غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٤

الميرزا أبو القاسم القمّي

غنائم الأيّام في مسائل الحلال والحرام - ج ٤

المؤلف:

الميرزا أبو القاسم القمّي


المحقق: مكتب الإعلام الإسلامي ، فرع خراسان
الموضوع : الفقه
الناشر: مركز النشر التابع لمكتب الاعلام الاسلامي
المطبعة: مكتب الإعلام الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-424-560-1
الصفحات: ٤٠٠

الفقه كتاب الزكاة كتاب الخمس

أنّ مطلق الرقيّة حلقة بلاء يُرجى الخلاص منها ، وكون الرقيّة أرغب عند بعض العبيد لأمر خارجي نادر لا يلتفت إليه في الإطلاقات.

فالأظهر إذن قول العلامة ومن تبعه ، وإن كان الأحوط الاقتصار على المكاتبين العاجزين وغيرهم ممّن ذكروه. ولكن هذا الاحتياط إن كان من جهة التشكيك في دخول غير هؤلاء تحت الرقاب المذكورة في الآية ، فلا شكّ في اندراج مطلق العتق تحت عموم سبيل الله ، ومعه فلا احتياط.

ويمكن أن يقال : في وجه الاحتياط حينئذٍ شيئان ، أوّلهما : الإشكال في عموم سبيل الله ؛ لقول بعضهم بالاختصاص بالجهاد. وثانيهما : ظهور مرجوحيّة من تلك الأخبار ، ولا تقييد فيها بأنّ المرجوحيّة إنّما هي مع قصد ذلك مندرجاً تحت الرقاب ومع اعتقاد ذلك ، بل هو مطلق.

ثمّ إنّ الشهيد الثاني رحمه‌الله قال في المسالك : ولا بدّ من صيغة العتق بعد الشراء ، ونيّة الزكاة مقارنة للعتق (١). وفي شرح اللمعة : مقارنة لدفع الثمن أو للعتق (٢).

أقول : والأظهر أنّ هذا مثل الصلاة ، فموضع النيّة هو دفع الثمن ، ولا بدّ من استدامته حكماً إلى حصول العتق. ولو قلنا كما في المسالك يلزم كون الضمان على المالك لو تلف بعد الشراء وقبل إجراء الصيغة ، إذ بعد لم يتّصف بكونه زكاةً ، وهو كما ترى.

وكذلك الكلام فيما يُصرف في سبيل الله ، كمن أراد صرف الزكاة إلى مسجد فاشترى به الجِصّ والآجر وسائر المصالح فتلف من دون تفريط قبل بناء المسجد ، ولا وجه للقول بأنّ وقت النيّة هو وقت تمام المسجد ، هذا.

وظاهر الأخبار (٣) والأصحاب لزوم إجراء صيغة العتق وإنشائها ، ويحتمل قويّاً

__________________

(١) المسالك ١ : ٤١٤.

(٢) الروضة البهيّة ٢ : ٤٧.

(٣) الوسائل ٦ : ٢٠٢ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٣.

١٤١

كفاية الاشتراء فيعتق ، ومال إليه بعض المتأخّرين (١) ، والأحوط إجراء الصيغة ، بل الأظهر.

ولا يقدح في ذلك أنّه لا عتق إلا في ملك ؛ لتخصيص القاعدة بذلك ، مع إمكان أن يقال : إنّ ذلك توكيل من جانب الشارع في مال الزكاة ، وهو وليّ أرباب الزكاة ، وعلى اعتبار الصيغة ، فالظاهر لزومه منه في صورة اشتراء الأب أيضاً وإن لم يحتج إليه في غير الزكاة.

ثمّ إنّ ههنا رواية في تفسير عليّ بن إبراهيم عن العالم عليه‌السلام : قال : «(وَفِي الرِّقابِ) قوم لزمتهم كفّارات في قتل الخطأ وفي الظهار وفي الأيمان وفي قتل الصيد في الحرم ، وليس عندهم ما يكفّرون به وهم مؤمنون ، فجعل الله تعالى لهم سهماً في الصدقات ليكفّر عنهم» (٢).

وهي مرسلة ، وخلاف ظاهر الآية ؛ لأنّ ظاهرها تخليص الرقاب ، لأمن يجب عليه العتق ، مع أنّها تدلّ على جواز أداء مطلق الكفّارة لا العتق ، فلو اعطي من باب الفقر فلا بأس به.

وتردّد في الشرائع في جواز العتق بذلك (٣) وجوّز في المعتبر إعطاءه من سهم الغارمين (٤) ، وفيه نظر ؛ لعدم التبادر.

ثمّ إنّ المكاتب إنّما يُعطى إذا لم يجد ما يصرفه فيه ، وظاهر الرواية بل الآية أيضاً اشتراط العجز عن الكسب أيضاً كما ذكره في البيان (٥) ، إلا على القول بجواز العتق مطلقاً كما قوّيناه ، إلا أن يقال : إنّ ذلك القول مبنيّ على حمل الآية على تخليص العبد من الرقّ مع عدم إمكان تخلّصه بنفسه ، بأن يصير مكاتباً مثلاً ، ويمنع إطلاق الآية

__________________

(١) كالأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان ٤ : ١٦١.

(٢) تفسير القميّ ١ : ٢٩٩ ، وأوردها في التهذيب ٤ : ٤٩ ح ١٢٩ ، والوسائل ٦ : ١٤٥ أبواب المستحقّين للزكاة ب ١ ح ٧.

(٣) الشرائع ١ : ١٤٩.

(٤) المعتبر ٢ : ٥٧٤.

(٥) البيان : ٣١٣.

١٤٢

بحيث يشمل من يتمكّن منه ، سيّما مع السهولة.

ويجوز الدفع إلى المكاتب بإذن السيّد وبدونه ، وإلى السيّد بإذن المكاتب وبدونه ، كسائر الديّان. وقال في المنتهي : بإذن المكاتب (١) ، ولا يظهر وجهه ، سيّما مع إطلاق الآية والرواية.

ثمّ إنّ ما يُؤدّى عن وجه المكاتبة إن صرف في مصرفه وتحرّر فلا كلام.

وإن دفعه إلى السيّد ورجع إلى الرقّ بسبب عجزه عن الإتمام في الكتابة المشروطة فمقتضى امتثال الأمر الإجزاء وعدم الارتجاع ، ولم ينقلوا فيه مخالفاً إلا عن أحد وجهي الشافعيّة ؛ لعدم حصول المقصود (٢) ، وهو ضعيف.

وأمّا لو لم يدفعه إلى السيّد وحصل التحرير بغيره من إبراء المولى أو متطوّعٍ تطوّع ، فالأظهر جواز الرجوع ؛ لأنّ مصارف الزكاة على قسمين ، فمنهم من يأخذها أخذاً مستقرّاً ، ولهم صرف ما أخذوا في أيّ شي‌ء أرادوا ، وهم الفقراء والمساكين والعاملون والمؤلّفة ، ومنهم من يأخذها أخذاً مقيّداً بوصف ومصرف خاصّ ، وهم الأربعة البواقي ، ونبّه على ذلك في الآية بإقحام كلمة «في» كما ذكره جماعة من المفسّرين (٣) ، مع أنّ الأصل عدم ثبوت استحقاقهم إلا من أجل ذلك ، وعدم جواز تصرّفهم إلا في ذلك.

ولا يجري هذا الكلام في الصورة السابقة ؛ لأنّه صار ملكاً للسيّد بأخذه ، لكون ذلك التصرّف مأموراً به حينئذٍ.

وحكم الشيخ بعدم الرجوع ؛ لأنّه أخذه باستحقاقه ، فارتجاعه يحتاج إلى دليل (٤) ، ويظهر جوابه ممّا مرّ.

__________________

(١) المنتهي ١ : ٥١١.

(٢) المجموع ٦ : ٢٠١ ، حلية العلماء ٣ : ١٥٧ ، وانظر التذكرة ٥ : ٢٨٤ مسألة ٢٠٠.

(٣) كالزمخشري في الكشاف ٢ : ٨٢ ، سورة التوبة آية ٦٠ ، والعِمة أحمد بن المنير في حاشية الكشاف ٢ : ٢٨٣ ، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن ٢ : ٣٠٢.

(٤) المبسوط ١ : ٢٥٤.

١٤٣

واعتبر المحقّق رحمه‌الله في المعتبر قصدَ المالك ، يعني إن قصد صرفه في الكتابة ارتجع حينئذٍ ، كما اعتبر ذلك في الغارم وابن السبيل ؛ لأنّ للمالك الخيرة في صرف الزكاة في الأصناف (١).

وتظهر الثمرة فيما لو كان المكاتب فقيراً أيضاً ، وسامح المالك حين الأداء في قصد التعيين ، وإلا فالظاهر عدم صحّة الأداء إلا مع التعيين ، لاختلاف المصارف في الحقيقة والمفهوم ، وللزوم ملاحظة مقدار وجه الكتابة والغرم ونفقة السبيل ؛ لعدم جواز إعطاء الزيادة في هذه المصارف ، فلا يمكن إلا بالقصد ، فيلزم من اعتبار المحقّق أن لا يجوز الارتجاع مع عدم قصد التعيين فيما جازت فيه المسامحة.

وأمّا مع تعيين غيره ، مثل أن يكون المكاتب فقيراً ، وأعطاه من جهة فقره ، فالظاهر عدم الإشكال في عدم الرجوع ؛ لأنّ الفقير لا يحتكم عليه فيما يأخذه بلا إشكال ، وادّعي عليه الإجماع في كلامهم.

ولو ادّعى الكتابة ، فإمّا أن ذلك يلاحظ مع حقّ المولى ، أو مع مصارف الزكاة.

فأمّا مع المولى : فحكمه أنّ المولى إذا صدّقه فلا كلام ، ولو كذّبه فعليه البيّنة ، وعلى المولى اليمين مع عدمها. وفيما جهل حال المولى لا يكذّب العبد ، ويبقى المولى على حقّه إلى حين حضوره.

وأمّا لأجل أخذ الزكاة ؛ فإن صدّقه المولى فالمقطوع به في كلامهم القبول ، وعن الشافعيّ المنع ؛ لجواز التواطؤ (٢). ويظهر من المسالك أنّ به قولاً منّا (٣).

وجعل الشيخ الأحوط عدم القبول إلا بالبيّنة ، فيما احتمل التواطؤ لأخذ الزكاة فيمن لا يعرف من حاله أنّ له عبداً (٤). ولا ريب في كونه أحوط ، لكن لا دليل على لزومه.

__________________

(١) المعتبر ٢ : ٥٧٥.

(٢) حكاه عنه الفيروزآبادي في المهذّب ١ : ١٧٢.

(٣) المسالك ١ : ٤١٥.

(٤) المبسوط ١ : ٢٥٣.

١٤٤

ولو كذّبه السيّد ولم يثبت مطلبه بالبيّنة واليمين فلا وجه للقبول.

وأمّا لو لم يعلم حال السيّد في التصديق والتكذيب ، فعن الأكثر القبول (١) ، ويظهر من الشرائع أنّ بالمنع قولاً منّا إلا بالبيّنة (٢) ، وقال في المدارك : لا يخلو من قوّة (٣).

والأظهر الأوّل كالفقير ؛ لأصالة الصدق والصحّة في المسلم ، ولزوم العُسر والحرج كما قدّمناه.

ويُشكل مع الاتهام ؛ لضعف الظاهر حينئذٍ ، ولكن مدار الأصحاب في فعل المسلم في غالب المسائل وقوله الحمل على الصحّة ما لم يعلم خلافه ، وجعلوا الاجتناب عن المتّهم مستحبّاً ، ولعلّه هو الوجه.

فائدة :

إذا مات المملوك الذي يشترى من الزكاة ولا وارث له فالمشهور أنّه يرثه أرباب الزكاة ، ويظهر من المعتبر دعوى الإجماع عليه (٤).

ونقل في الشرائع قولاً بأنّ وارثه الإمام (٥) ، واختاره العلامة في القواعد (٦) ، وولده في الشرح (٧).

والأوّل أقوى ؛ لظاهر الإجماع ، وموثّقة أيّوب بن الحرّ المتقدّمة في الرقاب ، وفي آخرها قلت : فإن هو مات وترك مالاً؟ قال ، فقال : «ميراثه لأهل الزكاة ؛ لأنّه اشتُري بسهمهم» (٨).

__________________

(١) منهم المحقّق في المعتبر ٢ : ٥٦٨ ، والعِمة في المنتهي ١ : ٥٢٦.

(٢) الشرائع ١ : ١٤٩.

(٣) المدارك ٥ : ٢٢٢.

(٤) المعتبر ٢ : ٥٨٩.

(٥) الشرائع ١ : ١٥٤.

(٦) القواعد ١ : ٣٥٥.

(٧) إيضاح الفوائد ١ : ٢٠٧.

(٨) علل الشرائع : ٣٧٢ ح ١ ، الوسائل ٦ : ٢٠٣ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٣ ح ٣.

١٤٥

وموثّقة عبيد بن زرارة المتقدّمة ثمّة ، وفي آخرها قلت : فإنّه لمّا أُعتق وصار حرّا اتّجر واحترف ، فأصاب مالاً ، ثمّ مات وليس له وارث ، فمن يرثه إذا لم يكن له وارث؟ قال : «يرثه فقراء المؤمنين الذين يستحقّون الزكاة ؛ لأنّه إنّما اشتري بمالهم» (١).

ولا يضرّ التخصيص بالفقراء ؛ لعدم القول بالفرق كما صرّح في المسالك (٢) ، ولأنّ الظاهر حمل الرواية على الغالب ، فالمراد بقوله عليه‌السلام : «اشتري بمالهم» اشتري بالمال الذي يصرف فيهم.

وقال في الدروس : إنّ في التعليل إيماء إلى أنّه لو اشتري من سهم الرقاب لم يطرد الحكم ؛ لأنّه اشتري بنصيبه لا بمال غيره (٣).

وفيه : أنّ ظاهر الرواية أنّ الاشتراء وقع بمجموع الزكاة ، لا بسهم الفقراء ، وآخر الرواية محمول على ما ذكرنا.

وكأنّه أشار إلى دفع ذلك في المسالك ، حيث قال : وأمّا التفصيل بأنّه إن اشتري من سهم الرقاب فميراثه للإمام ، وإلا فلأرباب الزكاة ، فلا أصل له في المذهب (٤).

وحجّة القول بأنّ وارثه الإمام عليه‌السلام : أنّ ولاء العتق مشروط بتبرّع المعتق به ، وعدم التبرّي من ضمان جريرته ، وعدمه مناسباً ، والشرط مفقود فيما نحن فيه ؛ لأنّ الرقاب أحد مصارف الزكاة ، فيكون سائبة ، والمراد بالسائبة هو الذي لأعقل بينه وبين معتقه ولا ميراث ، ولا وجه لهذا القول مع ورود الروايتين المعتبرتين المعمولتين كما لا يخفى.

قال في المدارك : الأحوط صرف ذلك في الفقراء خاصّة ؛ لأنّهم من أرباب الزكاة ، وفي حال الغيبة يستحقّون ما يرثه الإمام عليه‌السلام ممّن لا وارث له غيره ، فيكون الصرف

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٠٠ ح ٢٨١ ، الوسائل ٦ : ٢٠٣ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٣ ح ٢.

(٢) المسالك ١ : ٤٣٠.

(٣) الدروس ١ : ٢٤٤.

(٤) المسالك ١ : ٤٣١.

١٤٦

إليهم مجزياً على القولين (١).

العاشر : من مصارف الزكاة الغارمون ، أي المدينون ، ولا ريب في كونهم مصرفاً ، للكتاب والسنّة والإجماع.

لكنّهم اشترطوا فيه أن لا يكون الدين في معصية ، وهو إجماع أصحابنا كما في المنتهي والتذكرة (٢).

واستدلّوا عليه : بأنّ في قضاء دين الغريم في معصية حمله على المعصية ، وهو قبيح عقلاً ، فلا يجوز التعبّد به شرعاً (٣).

وبما رواه الشيخ في كتاب الديون ، عن رجل من أهل الجزيرة يكنّى أبا محمّد ، عن الرضا عليه‌السلام في جملة حديث أنّه قال : «يقضى ما عليه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة الله ، وإذا كان أنفقه في معصية الله تعالى فلا شي‌ء له على الإمام» (٤).

وربّما يقدح في الأوّل : بأنّه إنّما يتمّ مع عدم التوبة ، والثاني : بالقدح في السند ، وأنّها غير مذكورة في شي‌ء من الأُصول مُسندة (٥).

أقول : الرواية لا يضرّ ضعفها مع روايتها في الكافي والتهذيب وعمل الأصحاب عليها وتلقّيها بالقبول.

مع أنّ ههنا روايات أُخر دالّة عليه ، مثل ما رواه عليّ بن إبراهيم في التفسير عن العالم عليه‌السلام : «إنّ الغارمين قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة الله من غير إسراف فيجب على الإمام أن يقضي عنهم ويكفيهم من مال الصدقات» (٦).

__________________

(١) المدارك ٥ : ٢٧٨.

(٢) المنتهي ١ : ٥٢١ ، التذكرة ٥ : ٢٥٧ مسألة ١٧٢.

(٣) نقل استدلال الأصحاب صاحب المدارك ٥ : ٢٢٣.

(٤) التهذيب ٦ : ١٨٥ ح ٣٨٥ ، وأورده في الكافي ٥ : ٩٣ ح ٥ ، والوسائل ١٣ : ٩١ أبواب الدين والقرض ب ٩ ح ٣.

(٥) كما في المدارك ٥ : ٢٢٤.

(٦) تفسير القميّ ١ : ٢٩٩ ، وأورده في التهذيب ٤ : ٤٩ ح ١٢٩ ، والوسائل ٦ : ١٤٥ أبواب المستحقّين للزكاة ب ١ ح ٧ عن العالم.

١٤٧

وما رواه في قرب الإسناد ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه» : «إنّ عليّاً عليه‌السلام كان يقول : يُعطى المستدينون من الصدقة والزكاة دينهم كلّه ما بلغ ، إذا استدانوا في غير إسراف» (١) وفي صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج الاتية أيضاً إيماء إليه (٢).

ونقل في آخر السرائر من كتاب محمّد بن عليّ بن محبوب بسند مُعتبر ما يدلّ عليه ، وفي آخرها المنع من أداء دين الغارمين من مهور النساء (٣) ، وبمضمونه روايات أُخر (٤) ، ولم أقف على مصرّح بمضمونها ، نعم نقل في المختلف عن ابن الجنيد المنع في مهر النساء اللواتي استغني عنهنّ ؛ لأنّ فيه نوع إسراف (٥).

أقول : وإن فرض تحقّق الإسراف في ذلك فهو محمل حسن لتلك الأخبار.

ثمّ إنّ ظاهر أكثر الأخبار وكلام الأصحاب أنّ الاستدانة لا بدّ أن لا تكون للمعصية ، وذلك لا يستلزم عدم الجواز إذا كانت الاستدانة على وجه الصحّة لكن وقع في المعصية من باب الاتفاق ، ولم أقف على من صرّح بالفرق ، ولكن إطلاق رواية الرضا عليه‌السلام ورواية التفسير (٦) يفيد المنع عن ذلك أيضاً ، وكذلك الحكمة تقتضيه.

ومقتضى ذلك : أنّ التوبة لا تفيد في جواز الإعطاء إذا صرفه في معصية. وقال المحقّق : إن تاب صرف إليه من سهم الفقراء ، وهو إنّما يتمّ مع الإعراض عن الروايات ، وهو مشكل ، وأيضاً يتمّ ذلك مع كونه فقيراً غير مالك لمئونة السنة ، فلا بدّ من التقييد ، ولا ينافيه حينئذٍ صرفه في الدين ؛ لأنّ الفقير يملك المال ويصرفه حيث شاء ، وأيضاً يتمّ اشتراط التوبة حينئذٍ على القول باشتراط العدالة.

__________________

(١) قرب الإسناد : ١٤٦ ، الوسائل ٦ : ٢٠٦ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٦ ح ٤.

(٢) الوسائل ٦ : ٢٠٥ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٦ ح ١ ، قال : سألت أبا الحسن عن رجل عارف فاضل توفّي وترك عليه ديناً قد ابتلى به .. هل يقضى عنه من الزكاة؟ قال : نعم.

(٣) السرائر ٣ : ٦٠٧.

(٤) انظر الوسائل ٦ : ٢٠٧ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٦.

(٥) المختلف ٣ : ٢١٣.

(٦) وهما رواية أبي محمّد عن الرضا عليه‌السلام ، ورواية عليّ بن إبراهيم المتقدّمتان.

١٤٨

ولو جهل بالحال ، فعن الأكثر الجواز ؛ حملاً لفعل المسلم على الصحّة ، وقال الشيخ : لا يجوز (١) ؛ لتتمّة رواية أبي محمّد السابقة (٢) ، ولظاهر رواية التفسير.

والتحقيق : أنّ الصرف في المعصية مانع ؛ لأنّ الصرف في الطاعة شرط ، وملاحظة عموم الآية والأخبار وخصوص بعضها أيضاً يقتضي ذلك ، وهذه العمومات والإطلاقات وبعض الخصوصات ، مع اعتضادها بالأصل ونفي العسر والحرج وأصالة صحّة فعل المسلم وعمل الأكثر لا تعارض بها رواية ضعيفة.

ثمّ إنّهم اشترطوا في الغارمين العجز عن الأداء ؛ لأنّ الزكاة إنّما شُرّعت لسدّ الخلّة ورفع الحاجة ، ولو تمكّن من البعض يُعطى ما لا يتمكّن منها.

والظاهر أنّ اشتراط العجز عنه في الجملة ممّا لا إشكال فيه ، ويستفاد ذلك من تتبّع الأخبار الواردة في هذا الباب ، ومنها رواية عبد الرحمن العرزمي ، عن الصادق عليه‌السلام أنّ الحسنين» قالا : «إنّ الصدقة لا تحلّ إلا في دَين موجع ، أو غرم مفظع ، أو فقر مدقع» (٣).

لكن الإشكال في أنّه إذا كان له المال بقدر مئونة سنته أو بعض السنة ، فهل يجب عليه الوفاء منه ثمّ أخذ الزكاة لأجل فقره ، أو يجوز أداء دينه أوّلاً من الزكاة وصرف مال نفسه في مئونة عياله؟.

ويظهر من ابن إدريس : وجوب الأداء من ماله ثمّ أخذ الزكاة ؛ لأنّه حينئذٍ غنيّ ، والزكاة لا تجوز للغنيّ (٤).

واختار العلامة في جملة من كتبه العدم ؛ لانتفاء الحكمة في أن يدفع ماله ثمّ يأخذ الزكاة (٥) ، وظاهره أنّه يُعطى من سهم الغارمين حينئذٍ.

__________________

(١) النهاية : ٣٠٦.

(٢) قال : لا تعطين من سهم الغارمين الّذين ينادون .. ولا الّذين يغرمون من مهور النّساء. السرائر ٣ : ٦٠٧ ، الوسائل ٦ : ٢٠٧ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٨ ح ١.

(٣) الكافي ٤ : ٤٧ ح ٧ ، الوسائل ٦ : ١٤٥ أبواب المستحقّين للزكاة ب ١ ح ٦.

(٤) السرائر ١ : ٤٥٥.

(٥) نهاية الإحكام ٢ : ٣٩١.

١٤٩

أقول : وما ذكره ليس ببعيد ، وإن قلنا بوجوب أداء الدّين من الفاضل من مستثنياته ؛ لعدم المنافاة بين وجوب الأداء من ماله وجواز أخذ الزكاة لأدائه ، وهو المطابق لظاهر الآية.

ولقائل أن يقول بجواز الأداء من سهم الفقراء أيضاً ؛ لأنّه يصدق على من يجب شرعاً صرف بعض ما يملكه من قوت السنة في دينه وهو عازم على الأداء ، أنّه غير واجد لقوت السنة ، فهو فقير.

وأمّا ما رواه ابن إدريس في آخر السرائر ، عن كتاب المشيخة للحسن بن محبوب ، عن أبي أيّوب ، عن سماعة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل منّا يكون عنده الشي‌ء يتبلّغ به ، وعليه دين ، أيطعمه عياله حتّى يأتيه الله تعالى الميسرة فيقضي دينه ، أو يستقرض على ظهره في جدب الزمان وشدّة المكاسب ، أو يقضي بما عنده دينه ويقبل الصدقة؟ قال : «يقضي بما عنده ويقبل الصدقة» (١) ، الحديث ، فلا ينافي ما ذكرناه ؛ إذ ترجيح الإمام أحد مسئولات السائل المتوهّم حظر أخذ الزكاة إذا كانت عنده بُلغة لا يفيد إلا جواز أخذ الزكاة ، وتقديم قضاء الدين على أخذ الزكاة المطابق لسؤال السائل ، مع أنّ فوريّة وجوب الأداء مع التمكّن بالفعل ، وتوقّف أخذ الزكاة على زمان لا يستلزم عدم جواز أخذ الزكاة قبل أداء الدين ، سيّما مع عدم المطابقة ، وهذا واضح.

وكيف كان فلا ريب في رجحان تقديم أداء الدين ، خروجاً عن الخلاف ، وموافقته مع الرواية على بعض وجوهها.

ثمّ إنّ العلامة رحمه‌الله ذكر في جملة من كتبه أنّه لا يشترط العجز والفقر إذا كانت الاستدانة لأجل مصلحة ذات البين ، وإطفاء نائرة الفساد ، بسبب تشاجر في قتل أو إتلاف مال (٢) ؛ لإطلاق الآية ، ولقوله عليه‌السلام : «لا تحلّ الصدقة لغنيّ إلا لخمسة» وذكر رجلاً تحمّل حمالة (٣)

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٩٠ ، الوسائل ٦ : ٢٠٧ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٧ ح ١.

(٢) نهاية الإحكام ٢ : ٣٩٢.

(٣) سنن أبي داود ٢ : ١١٩ ح ١٦٣٥ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٩٠ ح ١٨٤١.

١٥٠

وقال المحقّق الأردبيلي : إذ هو في الحقيقة في سبيل الله (١).

وفي إطلاق ما ذكره تأمّل ؛ إذ قضاء دين الغنيّ المالك للالاف ، سيّما إذا لم يكن وقت الاستدانة قصده التقرّب ، ولم يكن له حاجة في ذلك ؛ مشكل.

نعم يجوز الصرف أوّلاً في إصلاح ذات البين كما ذكره في البيان (٢) وهو وجه من وجوه السبيل.

ثمّ إنّ الصرف في دين الحيّ لا يحتاج إلى إذنه ، فيجوز أداء دينه من دون اطلاعه أيضاً ؛ للعموم.

ولو كان للمالك دين على الغريم يجوز أن يحتسب به عنها ، ويكفي في ذلك أن يسقط ما في ذمّته عوضاً ، سواء كان وافق عين الزكاة أو ساواها في القيمة.

والظاهر أنّ أصل الحكم إجماعيّ كما يظهر من جماعة من الأصحاب (٣) ، وتدلّ عليه صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج (٤) ، وموثّقة سماعة (٥) ، وما رواه في الكافي في باب القرض من كتاب الزكاة من رواية عقبة بن خالد (٦).

وكذلك الكلام لو كان الغارم ميّتاً ، فيجوز أداء دينه ومقاصّته لو كان للمالك عليه دين ، والظاهر أنّه أيضاً إجماعيّ كما يظهر من غير واحد.

وتدلّ عليه صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٤ : ١٦٤.

(٢) البيان : ٣١٨.

(٣) كالمحقّق في المعتبر ٢ : ٥٧٦ ، والعلامة في المنتهي ١ : ٥٢١ ، وصاحب المدارك ٥ : ٢٢٦.

(٤) الكافي ٣ : ٥٥٨ ح ١ ، الوسائل ٦ : ٢٠٦ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٦ ح ٢ عن دين لي على قوم طال حبسه عندهم لا يقدرون على قضائه وهم مستوجبون للزكاة ، هل لي أن أدعه وأحتسب به عليهم من الزكاة؟ قال : نعم.

(٥) الكافي ٣ : ٥٥٨ ح ٢ ، الوسائل ٦ : ٢٠٦ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٦ ح ٣. سألته عن الرجل يكون له الدين على رجل فقير يريد أن يعطيه من الزكاة ، فقال : .. فلا بأس أن يقاصّه.

(٦) الكافي ٤ : ٣٤ ح ٤ ، الوسائل ٦ : ٢٠٨ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٩ ح ٢. عن عقبة قال .. فقال له عثمان : ويجي‌ء الرجل فيسألني الشي‌ء وليس هو إبّان زكاتي ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وما ذا عليك إذا أعطيته ، فإذا كان إبّان زكاتك احتسبت بها من الزكاة.

١٥١

عارف فاضل توفّي ، وترك عليه ديناً قد ابتلى به ، لم يكن بمفسد ولا مسرف ، ولا معروف بالمسألة ، هل يقضى عنه من الزكاة الألف والألفان؟ قال : «نعم» (١).

ورواية إبراهيم بن السنديّ في الكافي في باب القرض (٢) ، ورواية يونس بن عمّار في باب أنّ القرض حمى الزكاة الدالّتين على المقاصّة (٣).

وحسنة زرارة في باب نادر قال ، قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل حلّت عليه الزكاة ، ومات أبوه وعليه دين ، أيؤدّي زكاته في دين أبيه وللابن مال كثير؟ فقال : «إن كان أبوه أورثه مالاً ثمّ ظهر عليه دين ، ولم يعلم به يومئذٍ فيقضيه عنه ، قضاه من جميع الميراث ولم يقضه من زكاته ، وإن لم يكن أورثه مالاً لم يكن أحد أحقّ بزكاته من دين أبيه ، فإذا أدّاها في دين أبيه على هذه الحال أجزأت عنه» (٤).

ومقتضى هذه الرواية اعتبار قصور التركة عن الدين كالحيّ ، وهو الحقّ ، وفاقاً لجماعة (٥).

ولم يعتبره في المختلف (٦) ؛ للعموم ، ولانتقال المال إلى الورثة ، فهو كالفاقد ، والعموم مخصّص بالحسنة وغيرها ، وانتقال المال إلى الورثة ممنوع ، بل هو في حكم مال الميّت ؛ لظاهر الآية وبعض الأخبار ، وقد حقّقناه في رسالة مفردة.

ثمّ إنّ مقتضى الحسنة جواز أداء دين الأب ، وهو المعروف من المذهب ، بل أداء دين كلّ من تجب نفقته عليه ، حيّاً كان أو ميّتاً ، وكذلك مقاصّته.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٤٩ ح ٢ ، الوسائل ٦ : ٢٠٥ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٦ ح ١.

(٢) الكافي ٣ : ٥٥٨ ح ١ والرواية فيه عن إبراهيم السندي وفي بعض النسخ عن يونس بن عمار ، الفقيه ٢ : ٣٢ ح ١٢٧ ، الوسائل ٦ : ٢٠٨ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٩ ح ١. عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول : قرض المؤمن غنيمة وتعجيل أجر ، إن أيسر قضاك ، وإن مات قبل ذلك احتسبت له من الزكاة.

(٣) الكافي ٣ : ٥٥٨ ح ١ ، الفقيه ٢ : ٣٢ ح ١٢٧ ، الوسائل ٦ : ٢٠٨ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٩ ح ١.

(٤) الكافي ٣ : ٥٥٣ ح ٣ ، الوسائل ٦ : ١٧٢ أبواب المستحقّين للزكاة ب ١٨ ح ١.

(٥) نقله عن ابن الجنيد في المختلف ٣ : ٢١٢ ، والبيان : ٣١٤ ، وصرّح به في المبسوط ١ : ٢٢٩ ، واختاره في المدارك ٥ : ٢٢٨.

(٦) المختلف ٣ : ٢١٢.

١٥٢

ويدلّ على هذه الأحكام مضافاً إلى عدم ظهور الخلاف فيها : العمومات ، وحسنة زرارة المتقدّمة ، وصحيحة إسحاق بن عمّار (١).

وصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج ، المانعة عن إعطاء الزكاة إيّاهم معلّلاً بأنّهم عياله لازمون له (٢) ، لا يعارض بها ما قدّمناه ؛ لأنّ المراد لزوم الإنفاق ؛ لعدم وجوب قضاء الدين على المكلّف بالإنفاق ، كما صرّح به في المدارك (٣).

ولو صرف الغارم ما دُفع إليه من سهم الغارمين في غير قضاء الدين ، ففيه الخلاف السابق في جواز الارتجاع ؛ لأنّه أعطاه ليصرفه في وجه مخصوص ، فلا يسوغ له غيره. وعدمه ؛ لأنّه ملكه بقبضه ، فلا يحتكم عليه.

ونحن وإن رجّحنا في المكاتب الارتجاع ، لكنّا نقول الان : إنّ في الحكم بالارتجاع مطلقاً إشكالاً ؛ لأنّ الأصل ، كما أنّه يقتضي عدم استحقاقهم إلا من أجل ذلك ، وعدم جواز تصرّفهم إلا في ذلك ، وبعد الإعطاء المأمور به أيضاً الأصل عدم وجوب الارتجاع للمالك ، وعدم وجوب الردّ للغارم ، فإنّ جواز الارتجاع هنا بالمعنى الأعمّ ؛ وأُريد منه الوجوب لو لم يبدله المالك بشي‌ء آخر من قِبَل نفسه ، ولم يعطه فقيراً آخر ، والجواز الأخصّ لو فعل ذلك ، فهذا الأصل متأخّر عن الأصلين الأوّلين ، والعمل عليه يقتضي هجرهما.

مع أنّا نقول : إنّ إعطاء الزكاة لهذه المصارف لأجل أن يصرف فيها يكفي فيه قصد ذلك حين الإعطاء وتحقّقه حينئذٍ ، فكونه مصرفاً حين الإعطاء كافٍ ، فهو يعطيه لأجل أن يصرف في هذا المصرف ؛ لا بشرط أن يصرف في هذا المصرف ، ومن البيّن جواز

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٥٣ ح ٢ ، الوسائل ٦ : ١٧٢ أبواب المستحقّين للزكاة ب ١٨ ح ٢ عن رجل على أبيه دين ولابنه مئونة ، أيعطي أباه من زكاته يقضي دينه؟ قال : نعم ، من أحقّ من أبيه؟

(٢) الكافي ٣ : ٥٥٢ ح ٥ ، التهذيب ٤ : ٥٦ ح ١٥٠ ، الاستبصار ٢ : ٣٣ ح ١٠١ ، الوسائل ٦ : ١٦٥ أبواب المستحقّين للزكاة ب ١٣ ح ١ قال : خمسة لا يعطون من الزكاة شيئاً : الأب والأُمّ والولد والمملوك والمرأة ، وذلك أنّهم عياله لازمون له.

(٣) المدارك ٥ : ٢٢٩.

١٥٣

انفكاك كلّ منهما عن الأخر. فإذا كان رجل غارماً عاجزاً عن الأداء أو مكاتباً عاجزاً عن الوفاء فهو مستحقّ لسهم من الزكاة في هذا الحال ، لأجل دفع هذا الغرم ، لا أنّه مستحقّ له بشرط أن يرفع به هذا الغرم.

نعم : لو أخذه مع احتياجه من جهة الغرم لأجل صرفه في غيره فهو لا يجوز ، فلو أخذ المال على هذا الحال لأجل أنّه غريم ولأداء غرمه ، ثمّ أبرأه الغريم أو أعتقه المولى أو تطوّع متطوّع بالأداء ، فالحكم بوجوب الردّ وجواز ارتجاع المالك مشكل.

غاية الأمر أن يقال : المفهوم من ذكر المصرف لزوم الصرف فيه ما دام المصرف باقياً ، وبعد سقوط الغرم أو تبرّع المولى فلا يبقى المصرف حتّى يقال : يجب الصرف فيه لا غير ، والأصل عدم وجوب الردّ كما بيّنا.

وأبعد من ذلك : أن نقول بلزوم صرف عين ما يأخذه في تلك المصارف ، حتّى لا يجوز صرفه في نفقته وأداء الدين من ماله ، سيّما إذا كان ذلك أوفق لأداء الدين ، أو لا تجوز المعاملة به قبل أداء الدين إذا أمهله الغريم ليعامل به ، ويؤدّي بربحه دينه ، أو يؤدّي دينه من نتاجه لو كان حيواناً ويصرف أصل الحيوان في مصرف آخر ، وذلك كلّه مُستبعد.

فقول الشيخ بعدم الارتجاع قويّ (١) ، وتؤيّده إطلاقات بعض الأخبار أيضاً (٢).

ويؤيّد ذلك عدم الاحتكام على الفقير من أجل سهم الفقراء مطلقاً ، حتّى أنّه لو أخذ الفقير آلافاً كثيرة من الزكاة اليوم لأجل فقره وصار غداً مالكاً لآلاف كثيرة من أجل ميراث أو غيره لا يرتجع منه.

والّذي دعاهم إلى الفرق والخلاف في غيره هو تغيير أُسلوب الآية باللام ، ففهموا الملك والاختصاص ثمّة ، المقتضي للتصرّف على أيّ نحو شاءوا ، بخلاف مدخولات «في» ، فإنّ المراد بها الصرف في تلك المصارف الخاصّة.

__________________

(١) حكاه عنه المحقّق في المعتبر ٢ : ٥٧٦ ، وانظر المبسوط ١ : ٢٥١.

(٢) الوسائل ٦ : ١٤٧ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٢.

١٥٤

ويمكن دفعه : بأنّ التغيير في الأُسلوب لعلّه من جهة أنّ هؤلاء الأوّلين حقيقون بالملك بأجمعهم ، فناسبهم اللام ، بخلاف الباقين ، فإنّ الرقاب ليسوا بأهل للملك على المشهور ، وكذلك تخليص المكاتب ، فإنّه لا يجب أن تُعطى بيد المكاتب ، وليس المولى بنفسه محلا لذلك ، وكذلك الغريم قد يكون ميّتاً ليس له أهليّة للملك ، وكذلك أنواع سبيل الله كالقناطر والمساجد وغيرها.

بقي الكلام فيما لو شرط المالك صرفه في المصرف الخاصّ ، وصرّح بعدم الجواز في الغير ، والأحوط هنا متابعة الشرط ، ولا يبعد تنزيل كلام المحقّق على ذلك.

ثمّ إذا ادّعى أحد أنّ عليه ديناً قُبل قوله مع تصديق الغريم بلا إشكال منّا ، وكذا لو تجرّدت دعواه عن التصديق والتكذيب.

ونقل المحقّق قولاً بعدم القبول (١) ، ولعلّ مراده إلا بالبيّنة أو اليمين ، وهذا القول نقله في التذكرة عن الشافعيّ (٢) ، ولم ينسبه إلى أحد من أصحابنا.

والأظهر القبول مطلقاً ، لما مرّ من حمل قول المسلم على الصحّة ، سيّما إذا كان عادلاً ، ولزوم العسر والحرج إن أوجبنا البينة أو اليمين ، سيّما والغالب عدم التمكّن من الحاكم لإجراء ذلك.

قال في المدارك : وموضع الخلاف لمصلحة نفسه ، أمّا الغارم لمصلحة ذات البين فلا تُقبل دعواه إلا بالبينة قولاً واحداً (٣).

الحادي عشر : من مصارف الزكاة سبيل الله بلا خلاف ، والأكثرون على أنّ المراد به كلّ ما هو وسيلة إلى الخير ، كمعونة الغزاة ، والحجيج ، والزوّار ، وبناء القناطر والمساجد ، والإعانة في تحصيل العلم الشرعيّ ، وغير ذلك.

__________________

(١) الشرائع ١ : ١٥٠.

(٢) التذكرة ٥ : ٢٨٢.

(٣) المدارك ٥ : ٢٣٠.

١٥٥

وخصّه الشيخ في بعض أقواله بالجهاد ، وقال : يصرف إلى الغزاة الّذين يغزون إذا نشطوا ، وهم غير الجند المقرّرين الّذين هم أهل الفي‌ء (١).

وقال في الدروس : هو الجهاد ، سواء كان الغازي متطوّعاً أو مرتزقاً مع قصور الرزق ، ثمّ استقرب إلحاق سائر القُرب (٢).

والتخصيص بالجهاد تقييد للاية من غير دليل ، واستعماله في القرآن في مواضع فيه كقوله تعالى (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (٣) لا يدلّ على صيرورته حقيقة فيه.

ويدلّ على العموم : مضافاً إلى ظاهر إطلاق اللفظ ، ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره ، وهو مذكور في التهذيب (٤) ، وكذلك صحيحة عليّ بن يقطين (٥) وغيرها من الأخبار الكثيرة الدالّة على جواز الحجّ بها (٦).

وقال الشهيد الثاني في الروضة : وينبغي تقييده بما لا يكون فيه معونة لغنيّ لا يدخل في الأصناف (٧) ، ومقتضاه لزوم أن يكون الزائر مثلاً فقيراً ، أو ابن سبيل كما صرّح به في المسالك (٨).

واستشكل في التذكرة في اعتبار الحاجة من أجل اندراج إعانة الغنيّ تحت سبيل الخير ، ومن أجل ملاحظة غيره من أهل السهمان المعتبرة حاجتهم (٩).

والأوسط أن يقال باعتبار العجز عن تلك القُرَب ، وإن كان غنيّاً من غير جهتها ؛ لأنّ الزكاة إنّما شُرّعت لدفع الحاجة.

__________________

(١) النهاية : ١٨٤.

(٢) الدروس ١ : ٢٤١.

(٣) النساء : ٧٦.

(٤) تفسير القميّ ١ : ٢٩٩ ، التهذيب ٤ : ٤٩ ح ١٢٩ ، الوسائل ٦ : ١٤٥ أبواب المستحقّين للزكاة ب ١ ح ٧.

(٥) الفقيه ٢ : ١٩ ح ٦١ ، الوسائل ٦ : ٢٠١ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٢ ح ١. يكون عندي المال من الزكاة فأُحجّ به مواليّ وأقاربي؟ قال : نعم لا بأس.

(٦) الوسائل ٦ : ٢٠١ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٤٢.

(٧) الروضة البهيّة ٢ : ٤٩.

(٨) المسالك ١ : ٤٢٠.

(٩) التذكرة ٥ : ٢٨٢ مسألة ١٩٧.

١٥٦

ويؤيّده ما في صحيحة معاوية بن وهب : «لا تصلح الصدقة لغنيّ» (١) وما في معناه من الأخبار الخاصّة (٢) ، وما رواه عليّ بن إبراهيم في التفسير أيضاً (٣).

وما روي عنه عليه‌السلام : «إنّ الصدقة لا تحلّ لغنيّ إلا لثلاثة ، وعدّ منها الغازي» نقله الفاضلان وغيرهما (٤).

وهذه الرواية تدلّ على عدم اعتبار الحاجة والفقر في الغازي ، وأفتى به الجماعة من الأصحاب (٥) ، ولم أقف على مخالف فيه ، واحتجّوا عليه بالرواية ، وبإطلاق الآية ، وبأنّه كالأُجرة ، فلا يعتبر فيه وصف آخر.

ولا يسترجع منه ما فضل من مئونة الغزو ، والظاهر أنّه لا خلاف فيه ، ويسترجع إذا لم يغز ، قال في التذكرة : وهو اختيار الشيخ أيضاً (٦) ، وكذلك لو رجع من الطريق قبل الغزو.

الثاني عشر : من الأصناف ابن السبيل ، واختلفوا في تفسيره ، فقال المفيد : إنّهم المنقطع بهم في الأسفار ، وقد جاءت رواية أنّهم الأضياف (٧) ؛ يراد بهم من أُضيف لحاجته إلى ذلك ، وإن كان له في موضع آخر غناء ويسار ، وذلك راجع إلى ما قدّمناه (٨) ، وعن الشيخ في المبسوط والنهاية (٩) وابن زهرة (١٠) مثله.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٥٦٢ ح ١٢ ، الوسائل ٦ : ١٥٩ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٨ ح ٣.

(٢) الوسائل ٦ : ١٥٩ أبواب المستحقّين للزكاة ب ٨.

(٣) المتقدّمة ، وفيها : وفي سبيل الله قوم يخرجون إلى الجهاد وليس عندهم ما يتقوّون به ، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجّون به ، وفي جميع سبل الخير.

(٤) المعتبر ٢ : ٥٧٨ ، التذكرة ٥ : ٢٨١ مسألة ١٩٤ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٩٠ ح ١٨٤١ إلا أنّ فيه : لا تحلّ لغنيّ الله لخمسة ، سنن أبي داود ٢ : ١١٩ ح ١٦٣٥.

(٥) كالمعتبر ٢ : ٥٧٨ ، والتذكرة ٥ : ٢٨١ مسألة ١٩٤ ، والمدارك ٥ : ٢٣٢.

(٦) التذكرة ٥ : ٢٨٥ مسألة ٢٠٢.

(٧) المقنعة : ٢٤١ ، الوسائل ٦ : ١٤٦ أبواب المستحقّين للزكاة ب ١ ح ٩.

(٨) المقنعة : ٢٤١.

(٩) المبسوط ١ : ٢٥٢ ، النهاية : ١٨٤.

(١٠) الغنية (الجوامع الفقهيّة) : ٥٠٦.

١٥٧

وقال ابن الجنيد : وأمّا سهم ابن السبيل فإلى المسافرين في طاعة الله ، والمريدين لذلك ، وليس في أيديهم ما يكفيهم لسفرهم ورجوعهم إلى منازلهم إذا كان قصدهم في سفرهم قضاء فرض ، أو قياماً بسنّة ، هكذا نقله في المختلف (١) ، ولا يبعد أن يكون مراد ابن الجنيد صدقه على ذلك ، لا الاختصاص ؛ لكمال بُعده.

وقال ابن حمزة : وابن السبيل المجتاز بغير بلده ، المنقطع به غير منشئ للسفر (٢).

أقول والكلام في مقامات :

الأوّل : أنّ الأظهر مختار المشهور في عدم دخول المنشئ للسفر في ذلك ، بل هو داخل في سبيل الله إذا كان طاعة ، فإنّ المتبادر من اللفظ هو الملازم للطريق الذي وضعه الطريق على الأرض ؛ لعجزه عن السفر بسبب فقد النفقة ، فكأنّ الطريق وَلَدَه ، ويدلّ عليه تفسير العالم عليه‌السلام فيما رواه عليّ بن إبراهيم (٣).

وما نُقل عن ابن الجنيد في الحجّة هو صدق ابن السبيل على مريد السفر ومنشئ الطريق (٤) ، وهو ضعيف ؛ لتبادر غيره من اللفظ.

والقياس على من أقام فيما بين السفر ثمّ أراد الخروج ، فإنّه يعطى الزكاة مع أنّه منشئ للسفر (٥).

وفيه : أوّلاً أنّه قياس ، وثانياً بمنع الأصل كما اختاره الشيخ.

والتحقيق أنّه يُعطى لا لأجل أنّه منشئ للسفر ، بل لأنّه منقطع به في السبيل ، فإنّ ما ينقطع بالإقامة هو السفر الشرعيّ ، والسبيل في الآية يحمل على العُرف ، فهو مسافر

__________________

(١) المختلف ٣ : ٢٠٥.

(٢) الوسيلة : ١٢٨.

(٣) تفسير القميّ ١ : ٢٩٩ ، وانظر التهذيب ٤ : ٤٩ ح ١٢٩ ، والوسائل ٦ : ١٤٥ أبواب المستحقّين للزكاة ب ١ ح ٧. قال : وابن السبيل أبناء الطريق الّذين يكونون في الأسفار في طاعة الله فيقطع عليهم ويذهب مالهم ، فعلى الإمام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصدقات.

(٤) نقله في المختلف ٣ : ٢٠٥.

(٥) نقله في المختلف ٣ : ٢٠٥.

١٥٨

عرفاً وابن سبيل.

الثاني : ما ذكره الشيخان من الرواية في الضيف لم نقف عليه في شي‌ء من الأُصول ، واعترف بذلك جماعة من الأصحاب (١).

ويظهر من جماعة من الأصحاب أنّه داخل في ابن السبيل (٢) ، فالمراد به المنقطع به في السبيل المحتاج إلى الضيافة.

ويظهر من البعض مغايرته له (٣).

وقيل بانحصاره فيه إذا كان نائياً عن بلده مع حاجته إلى الضيافة (٤).

والحقّ أنّه إن كان ابن السبيل محتاجاً إلى الضيافة فهو داخل ، كما اختاره العلامة في المختلف (٥) ، ويظهر ذلك من جماعة من الأصحاب (٦) ، وإلا فلا يدخل.

وحينئذٍ فوجه ذكره على حدة الرخصة في الاحتساب من وجه الزكاة على هذا الطريق الذي هو في صورة الإباحة لا التمليك ، وعدم الإشعار بأنّه من وجه الزكاة ، وعدم مضرّة الجهالة فيه إن لم يأكل تمام ما هُيّئ له.

قال الشهيد الثاني رحمه‌الله في الروضة : والنيّة عند شروعه في الأكل ، ولا يحتسب عليه إلا ما أكل وإن كان مجهولاً (٧) ، انتهى.

والظاهر أنّه أراد (٨) المتيقّن ، وإلا فلا يمكن حصول البراءة.

وأمّا دخول الضيف من دون اعتبار السفر مطلقاً والحاجة كما نقل عن بعض

__________________

(١) كصاحب المدارك ٥ : ٢٣٥.

(٢) كالعِمة في المختلف ٣ : ٢٠٤.

(٣) كالكركي في جامع المقاصد ٣ : ٣٣.

(٤) القائل هو المفيد في المقنعة : ٢٤١ ، والطوسي في المبسوط ١ : ٢٥٣.

(٥) المختلف ٣ : ٢٠٤.

(٦) كالشهيد الثاني في المسالك ١ : ٤٢٠ ، والسبزواري في الذخيرة : ٤٥٧.

(٧) الروضة البهيّة ٢ : ٥٠.

(٨) في «م» زيادة : اعتبار.

١٥٩

الفقهاء (١) فلا وجه له.

الثالث : يشترط في ابن السبيل كون سفره مباحاً بالإجماع ، وظاهر ابن الجنيد اشتراط كونه راجحاً ، (٢) والأظهر كفاية إباحته ؛ لإطلاق الآية.

ورواية عليّ بن إبراهيم في تفسيره (٣) الدالّة على أنّهم أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة الله تعالى ، فينقطع عليهم ويذهب مالهم ، فعلى الإمام عليه‌السلام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصدقات ، لا يعارض بها ظاهر الآية مع جهالة سندها ، ويمكن أن يكون المراد بها المثال ، وإلا فليس ذهاب المال من جهة التغليب شرطاً في ابن السبيل المطلوب ، بل يكفي إعواز المئونة ، بسبب طول زمان السفر ونحوه.

ويمكن أن يراد بالطاعة عدم المعصية ، فإنّه يصدق على من ترك المعصية أنّه في طاعة ؛ إذ الأقوى أنّ المطلوب بالنهي هو نفس أن لا يفعل ، فترك المنهي عنه طاعة ، أو المراد بالطاعة عدم الخروج عن كونه مطيعاً بمعنى الملكة.

وأمّا ما أجاب به في المختلف بأنّ اعتقاد الإباحة إطاعة (٤) فهو بعيد.

الرابع : يشترط في ابن السبيل الحاجة في السفر وإن كان غنيّاً في بلده ، فإن عجز حتّى عن بعض بيع أمواله المتمكّن من التصرّف فيها بحيث لم يلزم عليه حرج وضرر ، وعن الاستدانة كذلك ، فلا ريب في شموله.

وأمّا لو لم يعجز عن شي‌ء منها ، فظاهر المعتبر (٥) والمسالك (٦) أنّه أيضاً داخل فيه ،

__________________

(١) المبسوط ١ : ٢٥٢ قال : وقد روي أنّ الضيف داخل فيه ، وحكاه سلار في المراسم : ١٣٣ ، والمحقّق في الشرائع ١ : ١٥٠.

(٢) حكاه عنه العلامة في المختلف ٣ : ٢٠٥.

(٣) تفسير القمّيّ ١ : ٢٩٩.

(٤) المختلف ٣ : ٢٠٦.

(٥) المعتبر ٢ : ٥٧٨.

(٦) مسالك الأفهام ١ : ٤٢٠.

١٦٠