معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ١

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي

معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي


المحقق: السيد منذر الحكيم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
ISBN: 964-91559-5-3
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

يشرب من الإناء؟ قال : اغسل الإناء. وعن السنّور؟ قال : لا بأس أن تتوضّأ من فضلها ، إنّما هي من السباع » (١).

ورواية أبي الصباح عنه عليه‌السلام قال : « كان علي عليه‌السلام يقول : لا تدع فضل السنّور أن تتوضّأ منه ، إنّما هي سبع » (٢).

ولا يخفى أنّ قوله في هاتين الروايتين « إنّما هي من السباع ، وإنّما هي سبع » يشعر بنوع من التعميم.

وقد جعل في المنتهى الرواية الثانية دليلا على طهارة سؤر السباع. ووصف طريقها بالصحّة (٣).

وفيه نظر ؛ لأنّ فيه محمّد بن الفضيل. وقد ذكر في الخلاصة جماعة من الضعفاء بهذا الاسم ، ولا قرينة على التميّز (٤).

وصحيحة زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « كان في كتاب عليّ : أنّ الهرّة سبع ولا بأس بسؤره ، وإنّي لأستحيي من الله أن أدع طعاما لأنّ الهرّ قد أكل منه » (٥).

وصحيحة جميل بن درّاج قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن سؤر الدوابّ والغنم والبقر ، أيتوضّأ منه ويشرب؟ فقال : لا بأس » (٦).

__________________

(١) الاستبصار ١ : ١٨ ، الحديث ٣٩.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٧ ، الحديث ٦٥٣.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٥٠.

(٤) خلاصة الأقوال : ٢٥١.

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٧ ، الحديث ٦٥٥.

(٦) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٧ ، الحديث ٦٥٧.

٣٦١

وروى الشيخ عن عمّار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سئل عمّا يشرب منه باز أو صقر أو عقاب فقال : « كلّ شي‌ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه إلّا أن ترى في منقاره دما ، فإن رأيت في منقاره دما فلا توضّأ منه ولا تشرب » (١).

وفي الصحيح عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « إنّ أبا جعفر كان يقول : لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن تشرب منه وتتوضّأ منه » (٢).

وبهاتين الروايتين احتجّ الشيخ في الاستبصار للاستثناء الذي حكيناه عنه.

واحتجّ للمنع من سؤر غير المأكول بما رواه عمّار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أسأل عن ما يشرب منه الحمام؟ فقال : كلّ ما يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب » (٣).

قال الشيخ رحمه‌الله : هذا يدلّ على أنّ ما لا يؤكل لحمه لا يجوز التوضّؤ به والشرب منه ؛ لأنّه إذا شرط في استباحة سؤره أن يؤكل لحمه دلّ على أنّ ما عداه بخلافه. ويجري هذا مجرى قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في سائمة الغنم الزكاة ، فإنّه يدلّ على أن المعلوفة ليس فيها الزكاة (٤).

وهذه الحجّة ضعيفة.

أمّا أوّلا : فلابتنائها على أنّ مفهوم الوصف حجّة ، وقد قدّمنا البحث فيه ،

__________________

(١) الاستبصار ١ : ٢٥ ، الحديث ٦٤.

(٢) الاستبصار ١ : ٢٥ ، الحديث ٦٥.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٨ ، الحديث ٦٦٠.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٤ ، ذيل الحديث ٦٤٢.

٣٦٢

وبيّنا أنّ الحقّ عدم حجيّته.

وأمّا ثانيا : فلأنّ سند الرواية مشتمل على جماعة من الفطحيّة وقد مرّ بيان ضعف القول بقبول رواية أمثالهم.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المحقّق رحمه‌الله بعد ردّه لاحتجاج الشيخ بهذه الرواية هنا وطعنه فيها بضعف السند احتجّ لطهارة سؤر الطيور برواية عمّار السابقة المتضمّنة للسؤال عمّا يشرب منه الباز أو الصقر والعقاب. ثمّ اعترض بأنّ عمّار فطحيّ ، فلا يعمل بروايته. وأجاب بأنّ الوجه الذي لأجله عمل برواية الثقة قبول الأصحاب أو انضمام القرينة لأنّه لو لا ذلك لمنع العقل من العمل بخبر الثقة ، إذ لا قطع بقوله. وهذا المعنى موجود هنا ؛ فإنّ الأصحاب عملوا بمثل هذه الرواية ، كما عملوا هناك. قال : ولو قيل : فقد ردّوا رواية مثله في بعض المواضع؟ قلنا : كما ردّوا رواية الثقة في بعض المواضع متعلّلين بأنّه خبر واحد ، ثمّ قال : على أنّا لم نر من فقهائنا من ردّ هذه الرواية ، بل عمل المعتبر منهم بمضمونها (١).

وهذا الكلام مخالف بظاهره ما حكيناه عنه في بحث الأخبار من مقدّمة الكتاب حيث قال : « إنّ الشيخ ادّعى عمل الطائفة بخبر الفطحيّة ومن ضارعهم ، وأنّه لم يعلم إلى الآن أنّ الطائفة عملت بأخبار هؤلاء » (٢).

ولعلّه يريد هنا بقبول الأصحاب للرواية وعملهم بها مجرّد موافقة فتواهم لها ، لا كونها مستندة إليها. لكنّا قد حكينا عنه في تتمّة مسائل البئر كلاما

__________________

(١) المعتبر ١ : ٩٤.

(٢) المعتبر ١ : ٣٠.

٣٦٣

في معنى ما ذكره هنا (١) ، وهو صريح في المخالفة لما قرّره في الاصول غير قابل للتأويل. وظاهر الحال أنّ مراده في الموضعين واحد.

والعلّامة في المختلف ردّ حجّة الشيخ بضعف السند ، وكونها مبنيّة على المفهوم الضعيف. ثمّ حاول الجواب عنها بوجه آخر دقّق فيه ، وذكر أنّه ملخّص ممّا أفاده في كتاب استقصاء الاعتبار في تحقيق معاني الأخبار ، فقال :

« إذا سلّمنا كون المفهوم المذكور حجّة يكفي في دلالته مخالفة المسكوت عنه للمنطوق في الحكم الثابت للمنطوق. وهنا الحكم الثابت للمنطوق الوضوء بسؤر ما يؤكل لحمه والشرب منه وهو لا يدلّ على أنّ كلّ ما لا يؤكل لحمه لا يتوضّأ منه ولا يشرب ، بل جاز اقتسامه إلى قسمين أحدهما يجوز الوضوء به والشرب منه والآخر لا يجوز. فإنّ الاقتسام حكم مخالف لأحد القسمين. ونحن نقول بموجبه ؛ فإنّ ما لا يؤكل لحمه منه الكلب والخنزير ولا يجوز الوضوء بسؤرهما ولا شربه ، والباقي يجوز.

لا يقال : لو ساوى أحد قسمي المسكوت عنه المنطوق في الحكم لانتفت دلالة المفهوم ونحن إنّما استدللنا بالحديث على تقديره.

لأنّا نقول : لا نسلّم انتفاء الدلالة لحصول التنافي بين المنطوق والكلّ المسكوت عنه (٢). هذا كلامه.

وعندي فيه نظر ؛ لأنّ فرض حجّيّة المفهوم يقتضي كون الحكم الثابت للمنطوق منفيّا عن غير محلّ النطق ، والمعنيّ بالمنطوق في مفهومي الوصف والشرط ما يتحقّق فيه القيد المعتبر شرطا أو وصفا ممّا جعل متعلّقا له ، وبغير

__________________

(١) المعتبر ١ : ٧٣.

(٢) مختلف الشيعة : ١ : ٢٣٠.

٣٦٤

محلّ النطق ما ينتفي فيه القيد من ذلك المتعلّق.

ولا يخفى أنّ متعلّق القيد هنا قوله : « كلّ ما » أي كلّ حيوان ، والقيد المعتبر وصفا هو كونه « مأكول اللحم » ، فالمنطوق هو مأكول اللحم من كلّ حيوان ، والحكم الثابت له هو جواز الوضوء من سؤره والشرب ، وغير محلّ النطق ما انتفى عنه الوصف وهو عبارة عن غير مأكول اللحم من كلّ حيوان ، وانتفاء الحكم الثابت للمنطوق عنه يقتضي ثبوت المنع ؛ لأنّه اللازم لرفع الجواز ، وذلك واضح ، وإن قدّر عروض اشتباه فيه فليوضح بالنظر في مثاله المشهور الذي أشار إليه الشيخ أعني قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « في سائمة الغنم الزكاة » ، فإنّه على تقدير اعتبار المفهوم فيه يدلّ على نفي الوجوب في مطلق الغنم المعلوفة بلا إشكال.

ووجهه بتقريب ما ذكرناه : أنّ التعريف في الغنم للعموم وهو متعلّق القيد أعني وصف السوم فالمنطوق هو السائم من جميع الغنم ، والحكم الثابت له هو وجوب الزكاة فإذا فرضنا دلالة الوصف على النفي عن غير محلّه كان مقتضاه هنا نفي الوجوب عمّا انتفى عنه الوصف من جميع الغنم ، وذلك بثبوت نقيضه الذي هو العلف ، فيدلّ على النفي عن كلّ معلوف من الغنم. فتأمّل هذا. وباقي الأقوال التي حكيت في هذا الباب لم ينقل لها حجج فكلفة البحث فيها عنّا ساقطة.

فروع :

[ الفرع ] الأوّل :

ذهب الفاضلان وجماعة من الأصحاب إلى كراهة سؤر الجلّال (١) : وهو ما يأكل العذرة محضا.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٩٧ ، وتذكرة الفقهاء ١ : ٤٢.

٣٦٥

وحكاه في المعتبر عن المرتضى في جمل العلم والعمل (١). وقد سبق في حكاية كلامه في المصباح أنّه استثناء من المباح ، وابن الجنيد اشترط في طهارة السؤر ـ كما نقلناه عنه آنفا ـ عدم كون الحيوان جلّالا (٢). ويعزّ إلى الشيخ في المبسوط استثناؤه من المباح (٣) كما فعله المرتضى ، ولم نقف لما قالوه على حجّة.

والأصل ـ بتقريبه السابق ـ مضافا إلى عموم الأخبار المتقدّمة يقتضي الطهارة.

وقد يقال : إنّ رطوبة أفواهها ينشأ عن غذاء نجس فيجب الحكم بالنجاسة.

وردّه المحقّق بمنع الملازمة ، وبالنقض ببصاق من شرب الخمر إذا لم يتغيّر ، وبما لو أكلت غير العذرة ممّا هو بخس وما ذكره متّجه (٤).

وعلى كلّ حال فلا بأس بالقول بالكراهة. والاحتياط لخلاف الجماعة.

[ الفرع ] الثاني :

قال المحقّق في المعتبر : « يكره سؤر ما أكل الجيف من الطير إذا خلا موضع الملاقاة من النجاسة. ولا يحرم. وبه قال علم الهدى قدس‌سره في المصباح » (٥). وحكي عن الشيخ استثناؤه من المباح. وقد سبق نقل ذلك عنه.

ثمّ احتجّ المحقّق لما صار إليه من نفي التحريم بأنّ الإذن في استعمال سؤر

__________________

(١) المعتبر ١ : ٩٧.

(٢) راجع الصفحة : ٢٤٨.

(٣) المبسوط ١ : ١٠.

(٤) المعتبر ١ : ٩٧.

(٥) المعتبر ١ : ٩٨.

٣٦٦

الطيور والسباع يدلّ على ذلك ؛ لأنّها لا تنفكّ عنه عادة (١). وتبعه على المدّعى والدليل العلّامة في المنتهى (٢). ووافقهما على القول بالكراهة جماعة أيضا ، وله وجه.

وما ذهب إليه الشيخ لا نعرف له حجّة.

[ الفرع ] الثالث :

قال العلّامة أعلى الله مقامه في النهاية : لو تنجّس فم الهرّة بسبب كأكل فأرة وشبهه ، ثمّ ولغت في ماء قليل ونحن نتيقّن نجاسة فمها ، فالأقوى النجاسة ؛ لأنّه ماء قليل لاقى نجاسة ، والاحتراز يعسر عن مطلق الولوغ لا عن الولوغ بعد تيقّن نجاسة الفم.

ولو غابت عن العين ، واحتمل ولوغها في ماء كثير أو جار لم ينجس ؛ لأنّ الإناء معلوم الطهارة ، فلا يحكم بنجاسته بالشكّ (٣).

وهذا الكلام مشكل ؛ لأنّا إمّا أن نكتفي في طهر فمها بمجرّد زوال عين النجاسة ، أو نعتبر فيه ما يعتبر في تطهير المنجّسات من الطرق المعهودة شرعا.

فعلى الأوّل لا حاجة إلى اشتراط غيبتها ، وعلى الثاني ـ وهو الذي يظهر من كلامه الميل إليه ـ ينبغي أن لا يكتفى بمجرّد الاحتمال لا سيّما مع بعده ، بل يتوقّف الحكم بالطهارة على العلم بوجود سببها كغيره.

والظاهر أنّ الضرورة قاضية بعدم اعتبار ذلك شرعا ، وعموم الأخبار السابقة يدلّ على خلافه ؛ فإنّ إطلاق الحكم بطهارة سؤر الهرّ فيها من دون

__________________

(١) المعتبر ١ : ٩٨.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٦١.

(٣) نهاية الإحكام ١ : ٢٣٩.

٣٦٧

الاشتراط بشي‌ء مع كون الغالب فيه عدم الانفكاك من أمثال هذه الملاقاة دليل على عدم اعتبار أمر آخر غير ذهاب العين.

ولو فرضنا عدم دلالة الأخبار على العموم فلا ريب أنّ الحكم بتوقّف الطهارة في مثلها على التطهير المعهود شرعا منفيّ قطعا. والواسطة بين ذلك وبين زوال العين يتوقّف على الدليل ، ولا دليل.

وقد اكتفى في المنتهى بزوال العين عن فمها ، فقال ـ بعد أن ذكر كراهة سؤر آكل الجيف وبيّن وجهه ـ : « وهكذا سؤر الهرّة وإن أكلت الميتة وشربت ، قلّ الماء أو كثر غابت عن العين أو لم تغب ؛ لعموم الأحاديث المبيحة » (١). وحكى ما ذكره في النهاية عن بعض أهل الخلاف (٢).

وقال الشيخ في الخلاف : « إذا أكلت الهرّة فأرة ثمّ شربت من الإناء فلا بأس بالوضوء من سؤرها. وحكى عن بعض العامّة أنّه قال : إن شربت قبل أن تغيب عن العين لا يجوز الوضوء به. ثمّ قال الشيخ : والذي يدلّ على ما قلناه إجماع الفرقة على أنّ سؤر الهرّ طاهر ولم يفصّلوا » (٣).

وقال المحقّق : « إذا أكلت الهرّة ميتة ثمّ شربت لم ينجس الماء وإن قلّ ، سواء غابت أو لم تغب ، ذكره في المبسوط لعموم الأحاديث المبيحة سؤر الهرّ. منها : رواية زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام من كتاب علي عليه‌السلام : « إنّ الهرّ سبع » (٤). وذكر الرواية وقد تقدّمت.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٦١.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٣٥.

(٣) الخلاف ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

(٤) المعتبر ١ : ٩٩ ، والرواية في الكافي ٣ : ٩ ، الحديث ٤.

٣٦٨

[ الفرع ] الرابع :

المشهور كراهة سؤر البغال والحمير ، وعمّم جماعة الحكم في كلّ مكروه اللحم. وعلّل على التقديرين بأنّ فضلات الفم التي لا ينفكّ (١) عنها تابعة للّحم. ولم ينقل في ذلك حديث ، بل الأخبار السابقة مصرّحة بنفي البأس عنه كرواية الفضل (٢) وصحيحة جميل بن درّاج (٣).

وقيل بكراهة كلّ حيوان غير مأكول. وفيه خروج من خلاف الشيخ.

ويدلّ عليه ما رواه الكليني في الحسن عن الوشّاء عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « أنّه كان يكره سؤر كلّ شي‌ء لا يؤكل لحمه » (٤).

[ الفرع ] الخامس :

أطلق العلّامة وغيره كراهة سؤر الدجاج ، وعلّل بعدم انفكاك منقارها غالبا من النجاسة.

وحكى في المعتبر عن الشيخ في المبسوط أنّه قال : يكره سؤر الدّجاج على كلّ حال.

قال المحقّق : « وهو حسن إن قصد المهملة ؛ لأنّها لا تنفكّ من الاغتذاء بالنجاسة » (٥). وما شرطه في الحسن هو الحسن.

__________________

(١) في « ب » و « ج » : التي لا تنفكّ عنها.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٥٥ ، الحديث ٦٤٦.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٧ ـ ٢٢٨ ، الحديث ٦٥٧.

(٤) الكافي ٣ : ١٠ ، الحديث ٧.

(٥) المعتبر ١ : ٩٩ ـ ١٠٠.

٣٦٩

[ الفرع ] السادس :

قال في المعتبر : « لا بأس بسؤر الفأرة والحيّة. وكذا لو وقعتا في الماء وخرجتا ».

وحكى عن الشيخ أنّه قال في النهاية : « الأفضل ترك استعماله ».

ثمّ احتجّ المحقّق لما ذكره برواية إسحاق بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « أنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : لا بأس بسؤر الفأرة إذا شربت من الإناء أن تشرب منه وتتوضّأ منه » (١). وقد تقدّمت.

وهذه الرواية إنّما تدلّ على نفي البأس. والشيخ صرّح به قبل العبارة التي حكاها عنه المحقّق حيث قال : « إذا وقعت الفأرة والحيّة في الآنية أو شربتا منها ثمّ خرجتا لم يكن به بأس. والأفضل ترك استعماله على كلّ حال » (٢).

نعم يتوجّه عليه المطالبة بدليل ما ذكره من أفضليّة ترك الاستعمال. ولعلّه نظر في الفأرة إلى ما سيأتي في باب النجاسات ـ إن شاء الله ـ من دلالة بعض الأخبار على رجحان الغسل ممّا لاقته برطوبة ، وفي الحيّة إلى ما نخشى من تأثير سمّها في الماء ؛ فإنّ ذلك ونحوه كاف في أفضليّة العدول عن الماء إلى غيره.

مسألة [٣] :

قال الشيخ في النهاية : « يكره استعمال سؤر الحائض إذا كانت متّهمة

__________________

(١) المعتبر ١ : ١٠٠ ، وتهذيب الأحكام ١ : ٤١٩ ، الحديث ١٣٢٣.

(٢) النهاية ونكتها ١ : ٢٠٦.

٣٧٠

فإن كانت مأمونة فلا بأس » (١).

ويحكى عن المبسوط أنّه أطلق فيه كراهة سؤرها (٢). وكذا المرتضى في المصباح (٣) ، وكلام ابن الجنيد في ذلك مطلق أيضا. واختار الفاضلان والشهيدان مختار النهاية (٤). واستوجه بعض من عاصرناه من مشايخنا قول المبسوط.

احتجّوا للأوّل : بما رواه الشيخ عن علي بن يقطين عن أبي الحسن عليه‌السلام : « في الرجل يتوضّأ بفضل الحائض قال : إذا كانت مأمونة فلا بأس » (٥).

وعن عيص بن القاسم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن سؤر الحائض قال : « توضّأ منه وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مأمونة وتغسل يدها قبل أن تدخلها الإناء وقد كان رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يغتسل هو وعائشة في إناء واحد ولا (٦) يغتسلان جميعا » (٧).

وبأنّ المراد بالمأمونة المتحفّظة من الدم وبالمتّهمة ضدّها أي التي لا تتحفّظ من نجاسة ولا تبالي بها. ولا ريب أنّ تطرّق ظنّ النجاسة الذي هو المقتضي للكراهة هنا ـ استظهارا للعبادة واحتياطا لها ـ إنّما يتأتّى مع عدم التحفّظ.

واحتجّوا للثاني : بإطلاق كثير من الأخبار الواردة بالنهي عن سؤرها ،

__________________

(١) النهاية ونكتها ١ : ٢٠٥ و ٢٠٦.

(٢) المبسوط ١ : ١٠.

(٣) المعتبر ١ : ٩٩.

(٤) المعتبر ١ : ٩٩ ، ومختلف الشيعة ١ : ٢٣٢ ، واللمعة الدمشقية.

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢١ ، الحديث ٦٣٢.

(٦) في « أ » و « ج » : ويغتسلان جميعا.

(٧) الكافي ٣ : ١٠ ، الحديث ٢.

٣٧١

كرواية عنبسة بن مصعب عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سؤر الحائض يشرب منه ولا يتوضّأ به » (١).

ورواية الحسين بن أبي العلاء عنه عليه‌السلام في الحائض : « يشرب من سؤرها ولا يتوضّأ منه » (٢).

ورواية أبي بصير عنه عليه‌السلام قال : « سألته ، هل يتوضّأ من فضل الحائض؟ قال : لا » (٣).

وأجاب الأوّلون بأنّ هذا المطلق محمول على ذلك المقيّد جمعا بين الأخبار ، ولا بأس به.

غير أنّ الروايات بأجمعها غير نقيّة الأسناد.

والخبر الثاني من الحجّة الاولى مرويّ في الكافي بطريق جيّد ربّما عدّ في الصحيح. وفيه زيادة تخرج بسببها عن التقييد إلى الإطلاق ؛ فإنّه رواه هكذا : « وسألته عن سؤر الحائض فقال : لا تتوضّأ منه وتوضّأ من سؤر الجنب إذا كانت مؤمنة وتغسل يديها » (٤). الحديث.

ومع ذلك فالتقييد أولى ؛ لتوقّف الإطلاق على سلامة الطريق ولو في بعض أخباره وهو محلّ نظر. وليس التقييد بمتوقّف على ذلك لاتّفاق الكلّ عليه ومساعدة الوجه الاعتباري الذي ذكر في حجّته على المصير إليه.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٢ ، الحديث ٦٣٤.

(٢) الكافي ٣ : ١٠ ، الحديث ٣.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٢ ، الحديث ٦٣٦.

(٤) الكافي ٣ : ١٠ ، الحديث ٣.

٣٧٢

فرع :

ألحق الشهيد في البيان بالحايض ـ بناء على ما اختاره من التقييد بالتهمة ـ كلّ متّهم (١). واستحسنه والدي قدس‌سره في الروضة وبعض مشايخنا المعاصرين (٢). وتنظّر فيه الشيخ علي في بعض فوائده. وللنظر مجال ، وإن كان للإلحاق في الجملة وجه.

مسألة [٤] :

قال المحقّق في المعتبر : « لا بأس أن يستعمل الرجل فضل وضوء المرأة إذا لم يلاق نجاسة عينيّة. وكذا الرجل ، لما ثبت من بقائه على التطهير » (٣). وهو حسن.

وليس يعرف فيه بين الأصحاب خلاف. بل ادّعى عليه الشيخ في الخلاف إجماع الفرقة (٤). وإنّما خالف فيه بعض العامّة فقال بكراهة فضل المرأة إذا خلت به استنادا إلى حجّة ضعيفة لا تغني عندنا من جوع. ذكر ذلك الفاضلان (٥).

قال الشيخ في الخلاف بعد أن احتجّ للحكم بالإجماع كما حكيناه : وروى ابن مسكان عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « قلت له : أيتوضّأ الرجل بفضل المرأة؟ قال : نعم إذا كانت تعرف الوضوء وتغسل يدها قبل أن تدخلها

__________________

(١) البيان : ١٠١.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ١ : ٢٩٥.

(٣) المعتبر ١ : ١٠٠.

(٤) الخلاف ١ : ١٢٨ ، المسألة ٧٢.

(٥) المعتبر ١ : ١٠٠ ، ومنتهى المطلب ١ : ١٦٤.

٣٧٣

في الإناء » (١).

وكأنّ الشيخ أخذ هذه الرواية من كتاب ابن مسكان إذ لم أرها في كتب الحديث المشهورة ، ولا ذكرها المحقّق ولا العلّامة في المنتهى مع محافظته فيه على استقصاء الأخبار في أكثر المسائل كما مرّت الإشارة إليه.

نعم روى الكليني في الكافي عن ابن أبي يعفور قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : أيتوضّأ الرجل من فضل المرأة؟ قال : إذا كانت تعرف الوضوء » (٢).

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ العلّامة سوّى في هذا الحكم بين فضل الوضوء والغسل. ولم يتعرّض الشيخ ولا المحقّق لفضل الغسل على ما وجدت.

وقال الصدوق في المقنع ومن لا يحضره الفقيه : « ولا بأس أن تغتسل المرأة وزوجها من إناء واحد ولكن تغتسل بفضله ولا يغتسل بفضلها » (٣).

وجملة ما وقفت عليه في هذا الباب من الأخبار ثلاثة أحاديث :

أحدها : رواه الشيخان في الكافي والتهذيب عن محمّد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما‌السلام قال : « سألته عن وقت غسل الجنابة كم يجزي من الماء؟ فقال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يغتسل بخمسة أمداد بينه وبين صاحبته ويغتسلان جميعا من إناء واحد » (٤).

والثاني : رواه في الكافي بالطريق الذي أشرنا إلى جودته في المسألة

__________________

(١) الخلاف ١ : ١٢٩.

(٢) الكافي ٣ : ١١ ، الحديث ٤.

(٣) المقنع : ٤٠ ، ومن لا يحضره الفقيه ١ : ١٧.

(٤) الكافي ٣ : ٢٢ ، الحديث ٥ ، وتهذيب الأحكام ١ : ١٣٧ ، الحديث ٣٨٢.

٣٧٤

السابقة ، عن العيص بن القاسم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : هل يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد؟ فقال : نعم يفرغان على أيديهما قبل أن يضعا أيديهما في الإناء ».

وقال في آخر الحديث : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يغتسل هو وعائشة في إناء واحد يغتسلان جميعا » (١).

والثالث : رواه الشيخ في الصحيح عن زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنّهما قالا : « توضّأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واغتسل بصاع. ثمّ قال : اغتسل هو وزوجته بخمسة أمداد من إناء واحد ».

قال زرارة فقلت : كيف صنع هو؟ قال : بدأ هو فضرب بيده في الماء قبلها وأنقى فرجه ثمّ ضربت فأنقت فرجها ، ثمّ أفاض هو وأفاضت هي على نفسها حتّى فرغا » (٢). الحديث.

وظاهر هذه الأخبار يشهد لما ذكره العلّامة.

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٠ ، الحديث ٢.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٣٧٠ ، الحديث ١١٣٠.

٣٧٥
٣٧٦

البحث السادس

في

المشتبه

مسألة [١] :

لا نعلم خلافا بين علمائنا في أنّ الماء إذا كان طاهرا وهو في إناء واشتبه بماء نجس في إناء آخر وجب اجتنابهما.

واحتجّ له المحقّق بعد دعوى الاتّفاق عليه بأنّ يقين الطهارة في كلّ منهما معارض بيقين النجاسة ، ولا رجحان فيتحقّق المنع (١).

واستدلّ له الشيخ في التهذيب بما رواه عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل قال : « سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر. لا يدري أيّهما هو وليس يقدر على ماء غيره؟ قال : يهريقهما جميعا ويتيمّم » (٢).

وما رواه سماعة قال : « سألت أبا عبد الله عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر لا يدري أيّهما هو وليس يقدر على غيره. قال : يهريقهما

__________________

(١) المعتبر ١ : ١٠٣.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٤٨ ، الحديث ٧١٢.

٣٧٧

ويتيمّم » (١).

وفي طريق هاتين الروايتين ضعف بجماعة من الفطحيّة والواقفيّة.

واحتجاج المحقّق بمعارضة كلّ من اليقينين بالآخر يلوح عليه علم المنع ؛ فإن يقين الطهارة في كلّ واحد بانفراده إنّما يعارضه الشكّ في النجاسة لا اليقين.

وقد ذكر العلّامة في المنتهى وجهين آخرين في الاستدلال من جهة الاعتبار وهما من الركاكة بمكان (٢). فلذلك لم نذكرهما.

وعلى كلّ حال : فهذا الحكم ليس فيه للتوقّف مجال بعد حكاية المحقّق الاتّفاق.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الاشتباه الذي له تأثير في الماء ولو على بعض الوجوه قد يعرض بغير النجس كالمستعمل على القول بالمنع منه ، والمضاف والمغصوب. ولكن ليس البحث في ذلك هاهنا بمناسب وإن تكرّر في كلام الأصحاب ؛ إذ محلّه اللائق به باب التيمّم. فالأولى تأخير البحث في ذاك إلى هناك.

فروع :

[ الفرع ] الأوّل :

أوجب جماعة من الأصحاب ، منهم الصدوقان والشيخان في ظاهر كلامهم إهراق الماء عند اشتباهه بالنجس (٣). إلّا أنّ كلام الصدوقين ربّما أشعر باختصاص الحكم بحال إرادة التيمّم ، حيث قالا في الرسالة ومن لا يحضره الفقيه : « فإن كان معك إناءان فوقع في أحدهما ما ينجّس الماء ولم تعلم

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٤٩ ، الحديث ٧١٣.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٧٦.

(٣) المقنع : ٢٨ ، باب التيمّم ، ومن لا يحضره الفقيه ١ : ٧.

٣٧٨

في أيّهما وقع فاهرقهما جميعا وتيمّم » (١).

وكلام المفيد في المقنعة صريح في عدم التقييد ؛ فإنّه قال : « ولو أنّ إنسانا كان معه إناءان فوقع في أحدهما ما ينجّسه ولم يعلم في أيّهما هو ، يحرم عليه الطهور منهما جميعا ووجب عليه إهراقهما والوضوء بماء من سواهما » (٢).

وعبارة الشيخ في النهاية محتملة للأمرين ؛ لأنّه قال : « وإذا كان مع الإنسان إناءان .. إلى أن قال : وجب عليه إهراق جميعه والتيمّم للصلاة إذا لم تقدر على غيره من المياه الطاهرة » (٣).

فقوله : « إذا لم تقدر » يحتمل أن يكون شرطا لوجوب الإهراق والتيمّم معا.

ويحتمل أن يكون شرطا للتيمّم وحده. وربّما كان الاحتمال الثاني إليها أقرب.

وكأنّ الجماعة استندوا في هذا الحكم إلى الروايتين السابقتين حيث تضمّنتا الأمر بالإهراق.

قال المحقّق : « الأمر بالإراقة محتمل لأن يكون كناية عن الحكم بالنجاسة لأنّ استبقاءه قد يتعلّق به غرض كالاستعمال في غير الطهارة » (٤). ولهذا الكلام وجه لورود الأمر بالإراقة في إدخال اليد القذرة في الماء القليل وهو في عدّة أخبار ولا قائل ثمّ بالوجوب فيما نعلم. والظاهر أنّ ذلك لفهمهم منا إرادة الحكم بالنجاسة على طريق الكناية.

والنكتة في هذه الكناية هي التفخيم للمنع ، على ما ذكره المحقّق.

__________________

(١) الرسالة غير موجودة ، ومن لا يحضره الفقيه ١ : ٧ ، الحديث ٤.

(٢) المقنعة : ٦٩.

(٣) النهاية ونكتها ١ : ٢٠٧.

(٤) المعتبر ١ : ١٠٤.

٣٧٩

ويحتمل أن تكون هي النظر إلى عسر تطهيره ـ بناء على توقّفه على الامتزاج ـ فتكون مؤيّدة للقول باعتباره في حصول التطهير.

وقد أجاب في المختلف عن الاحتجاج بالروايتين في هذا الحكم بالطعن في سندهما (١) ، مع أنّه في المنتهى استدلّ بهما على أصل المسألة وذكر أنّ الضعف يندفع بتلقّي الأصحاب لهما بالقبول (٢).

وقد سبقه إلى نحو هذا الكلام المحقّق ، وحكى في المعتبر عن بعض الأصحاب تعليل وجوب الإراقة بتوقّف صحّة التيمّم عليها لأنّه مشروط بعدم الماء.

وردّه بأنّ وجود الماء الممنوع من استعماله لا يمنع التيمّم ، كالمغصوب وما يمنع من استعماله مرض أو عدوّ. ومنع الشارع أقوى الموانع (٣). وهو جيّد.

[ الفرع ] الثاني :

نصّ كثير من الأصحاب كالشيخين والفاضلين على عدم الفرق في وجوب الاجتناب مع الاشتباه بالنجس بين وقوعه في إناءين أو أكثر (٤) مع أنّ الحديثين اللذين احتجّوا بهما للحكم إنّما وردا في الإنائين ، فكأنّهم استندوا في التعميم إلى الاتّفاق.

ونبّه بعضهم على عدم الفرق بين كون المائين في إناءين أو غديرين والحال

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٢٥١.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٧٦.

(٣) المعتبر ١ : ١٠٤.

(٤) المقنعة : ٦٩. والنهاية ونكتها ١ : ٢٠٧. والمعتبر ١ : ١٠٤. ومنتهى المطلب ١ : ١٧٧ ـ ١٧٨.

٣٨٠