معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ١

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي

معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي


المحقق: السيد منذر الحكيم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
ISBN: 964-91559-5-3
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

والمراد به : ما يتبادر إلى الفهم عند إطلاق لفظ الماء في العرف. وهو في الأصل طاهر مطهّر.

قال الله تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ) (١). وقال ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (٢). وقال الله تعالى ( وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ ) (٣). وقال ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ) (٤). فأصل الماء النابع أيضا من السماء على ما دلّ عليه ظاهر الآيتين الأخيرتين.

على أنّ التسوية بين الكلّ في هذا الحكم المبحوث عنه ثابتة بالإجماع.

وقد دلّت الآية الاولى على طهارة الماء قطعا. وفي دلالتها على أنّه مطهّر احتمالان : مبنيّان على الاختلاف في معنى الطهور.

__________________

(١) الفرقان : ٤٨.

(٢) الأنفال : ١١.

(٣) المؤمنون : ١٨.

(٤) الزمر : ٢١.

١٢١

فكثير من العلماء فسّروه بـ : « الطاهر في نفسه المطهّر لغيره ». حتّى أنّ الشيخ في التهذيب أسنده إلى لغة العرب.

ثمّ احتجّ له بأنّه لا خلاف بين أهل النحو أنّ اسم فعول موضوع للمبالغة وتكرار (١) الصفة. ألا ترى أنّهم يقولون : فلان

ضارب ، ثمّ يقولون : ضروب إذا تكرّر منه ذلك وكثر.

قال : « وإذا كان كون الماء طاهرا ليس ممّا يتكرّر ويتزايد فينبغي أن يعتبر في إطلاق الطهور عليه غير ذلك ، وليس بعد ذلك إلّا أنّه مطهّر. ولو حملناه على ما حملنا عليه لفظة الفاعل لم يكن فيه زيادة فائدة وهذا فاسد » (٢).

وفي هذه الحجّة نظر ؛ لتوقّفها على ثبوت الحقيقة الشرعيّة لطهارة الماء ونحوه شرعا ـ أعني ما يقابل النجاسة ـ ليكون إطلاق الطهارة في الآية محمولا عليها ، ويتمّ ما ذكره من عدم التكرّر والتزايد فيها ؛ لأنّ المعنى الشرعي هو الذي لا تزايد فيه ، وقد قدّمنا بيان ضعف القول بثبوت الحقائق الشرعية (٣).

والمعنى اللغوي للطهارة قابل للزيادة فيجوز أن يكون استعمال فعول في الآية باعتبار زيادة نظافة الماء ونزاهته. ولا ينافيه الاحتجاج بها على الحكم بالطهارة شرعا ؛ لدخولها في المعنى اللغوي ولو بالقرينة.

سلّمنا أنّ الحقائق الشرعيّة ثابتة وأنّ للطهارة حقيقة ، لكنّ امتناع إجراء

__________________

(١) في نسخة « أ » : تكرّر. وهو الموجود في نسخة التهذيب ، طبعة دار الكتب الإسلاميّة بطهران. وفي نسخة « ب » : تكرير.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢١٤ ، الباب : ١٠.

(٣) راجع مقدّمة معالم الدين : مبحث الحقيقة الشرعيّة.

١٢٢

فعول على حقيقته في الطهارة الشرعيّة يوجب المصير إلى المجاز ، ومن المعلوم أنّ الحقيقة اللّغويّة من [ المجازات ] (١) الشرعيّة فلم رجّحتم التجوّز بإرادة كونه مطهّرا على التجوّز بإرادة المعنى اللّغوي؟

سلّمنا. لكن المدّعى كون ذلك المعنى مدلول لفظ الطهور لغة. وأين هذا منه؟! ويحكى عن بعض العامّة : إنكار دلالته على غير الطهارة ؛ محتجّا بأنّ فعولا يفيد المبالغة في فائدة فاعل ، كما يقال : « ضروب وأكول » لزيادة الأكل والضرب. ولا يفيد شيئا مغايرا له. وكون الماء مطهّرا مغاير لمعنى الطاهر فلا تتناوله المبالغة.

وهذا الكلام له في الجملة وجه. غير أنّ التحقيق ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ الطهور في العربيّة على وجهين : صفة ، كقولك : ماء طهور أي طاهر ، واسم غير صفة : وهو ما يتطهّر به كالوضوء والوقود ـ بفتح الواو فيهما ـ لما يتوضّأ به وما توقد به النار.

وعلى هذا تكون لطهور دلالة على معنى مطهّر ؛ لأنّ كون الماء ممّا يتطهّر به يقتضي كونه مطهّرا. ولا مجال لإنكار ورود طهور بهذا المعنى ، فقد نصّ عليه جميع أهل اللغة على ما وصل إلينا.

قال في الجمهرة : الطهور الماء الذي يتطهّر به ـ بفتح الطاء (٢).

وقال الجوهري : الطهور ما يتطهّر به كالفطور والسحور والوقود (٣).

وفي نهاية ابن الأثير : « الطهور ـ بالضمّ ـ التطهّر ، و ـ بالفتح ـ الماء الذي

__________________

(١) « أ » و « ب » و « ج » : مجازات.

(٢) جمهرة اللغة ٢ : ٣٧٦.

(٣) الصحاح ٢ : ٧٢٧ ، مادّة : طهر.

١٢٣

يتطهّر به كالوضوء والوضوء » (١).

وفي القاموس : « والطهور : المصدر ، واسم ما يتطهّر به .. » (٢).

وحينئذ : فإن كان المراد بإنكار دلالة طهور على غير الطهارة أنّه لا يدلّ عليه بوجه فليس بصحيح ، وإن كان المراد عدم دلالته عليه في حال كونه صفة وباعتبار المبالغة ـ على ما اقتضاه كلام الشيخ ـ فهو في موضعه.

وبقي الكلام في توجيه حمل الطهور في الآية (٣) على المعنى الثاني ليدلّ على المطهريّة ؛ فإنّ المعنى الأوّل أقرب على ظاهرها.

وبتقدير استوائهما في القرب والبعد لا بدّ في ترجيح أحدهما من دليل.

وقد وجّهه بعضهم بأنّه تعالى ذكره في معرض الإنعام فالواجب حمله على الوصف الأكمل. ولا يخفى أنّ المطهّر أكمل من الطاهر.

وهو كما ترى. مع أنّ الآية الثانية (٤) واضحة الدلالة على هذا الحكم مع الإجماع والأخبار.

وبالجملة : فكون المطلق في الأصل على الطهارة والصلاحيّة للتطهير ممّا لا ريب فيه.

وأمّا حكمه بعد عروض العارض كملاقاة النجاسة أو المباشرة بالاستعمال أو غيره فمختلف. وله بهذا الاعتبار أقسام.

فها هنا أبحاث :

__________________

(١) النهاية ٣ : ١٤٧ ، باب الطاء مع الهاء.

(٢) القاموس المحيط ٢ : ٨٢ ، باب الراء ، فصل الطاء.

(٣) الفرقان : ٤٨.

(٤) وهي قوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ). الأنفال : ١١.

١٢٤

البحث الأوّل

في

الواقف

مسألة [١] :

أكثر علمائنا على أنّ الماء الواقف ـ وهو ما ليس بنابع ـ إن بلغ مقدار الكرّ لم ينجس إلّا بتغيّر أحد أوصافه الثلاثة بالنجاسة ، أعني : اللون والريح والطعم. وإن لم يبلغه نجس بمجرّد الملاقاة عدا ما يستثنى.

وخالف في ذلك الحسن بن أبي عقيل فأوقف النجاسة في الكلّ على التغيّر (١).

والحقّ الأوّل.

لنا : ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام : وسئل عن الماء تبول فيه الدوابّ وتلغ فيه الكلاب ويغتسل فيه الجنب؟ قال : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » (٢).

فدلّ بمفهوم الشرط على أنّ دون الكرّ يثبت له التنجيس في الجملة.

وما رواه في الصحيح عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٧٦ ، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي.

(٢) الاستبصار ١ : ٢٠ ، الباب ٩ ، الحديث ٤٥.

١٢٥

عن الدجاجة والحمامة وأشباههما تطأ العذرة ثمّ تدخل في الماء ، يتوضّأ منه للصلاة؟ قال : « لا. إلّا أن يكون الماء كثيرا قدر كرّ من ماء » (١).

والنهي في هذا الخبر وإن تعلّق بالوضوء ـ وهو أخصّ من الدعوى ـ إلّا أنّ الظاهر استناد النهي إلى انتفاء الطهارة ؛ للاتّفاق بيننا وبين الخصم على عدم سلب الطهوريّة فقط. ومن المعلوم أنّ النهي عن استعمال الماء لا يكون إلّا لإحدى هاتين العلّتين.

وفي الصحيح عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يدخل يده في الإناء وهي قذرة؟ قال : « يكفى الإناء » (٢).

وفي معنى هذه الأخبار روايات اخر كادت في الكثرة أن تبلغ حدّ التواتر المعنويّ وإن كان الغالب عليها ضعف الأسناد.

ولا يقدح في صحّة التمسّك (٣) بها عدم دلالة شي‌ء منها على عموم التنجيس وحصوله بكل نجاسة وعلى أيّ حال وقعت الملاقاة ؛ لأنّ الغرض منها إثبات أصل الانفعال ، على خلاف ما ذهب إليه منكره.

وإذا ثبت ذلك أضفنا إليه الإجماع على عدم الفصل بين أنواع النجاسات في غير المسائل التي ظهر فيها الخلاف ، على ما سنوضحه.

واحتجاج ابن أبي عقيل بالعمومات الدالّة على طهارة الماء ـ على ما حكاه

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٢١ ، الباب ١٠ ، الحديث ٤٩.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ١١٤ ، أبواب الماء المطلق : ٨ / ٧.

قال الحرّ العاملي : المراد إراقة مائه وهو كناية عن التنجيس.

(٣) في نسختي « ب » و « ج » : في التمسّك بها.

١٢٦

عنه جمع من الأصحاب ـ وببعض (١) الأخبار الضعيفة مردود بأنّ المخصّص موجود ، والضعيف لا يصلح للمعارضة.

مسألة [٢] :

جمهور الذاهبين إلى انفعال القليل بملاقاة النجاسة له لم يفرّقوا بين قليلها وكثيرها.

وخالف في ذلك الشيخ رحمه‌الله فذهب في الاستبصار إلى أنّ الدم القليل الذي لا يدركه الطرف كرءوس الإبر إذا أصاب الماء يعفى عنه (٢).

واحتجّ له بما رواه (٣) عليّ بن جعفر في الصحيح عن أخيه أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قطعا صغارا فأصاب إناء ، هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال : « إن لم يكن شيئا يستبين في الماء فلا بأس ، وإن كان شيئا بيّنا فلا يتوضّأ منه » (٤).

وردّه بأنّه ليس بصريح في إصابة الماء.

قال في المعتبر : ولعلّ معناه إذا أصاب الإناء وشكّ في وصوله إلى الماء اعتبر بالإدراك (٥).

وله في الجملة وجه إلّا أنّ العدول في مثله عن الظاهر إنّما يحسن مع وجود

__________________

(١) في نسختي « ب » و « ج » : بعض.

(٢) الاستبصار ١ : ٢٣ ، الباب ١٠ ، ذيل الحديث ١٢.

(٣) في « ب » و « ج » : وحجّته ما رواه.

(٤) الاستبصار ١ : ٢٣ ، الباب ١٠ ، الحديث ١٢.

(٥) المعتبر ١ : ٥٠ ، ( الطبعة المحققة الاولى ).

١٢٧

المعارض. ولا معارض هنا ؛ لما عرفت من عدم العموم في الأخبار السالفة.

ومن العجيب معارضة بعض الأصحاب له بما رواه علي (١) بن جعفر في الصحيح أيضا عن أخيه عليه‌السلام قال : وسألته عن رجل رعف وهو يتوضّأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال : لا (٢).

وكيف يصلح للمعارضة مع كون مورد السؤال فيه وقوع القطرة بنفسها ، ومورد السؤال في الخبر الآخر القطع الصغار الخارجة عن الامتخاط المشتبهة برؤوس الإبر في كلام من عمل به؟!

مسألة [٣] :

لا نعرف من الأصحاب مخالفا في اختصاص الانفعال بالملاقاة في الماء الواقف بما دون الكرّ ، وإنّ ما بلغه لا ينجس إلّا بالتغيّر بالنجاسة ـ سواء كان في غدير أو قليب (٣) أو حوض أو آنية ـ إلّا الشيخ المفيد رحمه‌الله (٤) وسلّار (٥) ، فذهبا إلى : نجاسة ماء الحياض والأواني بملاقاة النجاسة وإن بلغت مقدار الكرّ أو زادت عليه.

__________________

(١) في نسخة « أ » : عن علي بن جعفر.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ١١٢ ـ ١١٣ ، أبواب الماء المطلق ، الباب ٨ ، الحديث ١.

(٣) القليب : البئر قبل أن تطوى .. وقال أبو عبيد : هي البئر العاديّة القديمة. راجع الصحاح ١ : ٢٠٦.

وقال في مجمع البحرين : بئر تحفر فينقلب ترابها قبل أن تطوى.

(٤) المقنعة : ٦٤ ، طبعة جماعة المدرسين.

(٥) المراسم : ٣٦ ، الطبعة المحققة الاولى.

١٢٨

والأصحّ الأوّل.

لنا : عموم ما دلّ على نفي النجاسة عمّا بلغ مقدار الكرّ. فالتخصيص يحتاج إلى الدليل (١).

والحجّة المحكيّة عنهما في كلام الأصحاب ـ أعني التمسّك بعموم النهي عن استعمال ماء الأواني مع ملاقاة النجاسة ـ بيّنة الضعف ؛ لأنّ دليل اعتبار الكرّيّة يخصّص عموم النهي حيث يثبت (٢) ؛ لاحتمال البناء فيه على ما هو الغالب من عدم بلوغ الإناء مقدار الكرّ فيكون تخصيصه أقرب وإن كان كلّ منهما صالحا لتخصيص الآخر إذا نظر إلى مجرّد اللّفظ.

ويبقى الكلام في الحياض ؛ إذ لم يتعرّض لها في الحجة ، فلا يعلم وجه التسوية بينها (٣) وبين الأواني.

مسألة [٤] :

للأصحاب في كميّة الكرّ اعتباران : الوزن والمساحة.

أمّا الوزن فظاهرهم الاتفاق على أنّه ألف ومأتا رطل ، لكنّهم اختلفوا في المراد من الرطل أهو العراقيّ أو المدنيّ.

والأصل في هذا الحكم ما رواه الشيخ رحمه‌الله في الصحيح عن محمّد بن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « الكرّ من الماء الذي لا ينجّسه

__________________

(١) في نسخة « ب » : دليل.

(٢) في نسخة « ب » : ثبت.

(٣) في نسختي « أ » و « ج » : بينهما.

١٢٩

شي‌ء ألف ومأتا رطل » (١).

فمن الأصحاب من حمله على العراقيّ ، ومنهم من حمله على المدنيّ.

والرطل العراقيّ مأئة وثلاثون درهما ، والمدنيّ مأئة وخمسة وتسعون ، فيكون العراقيّ ثلثي المدنيّ (٢).

احتج الأوّلون بأنّ الحمل على العراقيّ (٣) يقتضي مقاربة التقدير بالوزن للتقدير بالمساحة فيكون أولى.

وبأنّ محمّد بن مسلم روى في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « أنّ الكرّ ستمائة رطل » (٤).

والمراد به رطل مكّة. لا يجوز أن يراد به رطل العراق ولا رطل المدينة ؛ فإنّ ذلك متروك بالإجماع ، فتعيّن الرطل المكّي ، وهو رطلان بالعراقي فيتطابق (٥) مضمون الروايتين.

وبأنّ الأصل طهارة الماء. خرج ما نقص عن الأرطال العراقيّة بالإجماع ، فيبقى ما عداه.

واحتجّ الآخرون بأنّ الحمل على المدنيّة مقتضى الاحتياط ؛ لأنّا إذا حملناه على الأكثر دخل الأقلّ فيه.

__________________

(١) الاستبصار ١ : ١٠ ، الباب ٢ ، الحديث ٤.

(٢) في « ج » : قال الشيخ أبو الفتح الكراجكي في كتاب تهذيب المشرقين : الكرّ قدره ألف ومأتا رطل بالعراقيّ هو اثنان وسبعون رطلا بالشاميّ. منه.

(٣) في « ج » : العراقيّة.

(٤) وسائل الشيعة ١ : ١٢٤ ، أبواب الماء المطلق ، الباب ١١ ، الحديث ٣.

(٥) في « ج » : فتطابق.

١٣٠

وبأنّه عليه‌السلام كان من أهل المدينة فالظاهر أنّه يجيب بما هو المعهود عنده.

وأجاب الأوّلون عن الوجه الأوّل بالمعارضة بمثله ؛ فإنّ المكلّف مع تمكّنه من الطهارة المائيّة لا يشرع له العدول إلى الترابيّة. ولا يحكم بنجاسة الماء إلّا بدليل شرعيّ. فإذا لم يقم على النجاسة فيما نحن فيه دليل كان الاحتياط في استعمال الماء ، لا في تركه.

وعن الثاني بأنّ المهمّ في نظر الحكيم هو رعاية ما يفهمه السائل ، وذلك إنّما يحصل بمخاطبته بما يعهده من اصطلاح بلده ، ولم يعلم أنّ السائل كان مدنيّا ، فلا ترجيح من هذه الحيثيّة. وكلامهم في هذا متّجه.

وأمّا جوابهم عن الوجه الأوّل فموضع نظر ؛ لأنّ الأخبار الدالّة على اعتبار الكرّية اقتضت كونها شرطا لعدم انفعال الماء بالملاقاة فما لم يدلّ دليل شرعيّ على حصول الشرط يجب الحكم بالانفعال.

وبهذا يظهر ضعف احتجاجهم بالأصل على الوجه الذي قرّروه ؛ لأنّ اعتبار الشرط مخرج عن حكم الأصل. هذا.

والإشكال متوجّه إلى أصل الحكم أيضا ؛ إذ (١) لم يتحقّق الإجماع عليه.

والخبر ـ كما ترى ـ مرسل. وقبول الأصحاب له باعتبار كونه من مراسيل ابن أبي عمير قد بيّنا ما فيه.

ولعلّ انضمام خبر محمّد بن مسلم (٢) إليه مع ملاحظة التقريب الذي ذكر فيه ، مضافا إلى عمل الأصحاب يدفع هذا الإشكال ، فيقرب القول الأوّل حينئذ.

__________________

(١) في « ب » : إن.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ١٢٤ ، أبواب الماء المطلق ، الباب ١١ ، الحديث ٣.

١٣١

وأمّا المساحة فقد اختلفوا فيها : فذهب الأكثر إلى اعتبار بلوغ مكسّره (١) اثنين وأربعين شبرا وسبعة أثمان شبر.

واكتفى الصدوق وجماعة القميّين فيما (٢) حكي عنهم ببلوغه سبعة وعشرين (٣).

واختاره من المتأخّرين الفاضل (٤) الشيخ علي في بعض كتبه ووالدي (٥) رحمه‌الله.

وقال ابن الجنيد (٦) : تكسيره بالذراع نحو مأئة شبر.

وعزّي إلى (٧) القطب الراونديّ نفي اعتبار التكسير ، وأنّه اكتفى ببلوغ الأبعاد الثلاثة عشرة أشبار ونصفا.

حجّة القول الأوّل : رواية أبي بصير.

قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكرّ من الماء ، كم يكون قدره؟ قال : « إذا كان الماء ثلاثة أشبار ونصفا في مثله ثلاثة أشبار ونصف في عمقه في الأرض فذلك الكرّ من الماء » (٨).

واستفيد اعتبار التكسير من كلمة « في ». وإهمال تقدير البعد الثالث فيها

__________________

(١) في « ج » : تكسيره.

(٢) في « ب » : عمّا.

(٣) مختلف الشيعة ١ : ١٨٣.

(٤) في « أ » : المحقّق.

(٥) روض الجنان : ١٤٠.

(٦) مختلف الشيعة ١ : ١٨٣.

(٧) راجع روض الجنان : ١٤٠.

(٨) الاستبصار ١ : ١٠ ، الباب ٢ ، الحديث ٣. وسائل الشيعة ١ : ١٢٢ ، أبواب الماء المطلق ، الباب ١٠ ، الحديث ٦.

١٣٢

غير ضائر (١) ؛ لأنّ الظاهر الاعتماد فيه على ما علم في البعدين الآخرين.

والحاصل من ضرب هذه المقادير بعضها في بعض هو ما ذكروه.

وفي طريق هذه الرواية ضعف بعثمان بن عيسى ؛ فإنّه واقفيّ ، وباشتراك أبي بصير بين الثقة وغيره.

قال المحقّق في المعتبر ـ بعد أن ذكر أنّ الشيخ وغيره عملوا بها ـ : « لكن عثمان بن عيسى واقفيّ ، فروايته (٢) ساقطة ، ولا تصغ إلى من يدّعي الإجماع هنا ؛ فإنّه يدّعي الإجماع في محلّ الخلاف » (٣).

وحجّة القول الثاني : رواية اسماعيل بن جابر.

قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الماء الذي لا ينجّسه شي‌ء؟ قال : « كرّ ».

قلت : وما الكرّ؟ قال : « ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار » (٤).

فحملوا إهمال البعد الثالث فيها على نحو ما ذكر في إهمال تقديره في الرواية السابقة من أنّه إحالة لحكمه على ما ذكر في البعدين الآخرين ، وهو تكلّف ظاهر.

قال في المعتبر : إن كان معوّل الصدوق على هذه ـ يعني رواية اسماعيل ـ فهي ناقصة عن اعتباره (٥).

وقد وصفها جمع من الأصحاب بالصحة ، وفي طريقها البرقيّ. والمراد به محمّد بن خالد ، وفيه كلام ، مع أنّ توثيقه لم يعلم إلّا من شهادة الشيخ.

__________________

(١) في « ب » : ضارّ.

(٢) في « أ » : وروايته.

(٣) المعتبر ١ : ٤٦.

(٤) وسائل الشيعة ١ : ١٢٢ ، أبواب الماء المطلق ، الباب ١٠ ، الحديث ٤.

(٥) المعتبر ١ : ٤٦.

١٣٣

واسماعيل بن جابر لم يوثّقه غير الشيخ أيضا ، وتبعه العلّامة في الخلاصة.

وفي الطريق مع ذلك إشكال آخر لا يخفى على الممارس وإن شملت الغفلة عنه الجمّ الغفير.

وأمّا قول ابن الجنيد فلم يذكر له حجّة. وكذا قول القطب ، وما أكثر ما بينهما من البون.

وهما على كلّ حال ساقطان ؛ لتطابق هذه الأخبار وغيرها على نفي ما تضمّناه كصحيحة اسماعيل بن جابر ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الماء الذي لا ينجّسه شي‌ء؟ قال : « ذراعان عمقه. في ذراع وشبر سعته » (١).

وحسنة زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إذا كان الماء أكثر من رواية لم ينجّسه شي‌ء ، تفسّخ فيه أو لم يتفسّخ فيه إلّا أن يجي‌ء له ريح يغلب على ريح الماء » (٢).

وحسنة (٣) عبد الله بن المغيرة عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

« الكرّ من الماء نحو حبّي هذا ». وأشار إلى حبّ من تلك الحباب التي تكون في المدينة (٤).

وقد حمل الشيخ الجميع على ما بلغ المقدار المعلوم للكرّ (٥).

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ١٢١ ، أبواب الماء المطلق ، الباب ١٠ ، الحديث ١.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ١٠٤ ، أبواب الماء المطلق ، الباب ٣ ، الحديث ٩. تهذيب الأحكام ١ : ٤٢ ، الحديث ١١٧.

(٣) في « ب » : رواية عبد الله بن المغيرة.

(٤) وسائل الشيعة ١ : ١٢٣ ، أبواب الماء المطلق ، الباب ١٠ ، الحديث ٧.

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ٤٢ ، ذيل الحديثين ١١٧ و ١١٨.

١٣٤

وكيف كان فهي عاضدة لما دلّ على نفي مضمون ذينك القولين.

مع أنّ ابن الجنيد مصرّح بالموافقة على تقدير الوزن ، لكنّه أطلق الرطل (١).

ومن البيّن أنّ مساحة الألف ومأتي رطل وإن كانت بالمدنيّ لا تبلغ المائة شبرا ، فينحصر الخلاف المعتدّ به في القولين الأوّلين.

والظاهر رجحان الأوّل (٢) منهما ؛ لما أشرنا إليه من أنّ عدم انفعال الماء بملاقاة النجاسة مشروط بكونه قدر الكرّ ، ولا بدّ (٣) للعلم بحصول الشرط من دليل ، وقد علمت انتفاءه بالنسبة إلى القدر الأوّل ـ أعني مضمون القول الثاني ـ والأكثر منفيّ بما ذكرناه من توافق الأخبار كلّها وتعاضدها على نفيه ، فيتعيّن (٤) الأوّل ؛ إذ لم يبق ثمّ سواه.

مسألة [٥] :

لا فرق في اشتراط كرّية الواقف لعدم انفعاله بالملاقاة بين أن يكون في مصنع أو غدير أو حمّام أو غيرها على الأقوى.

وبه قال أكثر الأصحاب ؛ لعموم الدليل.

وقال المحقّق رحمه‌الله : « حوض الحمّام ، إذا كان له مادّة لا ينجس (٥) بملاقاة النجاسة ويكون كالجاري .. ولا اعتبار بكثرة المادّة وقلّتها. لكن لو تحقّق

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ١٨٣.

(٢) في « ب » : رجحان الظاهر منهما.

(٣) في « أ » و « ج » : فلا بدّ.

(٤) في « ج » : فتعيّن.

(٥) في المعتبر : لا ينجس ماؤه.

١٣٥

نجاستها لم تطهر بالجريان » (١).

واحتجّ لذلك بما رواه داود بن سرحان ، قال : قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تقول في ماء الحمّام؟ قال : « هو بمنزلة الماء الجاري » (٢).

وبما رواه بكر بن حبيب عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « ماء الحمّام لا بأس به إذا كانت له مادّة » (٣).

وبأنّ الضرورة تمسّ إليه ، والاحتراز عنه (٤) عسير فلزم الترخيص دفعا للحرج.

وجوابه منع الدلالة في الروايتين :

أمّا الاولى فظاهر ؛ لعدم التعرّض فيها للقلّة ، ولا لتأثير المادّة ، فجاز إرادة الكثير منه. ولئن سلّمنا بالعموم في لفظه فلا ريب أنّ عموم اشتراط الكريّة أقوى دلالة منه فيجب تخصيصه به.

وأمّا الثانية فلأنّها وإن كانت ظاهرة في إرادة القليل والمادّة فيها مطلقة إلّا أنّ احتمال البناء على الغالب من أكثريّة المادّة أو إرادة الكثير من لفظ المادّة نظرا إلى أنّه المتعارف منه يقتضي ضعفه عن مقاومة عموم اعتبار الكريّة ، فيكون تقييده بذاك أولى.

هذا مع قطع النظر عن حال السند. وإلّا فالرواية الاولى غير واضحة الصحّة ؛

__________________

(١) المعتبر ١ : ٤٢ ، الفرع الرابع.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ١١٠ ، أبواب الماء المطلق ، الحديث ١.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ١١١ ، أبواب الماء المطلق ، الحديث ٤.

(٤) قال في المعتبر ( ١ : ٤٢ ) : ولأنّ الضرورة تمسّ إليه ، والاختصاص عسر فيلزم الترخيص دفعا للحرج.

١٣٦

لأنّ داود بن سرحان لم يعلم حاله إلّا من توثيق النجاشي (١) ، وقد عرفت عدم الاكتفاء بمثله (٢). والأخيرة ضعيفة ؛ لجهالة بكر.

وأمّا ادّعاء لزوم العسر والحرج فغير مقبول.

مسألة [٦] :

ذهب والدي عليه الرحمة إلى أنّ استواء سطح الماء غير معتبر في الكرّ

فلو بلغ الماء المتواصل المختلف السطوح كرّا لم ينفعل شي‌ء منه بالملاقاة (٣) ، سواء في ذلك الأعلى والأسفل (٤).

واحتجّ له بعموم ما دلّ على عدم انفعال مقدار الكرّ بملاقاة النجاسة ، وذكر أنّ كلام أكثر الأصحاب خال من تقييد الكرّ المجتمع بكون سطوحه مستوية ، وعدّ منهم العلّامة (٥) رحمه‌الله فإنّه أطلق في كتبه الحكم في مسألة الغديرين الموصول بينهما بساقية ، ومسألة القليل الواقف إذا اتّصل بالجاري ، حيث حكم باتّحاد الغديرين مع الساقية ، فمتى كان المجموع كرّا لم ينفعل بالملاقاة. وكذا في القليل المتّصل بالجاري.

ثمّ عزى إلى جماعة من متأخّري الأصحاب اضطراب الفتوى في ذلك ، ولم أره إلّا في كلام الشهيد رحمه‌الله فإنّه قال في الدروس :

__________________

(١) رجال النجاشي : ١٥٩.

(٢) ذهب في المقدّمة ـ في مبحث الأخبار ـ إلى عدم الاكتفاء بتزكية الواحد العالم بها.

(٣) في « ب » : لم ينقل نجاسة بالملاقاة.

(٤) روض الجنان : ١٣٦.

(٥) تحرير الأحكام ١ : ٤ ، الطبعة الحجرية.

١٣٧

« لو كان الجاري لا عن مادّة ، ولاقته النجاسة ، لم ينجس ما فوقها مطلقا ولا ما تحتها إن كان جميعه كرّا فصاعدا إلّا مع التغيّر » (١).

فأطلق الحكم بعدم نجاسة ما تحت موضع ملاقاة النجاسة إذا كان مجموع الماء بلغ مقدار الكرّ ولم يشترط استواء السطوح. ثمّ قال بعد ذلك بقليل :

« لو اتّصل الواقف بالجاري اتّحدا مع مساواة سطحهما ، أو كون الجاري أعلى لا العكس ».

فاعتبر في صدق الاتّحاد مساواة السطحين أو علوّ الكثير. وبمثل هذا صرّح في الذكرى (٢) والبيان (٣).

قال في الذكرى بعد أن حكم (٤) بأنّ اتّصال القليل النجس بالكثير مماسّة لا يطهره :

« ولو كانت الملاقاة ـ يعني ملاقاة النجاسة للقليل ـ بعد الاتصال ولو بساقية لم ينجس القليل مع مساواة السطحين أو علوّ الكثير » (٥).

وفي البيان : « لو اتّصل الواقف القليل بالجاري واتّحد سطحهما ، أو كان الجاري أعلى اتّحدا ، ولو كان الواقف أعلى فلا » (٦).

وأما ما ذكره من اطلاق العلّامة الحكم فهو كذلك في أكثر كتبه ، ولكنّه

__________________

(١) الدروس الشرعيّة ١ : ١١٩ ، الطبعة المحقّقة لمؤسّسة النشر الإسلامي.

(٢) ذكرى الشيعة : ٢٩ ، الطبعة الحجرية.

(٣) البيان : ٤٤.

(٤) في « أ » : بعد حكمه.

(٥) ذكرى الشيعة : ٢٩.

(٦) البيان : ٤٤.

١٣٨

في التذكرة قيّده حيث قال في مسألة الغديرين :

« لو وصل بين الغديرين بساقية اتّحدا إن اعتدل الماء ، إلّا في حقّ السافل ، فلو نقص الأعلى عن كرّ انفعل بالملاقاة » (١).

والمحقّق رحمه‌الله أطلق الحكم في هذه المسألة ؛ فإنّه قال في المعتبر :

« الغديران الطاهران إذا وصل بينهما بساقية صارا كالماء الواحد ، فلو وقع في أحدهما نجاسة لم ينجس ولو نقص كلّ واحد منهما عن الكرّ إذا كان مجموعهما مع الساقية كرّا فصاعدا » (٢).

إلّا أنه قال بعد ذلك : « لو نقص الغدير عن كرّ فنجس فوصل بغدير فيه كرّ ففي طهارته تردّد ، الأشبه بقاؤه على النجاسة ؛ لأنّه ممتاز عن الطاهر » (٣).

وهذا الكلام كما ترى يؤذن بفرضه الحكم في غديرين سطحهما مستو ، فيخرج الكلام عن الإطلاق (٤). هذا.

وليس اعتبار المساواة في الجملة بالبعيد ؛ لأنّ ظاهر أكثر الأخبار المتضمّنة لحكم الكرّ اشتراطا وكمّية اعتبار الاجتماع في الماء وصدق الوحدة والكثرة عليه ، وفي تحقّق ذلك مع عدم المساواة ـ في كثير من الصور ـ نظر.

والتمسّك في عدم اعتبارها بعموم ما دلّ على عدم انفعال مقدار الكرّ بملاقاة النجاسة مدخول ؛ لأنّه من باب المفرد المحلّى ، وقد بيّنا في المباحث الاصوليّة :

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٣ ، طبعة مؤسسة آل البيت.

(٢) المعتبر ١ : ٥٠.

(٣) المعتبر ١ : ٥٠.

(٤) اطلاق كلام التذكرة يقتضي الاكتفاء في عدم انفعال السافل ببلوغ المجموع كرّا. وسيأتي نقل كلامه في مادّة الحمّام. وهو يقتضي اشتراط كون المادّة وحدها كرّا. « منه رحمه‌الله ».

١٣٩

أنّ عمومه ليس من حيث كونه موضوعا لذلك على حدّ صيغ العموم ، وإنّما هو باعتبار منافاة عدم ارادته للحكم الحكمة فيصان كلام الحكيم عنه.

وظاهر أنّ منافاة الحكمة إنّما يتصوّر حيث ينتفي احتمال العهد. ولا ريب أنّ تقدّم السؤال عن بعض أنواع الماهيّة عهد ظاهر ، وهو في محلّ النزاع واقع ؛ إذ النصّ متضمّن للسؤال عن الماء المجتمع ، وحينئذ لا يبقى لإثبات الشمول لغير المعهود وجه.

نعم يتوجّه ثبوت العموم في ذلك المعهود بأقلّ ما يندفع به محذور منافاة الحكمة.

وربّما يتوهّم أنّ هذا من قبيل تخصيص العام ببنائه (١) على سبب خاصّ ، وهو مرغوب عنه (٢) في الاصول.

وبما حقّقناه يعلم أنّه لا عموم في أمثال موضع النزاع على وجه يتطرّق إليه التخصيص.

فإن قلت : هذا الاعتبار يقتضي انفعال غير المستوي مطلقا ، مع أنّ الذاهبين إلى اعتبار المساواة مصرّحون بعدم انفعال القليل المتّصل بالكثير إذا كان الكثير أعلى. وقد سبق نقله عن البيان والذكرى (٣) فما الوجه في ذلك؟ وكيف حكموا بالاتحاد مع علوّ الكثير ، ونفوه في عكسه ، والمقتضي للنفي على ما ذكرت موجود فيهما؟

قلت : لعلّ الوجه فيه أنّ المقتضي لعدم انفعال النابع بالملاقاة هو وجود المادّة له ـ على ما يأتي تحقيقه ـ ولا ريب أنّ تأثير المادّة إنّما هو باعتبار إفادتها

__________________

(١) في « أ » : لبنائه. وفي « ب » : ببيانه.

(٢) في « ب » : وهو مبحوث عنه.

(٣) راجع الصفحة ١٣٨.

١٤٠