معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ١

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي

معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي


المحقق: السيد منذر الحكيم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
ISBN: 964-91559-5-3
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

فصل

[ ما ينبغي مع طلب العلم ]

وروينا بالإسناد عن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن يحيى العطار ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن محبوب ، عن معاوية بن وهب ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول :

« اطلبوا العلم ، وتزيّنوا معه بالحلم والوقار ، وتواضعوا لمن تعلّمونه العلم ، وتواضعوا لمن طلبتم منه العلم ، ولا تكونوا علماء جبّارين ، فيذهب باطلكم بحقّكم » (١).

وعنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن محمد بن عيسى ، عن يونس ، عن حماد ابن عثمان ، عن الحارث بن المغيرة النصري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، في قول الله عزوجل ( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (٢) ، قال : « يعني بالعلماء : من صدّق قوله فعله ، ومن لم يصدّق قوله فعله فليس بعالم » (٣).

عنه ، عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد البرقي عن اسماعيل بن مهران ، عن أبي سعيد القماط ، عن الحلبي ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٦ ، باب صفة العلماء ، الحديث الأوّل.

(٢) القرآن الكريم ، سورة فاطر ، الآية ٢٩.

(٣) الكافي ١ : ٣٦ ، باب صفة العلماء ، الحديث ٢.

٨١

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ألا اخبركم بالفقيه حق الفقيه؟ من لم يقنط الناس من رحمة الله. ولم يؤمنهم من عذاب الله ، ولم يرخص لهم في معاصي الله ، ولم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره ، ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم ، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر ، ألا لا خير في عبادة لا فقه فيها ، ألا لا خير في نسك لا ورع فيه » (١).

عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن علي بن معبد ، عمن ذكره عن معاوية بن وهب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : « يا طالب العلم : إنّ للعالم ثلاث علامات ، العلم والحلم والصمت ، وللمتكلّف ثلاث علامات : ينازع من فوقه بالمعصية ، ويظلم من دونه بالغلبة ، ويظاهر الظلمة » (٢).

عنه ، عن عدة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد ، عن نوح بن شعيب النيشابوري ، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان ، عن درست بن أبي منصور ، عن عروة بن أخي شعيب العقرقوفي ، عن شعيب ، عن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول :

كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : « يا طالب العلم : إنّ العلم ذو فضائل كثيرة ، فرأسه التواضع ، وعينه البراءة من الحسد ، وأذنه الفهم ، ولسانه الصدق ، وحفظه الفحص ، وقلبه حسن النية ، وعقله معرفة الأشياء والامور ، ويده الرحمة ، ورجله زيارة العلماء ، وهمّته السلامة ، وحكمته الورع ، ومستقرّه النجاة ، وقائده العافية ، ومركبه الوفاء ، وسلاحه لين الكلمة ، وسيفه الرضاء ، وقوسه المداراة ، وجيشه محاورة العلماء ، وماله الأدب ، وذخيرته اجتناب الذنوب ، وزاده المعروف ، وماؤه

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٦ ، باب صفة العلماء ، الحديث ٣.

(٢) الكافي ١ : ٣٧ ، باب صفة العلماء ، الحديث ٧.

٨٢

المواعدة ، ودليله الهدى ، ورفيقه محبّة الأخيار » (١).

عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن القاسم بن محمد ، عن سليمان بن داود المنقري ، عن حفص بن غياث ، قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام :

« من تعلّم العلم ، وعمل به وعلم لله ، دعي في ملكوت السماوات عظيما ، فقيل : تعلم لله ، وعمل لله ، وعلم لله » (٢).

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٨ ، باب النوادر ، الحديث ٢.

(٢) الكافي ١ : ٣٥ ، باب ثواب العالم والمتعلم ، الحديث ٦.

٨٣

فصل

[ شرف علم الفقه ]

ولما ثبت أنّ كمال العلم إنّما هو بالعمل ، تبيّن أنّه ليس في العلوم ـ بعد المعرفة ـ أشرف من علم الفقه ؛ لأنّ مدخليّته في العمل أقوى مما سواه ؛ إذ به يعرف أوامر الله تعالى فتمتثل ، ونواهيه فتجتنب.

ولأنّ معلومه ـ أعني أحكام الله تعالى ـ أشرف المعلومات بعد ما ذكر.

ومع ذلك ، فهو الناظم لأمور المعاش ، وبه يتمّ كمال نوع الإنسان.

وقد روينا بطرقنا عن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن الحسن وعلي بن محمد ، عن سهل بن زياد ، عن محمد بن عيسى ، عن عبيد الله بن عبد الله الدهقان ، عن درست الواسطي ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال :

« دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المسجد ، فإذا جماعة قد أطافوا برجل ، فقال : ما هذا؟! فقيل : علّامة. فقال : وما العلّامة؟ فقالوا له : أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية ، والأشعار العربية. قال عليه‌السلام : فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذاك علم لا يضرّ من جهله ، ولا ينفع من علمه. ثم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّما العلم ثلاثة ، آية محكمة ، أو

٨٤

فريضة عادلة ، أو سنّة قائمة ، وما خلا هنّ فهو فضل (١).

عنه ، عن الحسين بن محمد ، عن معلى بن محمد ، عن الحسن بن علي الوشاء ، عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

« إذا أراد الله بعيد خيرا ، فقّهه في الدين » (٢).

عنه ، عن محمد بن اسماعيل ، عن الفضل بن شاذان عن حماد بن عيسى ، عن ربعي بن عبد الله ، عن رجل ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

« قال : الكمال كل الكمال : التفقّه في الدين ، والصبر على النائبة ، وتقدير المعيشة » (٣).

عنه ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن أبي أيوب الخزار ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

« ما من أحد يموت من المؤمنين أحبّ إلى إبليس ، من موت فقيه » (٤).

عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن بعض أصحابه ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

« إذا مات المؤمن الفقيه ، ثلم في الإسلام ثلمة ، لا يسدّها شي‌ء » (٥).

عنه ، عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن ابن محبوب ، عن علي ابن أبي حمزة ، قال : سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام يقول :

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٢ ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ، الحديث الأوّل.

(٢) الكافي ١ : ٣٢ ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ، الحديث ٣.

(٣) الكافي ١ : ٣٢ ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء ، الحديث ٤.

(٤) الكافي ١ : ٣٨ ، باب فقه العلماء الحديث ٤.

(٥) الكافي ١ : ٢٨ ، باب فقه العلماء الحديث ٢.

٨٥

« إذا مات المؤمن الفقيه ، بكت عليه الملائكة ، وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها ، وأبواب السماء التي كان يصعد فيها بأعماله ، وثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شي‌ء ؛ لأنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام ، كحصن سور المدينة لها » (١).

وبالإسناد السالف ، عن الشيخ المفيد محمد بن النعمان ، عن أحمد بن محمد ابن سليمان الزراري ، عن علي بن الحسين السعدآبادي ، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي ، عن محمد بن عبد الحميد العطار ، عن عمّه عبد السلام بن سالم ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

« حديث في حلال وحرام ، تأخذه من صادق ، خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضة » (٢).

وبالإسناد عن أحمد بن أبي عبد الله ، عن محمد بن عبد الحميد ، عن يونس ابن يعقوب ، عن أبيه ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :

إنّ لي ابنا ، قد أحبّ أن يسألك عن حلال وحرام ، ولا يسألك عمّا لا يعنيه ، قال :

فقال لي : « وهل يسأل الناس عن شي‌ء أفضل من الحلال والحرام؟! » (٣).

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٨ ، باب فقه العلماء ، الحديث ٣.

(٢) المحاسن ١ : ٢٢٩ ، باب الحثّ على طلب العلم ، الحديث ١٦٦ ،

(٣) المحاسن ١ : ٢٢٩ ، باب الحثّ على طلب العلم ، الحديث ١٦٨.

٨٦

فصل

[ وجه الحاجة إلى الفقه ]

الحق عندنا : أنّ الله تعالى ، إنّما فعل الأشياء المحكمة المتقنة لغرض وغاية ، ولا ريب أن نوع الإنسان أشرف ما في العالم السفلي من الأجسام ، فيلزم تعلق الغرض بخلقه.

ولا يمكن أن يكون ذلك الغرض حصول ضرر له ؛ إذ هذا إنّما يقع من الجاهل ، أو المحتاج ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، فتعيّن أن يكون هو النفع.

ولا يجوز أن يعود إليه سبحانه ، لاستغنائه وكماله ، فلا بدّ أن يكون عائدا إلى العبد.

وحيث كانت المنافع الدنيوية في الحقيقة ليست بمنافع ـ وإنّما هي دفع آلام ، فلا يكاد يطلق اسم النفع إلّا على ما ندر منها ـ لم يعقل أن يكون هو الغرض من إيجاد هذا المخلوق الشريف ، سيما مع كونه منقطعا بالآلام المتضاعفة ، فلا بدّ وأن يكون الغرض شيئا آخر ، ممّا يتعلّق بالمنافع الاخروية.

ولمّا كان ذلك النفع ، من أعظم المطالب وأنفس المواهب ، لم يكن مبذولا لكلّ طالب ، بل إنّما يحصل بالاستحقاق ، وهو لا يكون إلّا بالعمل في هذه الدار ، المسبوق بمعرفة كيفية العمل ، المشتمل عليها هذا العلم ، فكانت الحاجة إليه ماسّة جدا ، لتحصيل هذا النفع العظيم.

٨٧

وقد روينا بالإسناد السابق وغيره ، عن محمد بن يعقوب ، عن محمد بن إسماعيل ، عن الفضل بن شاذان ، عن ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ، عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لوددت أنّ أصحابي ضربت رءوسهم بالسياط حتى يتفقّهوا » (١).

عنه ، عن علي بن محمد بن عبد الله ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن عثمان بن عيسى ، عن علي بن أبي حمزة قال :

سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « تفقّهوا في الدين ، فإنّه من لم يتفقّه منكم في الدين ، فهو أعرابيّ إنّ الله تعالى يقول في كتابه ( لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (٢) » (٣).

عنه ، عن الحسين بن محمد ، عن جعفر بن محمد ، عن القاسم بن الربيع ، عن المفضل بن عمر ، قال :

سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « عليكم بالتفقّه في دين الله تعالى ، ولا تكونوا أعرابا ، فإنّه من لم يتفقّه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ، ولم يزكّ له عملا » (٤).

وبالإسناد السالف ، عن المفيد ، عن الحسن بن حمزة العلوي الطبري ، قال :

حدّثنا : أحمد بن عبد الله بن بنت البرقي ، قال : حدّثنا جدّي أحمد بن محمد بن خالد البرقي ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن العلاء [ القلاء ] ، عن

__________________

(١) الكافي ١ : ٣١ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، الحديث ٨.

(٢) التوبة (٩) : ١٢٢.

(٣) الكافي ١ : ٣١ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، الحديث ٦.

(٤) الكافي ١ : ٣١ ، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه ، الحديث ٧.

٨٨

محمد بن مسلم ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « لو اتيت بشاب من شباب الشيعة لا يتفقّه لأدّبته » (١).

قال : « وكان أبو جعفر عليه‌السلام يقول : « تفقّهوا وإلّا فأنتم أعراب » (٢).

وبالإسناد عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن بعض أصحابنا ، عن علي بن أسباط ، عن إسحاق بن عمار ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « ليت السياط على رءوس أصحابي حتى يتفقّهوا في الحلال والحرام » (٣).

__________________

(١) المحاسن ١ : ٢٢٨ ، باب الحثّ على طلب العلم ، الحديث ١٦١.

(٢) المحاسن ١ : ٢٢٨ ، باب الحثّ على طلب العلم ، الحديث ١٦١.

(٣) المحاسن ١ : ٢٢٩ ، باب الحثّ على طلب العلم ، الحديث ١٦٥.

٨٩

فصل

[ حدّ الفقه ]

الفقه في اللغة : الفهم.

وفي الاصطلاح : هو العلم بالأحكام ، الشرعية ، الفرعية ، عن أدلّتها التفصيلية.

فخرج بالتقييد « بالأحكام » : العلم بالذوات كزيد مثلا ، وبالصفات ككرمه وشجاعته ، وبالأفعال ككتابته وخياطته.

وخرج بـ « الشرعية » : غيرها ، كالعقلية المحضة ، واللغوية.

وخرج بـ « الفرعية » : الاصولية.

وبقولنا « عن أدلّتها » : علم الله سبحانه ، وعلم الملائكة والأنبياء.

وخرج بـ « التفصيلية » : علم المقلّد في المسائل الفقهية ، فإنّه مأخوذ من دليل إجمالي ، مطّرد في جميع المسائل ؛ وذلك لأنّه إذا علم أنّ هذا الحكم المعيّن قد أفتى به المفتي ، وعلم أنّ كلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم الله تعالى في حقّه ، يعلم بالضرورة : أنّ ذلك الحكم المعيّن هو حكم الله سبحانه في حقّه ، وهكذا يفعل في كلّ حكم يرد عليه.

وقد أورد على هذا الحدّ أنّه : إن كان المراد بالأحكام « البعض » لم يطّرد ؛ لدخول المقلّد ، إذا عرف بعض الأحكام كذلك ، لإنّا لا نريد به العامي ، بل من

٩٠

لم يبلغ مرتبة الاجتهاد ، وقد يكون عالما متمكّنا من تحصيل ذلك ؛ لعلوّ رتبته في العلم ، مع أنّه ليس بفقيه في الاصطلاح. وإن كان المراد بها « الكلّ » : لم ينعكس ؛ لخروج أكثر الفقهاء عنه ـ وإن لم يكن كلّهم ـ ؛ لأنّهم لا يعلمون جميع الأحكام ، بل بعضها أو أكثرها.

ثم إنّ الفقه أكثره من باب الظنّ ، لابتنائه غالبا على ما هو ظنّي الدلالة ، أو السند ، فكيف أطلق عليه العلم؟! والجواب :

أمّا عن سؤال الأحكام : فبأنّا نختار أوّلا : أنّ المراد [ بها ] « البعض ».

قولكم : « لا يطّرد ، لدخول المقلّد فيه » ، قلنا : ممنوع.

أمّا على القول بعدم تجزّي الاجتهاد فظاهر ؛ إذ لا يتصوّر على هذا التقدير انفكاك العلم ببعض الأحكام كذلك عن الاجتهاد ، فلا يحصل للمقلّد وإن بلغ من العلم ما بلغ.

وأمّا على القول بالتجزّي ، فالعلم المذكور داخل في الفقه ، فلا ضير فيه ؛ لصدقه عليه حقيقة ، وكون العالم بذلك فقيها بالنسبة إلى ذلك المعلوم اصطلاحا وإن صدق عليه عنوان التقليد بالإضافة إلى ما عداه.

ثمّ نختار ثانيا : أنّ المراد بها « الكلّ » ـ كما هو الظاهر لكونها جمعا محلّى باللام ، ولا ريب أنّه حقيقة في العموم.

قولكم : « لا ينعكس ، لخروج أكثر الفقهاء عنه » ، قلنا : ممنوع.

إذا ، المراد بالعلم بالجميع : التهيّؤ له ، وهو أن يكون عنده ما يكفيه ، في استعلامه من المآخذ والشرائط بأن يرجع إليه فيحكم.

وإطلاق العلم على مثل هذا التهيّؤ ، شايع في العرف ؛ فإنّه يقال في العرف : فلان يعلم النحو مثلا ، ولا يراد أنّ مسائله حاضرة عنده على التفصيل ، وحينئذ

٩١

فعدم العلم بالحكم في الحال الحاضر لا ينافيه.

وأمّا عن سؤال الظنّ : فيحمل العلم على معناه الأعمّ ، أعني ترجيح أحد الطرفين وإن لم يمنع من النقيض ، وحينئذ فيتناول الظن ، وهذا المعنى شايع في الاستعمال ، سيما في الأحكام الشرعية.

وما يقال في الجواب أيضا : من أنّ الظنّ في طريق الحكم لا فيه نفسه ، و « ظنّية الطريق لا تنافي علميّة الحكم » ، فضعفه ظاهر عندنا. وأمّا عند المصوّبة القائلين : بأنّ كلّ مجتهد مصيب ـ كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى في بحث الاجتهاد ـ فله وجه ، وكأنّه لهم ، وتبعهم فيه من لا يوافقهم على هذا الأصل ، غفلة عن حقيقة الحال.

٩٢

فصل

[ مرتبة علم الفقه ]

واعلم أنّ لبعض العلوم تقدّما على بعض : إمّا لتقدّم موضوعه ، أو لتقدّم غايته ، أو لاشتماله على مبادئ العلوم المتأخّرة ، أو لغير ذلك من الامور التي ليس هذا موضع ذكرها.

ومرتبة هذا العلم متأخّرة عن غيره بالاعتبار الثالث ، لافتقاره إلى ساير العلوم ، واستغنائها عنه.

أمّا تأخّره عن علم الكلام ، فلأنّه يبحث في هذا العلم عن كيفية التكليف ، وذلك مسبوق بالبحث عن معرفة نفس التكليف والمكلّف.

وأمّا تأخّره عن علم اصول الفقه فظاهر ؛ لأنّ هذا العلم ليس ضروريا ، بل هو محتاج إلى الاستدلال ، وعلم اصول الفقه متضمّن لبيان كيفية الاستدلال.

ومن هذا يظهر وجه تأخّره عن علم المنطق أيضا لكونه متكفّلا لبيان صحّة الطرق وفسادها.

وأمّا تأخّره عن علم اللغة والنحو والتصريف ؛ فلأنّ من مبادي هذا العلم ، الكتاب والسنّة ، واحتياج العلم بهما إلى العلوم الثلاثة ظاهر.

فهذه هي العلوم التي يجب تقدّم معرفتها عليه في الجملة ولبيان مقدار الحاجة منها محلّ آخر.

٩٣

فصل

[ موضوع علم الفقه ومسائله ]

ولا بدّ لكلّ علم : أن يكون باحثا عن امور لاحقه لغيرها وتسمّى تلك الامور مسائله ، وذلك الغير موضوعه.

ولا بد [ له ] من مقدّمات يتوقّف الاستدلال عليها ومن تصوّرات الموضوع وأجزائه وجزئيّاته ، ويسمّى مجموع ذلك بالمبادي.

ولمّا كان البحث في علم الفقه عن الأحكام الخمسة ، أعني : الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والكراهة ، والحرمة ، وعن : الصحّة والبطلان ، من حيث كونها عوارض لأفعال المكلّفين.

فلا جرم كان موضوعه هو أفعال المكلّفين ، من حيث الاقتضاء والتخيير.

ومباديه : ما يتوقّف عليه من المقدّمات ، كالكتاب والسنّة والإجماع ، ومن التصوّرات كمعرفة الموضوع وأجزائه وجزئياته.

ومسائله : هي المطالب الجزئية ، المستدلّ عليها فيه.

٩٤

المقصد الثاني

في تحقيق

مهمات المباحث الاصولية

التي هي الأساس لبناء الأحكام الشرعية

وفيه مطالب

٩٥

ونظرا لتحقيق هذا المقصد واشتهاره منذ عصر المؤلف إلى يومنا هذا آثرنا اختزاله ، لا سيما وقد طبع محققا في مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين ، ورأينا أن نقتصر على آراء المؤلف فقط بالترتيب الذي قصده.

٩٦

المطلب الأوّل : في نبذة من مباحث الألفاظ.

وقد تعرّض فيه إلى الحقيقة والمجاز والمنقول اللغوي والعرفي والشرعي ضمن اصول ثلاثة.

(١) : في الحقيقة الشرعية ، وقد انتهى فيه إلى عدم ثبوت الحقيقة الشرعية.

(٢) : ذهب فيه إلى وقوع الاشتراك في لغة العرب وإلى جواز استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى مطلقا ، أي سواء في النفي والإثبات أوفي الإفراد والتثنية والجمع. لكنّه في المفرد مجاز وفي غير المفرد حقيقة.

(٣) : جوّز استعمال اللفظ الواحد في المعنى الحقيقي والمجازي معا بعد التجريد عن قيد الوحدة.

المطلب الثاني : في الأوامر والنواهي ، وجعله في بحثين.

البحث الأوّل : في الأوامر ، وجعله في (١٢) أصلا.

(١) : صيغة « افعل » وما في معناها حقيقة في الوجوب فقط بحسب اللغة على الأقوى وفاقا لجمهور الاصوليين.

فائدة مهمّة : إنّ استعمال صيغة الأمر في الندب كان شايعا في

٩٧

عرف الأئمة عليهم‌السلام بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجي ، فيشكل التعلّق في إثبات وجوب أمر بمجرّد ورود الأمر به منهم عليهم‌السلام.

(٢) : إنّ صيغة الأمر بمجرّدها لا إشعار فيها بوحدة ولا تكرار وإنّما تدلّ على طلب الماهية.

(٣) : لا يدلّ الأمر على الفور ولا على التراخي بل على مطلق الفعل وأيّهما حصل كان مجزيا.

فائدة : وإذا قلنا بأنّ الأمر للفور ولم يأت المكلّف بالمأمور به في أوّل أوقات الإمكان فلا يجب عليه الإتيان به.

(٤) : الأكثرون على أنّ الأمر بالشي‌ء مطلقا يقتضي إيجاب ما لا يتمّ إلّا به ، شرطا كان أو سببا أو غيرهما مع كونه مقدورا. وفصّل بعضهم فوافق في السبب وخالف في غيره فقال بعدم وجوبه.

والذي أراه أنّ البحث في السبب قليل الجدوى ؛ لأنّ تعليق الأمر بالمسبّب نادر وأثر الشكّ في وجوبه هيّن. وأمّا غير السبب فالأقرب فيه عندي قول المفصّل.

(٥) : الحقّ أنّ الأمر بالشي‌ء على وجه الإيجاب لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ لا لفظا ولا معنى ، وأمّا العام فقد يطلق ويراد به أحد الأضداد الوجودية لا بعضه ، وهو راجع إلى الخاصّ بل هو عينه في الحقيقة ، فلا يقتضي النهي عنه أيضا ، وقد يطلق ويراد به الترك ، وعلى هذا يدلّ الأمر على النهي عنه بالتضمّن.

(٦) : المشهور بين أصحابنا أنّ الأمر بالشيئين أو الأشياء على وجه التخيير يقتضي إيجاب الجميع لكن تخييرا. ثمّ نقل عن العلّامة : أنّ المراد

٩٨

بوجوب الكلّ على البدل أنّه لا يجوز للمكلّف الإخلال بها أجمع ولا يلزمه الجمع بينها وله الخيار في تعيين أيّها شاء.

(٧) : الأمر بالفعل في وقت يفضل عنه جائز عقلا ، واقع على الأصحّ.

والحقّ تساوي جميع أجزاء الوقت في الوجوب بمعنى أنّ للمكلّف الإتيان به في أوّل الوقت ووسطه وآخره وفي أيّ جزء اتّفق إيقاعه وكان واجبا بالأصالة من غير فرق بين بقائه على صفة التكليف وعدمه ، ففي الحقيقة يكون راجعا إلى الواجب المخيّر. ولا يجب البدل ـ وهو العزم على أداء الفعل في ثاني الحال ـ إذا أخّره عن أوّل الوقت ووسطه.

(٨) : الحقّ أنّ تعليق الأمر بل مطلق الحكم على شرط يدلّ على انتفائه عند انتفاء الشرط وهو مختار أكثر المحققين.

(٩) : التعليق على الصفة لا يقتضي نفي الحكم عند انتفائها.

(١٠) : أنّ التقييد بالغاية يدلّ على مخالفة ما بعده لما قبلها وفاقا لأكثر المحققين.

(١١) : لا يجوز الأمر بالفعل المشروط مع علم الآمر بانتفاء شرطه.

(١٢) : الأقرب أن نسخ مدلول الأمر ـ وهو الوجوب ـ لا يبقى معه الدلالة على الجواز بل يرجع إلى الحكم الذي كان قبل الأمر.

البحث الثاني : في النواهي ، وجعله في (٥) اصول.

(١) : الحقّ أنّ صيغة النهي حقيقة في التحريم مجاز في غيره. واستعمال النهي في الكراهة شايع في أخبارنا المرويّة عن الأئمة عليهم‌السلام على نحو ما قلناه في الأمر.

(٢) : الأقوى أنّ المطلوب بالنهي هو نفس أن لا تفعل.

٩٩

(٣) : أنّ النهي يفيد الدوام والتكرار. والدوام يستلزم الفور.

(٤) : الحق امتناع توجّه الأمر والنهي إلى شي‌ء واحد.

(٥) : النهي يدلّ على فساد المنهي عنه في العبادات بحسب اللغة والشرع دون غيرها مطلقا.

المطلب الثالث : في العموم والخصوص ، وفيه (٣) فصول.

الفصل الأوّل : في الكلام على ألفاظ العموم ، وفيه (٤) اصول.

(١) : أنّ للعموم في لغة العرب صيغة تخصّه.

(٢) : الجمع المعرّف بالأداة يفيد العموم حيث لا عهد. والمفرد المعرّف لا يفيد العموم ، إلّا أنّ القرينة الحالية قائمة في الأحكام الشرعية غالبا على إرادة العموم منه حيث لا عهد خارجي.

(٣) : الجمع المنكّر لا يفيد العموم بل يحمل على أقلّ مراتبه ، وأقلّ مراتب صيغ الجمع الثلاثة ، على الأصحّ.

(٤) : ما وضع لخطاب المشافهة لا يعمّ بصيغته من تأخّر عن زمن الخطاب وإنّما يثبت حكمه لهم بدليل آخر.

الفصل الثاني : في جملة من مباحث التخصيص ، وفيه (٤) اصول.

(١) : أنّ منتهى التخصيص هو ما يبقى معه جمع يقرب من مدلول العام إلّا أن يستعمل في حقّ الواحد على سبيل التعظيم.

(٢) : إذا خصّ العامّ واريد به الباقي فهو مجاز مطلقا على الأقوى.

(٣) : إنّ تخصيص العامّ لا يخرجه عن الحجّية في غير محلّ التخصيص إن لم يكن المخصّص مجملا مطلقا.

١٠٠