقّها واحد بعينه ولا يملكها إلا بعد القبض.

أقول : عمومات الوكالة تشمله.

نعم ، لمّا ذكروا أنّ شرط صحّة التوكيل تملّك الموكّل لذلك الفعل وتسلّطه عليه من حين عقد الوكالة إلى حين الفعل ، وادّعى عليه بعضهم الاتفاق ، فيمكن الخدش فيما لو وكّله لأن يأخذ الزكاة بمعنى أن يطلب الزكاة وكالةً عنه من شخص خاصّ أو حيث ما وجد يأخذ ؛ فإنّ ذلك لا يتمّ له إلا مع إعطاء المالك ؛ لعدم استحقاق شخص خاصّ لزكاة شخص خاصّ.

والقول «بأنّه يوكّله في أنّه لو أعطاه أحد زكاته فيأخذ نيابة عنه ، وهذا ممّا يملكه ويتسلّط عليه» يمكن دفعه بأنّه يستلزم تعليق الوكالة ، وقد ذكروا اشتراط التنجيز فيها ، وادّعى بعضهم الإجماع عليه أيضاً.

إلا أن يقال : التعليق هنا في الموكّل فيه لا الوكالة ، وذلك من باب أنت وكيل في بيع عبدي إذا قدم الحاج ، بأن يكون الشرط قيداً للبيع لا الوكالة ، وادّعى العلامة على صحّته الإجماع ، وليس من باب قول الموكّل : إن لم أجئ من سفري هذا بعد سنة فأنت وكيل في تطليق زوجتي ، أو إن كانت زوجتي فعلت كذا فأنت وكيلي في تطليقها.

وكيف كان ، فالظاهر أنّه لا إشكال في التوكيل فيما لو وعد أحد الفقير أن يعطيه الزكاة فيوكّل غيره في أخذها.

ولا بدّ من ثبوت الوكالة بالإقرار أو البيّنة أو غيرهما ، والظاهر عدم الاحتياج إلى الحاكم في البيّنة.

والظاهر جواز الإعطاء بدون الثبوت أيضاً ، لكن براءة الذمّة حينئذٍ مراعاة بحصول العلم بالوصول إلى الفقير ظاهراً ، وفي نفس الأمر.

وأمّا وكيل المالك فلا يحتاج جواز الأخذ من يده إلى الإثبات للفقير ، بل يكفي كونه في يده وتصرّفه فيه كسائر المعاملات مثل البيع والطلاق وغيره ، غاية الأمر بقاء

٢٠٨

صاحب المال على حقّه لو ثبت خلافه بعد إنكاره.

الثالث : قد عرفت مراراً أنّ النيّة في العبادات هي القصد إلى الفعل المعهود تقرّباً إلى الله تعالى ، ولا يجب قصد شي‌ء من الوجوب والندب وغيرهما إلا إذا توقّف تميّز المكلّف به عليه ، فلا يجب في الزكاة قصد الوجوب والندب ، ولا الجنس الذي تخرج منه.

بل الظاهر عدم وجوب قصد الفطرة والزكاة فيما لا يتوقّف التميّز عليه ، كما لو كان في ذمّته صاعان من الزكاة وصاعان من الفطرة فيعطي أربع أصوع عمّا في الذمّة ، أو يعطي صاعين إلى فقير بقصد ما في الذمّة ، ثمّ صاعين إلى آخر كذلك.

ويظهر من ذلك بطريق الأولى أنّ الأمر كذلك في بيدرين (١) من الحنطة في مزرعتين أو قطيعين من الغنم.

بل والنصاب الأوّل من الغنم والأوّل من الإبل أيضاً كذلك.

بل وكذلك المتخالفان في جنس الواجب ، كالغلّة والنقدين ، أو النقد والأنعام إذا أخرج القيمة ، والظاهر أنّ المسألة إجماعيّة كما نقل عن المنتهي (٢).

ولو أخرج بعض ما في الذمّة تبرأ ذمّته عنه ويبقى الباقي.

وحينئذٍ فهل يتخيّر المالك في صرفه إلى أيّهما شاء أو يوزّع؟

وتظهر الثمرة فيما لو لم يتمكّن من إخراج الباقي لعدم المستحقّ حتّى تلف أحد النصابين ، فعلى الأوّل كما اختاره في التذكرة (٣) إن صرفه إلى الباقي برئت ذمّته عن زكاة التالف ، وإن صرفه إلى التالف أخرج للباقي.

وعلى الثاني كما اختاره في البيان (٤) يسقط عنه ممّا أدّاه بالنسبة إلى الباقي بمقدار

__________________

(١) البيدر : الموضع الّذي يداس فيه الطعام. الصحاح ٢ : ٥٨٧ «بدر».

(٢) المنتهي ١ : ٥١٦.

(٣) التذكرة ٥ : ٣٣٢ مسألة ٢٤٢.

(٤) البيان : ٢٠١.

٢٠٩

ما يصير سهماً له ، ويجب عليه الباقي ، والقول الثاني أظهر.

الرابع : لا يضرّ الترديد في النيّة مع الجزم في القصد ، والمضرّ إنّما هو التردّد في القصد ، فلو كان شاكّاً في وجوب الزكاة على السّلت والعلس مثلاً أو ندبها ، فأعطى الزكاة وقال : إن كان واجباً فهو واجب وإلا فندب ، فلا يضرّ.

وكذا لو كان الأمر مردّداً بين ثبوت الزكاة وعدمه ، كما لو شكّ في بقاء ماله الغائب فنوى الزكاة إن كان سالماً ، والصدقة إن كان تالفاً.

ونظير ذلك كثير ، كصوم يوم الشكّ ، وصلاة الصبح للشاكّ في طلوع الشمس إذا ضاق الوقت عن الفحص.

وأمّا على القول بعدم وجوب اعتبار الوجه في النيّة كما هو الأظهر فالأمر أظهر.

ولو أخرج ونوى عن ماله الغائب إن كان سالماً ، فإن ظهرت السلامة فيصحّ وتقع زكاة.

وإن ظهر تلفه ، ففي جواز نقلها إلى غيره خلاف ، منعه الشيخ ؛ لفوات محلّ النيّة (١) ، واختاره الفاضلان (٢) ، ولعلّهما نظرا إلى بقاء الملك للمالك ؛ لظهور انتفاء الزكاة ، ولا ناقل آخر يوجب خروجها عن ملكه.

ويظهر ممّا قدّمنا من جواز لحوق النيّة للدفع ضعف الأوّل.

وأمّا القول الأخر ، فالأمر فيما لو كانت العين باقية واضح ، فيجوز نقلها إلى غيره ، وأمّا في صورة التلف ففصّل في المسالك وقال : إنّ القابض إن علم بذلك حين القبض جاز النقل لتبيّن عدم الانتقال ، بخلاف ما لو لم يعلم ؛ لأنّه سلّطه على ماله وأتلفه فلا ضمان (٣).

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٣٢.

(٢) المحقّق في الشرائع ١ : ١٥٧ ، والعلّامة في التذكرة ٥ : ٣٣٤ مسألة ٢٤٥.

(٣) المسالك ١ : ٤٤٢.

٢١٠

وقال في المدارك : بل لا يبعد الجواز مطلقاً ؛ لفساد الدفع في نفس الأمر وإن لم يعلم به المستحقّ (١).

وفيه تأمّل ؛ لعدم دليل على الضمان ، فكما لا يجوز استرداده لا يجوز نقله إلى غيره من الحقوق اللازمة أيضاً ؛ لأنّها لا تصحّ إلا في ماله ، وإذا لم يثبت الضمان فليس ما أتلفه الفقير مالاً للمالك.

نعم لا يمنع احتسابه عند الله ، وحصول الثواب له موافقاً لثواب الصدقة ، بل الزكاة أيضاً لتنبيه قوله عليه‌السلام : «لكلّ امرئ ما نوى» (٢) و «نيّة المؤمن خير من عمله» (٣) هذا مع الذهول عن التعليق حين الإعطاء.

وأمّا مع التذكّر وعدم التعليق في نفسه وعدم الإعلام للفقير وقصد الزكاة معاً فالظاهر عدم الاحتساب عن شي‌ء ، ولا حصول الثواب لو لم نقل بلزوم العقاب.

الخامس : إذا دفعها المالك إلى الإمام أو الساعي ولم ينوِ المالك ، فإن دفعها كُرهاً أجزأه ذلك ؛ لأنّه كالوليّ للممتنع ؛ كالطفل ، فتكفي نيّته عن نيّته كوليّ الطفل ، ولأنّها تصير مباحةً لمستحقّها ، والمفروض أنّه ليس حقّا له من غير وجه الزكاة ، ولكن لا ثواب له فيه.

والظاهر أنّه يكفي أن يوصل الإمام أو نائبه إلى المستحقّ بقصد أنّه هو مقدار المال الذي تعلّق بالمالك بعنوان الزكاة وإن غفل عن قصد التقرّب.

ويمكن أن يقال : قصد الزكاة في النيّة مع عدم قصد ما ينافي التقرّب كالرّياء متضمّن لذلك القصد وكافٍ في النيّة ، فيكون إعطاء الإمام ومن في حكمه معناه بقصد أنّه هو المال المخصوص إلى المستحقّ نيّته.

__________________

(١) المدارك ٥ : ٣٠٤.

(٢) عوالي اللآلي ١ : ١١ ، وص ١٩١.

(٣) عوالي اللآلي ١ : ٣٧.

٢١١

وإن دفعها إليهم طوعاً ويمكن (١) فرض عدم النيّة حينئذٍ مع ما أشرنا إليه من سهولة تحقّقها بأن ينوي الرياء حين الدفع أو شيئاً آخر. وعلى القول بوجوب الإخطار مقارناً له ففرضه واضح ففيه قولان ، فعن الشيخ أنّه لا يجزئ فيما بينه وبين الله ، غير أنّه ليس للإمام مطالبته بها دفعة ثانية (٢) ، ووجهه : أنّها عبادة تفتقر إلى النيّة ، والإمام ونائبه وكيل عن الفقراء ، فتلزم النيّة حين الدفع إليهم.

وذهب الفاضلان إلى الإجزاء (٣) ، ووجهه أنّ الإمام ونائبه نوّاب عن المالك أيضاً ، ويجوز في هذا الفعل النيابة ، فتكفي نيّتهم عنه ، وهذا النزاع في الإمام قليل الجدوى.

وأمّا لو أخذها الفقيه أو ساعيه أو آحاد من العدول من المؤمنين ، فالظاهر أنّهم إذا علموا بعدم نيّة المالك فيجب عليهم إعلام المالك وأمره بالنيّة ونهيه عمّا يخالفها ، حتّى تصدر الزكاة عنه مع النيّة.

ويقع الإشكال فيما لو كلّف الفقيه المالك بالزكاة وأعطاها طوعاً باسم الزكاة لكن علم الفقيه من حاله أنّه يقصد به الرياء أو شيئاً آخر ، ولا ينفعه الإعلام والنصح والوعظ ، ولا يبعد القول بالإجزاء بمعنى أنّه لا يكلّف بإعطائها ثانياً وإن لم يحصل للمالك ثواب فيه ، بل يعاقب على نيّته ، فيكون في حكم المأخوذ كرهاً ، بخلاف ما لو أعطاها بنفسه المستحقّ رياءً ، فإنّه لا يجزيه وتجب عليه إعادتها.

تنبيه :

يجب على الإمام والفقيه إجبار الممتنع على الزكاة والأخذ منه كُرهاً ، إقامةً للمعروف ، وإزاحةً للمنكر.

وهل يجوز ذلك لآحاد المؤمنين؟ الظاهر ذلك ؛ لعين ما ذكر.

__________________

(١) في «م» زيادة : عدم.

(٢) المبسوط ١ : ٢٣٣.

(٣) المحقّق في الشرائع ١ : ١٥٧ ، والعلّامة في التذكرة ٥ : ٣٣٢ ، والمنتهى ١ : ٥١٦.

٢١٢

وكذلك غير الزكاة من الخمس وسائر الوجوه الواجبة لعين ما ذكر ، وصرّح به الشهيد رحمه‌الله في القواعد (١).

__________________

(١) القواعد ١ : ٣٥٦.

٢١٣

المقصد السادس

في اللواحق

وفيه مباحث :

الأوّل : إذا اجتمع للمستحقّ سببان أو أكثر كالغرم والعمالة والغزو جاز أن يعطى بكلّ سبب نصيباً بحسب كلّ من الوجوه المذكورة. ولو كان أحد الوجوه هو الفقر فلا يتقدّر الإعطاء بقدر كما مرّ.

الثاني : ذهب الأكثر إلى أنّ أقلّ ما يعطى الفقير ما يجب في النصاب الأوّل ، نصف دينار أو خمسة دراهم ، ومنهم السيّد في الانتصار مدّعياً عليه الإجماع (١).

وقيل : ما يجب في النصاب الثاني ، عُشر دينار أو درهم ، وهو قول ابن الجنيد (٢).

واختلف النقل عن سلار (٣) ، ففي المختلف نقل عنه الأوّل (٤) ، وفي المعتبر الثاني (٥) ،

__________________

(١) الانتصار : ٨٢.

(٢) نقله عنه المحقّق في المعتبر ٢ : ٥٩٠ ، والعلّامة في التذكرة ٥ : ٣٤٠.

(٣) الموجود في المراسم : ١٣٣ اختيار القول الأوّل.

(٤) المختلف ٣ : ٢٢٧.

(٥) المعتبر ٢ : ٥٩٠.

٢١٤

وتبعه في المدارك (١).

وعن السيّد في الجمل : أنّه لأحدّ في ذلك (٢) ، وتبعه ابن إدريس (٣) وجماعة (٤).

وعن السيّد في المسائل المصريّة : أقلّ ما يجزئ من الزكاة درهم (٥) ، ولعلّه موافق لابن الجنيد.

ولم نقف على ما يدلّ على قول ابن الجنيد في الأخبار.

واحتج الأوّلون بصحيحة أبي ولاد الحنّاط ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : «لا يُعطى أحد من الزكاة أقلّ من خمسة دراهم ، وهو أقلّ ما فرض الله تعالى من الزكاة في أموال المسلمين ، فلا تعطوا أحداً أقلّ من خمسة دراهم فصاعداً» (٦) ، وبمضمونها رواية معاوية بن عمّار وعبد الله بن بكير (٧).

والأظهر مختار الجمل ، للأصل ، وإطلاق الآية والأخبار ، وخصوص صحيحتي محمّد بن عبد الجبّار (٨) ، وخصوص حسنة الحلبيّ عن الصادق عليه‌السلام ، قال : قلت له : ما يعطي المصدّق؟ قال : «ما يرى الإمام ، لا يقدّر له شيئاً» (٩) ، وحسنة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي المتقدّمة في مسألة البسط على الأصناف (١٠) وغيرها (١١).

والإجماع المنقول في الانتصار ممنوع ، سيّما مع مخالفته له في كتابيه.

__________________

(١) المدارك ٥ : ٢٧٩.

(٢) جمل العلم والعمل (رسائل السيّد المرتضى) ٣ : ٧٩.

(٣) السرائر ١ : ٤٦٤.

(٤) كالديلمي في المراسم : ١٣٤ ، والعلّامة في المختلف ٣ : ٢٢٧ ، والعاملي في المدارك ٥ : ٢٧٩.

(٥) حكاه عنه في المختلف ٣ : ٢٢٦.

(٦) الكافي ٣ : ٥٤٨ ح ١ ، التهذيب ٤ : ٦٢ ح ١٦٧ ، الاستبصار ٢ : ٣٨ ح ١١٦ ، الوسائل ٦ : ١٢٧ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٢٣ ح ٢.

(٧) التهذيب ٤ : ٦٢ ح ١٦٨ ، الاستبصار ٢ : ٣٨ ح ١١٧ ، الوسائل ٦ : ١٢٨ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٢٣ ح ٤.

(٨) الفقيه ٢ : ١٠ ح ٢٨ ، الوسائل ٦ : ١٧٧ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٢٣ ح ١.

(٩) الكافي ٣ : ٥٦٣ ح ١٣ ، الوسائل ٦ : ١٧٨ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٢٣ ح ٣.

(١٠) الكافي ٥ : ٢٦ ح ١ ، الوسائل ٦ : ١٨٣ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٢٨ ح ١.

(١١) الوسائل ٦ : ١٨٣ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٢٨.

٢١٥

والمشهور أنّ هذه التقديرات على سبيل الاستحباب ، كما صرّح به في المسالك (١) ، بل ادّعى عليه الإجماع في التذكرة (٢). ولكن يظهر من جماعة من الأصحاب أنّه على الوجوب ، بل هو كالصريح في كلام كثير منهم (٣). وشهرة الاستحباب ونقل الإجماع عليه أيضاً ممّا يؤيّد ما اخترناه في أصل المسألة ، فالأقوى حمل النهي على الكراهة ، والقول بالاستحباب في التحديد بالمشهور.

ثمّ إنّ المذكور في الأخبار هو الدرهم ، وليس لحكم الدينار فيها أثر فيما نعلم ، ولا لغير النقدين من الغِت والمواشي ، والظاهر أنّه لا قائل بالفرق بين الدرهم والدينار.

وأمّا غيرهما ففيما يتعدّد فيه النصاب كغير الغِت يمكن عدم التعدّي إليه ، ويمكن اعتبار النصاب الأوّل أو الثاني منها كما ذهب إليه بعضهم ، ويمكن اعتبار بلوغ قيمة المدفوع ذلك كما اختاره في المسالك (٤).

وأمّا الغِت ففيها احتمالان : لزوم ما يجب في أوّل بلوغ النصاب ، واعتبار ما يساوي خمسة دراهم.

أقول : والظاهر من صحيحة أبي ولاد وما في معناها أنّه لا يعطى أقلّ من أقلّ ما يجب في أموال المسلمين في الزكاة في أوّل الإعطاء ، ولعلّ الأقلّ كان في زمان الصادق عليه‌السلام حين إفادة هذا الحكم هو خمسة دراهم بالنسبة إلى جميع أصناف ما تجب فيه الزكاة ، بمعنى أنّ قيمة زكاة النصاب الأوّل في الفضّة كان يومئذٍ أقلّ من قيمة زكاة النصاب الأوّل في سائر الأصناف ، فيلاحظ سائر الأصناف مع زكاة الفضّة ، ويعتبر عدم كونها أقلّ منها.

أو نقول : إنّ الظاهر من الصحيحة اعتبار أقلّ ما يخرج المكلّف ممّا كلّف به ، فإن كان

__________________

(١) المسالك ١ : ٤٣١.

(٢) التذكرة ٥ : ٣٤٠ مسألة ٢٥١.

(٣) كابن البراج في المهذّب ١ : ١٧٢ ، وحكاه عن علي بن بابويه في الفقيه ٢ : ١٧.

(٤) المسالك ١ : ٤٣٢.

٢١٦

ماله درهم فخمسة دراهم ، وإن كان غنماً فشاة ، وهكذا. ويؤيّده ما سيجي‌ء في الفطرة من أنّه لا يُعطى أقلّ من صاع ، فذكر الدراهم في الحديث بعنوان المثال.

وكيف كان ، فلو لم يجب على المالك إلا شاة ، وكانت قيمتها حين وجوبها أقلّ من خمسة دراهم ، فلا ريب في كفايتها. وكذلك لو تحقّق له النّصابان ، وأعطى زكاة النصاب الأوّل لفقير ، يجوز إعطاء الأخر لآخر على القول المشهور أيضاً.

وربّما احتمل العدم ؛ لعدم الامتثال ، فيلزم أن تعطى زكاة النصاب الثاني إن لم يمكن استتمامها بما يساوي زكاة النصاب الأوّل من النصب الباقية الفقير الأوّل ، وهو في غاية البُعد.

وعلى ما اخترناه من الاستحباب فالأمر هيّن ، هذا الكلام في الأقلّ.

وأمّا الأكثر فلا حدّ له ، بل يجوز إعطاء الفقير فوق الغنى ؛ للأخبار المستفيضة ، والظاهر أنّه إجماعيّ ، وصرّح به في المنتهي (١).

ولو تعاقب عليه الإعطاء حتّى بلغت مئونة السنة حرم عليه الزائد ؛ لأنّه غنيّ حينئذٍ ، وقد مرّ الكلام في ذلك ، وفي جواز إعطاء ذي الكسب القاصر أيضاً حدّ الغنى وفوقه. ولا يقتصر على المتمّم كالفقير الواجد لبعض المئونة.

الثالث : قيل : يجب على الإمام الدعاء لصاحب الزكاة إذا أخذها (٢) ؛ لقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) (٣).

وروى العياشيّ ، عن الصادق عليه‌السلام : أنّه سئل عن هذه الآية ؛ أجارية هي في الإمام بعد رسول اللهُ؟ قال : «نعم» (٤).

وقيل : يُستحبّ ، والنزاع في ذلك قليل الجدوى.

__________________

(١) المنتهي ١ : ٥٢٨.

(٢) كالمحقّق في المعتبر ٢ : ٥٩٢.

(٣) التوبة : ١٠٣.

(٤) تفسير العياشي ٢ : ١٦٠ ح ١١١.

٢١٧

وأمّا الساعي والفقيه ؛ فالأظهر عدم الوجوب ؛ لأنّ الخطاب مختصّ به ، فيحتاج التعدّي إلى دليل ، مع أنّها وردت في أبي لبابة وأصحابه حين أُطلق من ساريّة المسجد وعرض ماله للتصدّق ، وقصّته مشهورة (١) ، وليس ذلك في الزكاة ، بل إنّما عرض جميع ماله للتصدّق لتطهر نفسه. مع أنّ في التعليل إشعاراً بالاستحباب لهُ أيضاً كما لا يخفى.

وربّما يستدلّ بالعلّة على عدم الوجوب على غيرهُ ؛ لأنّ المراد بالسكن ما تسكن إليه النفس وتطمئنّ ، وإنّما هو فيه ومن يليه ، لاستجابة دعائه جزماً.

ويمكن القدح بأنّ السكون ربّما يحصل في غيره أيضاً ، فالعلّة تقتضي التعدية.

ويدفعه : أنّ مقتضى هذا التعليل وجوب كلّ ما يكون سكناً عليه ، مثل الرواح إلى بيتهم ، وإظهار مودّتهم ، لا أنّ الدعاء يجب على غيره لأنّه سكن.

ويؤيّد عدم الوجوب حسنة بريد بن معاوية المتقدّمة في العاملين ، فإنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام لم يأمر فيها بذلك مع اشتمالها على جلّ الاداب والسنن (٢).

قال في المدارك : أمّا المستحقّ فقيل : إنّه لا يجب عليه الدعاء إجماعاً ، ولا ريب في استحباب الدعاء للجميع (٣).

أقول : وعدم الوجوب على المستحقّ أيضاً يؤيّد عدم الوجوب على الساعي والفقيه بالفحوى.

ويكفي الدعاء بأيّ لفظ يكون.

وقال في التذكرة : يقول : أجرك الله فيما أعطيت ، وجعله لك طهوراً ، وبارك الله لك فيما أبقيت (٤).

__________________

(١) حكاه الزمخشري في الكشاف ٢ : ٣٠٦.

(٢) الكافي ٣ : ٥٣٦ ح ١ ، التهذيب ٤ : ٩٦ ح ٢٧٤ ، الوسائل ٦ : ٨٨ أبواب زكاة الأنعام ب ١٤ ح ١.

(٣) المدارك ٥ : ٢٨٤.

(٤) التذكرة ٥ : ٣٦١.

٢١٨

ولا يجب الدعاء بلفظ الصلاة ، وقيل : يجب (١) ؛ لظاهر الآية والتأسّي به حيث قال : «اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى» لما جاءته زكاتهم (٢).

وفي مجمع البيان عن النبيّ : كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : «اللهمّ صلّ عليهم» (٣).

وهو ضعيف ؛ لأنّ ظاهر الآية مطلق الدعاء ، والتأسّي ليس بواجب مطلقاً كما حقّق في الأُصول (٤).

ومنع هذا الشافعيّة (٥) بالخصوص ؛ لأنّه مخصوص بالأنبياء والملائكة.

وظاهر الآية ، وحكاية آل أبي أوفى ، وكذلك قوله تعالى (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) (٦) وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) (٧) ويدلّ على جواز الصلاة على غيرهُ.

قال في الكشاف بعد تسليم الدلالة : إنّ للعلماء تفصيلاً ، وهو جوازه بتبع النبيّ ، كقولك صلّى الله على النبيّ وآله ، وأمّا إذا أُفرد غيره من أهل البيت بالصلاة كما يفرد هو فمكروه ؛ لأنّ ذلك صار شعاراً لذكر رسول اللهُ ، ولأنّه يؤدّي إلى الاتهام بالرفض (٨) ، وفيه ما ترى من الغرابة.

الرابع : يُكره تملّك ما أخرجه من الصدقة واجبة كانت أو مندوبة اختياراً ،

__________________

(١) المسالك ١ : ٤٣٢.

(٢) صحيح البخاري ٢ : ١٥٩ ح ٢ ، صحيح مسلم ٢ : ٧٥٦ ح ١٠٧٨ ، سنن أبي داود ٢ : ١٠٦ ح ١٥٩٠ ، وانظر التذكرة ٥ : ٣٦٢.

(٣) مجمع البيان ٣ : ٦٨.

(٤) القوانين ١ : ٤٩٠.

(٥) انظر المجموع ٦ : ١٧١ ، وفتح العزيز ٥ : ٥٢٩.

(٦) البقرة : ١٥٧.

(٧) الأحزاب : ٤٣.

(٨) الكشاف ٣ : ٥٥٨ تفسير الآية ٥٦ من سورة الأحزاب.

٢١٩

وادّعى عليه الإجماع غير واحد من الأصحاب ، وهو موافق للاعتبار (١) ، وليس بحرام ؛ للإجماع ظاهراً ، وصرّح به في التذكرة (٢) وغيرها (٣) ، وللعمومات ، ولخصوص رواية محمّد بن خالد (٤) وغيرها (٥).

قال في التذكرة : لو دعت الحاجة إلى الشراء بأن يكون الفرض جزءاً من حيوان لا يمكن الفقير الانتفاع بعينه ولا يجد من يشتريه سوى المالك ، ولو اشتراه غيره تضرّر المالك بالمشاركة والفقير بقلّة الثمن زالت الكراهة والتحريم إجماعاً ، وكذا كلّ موضع دعت الحاجة إلى البيع (٦).

وهو كما ذكره رحمه‌الله وصرّح به غيره أيضاً (٧).

وأمّا التملّك بدون الاختيار ، كأن يعود عليه بميراث وشبهه ، كأن يشتريه وكيله المطلق من دون اطلاعه ، أو استوفاها من الفقير عن دين المالك ونحو ذلك فلا كراهة فيه ، يعني لا يستحبّ له إخراجه عن ملكه حينئذٍ.

الخامس : قالوا : يستحبّ أن توسم نِعم الصدقة في أقوى مواضعها وأكشفه ، كآذان الغنم ، وأفخاذ الإبل والبقر (٨).

ونقله الجمهور عن فعل النبيّ (٩) ، والظاهر أنّه إجماعيّ.

ويعاضده الاعتبار من عدم الاشتباه ، وإفادته اجتناب المالك عن إعادته في ملكه

__________________

(١) العلّامة في المنتهي ١ : ٥٣٠ ، والسيّد في المدارك ٥ : ٢٨٥.

(٢) التذكرة ٥ : ٣٢٤ مسألة ٢٣٦ ، المنتهي ١ : ٥٣٠.

(٣) كصاحبي المعتبر ٢ : ٥٩١ ، والمدارك ٥ : ٢٨٥.

(٤) التهذيب ٤ : ٩٨ ح ٢٧٦ ، الوسائل ٦ : ٨٩ أبواب زكاة الأنعام ب ١٤ ح ٣.

(٥) الوسائل ٦ : ٢٩٤ أبواب الصدقة ب ٢٤.

(٦) التذكرة ٥ : ٣٢٦ مسألة ٢٣٦.

(٧) كالأردبيلي في مجمع الفائدة ٤ : ٢٢٧.

(٨) كالعلّامة في التذكرة ٥ : ٣٢٠ مسألة ٢٣٢ ، والعاملي في المدارك ٥ : ٢٨٦ ، والشافعي في الأُمّ ٢ : ٧٩ ، والفيروزآبادي في المهذّب ١ : ١٦٩.

(٩) صحيح البخاري ٧ : ١٢٦ ، سنن أبي داود ٣ : ٢٦ ح ٢٥٦٣ ، سنن البيهقي ٧ : ٣٦.

٢٢٠