معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ١

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي

معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي


المحقق: السيد منذر الحكيم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
ISBN: 964-91559-5-3
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

الأكثر.

وقال في المعتبر : « إن عملنا بالخبر المتضمّن لتراوح القوم أجزأ النساء والصبيان » (١). وهو بعيد ؛ إذ لا يتبادر منه في العرف إلّا الرجال ، ولنصّ جماعة من أهل اللغة على ذلك.

قال الجوهري : القوم الرجال دون النساء (٢).

وقال ابن الأثير في النهاية : « القوم في الأصل مصدر قام فوصف به ثمّ غلب على الرجال دون النساء ، ولذلك قابلهنّ به يعني في قوله تعالى : ( لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ ) (٣).

ومنها : عدم إجزاء ما دون الأربعة وإن أمكن حصول الغرض بالاثنين الدائبين ؛ لأنّه مخالف لقوله في الحديث : « يتراوحون اثنين اثنين ».

واستقرب في التذكرة الاجتزاء بالاثنين القويّين اللذين ينهضان بعمل الأربعة (٤) ، وأمّا الزيادة عليها فأجازوها من باب مفهوم الموافقة ، إلّا أن يقتضي التكثير إلى الإبطاء وتضييع الوقت.

ومنها : تعيّن كونه في النهار فلا يجزي الليل ، ولا الملفّق منه ومن النهار ، وإن زاد عن مقدار يوم طويل ؛ اقتصارا على موضع النصّ. ولا فرق في اليوم بين الطويل والقصير ؛ للإطلاق المتناول لهما.

قال في الذكرى : والأولى استحباب تحرّي الأطول حيث لا ضرر ؛ لما فيه

__________________

(١) المعتبر ١ : ٧٧.

(٢) الصحاح ٥ : ٢٠١٦.

(٣) النهاية لابن الأثير ٤ : ١٢٤.

(٤) تذكرة الفقهاء ١ : ٢٨.

٢٦١

من المبالغة في التطهير (١).

[ المسألة ] الثالثة :

إذا تغيّر ماء البئر بالنجاسة نجس إجماعا. وفي القدر الذي يطهر به من النزح خلاف :

فالقائلون بعدم انفعاله بالملاقاة اكتفوا فيه بما يزول معه التغيّر.

وأمّا الذاهبون إلى الانفعال فلهم في المسألة أقوال :

الأوّل : نزح الجميع فإن تعذّر فالتراوح. ذهب إليه الصدوقان ويحكى عن المرتضى قدس‌سره ووافقهم سلّار (٢).

الثاني : النزح حتّى يزول التغيّر وهو قول المفيد وجماعة منهم الشهيد في البيان (٣).

الثالث : نزح الجميع فإن تعذّر فإلى أن يزول التغيّر. ذهب إليه الشيخ رحمه‌الله (٤).

الرابع : نزح الأكثر ممّا يحصل به زوال التغيّر واستيفاء المقدّر. وهو قول ابن زهرة ، واختاره الشهيد في الذكرى (٥).

الخامس : نزح أكثر الأمرين من المقدّر ومزيل التغيّر إن كان للنجاسة المغيّرة مقدّر ، وإلّا فالجميع ، فإن تعذّر فالتراوح. ذهب إليه ابن إدريس ووافقه

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ١٠.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٩. ومختلف الشيعة ١ :. والانتصار : ١١. والمراسم : ٣٥.

(٣) المقنعة : ٦٦. والبيان : ٩٩.

(٤) النهاية ونكتها ١ : ٢٠٩.

(٥) غنية النزوع : ٤٩٠ من الجوامع الفقهيّة ، الطبعة الحجريّة. وذكرى الشيعة : ٩.

٢٦٢

من المتأخّرين الشيخ علي تفريعا على القول بالانفعال (١) ؛ فإنّه لا يقول به. وهو اختيار والدي في شرح الإرشاد حيث قال فيه بالانفعال (٢).

السادس : نزح الجميع فإن غلب الماء اعتبر أكثر الأمرين من زوال التغيّر والمقدّر. ذهب إليه الشهيد في الدروس (٣). وكلام المحقّق في المعتبر محتمل لهذا القول (٤) ، ولإيجاب نزح الجميع فإن تعذّر نزح حتّى يزول التغيّر ثمّ يستوفى المقدّر. وأرى الاحتمال الأوّل إلى عبارته أقرب.

وربما نسب إليه القول بنزح ما يزيل التغيّر أوّلا ثمّ المقدّر بعده إن كان لتلك النجاسة مقدّر وإلّا فالجميع ، وإن تعذّر فالتراوح. ولا نعرف لهذه النسبة وجها. وقد اختار مضمونها بعض مشايخنا الذين عاصرناهم فيصير قولا سابعا.

والثامن : نزح أكثر الأمرين ممّا يزول معه التغيّر ويستوفى به المقدّر إن كان هناك تقدير ، وإلّا اكتفي بزوال التغيّر. ذهب إليه بعض فضلاء المتأخّرين.

وهذا القول هو الأقوى عندي بناء على القول بالانفعال.

لنا : إنّ زوال التغيّر كاف في رفع الأثر الثابت باعتباره ، كما دلّ عليه صحيح محمّد بن إسماعيل بن بزيع السابق في الاحتجاج للقول بعدم انفعال البئر بالملاقاة حيث قال فيه : « إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتّى يذهب الريح ويطيب طعمه ؛ لأنّ له مادّة » (٥).

__________________

(١) السرائر ١ : ٧١. جامع المقاصد ١ : ١٣٧.

(٢) روض الجنان : ١٤٣ ، الطبعة الحجريّة.

(٣) الدروس الشرعيّة ١ : ١٢٠.

(٤) المعتبر ١ : ٧٦.

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ٢٣٤ ، الحديث ٦٧٦.

٢٦٣

وفي معناه صحيح أبي اسامة (١) الشحّام ، وقد مرّ في البحث عمّا ينزح لموت الكلب ، فإنّه قال فيه : « وإن تغيّر الماء فخذ منه حتّى تذهب الريح » (٢).

لكن لمّا كان الدليل الدالّ على وجوب نزح المقدّر مع عدم التغيّر دالّا على وجوب نزحه مع التغيّر بطريق أولى لتحقّق المعنى المقتضي أعني ملاقاة النجاسة مع زيادة وصف التغيّر الذي هو علّة اخرى ، لا جرم توقّف الحكم بالطهارة على استيفائه ، فإن حصل معه زوال التغيّر فذاك ، وإلّا فلا بدّ من إزالته إذ لا تعقل الطهارة بدونه.

والحاصل أنّ عود الطهارة حينئذ موقوف على زوال التغيّر وبلوغ المقدّر كما هو مقتضى الدليلين ، فإن اتّفق تقارنهما فلا إشكال ، وإن سبق أحدهما فلا بدّ من بلوغ الآخر. هذا إذا كان هناك تقدير يجب العمل به ، فأمّا مع انتفاء التقدير فلا مخصّص لعموم الخبر الصحيح الدالّ على الاكتفاء بزوال التغيّر مطلقا. ولا يلزم من تخصيصه في صور معيّنة بالدليل الخاصّ ـ أعني دليل المقدّر حيث اقتضى وجوب نزح الزائد إذا كان زوال التغيّر هو السابق ـ أن يخصّ في غير تلك الصور ، ولا دليل.

لا يقال : هذا يقتضي اختصاص الخبر بما لا مقدّر له إذ لم يعمل بظاهره إلّا فيه ، ولا ريب أنّ أكثر النجاسات لها مقدّر ، ومن المستبعد أن يكون الحديث واردا في حكم الأقلّ مع ما في ألفاظه من العموم والشمول.

لأنّا نقول : لمّا كان الغالب تأخّر زوال التغيّر عن استيفاء المقدّر ، وعكسه إنّما ذكر بطريق الاحتمال ـ فإن اتّفق وقوعه فبقلّة ـ لم يكن التخصيص بإخراج

__________________

(١) في « ج » : ابن اسامة الشحّام.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٣٧ ، الحديث ٦٨٤.

٢٦٤

كلّ ما له مقدّر ليلزم قصر العموم على غير المنصوص فيحصل الاستبعاد ، بل إنّما يقع التخصيص بإخراج ما يتأخّر مقدّره عن زوال التغيّر. ولا ريب أنّه أقلّ قليل ـ بالنسبة إلى المجموع من غير المنصوص ، وما يتوقّف زوال تغيّره على الزيادة عن المقدّر أو يساويه ـ والتخصيص بمثل ذلك ممّا لا إشكال فيه.

إذا عرفت هذا فاعلم :

أنّ حجّتنا ـ معشر الذاهبين إلى عدم انفعال البئر بالملاقاة على الاكتفاء بمزيل التغيّر مطلقا ـ هذا الحديث أعني صحيح ابن بزيع (١) ، مضافا إلى ما سيأتي بيانه في حكم الجاري ؛ لأنّه عندنا من جملة أفراده.

حجّة الموجبين لنزح الجميع مطلقا :

صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن ينتن ، فإن نتن غسل الثوب وأعاد الصلاة ونزحت البئر » (٢).

ورواية عمّار الساباطي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « وسئل عن بئر وقع فيها كلب أو فأرة أو خنزير؟ قال : تنزف كلّها » (٣). يعني إذا تغيّر ؛ إذ مع عدم التغيّر يكفي ما دون ذلك ، كما دلّت عليه الأخبار الكثيرة.

وأنّه ماء محكوم بنجاسته فيجب إخراجه أجمع.

حجّة القول الأوّل ( في اعتبار التراوح عند تعذّر نزح الجميع ) : أنّه قائم مقامه في كلّ محلّ يجب فيه نزح الجميع.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٣٤ ، الحديث ٦٧٦.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٣٢ ، الحديث ٦٧٠. وفيه : فإن أنتن ..

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٤٢ ، الحديث ٦٩٩ ، مع اختلاف يسير.

٢٦٥

وحجّة القول الثاني : صحيح ابن بزيع (١) الدالّ على الاكتفاء بزوال التغيّر مطلقا وكذا صحيح أبي اسامة الشحّام (٢).

وحجّة الثالث : في اعتبار زوال التغيّر مع تعذّر الجميع : أنّ فيه جمعا بين ما دلّ على نزح الجميع كصحيحة معاوية بن عمّار وما دلّ على اعتبار زوال التغيّر كصحيح ابن بزيع.

وحجّة الرابع : نحو ما قلناه في الاحتجاج لحكم ما له مقدّر.

وكذا الخامس بالنسبة إلى هذا النوع.

وأمّا نزح الجميع لما ليس له مقدّر ، فبنوه على مذهبهم في حكم ما لا نصّ فيه حيث حكموا بنزح الجميع له مع عدم التغيّر ، فمعه أولى. واعتبار التراوح مع تعذّره لقيامه مقامه كما ذكر في حجّة الأوّل.

وحجّة السادس : مركّبة من حجّتي الثالث والرابع.

وحجّة السابع ( بالنظر إلى ما له مقدّر ) : إنّ وقوع « النجاسة ذات المقدّر » موجب لنزحه بمجرّده ، فإذا انضمّ إليه التغيّر الموجب لنزح ما يزول به صارا سببين ، ولا منافاة بينهما ، فيعمل كلّ منهما عمله. وتقديم مزيل التغيّر لكون الجمع بين الأمرين لا يتمّ إلّا به. وأمّا بالنسبة إلى ما لا مقدّر له فكما قيل في حجّة الخامس.

والجواب :

أمّا عن حجّة إيجاب الجميع فيحمل (٣) نزح البئر (٤) في صحيحة معاوية

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٢٣٤ ، الحديث ٦٧٦.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٣٧ ، الحديث ٦٨٤.

(٣) في « أ » و « ب » : فيحمل.

(٤) في « ب » : نزح الجميع في صحيحة معاوية.

٢٦٦

على ما إذا توقّف زوال التغيّر عليه ، جمعا بينها وبين الصحيحتين الدالّتين على الاكتفاء بزواله مطلقا ، أو بحمله (١) على نزح الأكثر ؛ لتوقّف (٢) زوال التغيّر عليه ، كما يشعر به قوله : « إلّا أن ينتن ».

وإطلاق نزح البئر على نزح أكثره جائز ولو بطريق المجاز ؛ لضرورة الجمع.

فأمّا رواية عمّار : ففيها مع ضعف السند عدم الدلالة على اعتبار التغيّر. وإنّما جعلوه تأويلا لها من حيث مخالفة مضمونها للأخبار الكثيرة المعتبرة. وإذا جاز ذلك للجمع فليجز لأجله حملها على توقّف زوال التغيّر عليه.

وقولهم : « إنّه ماء محكوم بنجاسته فيجب إخراجه أجمع » مدفوع بأنّ المحكوم بنجاسته هو المتغيّر ، ونحن نقول بوجوب إخراجه (٣). سلّمنا ولكن قد دلّ الدليل على طهارته بإخراج ما يزول معه التغيّر. فمن أين يجب الزائد؟

ومن هنا يعلم الجواب عن حجّة الأوّل بكمالها ؛ فإنّ قيام التراوح مقام نزح الجميع فرع وجوبه ، وقد علم انتفاء الأصل ، فالفرع أولى.

وأمّا عن حجّة الثاني فيعلم ممّا قرّرناه في دليل ما اخترناه.

وأمّا عن حجّة الثالث فلأنّ الجمع بين الأخبار بما ذكرناه من حمل دليل الجميع على ما إذا توقّف زوال التغيّر عليه أوضح وأولى بعد ما قدّمناه من وجوب تخصيص اعتبار زوال التغيّر في ما له مقدّر بما إذا حصل معه استيفاء المقدّر ؛ فإنّ الجمع حينئذ بالوجه الذي قلناه موجب لقلّة التخصيص ، وذلك بالنسبة إلى ما دلّ على اعتبار زوال التغيّر فإنّه لا يقع فيه من هذه الجهة

__________________

(١) في « أ » و « ب » : ونحمله على نزح الأكثر.

(٢) في « ب » : ليتوقّف زوال التغيّر عليه.

(٣) في « ج » : ونحن نقول بإخراجه.

٢٦٧

تخصيص حينئذ ، وإنّما يخصّص هو دليل الجمع (١) بحالة توقّف زوال التغيّر عليه.

وأمّا على ما جعلوه طريق الجمع فيلزم تخصيصه بما إذا تعذّر نزح الجميع ، وقد قلنا إنّه مخصوص بدليل المقدّر فيقع فيه التخصيص من وجهين. هذا.

ودليل الجميع لا بدّ من تخصيصه على التقديرين ؛ لأنّهم إنّما يعتبرونه في حالة إمكانه. ولا ريب أنّ تعليل التخصيص مهما أمكن أولى. فكيف مع الظهور والوضوح؟

وأمّا عن حجّة الرابع ؛ فلأنّها إنّما تتمّ في ما له مقدّر ، وأمّا غيره فإن اكتفوا فيه بمزيل التغيّر فأهلا بالوفاق ، وإلّا رددناهم بالحجّة.

وأمّا عن حجّة الخامس ؛ فلأنّهم لم يوجبوا نزح الجميع في غير المنصوص لوجود الدليل ، بل لانتفائه فلا يحصل يقين الطهارة إلّا به ، وقد علمت أنّ ما دلّ على حصول الطهارة بزوال التغيّر عام يتناول كلّ نجاسة ، فكيف يخصّ بعدم الدليل؟ بل التحقيق قلب المسألة كما سنبيّنه.

وأمّا عن حجّة السادس فيعلم من الجواب عن حجّتي الثالث والرابع.

وعن حجّة السابع : إنّ صحيحة ابن بزيع [ ظاهرة ] في الاكتفاء في حصول الطهارة بزوال التغيّر ونفي الزائد عنه ، وكذا صحيح أبي اسامة.

وإنّما صرنا إلى التخصيص بما يحصل معه استيفاء المقدّر لضرورة الجمع ، من حيث إنّ إيجاب نزح المقدّر مع عدم التغيّر يقتضي إيجابه معه على ما مرّ تحقيقه. وإذا اندفعت المنافاة بهذا المقدّر من التخصيص لم يجز تجاوزه.

وقد ظهر بذلك أنّ قوله : « ولا منافاة بينهما » خلاف الواقع. هذا بالنظر إلى ما ذكر في حكم ما له مقدّر.

__________________

(١) الصحيح أن يقال : وإنّما يخصّص هو دليل الجميع بحالة توقّف زوال التغيّر عليه.

٢٦٨

وأمّا جواب ما ذكر في حكم ما لا مقدّر له فيعلم ممّا قلناه في الجواب عن حجّة الخامس.

فرع :

إذا زال التغيّر قبل النزح على وجه لم يحصل (١) معه الطهارة وقلنا (٢) بالانفعال بالملاقاة ، ففي وجوب نزح الجميع حينئذ أو الاكتفاء بما يزول به التغيّر لو كان قولان :

اختار أوّلهما العلّامة في التذكرة (٣) ، واستشكله في النهاية والقواعد (٤) ، وصحّحه ولده فخر المحقّقين في شرحه (٥) ، وقوّاه الشهيد في الذكرى (٦) ، ووافقهم عليه بعض المتأخّرين.

والأقرب الثاني ، وهو الظاهر من كلام الشهيد عليه الرحمة في البيان (٧) ، واختيار والدي رحمه‌الله.

لنا : إنّه مع بقاء التغيّر يكفي نزح القدر الذي يزول معه ، فلأن يكتفى بنزحه مع الزوال أولى.

احتجّوا : بأنّه ماء محكوم بنجاسته ، وقد تعذّر ضابط تطهيره فيتوقّف الحكم

__________________

(١) في « ج » : على وجه لو كان لم يحصل معه الطهارة.

(٢) في « ب » : وإن قلنا بالانفعال.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٣٠.

(٤) نهاية الإحكام ١ : ٢٩٥ و ٢٦١. وقواعد الأحكام ١ : ١٨٩.

(٥) إيضاح الفوائد ١ : ٢١ و ٢٢.

(٦) ذكرى الشيعة : ١٠.

(٧) البيان : ١٠١ ، الطبعة الحجريّة.

٢٦٩

بطهارته على نزح الجميع.

وجوابه : منع تعذّر الضابط مطلقا ؛ فإنّه يمكن في كثير من الصور أن يعلم المقدار الذي يزول معه التغيّر تقريبا. ولو فرض عدم العلم به في البعض توقّف الحكم بالطهارة حينئذ على نزح الجميع ؛ إذ لا سبيل إلى العلم بنزح القدر المطهّر إلّا به. وقد أشار إلى هذا أيضا والدي رحمه‌الله فحكم بنزح الجميع مع عدم علم القدر واكتفى به حيث يعلم.

[ المسألة ] الرابعة :

اختلف أصحابنا في حكم غير المنصوص ، وهو كلّ نجاسة لم يرد بتقدير ما ينزح لها دليل ولو بالعموم ، فقال الشيخ في المبسوط : الاحتياط يقتضي نزح جميع الماء وإن قلنا بجواز أربعين دلوا منها ؛ لقولهم عليهم‌السلام : « ينزح منها أربعون دلوا » ، وإن صارت مبخّرة كان سائغا ، غير أنّ الأحوط الأوّل (١).

ويحكى عن بعض الأصحاب المصير إلى القول بالأربعين أيضا ، كما ذهب إليه الشيخ ، وهو اختيار العلّامة في بعض كتبه (٢) ، واستوجهه بعض مشايخنا المعاصرين.

وحكى الشهيد رحمه‌الله في شرح الإرشاد عن السيّد جمال الدين أحمد بن طاوس ، أنّه اختار في كتاب البشرى نزح ثلاثين. ونفى عنه الشهيد البأس (٣).

__________________

(١) المبسوط ١ : ١٢.

(٢) مختلف الشيعة ١ : ٢١٦.

(٣) شرح الإرشاد : ١٣ ، الطبعة الحجريّة.

٢٧٠

وذهب ابن إدريس وابن زهرة إلى وجوب نزح الجميع (١) ، واختاره أكثر المتأخّرين تفريعا على القول بالانفعال.

أمّا إيجاب الأربعين فلم نقف له على حجّة وأكثر الأصحاب اعترفوا بذلك أيضا. والحديث الذي ذكره الشيخ في المبسوط غير موجود في كتب الحديث ، فلا نعرف حال سنده ، مع أنّ في متنه قصورا أيضا ؛ لأنّ متعلّق نزح الأربعين غير مذكور ، والدلالة موقوفة عليه.

وقد اتّفق لبعض الأصحاب التشبّث في دفع الإشكالين بأنّ الشيخ رحمه‌الله ثقة ثبت فلا يضرّ إرساله ؛ لأنّه لا يرسل إلّا عن الثقات ، وأنّ الظاهر من احتجاجه به دلالة صدره المحذوف على محلّ النزاع.

وهذا الكلام من الضعف بمكان ؛ أمّا حديث الإرسال فظاهر وقد مضى البحث فيه في موضعه. وأمّا توجيه الدلالة ؛ فلأنّ احتجاج الشيخ به إنّما يدلّ على ظنّه لها ، وذلك غير كاف بالنسبة إلينا ، كيف! واحتمال الخطأ قائم في الظنون كما هو واضح.

وأمّا القول بالثلاثين فظاهرهم الاستناد فيه إلى رواية كردويه السابقة في حكم وقوع ماء المطر المصاحب للنجاسات المخصوصة حيث قال فيها : « ينزح منها ثلاثون دلوا وإن كانت مبخرة » (٢).

قال العلّامة أعلى الله مقامه في المختلف ـ بعد أن حكى عن الشيخ كلامه في المبسوط واحتجاجه للأربعين بالحديث الذي ذكره ـ : « والنقل الذي ادّعاه الشيخ لم يصل إلينا ، وإنّما الذي بلغنا في هذا الباب حديث واحد ، وهو ما رواه

__________________

(١) : السرائر ١ : ٨٢. وغنية النزوع : ٤٩٠ ، من الجوامع الفقهية.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٦١٣ ، الحديث ١٣٠٠.

٢٧١

الحسين بن سعيد عن محمّد بن أبي عمير عن كردويه وذكر الحديث ، ثمّ قال : وهو يدلّ على وجوب الثلاثين ، أمّا الأربعون كما ادّعاه الشيخ فلا. ومع ذلك فكردويه لا أعرف حاله فإن كان ثقة فالحديث صحيح. وأرى الاستدلال للحكم بهذه الرواية عجيبا ؛ فإنّ نزح الثلاثين فيها معلّق بأشياء مخصوصة لو زال إشكال السند عنها لصارت تلك الأشياء من قبيل المنصوص ولم يكن من محلّ النزاع في شي‌ء ، وحيث إنّ الغرض منها إثبات نزح هذا المقدار لكلّ نجاسة لم يرد لها بخصوصها مقدّر ، فلا بدّ من جهة عموم يكون التناول باعتبارها ، وانتفاؤه ظاهر (١).

وربّما يوجد في كلام بعض الأصحاب مناقشة العلّامة في هذا الكلام بأنّ الرواية المذكورة لو دلّت على المتنازع كان ما لا نصّ فيه منصوصا.

وهي مناقشة باردة ؛ إذ لا مانع من تخصيص لفظ « المنصوص » اصطلاحا بما ورد النصّ بمقدّره معلّقا على نوع نجاسته أو ما في معناه ، وأن يراد من « غير المنصوص » ما علّق التقدير فيه على الجنس أو على أزيد من نوع ؛ فإنّه لا مشاحة في الاصطلاح. هذا.

والرواية ضعيفة السند بكردويه ، فإنّه مجهول.

ومن الغريب أنّ العلّامة في النهاية جعلها حجّة القول بالأربعين (٢). وفي المنتهى نسب الاحتجاج بها عليه إلى البعض. ثمّ قال : « وهي إنّما تدلّ على نزح ثلاثين. ومع ذلك فالاستدلال بها لا يخلو من تعسّف » (٣). ونعم ما قال.

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٢١٦.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٦٠.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٠٤.

٢٧٢

وأمّا إيجاب نزح الجميع فوجهه : أنّه ماء محكوم بنجاسته فيتوقّف الحكم بالطهارة على الدليل. وليس على ما دون الجميع دليل واضح ، فلا سبيل إلى العلم بالطهارة إلّا بنزح الجميع ؛ إذ معه يحصل يقين البراءة.

ولهذا التوجيه وجه ، غير أنّك قد علمت في مسألة التغيّر بالنجاسة أنّ صحيح محمّد بن إسماعيل بن بزيع يدلّ على طهر البئر مع التغيّر بالنزح إلى أن يزول من غير فرق بين نجاسة ونجاسة ؛ لما فيه من العموم ، وأنّ ضرورة الجمع بينه وبين ما دلّ على المقدّر في بعض الصور أوجبت تخصيصه بغيرها.

وأمّا دلالته في غير المنصوص فباقية بحالها ، كما هو التحقيق في العام المخصوص ، وحينئذ يكون نزح الجميع له مطلقا مع التغيّر منتفيا وهو يقتضي نفيه مع عدم التغيّر بطريق أولى فيضعف القول به.

وربّما يرجّح بهذا الاعتبار القول بالأربعين لانحصار أقوال الأصحاب ظاهرا في الثلاثة ، وقد انتفى الجميع بهذا الحديث ، ولا دليل على الاجتزاء بالثلاثين ، فيتعيّن المصير إلى الأربعين.

وقد استوجه بعض مشايخنا القول بالأربعين ـ كما حكيناه سابقا ـ مع استضعافه للحجّة المذكورة له في كلام الأصحاب ولم يذكر له حجّة ، واعتذر عن ذلك بالطول ، وأحسبه نظر إلى ما قلناه. وفي الاكتفاء بمثله في إثبات الحكم نظر ؛ لتوقّفه على العلم بانحصار الأقوال في العدد المخصوص ، وحصوله عزيز ، والغالب في مثله عدم العلم بخلافها لا العلم بعدم الخلاف ، وبينهما فرق جليّ.

والمتّجه عندي الاكتفاء بنزح ما يزيل التغيّر لو كان إن وجد إلى العلم به سبيل ، وإلّا فالجميع. وليس ذلك بطريق التعيين على التقديرين ، بل لأنّ المقدار المطهّر غير معلوم ، ومع بلوغ أحدهما يعلم حصوله لاشتمال كلّ منهما عليه.

٢٧٣

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المحقّق قال في المعتبر : يمكن أن يقال إنّ كلّ ما لم يقدّر له منزوح لا يجب فيه نزح (١) ؛ عملا برواية معاوية المتضمّنة قول أبي عبد الله عليه‌السلام : « لا يغسل الثوب ولا تعاد الصلاة ممّا وقع في البئر إلّا أن ينتن » (٢).

ورواية ابن بزيع : « إنّ ماء البئر واسع لا يفسده شي‌ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه » (٣). وهذا يدلّ بالعموم فيخرج منه ما دلّت عليه النصوص بمنطوقها أو فحواها ويبقى الباقي داخلا تحت هذا العموم ، وهذا يتمّ لو قلنا أنّ النزح للتعبّد لا للتطهير. وما قاله حسن.

[ المسألة ] الخامسة :

إذا تكثّرت النجاسة قال العلّامة : « يتداخل النزح سواء كانت النجاسة متماثلة أو متغايرة. أمّا مع التماثل ؛ فلأنّ الحكم معلّق على الاسم المتناول للقليل والكثير لغة ، وأمّا مع التغاير ؛ فلأنّه بفعل الأكثر يمتثل الأمرين ، فيحصل الإجزاء » (٤).

وقال المحقّق في المعتبر : « إن كانت الأجناس مختلفة لم يتداخل النزح كالطير والإنسان ولو تساوى المنزوح كالكلب والسنّور. وإن كان الجنس

__________________

(١) المعتبر ١ : ٧٨.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٣٢ و ٢٣٨ ، الحديثان ٦٧٠ و ٦٨٨.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٣٤ ، الحديث ٦٧٦.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٠٧.

٢٧٤

واحدا ففي التداخل تردّد » (١).

وجه التداخل : أنّ النجاسة من الجنس الواحد لا تتزايد إذ النجاسة الكلبيّة أو البوليّة موجودة في كلّ جزء ، فلا يتحقّق زيادة توجب زيادة النزح.

ووجه عدم التداخل : أنّ كثرة الواقع تؤثّر كثرة في مقدار النجاسة فتؤثّر شياعا في الماء زائدا ؛ ولهذا اختلف النزح بتعاظم الواقع وموته وإن كان ظاهرا في الحياة.

واستقرب الشهيد رحمه‌الله ـ وجماعة من المتأخّرين منهم والدي رحمه‌الله ـ عدم التداخل مطلقا (٢) ؛ نظرا إلى أنّ الأصل في الأسباب أن تعمل عملها ولا تتداخل مسبّباتها ، وأنّ ظاهر الأدلّة في الأكثر تعليق الحكم بالفرد من الجنس ، فادّعاء تناول الاسم فيها للتعدّد مطلقا في حيّز المنع. وكذا دعوى حصول الامتثال في صورة التغاير بفعل الأكثر ، بل توجّه المنع إليها أظهر.

واستثنوا من ذلك ما إذا حصل بالتكثّر في المتماثل (٣) انتقال إلى حال اخرى لها مقدّر ، كما إذا وقع دم قليل ثمّ وقع بعده ما يخرجه من القلّة إلى حدّ الكثرة فاكتفوا فيه بمنزوح الكثير وهذا هو الأقوى.

وزاد الشهيد رحمه‌الله في الاستثناء ما إذا كان التكثّر داخلا تحت الاسم كزيادة كثرة الدم فلا زيادة في القدر حينئذ ؛ لشمول الاسم وهو حسن.

إذا تقرّر هذا فاعلم أنّ الحكم على تقدير سعة ماء البئر لنزح المقادير المتعدّدة واضح.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٧٨.

(٢) البيان : ١٠٠.

(٣) في « ب » : التكثّر في المماثل.

٢٧٥

وأمّا مع قصوره عنها فالظاهر الاكتفاء بنزح الجميع لأنّ به يتحقّق إخراج الماء المنفعل ، والحكم بالنزح إنّما تعلّق به.

وهذا آت فيما لو زاد المقدّر الواحد عن الجميع أيضا.

وحينئذ فلو كان كلّ واحد من المتعدّد موجبا لنزح الجميع حصل التداخل واكتفي بنزحه مرّة.

ولو كان الماء ـ والحال هذه ـ غالبا وقلنا بقيام التراوح مقام نزح الجميع حينئذ ، ففي الاكتفاء بتراوح اليوم للكلّ نظر :

من حيث إنّه قائم مقام نزح الجميع و[ بدل ] عنه ، وقد فرض الاكتفاء في المبدل بالمرّة ، فكذا في البدل.

ومن أنّ الاكتفاء بالمرّة في المبدل إنّما هو لزوال متعلّق الحكم بالنزح أعني الماء المنفعل كما ذكرناه ، وذلك مفقود في البدل. ولا يلزم من ثبوت البدليّة المساواة من كلّ وجه.

ويمكن ترجيح الوجه الأوّل بأنّ ظاهر أدلّة المنزوحات كون نزح الجميع أبعد غايات النزح عند ملاقاة النجاسات ، وقيام التراوح مقامه حينئذ يقتضي نفي الزيادة عليه. ولم أقف في هذا على كلام لأحد من الأصحاب.

فرع :

قال الشهيد رحمه‌الله في الذكرى : « الحيوان الحامل إذا مات ، وذو الرجيع النجس كغيرهما ؛ إمّا لانضمام المخرج المانع من الدخول أو لإطلاق قدر النزح. نعم لو انفتح المخرج أو غيره تضاعف » (١).

وكلامه متّجه ، غير أنّ اعتبار التعليل الثاني في الحيوان الحامل مشكل ؛

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ١٠ ، الطبعة الحجريّة.

٢٧٦

من حيث إنّ الإطلاق إنّما يجدي (١) فيما يغلب لزومه لذي المقدّر كالرجيع الكائن في الجوف ، وليس الحمل منه ، كما لا يخفى. فالاعتماد على التعليل الأوّل. وعليه اعتمد المحقّق رحمه‌الله في حكم ما إذا وقع في البئر ما لا يؤكل لحمه من الحيوان وخرج حيّا فإنّه حكم بعدم التنجيس به ، وعلّله بأنّ المخرج ينضمّ انضماما شديدا لشدّة حذره ، فلا يلقى الماء موضع النجاسة (٢).

وتبعه في الحكم والتعليل العلّامة في المنتهى (٣).

وما تضمّنه التعليل من النظر إلى شدّة الحذر وإن كان لا يتأتّى في ما نحن فيه إلّا أنّ أصل الانضمام لا ريب في حصوله ، والوصول إلى الباطن غير معلوم.

[ المسألة ] السادسة :

ألحق جماعة من الأصحاب جزء الحيوان بكلّه في نزح مقدّره (٤).

واستشكله بعض ؛ نظرا إلى حصول المغايرة بين الجزء والكلّ ، فالحكم المتعلّق (٥) بأحدهما لا يتناول الآخر. وحينئذ ينبغي أن يكون حكمه حكم غير المنصوص. وهذا الكلام جيّد.

لكنّ التحقيق أنّ مقدّر الكلّ إن كان أقلّ من منزوح غير المنصوص اكتفي به للجزء ؛ لأنّ الاجتزاء به في الكلّ يقتضي الاجتزاء في الجزء بطريق أولى

__________________

(١) في « ب » : إنّ الإطلاق إنّما يجري.

(٢) المعتبر ١ : ٧٩.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١١٣.

(٤) في « ج » : في نزح مقدّر له.

(٥) في « أ » و « ج » : فالحكم المعلّق أحدهما.

٢٧٧

كما هو ظاهر.

وإن كان المقدّر زائدا على القدر الذي ينزح لما لا نصّ فيه فالمتّجه عدم وجوب نزح الزائد ؛ لما ذكرنا من المغايرة المقتضية لعدم تناول الحكم المعلّق بأحدهما للآخر.

ولو اتّفق وقوع الأجزاء كلّها في أكثر من دفعة كفى لها نزح مقدّر الجملة ، وإن أوجبناه للجزء فإنّها لا تخرج بذلك عن الاسم وقد علم في المسألة السابقة استثناء مثله في الحكم بعدم (١) التداخل.

أمّا لو وجد جزءان فما زاد ولم يعلم كونهما من واحد قال الشهيد رحمه‌الله :

« الأجود التضاعف (٢) ، وهو مبني على القول بالإلحاق ».

والوجه عندي نزح أقلّ الأمرين من المقدّر للكلّ من كلّ منهما ومن منزوح غير المنصوص كما قلنا في الفرض الأوّل.

[ المسألة ] السابعة :

قال العلّامة في المنتهى : « لو وجب نزح قدر معيّن فنزح الدلو الأوّل ثمّ صبّ فيها فالذي أقوله ـ تفريعا على القول بالتنجيس ـ أنّه لا يجب نزح ما زاد على العدد ؛ عملا بالأصل ، ولأنّه لم تزد (٣) النجاسة بالنزح والإلقاء. وكذا إذا القي الدلو الأوسط.

__________________

(١) في « أ » : استثناء مثله من الحكم بعدم التداخل. في « ب » : استثناء مثله في الحكم لعدم التداخل.

(٢) ذكرى الشيعة : ١٠.

(٣) في « أ » : ولأنّه لم يرد النجاسة.

٢٧٨

أمّا لو القي الدلو الأخير بعد انفصاله عنها فالوجه دخوله تحت النجاسة التي لم يرد فيها نصّ » (١).

وفي ما ذكره من الفرق بين انصباب الأخير وغيره إشكال ؛ لأنّ المقتضي لإلحاق الأخير بما لا نصّ فيه كونه ماء نجسا لاقى البئر فانفعل عنه كغيره من أنواع المنجّسات ولم يرد له مقدّر ، فيكون من أفراد غير المنصوص. وهذا بعينه جار في الأوّل والأوسط.

وكون البئر نجسا فيهما طاهرا في الأخير لا يصلح فارقا ؛ لأنّهم لا يرتابون في أنّ ثبوت الانفعال بنوع من أسبابه لا يمنع من تأثير سبب آخر فيه ، حتّى القائلين بالتداخل عند التعدّد فإنّهم أوجبوا نزح الأكثر.

ولو كان سبق الانفعال مانعا من تأثير السبب الثاني لاقتصروا على منزوح الأوّل.

وبهذا يظهر ضعف التمسّك في نفي وجوب الزائد على العدد بالأصل ، وأنّ ادّعاء عدم زيادة النجاسة بالنزح والإلقاء ـ بعد القول بحدوثها إذا وقع الأخير ـ في حيّز المنع.

وقد سوّى الشهيد رحمه‌الله بين الجميع في عدم وجوب شي‌ء سوى إعادة مثل الواقع ، فقال في الذكرى : لو انصبّ الدلو بأسره اعيد مثله في الأصحّ وإن كان الأخير للأصل. وفي البيان نحوه (٢).

وقد تبيّن بما قرّرناه ضعفه.

وينبغي أن يعلم أنّ مدار الحكم هنا على انصباب ما يزيد عن القدر المعتاد

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٠٨.

(٢) ذكرى الشيعة : ١٠. البيان : ١٠١.

٢٧٩

تساقطه حال النزح وإن لم يستوعب مجموع الدلو ؛ لتحقّق المقتضي.

والعلّامة وإن لم يتعرّض لذلك فقد أشار إليه الشهيد في الذكرى. والاعتبار يرشد إليه.

وأمّا ما لا يزيد عن العادة من المتساقط وقت النزح من الدلو فلا ريب في العفو عنه.

[ المسألة ] الثامنة :

لو القي دلو من المنزوح في بئر طاهر.

قال الشهيد رحمه‌الله : « الأقرب وجوب منزوحه يعني ما يجب للنجاسة التي هو بعض منزوحها » (١). ووافقه على هذا بعض المتأخّرين.

وقال العلّامة في النهاية : « الأقوى عدم التجاوز عن قدر الواجب في تلك النجاسة سواء الأوّل والأخير وما بينهما » (٢).

واستوجه في المنتهى إلحاقه بغير المنصوص (٣).

واستقرب في التحرير الإلحاق به إن زاد منزوح تلك النجاسة على الأربعين. وكأنّه بناه على القول بنزحها لغير المنصوص حيث لم يظهر منه المصير إليه.

وهذا الخلاف جار فيما لو انصبّ في البئر المنزوحة وقلنا بوجوب النزح

__________________

(١) البيان : ١٠١.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٦١.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٠٨.

٢٨٠