معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ١

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي

معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي


المحقق: السيد منذر الحكيم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
ISBN: 964-91559-5-3
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

[ الفرع ] الثامن :

لو اغتسل المحدث مرتّبا فغسل رأسه ثم أدخل يده في ماء قليل فإن قصد غسلها حينئذ صار الماء بعد إخراجها مستعملا.

وإن كان إدخالها ليأخذ بها من الماء ما يغسل به جانبه لم يتحقّق الاستعمال.

وظاهر العلّامة في النهاية التوقّف فيه (١). ولا وجه له.

ولو تقاطر الماء من رأسه أو جانبه الأيمن فأصاب المأخوذ منه لم يجزئه استعماله في الباقي عند المانعين من المستعمل لأنّه يصير بذلك مستعملا. قاله العلّامة (٢).

وفيه نظر ؛ فإنّ الصدوق رحمه‌الله من جملة المانعين وقد قال في من لا يحضره الفقيه : وإن اغتسل الجنب فنزّ الماء من الأرض فوقع في الإناء أو سال من بدنه في الإناء فلا بأس به (٣). وما ذكره منصوص في عدّة أخبار أيضا :

منها صحيحة الفضيل ، قال : « سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يغتسل فينتضح من الأرض في الإناء؟ فقال : لا بأس به ، هذا ممّا قال الله ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٤).

ورواية شهاب بن عبد ربّه عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « في الجنب يغتسل فيقطر الماء عن جسده في الإناء وينتضح الماء من الأرض فيصير

__________________

(١) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٢.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٤٣.

(٣) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٦.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٨٦ ، الحديثان ٢٢٤ و ٢٢٥.

٣٤١

في الإناء ، أنّه لا بأس بهذا كلّه » (١).

ورواية سماعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : « إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل فليفرغ على كفّيه فليغسلهما دون المرفق ، ثمّ يدخل يده في إنائه ثمّ يغسل فرجه ثمّ ليصبّ على رأسه ـ إلى أن قال ـ فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع ما وصفت فلا بأس » (٢).

وقد ذكر الشيخ في التهذيب جملة منها ولم يتعرّض لها بتأويل أو ردّ أو بيان معارض مع تصريحه فيه بالمنع من المستعمل (٣). وفي ذلك إيذان بعدم صدق الاستعمال به عنده أيضا.

[ الفرع ] التاسع :

إذا جمع الماء المستعمل فبلغ كرّا فصاعدا : قال الشيخ في المبسوط يزول عنه حكم المنع (٤) ، واختاره العلّامة في المنتهى تفريعا على القول بالمنع (٥).

وقال المحقّق : لا يزول (٦). وتردّد الشيخ في الخلاف (٧).

احتجّ العلّامة في المنتهى : بأنّ بلوغ الكرّيّة موجب لعدم انفعال الماء عن الملاقي وما ذلك إلّا لقوّته ، فكيف يبقى انفعاله عن ارتفاع الحدث الذي لو كان

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٣ ، الحديث ٦.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ١٣٢ ، الحديث ٣٦٤.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المبسوط ١ : ١١.

(٥) منتهى المطلب ١ : ١٣٨.

(٦) المعتبر ١ : ٨٩.

(٧) الخلاف ١ : ١٧٣ ـ ١٧٤.

٣٤٢

نجاسة لكانت تقديريّة. وبأنّه لو اغتسل في كرّ لما بقي انفعاله لعدمه فكذا المجتمع.

لا يقال : يرد ذلك في النجاسة العينيّة.

لأنّا نقول : إنّما حكمنا بعدم الزوال هناك لارتفاع قوّة الطهارة بخلاف المتنازع (١).

واحتجّ المحقّق في المعتبر : بأنّ ثبوت المنع معلوم شرعا ، فيقف ارتفاعه على وجود الدلالة.

قال : وما يدّعى من قول الأئمّة عليهم‌السلام : « إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا » لم نعرفه ولا نقلناه عنهم. ونحن نطالب المدّعي نقل هذا اللفظ بالإسناد إليهم.

وأمّا قولهم عليهم‌السلام : « إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شي‌ء » فإنّه لا يتناول موضع النزاع ، ولأنّ هذا الماء عندنا ليس بنجس ، فلو بلغ كرّا ثمّ وقعت فيه نجاسة لم تنجّسه.

نعم لا يرتفع ما كان فيه من المنع. وجعل الشيخ في الخلاف منشأ التردّد من أنّه يثبت فيه المنع قبل أن يبلغ كرّا فيحتاج في جواز استعماله بعد بلوغه إلى دليل. ومن دلالة ظاهر الآيات والأخبار على طهارة الماء ، خرج منه الناقص عن الكرّ بدليل ، فيبقى ما عداه. وقولهم عليهم‌السلام : « إذا بلغ الماء كرّا لم يحمل خبثا » (٢).

وأنت إذا تأمّلت كلام الجماعة رأيت التحقيق في كلام المحقّق واستبان لك ضعف ما سواه.

والعجب أنّ الشيخ احتجّ في الخلاف على عدم زوال النجاسة في المجتمع

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٣٨.

(٢) المعتبر ١ : ٨٩.

٣٤٣

من الطاهر والنجس : بأنّه ماء محكوم بنجاسته ، فمن ادّعى زوال حكم النجاسة عنه بالاجتماع فعليه الدليل ، وليس هناك دليل ، فيبقى على الأصل (١).

ولو صحّ الحديث الذي جعله في موضع النزاع منشأ لاحتمال زوال المنع لكان دليلا على زوال النجاسة هناك. وليس بين الحكمين في الخلاف إلّا أوراق يسيرة.

والحقّ : بناء الحكم هنا على الخلاف الواقع في زوال النجاسة بالإتمام فمن حكم بالزوال هناك تأتّى له الحكم هنا بطريق أولى ، ومن لا فلا.

وأمّا التفرقة التي صار إليها الشيخ والعلّامة فلا وجه لها.

[ الفرع ] العاشر :

قال الصدوق عليه الرحمة في من لا يحضره الفقيه : فإن اغتسل الرجل في وهدة وخشي أن يرجع ما ينصبّ عنه إلى الماء الذي يغتسل منه أخذ كفّا وصبّه أمامه وكفّا عن يمينه وكفّا عن يساره وكفّا من خلفه ، واغتسل منه (٢). وذكر نحو ذلك في المقنع (٣).

وقال أبوه في رسالته : وإن اغتسلت من ماء في وهدة وخشيت أن يرجع ما ينصبّ عنك إلى المكان الذي يغتسل فيه أخذت له كفّا وصببته عن يمينك وكفّا عن يسارك وكفّا خلفك وكفّا أمامك. واغتسلت منه (٤).

وقال الشيخ في النهاية : متى حصل الإنسان عند غدير أو قليب ولم يكن

__________________

(١) الخلاف ١ : ١٩٤.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ١١.

(٣) المقنع : ٤٦.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٣٨.

٣٤٤

معه ما يغترف به الماء لوضوئه فليدخل يده فيه ويأخذ منه ما يحتاج إليه وليس عليه شي‌ء. وإن أراد الغسل للجنابة وخاف إن نزل إليها فساد الماء فليرشّ عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه ثمّ ليأخذ كفّا كفّا من الماء فليغتسل به (١).

والأصل في ما ذكروه روايات وردت بذلك.

منها : صحيحة عليّ بن جعفر عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع أو يغتسل منه للجنابة أو يتوضّأ منه للصلاة إذا كان لا يجد غيره والماء لا يبلغ صاعا للجنابة ولا مدّا للوضوء وهو متفرّق فكيف يصنع وهو يتخوّف أن يكون السباع قد شربت منه؟ فقال :

إذا كانت يده نظيفة فليأخذ كفّا من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه وكفّا أمامه وكفّا عن يمينه وكفّا عن شماله. فإن خشي أن لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرّات ثمّ مسح جلده بيده فإنّ ذلك يجزيه » (٢). الحديث.

ومنها : رواية ابن مسكان ، قال : حدّثني صاحب لي ثقة أنّه : سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق فيريد أن يغتسل وليس معه إناء والماء في وهدة فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء كيف يصنع؟ قال : ينضح بكفّ بين يديه وكفّا من خلفه وكفّا عن يمينه وكفّا عن شمال ثمّ يغتسل (٣).

ونقل الفاضلان في المعتبر والمنتهى عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي أنّه روى في جامعه عن عبد الكريم عن محمّد بن ميسر عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) النهاية ونكتها ١ : ٢١١.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٤١٦ ، الحديث ١٣١٥.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٤١٧ ، الحديث ١٣١٨.

٣٤٥

قال : « سئل عن الجنب ينتهي إلى الماء القليل والماء في وهدة فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء كيف يصنع؟ قال : ينضح بكفّ بين يديه وكفّا خلفه وكفّا عن يمينه وكفّ عن شماله ويغتسل » (١).

ولا يخفى أنّ متعلّق النضح المذكور في الأخبار وكلام الأصحاب هنا لا يخلو عن خفاء. وكذا الحكمة فيه. وقد حكى المحقّق رحمه‌الله في ذلك قولين :

أحدهما : أنّ المتعلّق الأرض والحكمة اجتماع أجزائها فتمنع سرعة انحدار ما ينفصل عن البدن إلى الماء.

والثاني : أنّ متعلّقه بدن المغتسل والغرض منه بلّه ليتعجّل الاغتسال قبل انحدار المنفصل عنه وعوده إلى الماء. وعزى هذا القول إلى الصهرشتي (٢) ، واختاره الشهيد في الذكرى إلّا أنّه جعل الحكمة فيه الاكتفاء بترديده عن إكثار معاودة الماء (٣).

ورجّح في البيان القول الأوّل (٤). والعبارة المحكيّة عن رسالة ابن بابويه ظاهرة فيه أيضا حيث قال فيها : أخذت له كفّا .. إلى آخره.

والضمير في قوله : « له » عائدا إلى المكان الذي يغتسل فيه لأنّه المذكور قبله في العبارة وليس المراد به محلّ الماء كما وقع في عبارة ابنه حيث صرّح بالعود إلى الماء الذي يغتسل منه.

وكأنّ تركه للتصريح بذلك اتّكال على دلالة لفظ الرجوع عليه. فالجارّ

__________________

(١) المعتبر ١ : ٨٨. ومنتهى المطلب ١ : ١٣٦.

(٢) المعتبر ١ : ٨٨.

(٣) ذكرى الشيعة : ١٢.

(٤) البيان : ١٠٤.

٣٤٦

ـ في قوله « إلى المكان » ـ متعلّق بـ « ينصبّ » وصلة [ يرجع ] غير مذكورة لدلالة المقام عليها.

ويحكى عن ابن إدريس إنكار القول الأوّل مبالغا فيه ومحتجّا بأنّ اشتداد الأرض برشّ الجهات المذكورة موجب لسرعة نزول ماء الغسل (١). وله وجه غير أنّه ليس يمتنع في بعض الأرضين أن يكون قبولها لابتلاع الماء مع الابتلال أكثر.

ثمّ إنّه يرد على القول الثاني أنّ خشية العود إلى الماء مع تعجّل الاغتسال ربّما كانت أكثر ؛ لأنّ الإعجال موجب لتلاحق الأجزاء المنفصلة عن البدن من الماء ، وذلك أقرب إلى الجريان والعود ، ومع الإبطاء يكون تساقطهما على سبيل التدريج فربّما بعدت بذلك عن الجريان كما لا يخفى.

وأمّا ما ذكره الشهيد من أنّ الفائدة هي الاكتفاء بترديده عن إكثار معاودة الماء (٢) ففيه إشعار بأنّه جعل الغرض من ذلك التحرّز من تقاطر ماء الغسل عن بعض الأعضاء المغسولة في الماء الذي يغتسل منه عند المعاودة ، وقد عرفت تصريح بعض المانعين من المستعمل بعدم تأثير مثله ، ودلالة الأخبار أيضا عليه.

فالظاهر أنّ محلّ البحث هنا هو رجوع المنفصل عن بدن المغتسل بأجمعه إلى الماء أو عن أكثره.

وعلى كلّ حال فالخطب في هذا عند من لا يرى المنع من المستعمل سهل ؛ لأنّ الأخبار الواردة بذلك محمولة على الاستحباب عنده ، كما ذكره العلّامة

__________________

(١) السرائر ١ : ٩٤.

(٢) البيان : ١٠٤.

٣٤٧

في المنتهى (١) مقرّبا له بما رواه الشيخ في الحسن عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « إذا أتيت ماء وفيه قلّة فانضح عن يمينك وعن يسارك وبين يديك وتوضّأ » (٢).

ووجه التقريب على ما يؤذن به سوق كلامه : أنّ الاتّفاق واقع على عدم المنع من المستعمل في الوضوء فالأمر بالنضح له في هذا الحديث محمول على الاستحباب عند الكلّ ، فلا بعد (٣) في كون الأوامر الواردة في تلك الأخبار كذلك.

ويمكن المناقشة فيه من حيث شيوع إطلاق الوضوء في الأخبار على الاستنجاء فلا يبعد إرادته هنا من الرواية ، ومعه يفوت التقريب.

ولكن الحاجة ليست داعية إليه ؛ فإنّ حمل أخبار الباب على الاستحباب بعد القول بعدم المنع من المستعمل متعيّن.

ويؤيّده : أنّ أصحّ ما في الأخبار رواية علي بن جعفر (٤). وآخرها صريح في عدم (٥) تأثير عود ما ينفصل من ماء الغسل وأنّه مع قلّة الماء بحيث لا يكفي للغسل يجري ما يرجع منه إليه. وقد تقدّم نقل موضع هذه الدلالة منها في احتجاجنا لما صرنا إليه في صدر المسألة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ كلام الشيخ هنا على ما حكيناه عن النهاية لا يخلو

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٣٧.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٤٠٨ ، الحديث ١٢٨٣.

(٣) في « ب » : فلا بدّ في كون الأوامر الواردة.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٤١٦ ، الحديث ١٣١٥.

(٥) في « ب » : صريح في تأثير عود ما ينفصل.

٣٤٨

عن إشكال ؛ فإنّ ظاهره كون المحذور في الفرض المذكور هنا هو فساد الماء بنزول الجنب إليه واغتساله فيه ، ولا ريب أنّ هذا يزول بالأخذ من الماء والاغتسال خارجه ، وفرض إمكان الرشّ يقتضي إمكان الأخذ فلا يظهر لحكمه بالرشّ حينئذ وجه.

وقد أوّله المحقّق في المعتبر فقال : اعلم أنّ عبارة الشيخ لا تنطبق على الرشّ إلّا أن يجعل في « نزل » ضمير ماء الغسل ، ويكون التقدير : « وخشي ـ إن نزل ماء الغسل ـ فساد الماء ».

وإلّا بتقدير أن يكون في نزل ضمير المريد لا ينتظم المعنى لأنّه إن أمكنه الرشّ لا مع النزول أمكنه الاغتسال من غير نزول (١).

وهذا الكلام حسن وإن اقتضى كون المرجع غير مذكور صريحا ، فإنّ محذوره هيّن (٢) بالنظر إلى ما يلزم على التقدير الآخر خصوصا بعد ملاحظة كون الغرض بيان الحكم الذي وردت به النصوص فإنّه لا ربط للعبارة به على ذلك التقدير. هذا.

وفي بعض نسخ النهاية : « وخاف أن ينزل إليها فساد الماء » (٣) على صيغة المضارع فالإشكال حينئذ مرتفع ؛ لأنّه مبنيّ على كون العبارة عن النزول بصيغة الماضي ، وجعل « إن » مكسورة الهمزة شرطيّة ، و « فساد الماء » مفعول خشي ، وفاعل نزل الضمير العائد إلى المريد.

وعلى النسخة التي ذكرناها تجعل « أن » مفتوحة الهمزة ومصدريّة ، وفساد

__________________

(١) المعتبر ١ : ٨٨.

(٢) في « ب » : فإنّ محذوره بيّن.

(٣) النهاية ونكتها ١ : ٢١١.

٣٤٩

الماء فاعل بنزل ، والمصدر المأوّل من « أن ينزل » مفعول خشي ، وفاعله ضمير المريد ، وحاصل المعنى : « أنّه مع خشية نزول فساد الماء المنفصل عن بدن المغتسل إلى المياه التي يريد الاغتسال منها ـ وذلك بعود الماء الذي اغتسل به إليها ـ فإنّ المنع المتعلّق به يتعدّى إليها بعوده فيها وهو معنى نزول الفساد إليها فيجب الرشّ حينئذ حذرا من ذلك الفساد.

وهذا عين (١) كلام باقي الجماعة ومدلول الأخبار فلعلّ الوهم في هذه النسخة التي وقع فيها لفظ الماضي ؛ فإنّ حصول الاشتباه في مثله وقت الكتابة ليس بمستبعد.

مسألة [٥] :

واختلف الأصحاب في غسالة الحمّام فقال الصدوق في من لا يحضره الفقيه : لا يجوز التطهير بغسالة الحمّام لأنّه مجتمع فيها غسالة اليهوديّ والمجوسيّ والنصراني والمبغض لآل محمّد عليهم‌السلام وهو أشرّهم (٢).

وقال أبوه في رسالته : إيّاك أن تغتسل من غسالة الحمّام. وذكر التعليل الذي ذكره ابنه.

وقال الشيخ في النهاية : « غسالة الحمّام لا يجوز استعمالها على حال » (٣).

وقال المحقّق : لا يغتسل بغسالة الحمّام إلّا أن يعلم خلوّها من

__________________

(١) في « ب » : وهذا غير كلام باقي الجماعة.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٠.

(٣) النهاية ونكتها ١ : ٢٠٣.

٣٥٠

النجاسة (١).

وقال العلّامة في المنتهى : الأقرب عندي أنّها على أصل الطهارة (٢). ويعزى هذا القول إلى غيره من الأصحاب أيضا.

وصرّح في الإرشاد بنجاستها (٣). وربّما تبعه فيه بعض من تأخّر.

وجملة الأخبار التي وقفنا عليها في هذا الباب ونقلها الأصحاب في الاحتجاج ثلاث روايات :

الاولى : رواية حمزة بن أحمد عن أبي الحسن الأوّل عليه‌السلام قال : سألته أو سأله غيري عن الحمّام ، قال : ادخله بمئزر وغضّ بصرك ولا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها ماء الحمّام فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب وولد الزنا والناصب لنا أهل البيت وهو شرّهم » (٤).

الثانية : رواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها غسالة الحمّام فإنّ فيها غسالة ولد الزنا وهو لا يطهر إلى ستّة آباء ، وفيها غسالة الناصب وهو شرّهما » (٥). الحديث.

وهاتان الروايتان تدلّان على ما قاله الصدوقان. وظاهر التعليل فيهما أنّه مع العمل بخلوّها من الامور المذكورة لا مانع من استعمالها. وقد ذكر الصدوقان التعليل أيضا وهو مشعر بأنّهما لا يقولان بالمنع مطلقا.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٨٧.

(٢) منتهى المطلب ١ : ١٤٧.

(٣) إرشاد الأذهان ١ : ٢٣٨.

(٤) الكافي ٣ : ١٤ ، الحديث ١.

(٥) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٠ ، الحديث ٦.

٣٥١

وبالرواية الاولى احتجّ المحقّق رحمه‌الله في المعتبر على ما حكيناه عنه ، ثمّ قال : إنّ المنع فيها معلّل باجتماعه من النجاسة فينتفي التنجيس عند انتفاء السبب.

فالظاهر أنّ رأيه هنا ورأي الصدوقين واحد وإن لم يصرّحا بالتفصيل.

ولو صحّ طريق هاتين الروايتين أو واحدة منهما لكان هذا القول متّجها لكنّهما ضعيفتان.

الثالثة : رواية أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام قال : « سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غسالة الناس يصيب الثوب؟ قال : « لا بأس » (١).

وهذه الرواية تدلّ على الطهارة إلّا أنّ في طريقها ضعفا بالإرسال ، وجهالة أبي يحيى حيث ذكره الشيخ من غير تعرّض لثناء أو غيره (٢) ، وقد قال المحقّق في المعتبر ـ عند ذكره لها بقصد جعلها مؤيّدة لما حكم به من عدم المنع إذا علم خلوّها من النجاسة ـ : « أنّها وإن كانت مرسلة إلّا أنّ الأصل يؤيّدها » (٣). والأمر كما قال.

وفي المنتهى جعلها شاهدا على ما ذهب إليه من الحكم بالطهارة مطلقا مع الأصل وبيان ضعف ما دلّ على خلافه (٤).

وأمّا ما ذكره الشيخ في النهاية من تعميم المنع فلم نقف له على حجّة.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٣٧٩ ، الحديث ١١٧٦.

(٢) راجع رجال النجاشي : ١٩٢ ، ٣٤٨ ، ورجال الطوسي : ٤٧٦ ، ٥١٩ ، ٥٢١ ، والفهرست للطوسي : ٨٠ ، ١٨٦.

(٣) المعتبر ١ : ٩٢.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٤٧.

٣٥٢

ولعلّه بناه على ما تقضي به العادة من عدم انفكاكها من ملاقاة النجاسة ، كما اعتذر له به المحقّق في نكت النهاية (١).

وحكى في المعتبر عن بعض المتأخّرين ـ وعنى به ابن إدريس ـ أنّه عبّر بما ذكره الشيخ فقال : « وغسالة الحمّام ـ وهو المستنقع ـ لا يجوز استعمالها على حال. ثمّ قال : وهذا إجماع وقد وردت به أخبار معتمدة (٢) قد أجمع عليها ودليل الاحتياط يقتضيها ». ونقل لفظ النهاية (٣).

قال المحقّق رحمه‌الله : « وهو خلاف الرواية وخلاف ما ذكره ابن بابويه ولم نقف على رواية بهذا الحكم سوى تلك الرواية ـ يعني رواية حمزة بن أحمد السابقة ـ ورواية مرسلة ذكرها الكليني ـ وهي رواية ابن أبي يعفور المتقدّمة ـ وفي طريقها مع الإرسال ابن جمهور وهو ضعيف جدّا. ذكر ذلك النجاشي في كتاب الرجال. فأين الإجماع وأين الأخبار المعتمدة؟ نحن نطالبه بما ادّعاه وأفرط في دعواه (٤). هذا حاصل كلام المحقّق عليه الرحمة وهو واضح حسن.

وبقي الكلام على القول بنجاستها ولم يذكر له حجّة.

وربّما قيل : إنّ حجّته النهي عن استعمالها ، وسقوطها ظاهر.

وقد تحرّز من هذا أنّه ليس على حكمها بالخصوص دليل فيجب الرجوع فيها إلى ما يقتضيه القواعد. ولا ريب أنّ الأصل يقتضي طهارتها.

والتقريب السابق لعدم المنع من المستعمل يدلّ على جواز استعمالها إلّا أن

__________________

(١) النهاية ونكتها ١ : ٢٠٣.

(٢) في « ب » : أخبار معتدّة.

(٣) المعتبر ١ : ٩٢.

(٤) المعتبر ١ : ٩٢.

٣٥٣

يعلم ما يخرج عن ذلك ولو بقرائن الأحوال. ومع هذا فاجتنابها أحوط على كلّ حال.

٣٥٤

البحث الخامس

في

الأسآر

مسألة [١] :

السؤر في اللغة ما يبقى بعد الشرب. قاله الجوهري (١).

والمبحوث عنه هنا ما يكون من الماء القليل مع مباشرة فم الحيوان له.

وهو تابع للحيوان في النجاسة عند القائلين بانفعال القليل بغير خلاف نعرفه ؛ لأنّ الأدلّة على انفعال القليل بالملاقاة تتناوله.

وما يذكر هاهنا من الاختلاف لم يقع موقعه إذ مرجعه إلى الخلاف في نفس الحيوان هل هو طاهر أو نجس. وحقّه أن يذكر في بحث النجاسات إذ لا خصوصيّة للسؤر فيه.

وجملة ما حكوا هنا الخلاف في نجاسته باعتبار الاختلاف فيما هو سؤره ، خمسة أسئار :

الأوّل : سؤر اليهود والنصارى. فحكى المحقّق في المعتبر عن المفيد أنّ

__________________

(١) الصحاح ٢ : ٦٧٥.

٣٥٥

له فيه قولين : أحدهما النجاسة ـ ذكره في أكثر كتبه (١) ـ والآخر الكراهيّة : ذكره في الرسالة العزيّة (٢). وظاهر ابن الجنيد القول بالكراهية أيضا فإنّه قال في المختصر : « والتنزّه عن سؤر جميع من يستحلّ المحرّمات من ملّي وذمّي وما ماسّوه بأبدانهم أحبّ إليّ إذا كان الماء قليلا ».

وأكثر الأصحاب على الأوّل إذ لا نعرف بينهم (٣) الخلاف من غير ما ذكرناه.

الثاني : سؤر المجسّمة والمجبّرة ، فذهب الشيخ في بعض كتبه إلى نجاسته (٤) ، ووافقه في المجسّمة بعض الأصحاب ، وخالفه بعض. والأكثرون على خلافه في المجبّرة.

الثالث : سؤر كلّ من لم يعتقد الحقّ غير المستضعف ، فقال ابن إدريس بنجاسته (٥) وسيأتي الكلام في باب النجاسات. نقل (٦) بعض الأصحاب عن المرتضى القول بنجاسة غير المؤمن وهو يقتضي نجاسة سؤره. ونفى ذلك الباقون ممّن وصل إلينا كلامه.

الرابع : سؤر ولد الزنا فيحكى عن المرتضى القول بنجاسته ؛ لأنّه كافر. ويعزى القول بكفره إلى ابن إدريس أيضا. وربّما نسب إلى الصدوق القول بنجاسة سؤره ، وكلامه ليس بصريح فيه فإنّه قال في من لا يحضره الفقيه :

__________________

(١) المعتبر ١ : ٩٦.

(٢) الرسالة العزيّة.

(٣) في « ب » : إذ لا نعرف منهم الخلاف.

(٤) المبسوط ١ : ١٤.

(٥) السرائر ١ : ٨٤.

(٦) في « ب » : نقل عن بعض الأصحاب.

٣٥٦

« ولا يجوز الوضوء بسؤر اليهودي والنصراني وولد الزنا والمشرك وكلّ من خالف الإسلام (١).

وعدم جواز الوضوء به أعمّ من الحكم بنجاسته إلّا أنّ ذكره مع المشرك ونحوه قرينة على إرادة النجاسة ولا نعرف بذلك [ قائلا ] سواهم.

الخامس : سؤر ما عدا الخنزير من أنواع المسوخ فذهب الشيخ إلى نجاستها فينجس سؤرها (٢) ، واستثناها ابن الجنيد ممّا حكم بطهارة سؤره مع حكمه بطهارة سؤر السباع ، وقرنها في الاستثناء بالكلب والخنزير. وظاهر ذلك القول بنجاستها أو نجاسة لعابها كما حكاه الفاضلان عن بعض الأصحاب (٣). وبه صرّح سلّار في رسالته (٤). وربّما ظهر من سوق كلامه كونها في معنى الكلب فيوافق قول الشيخ أيضا. وجزم في المختلف بنسبة القول بنجاستها إليه (٥). وحكي ذلك عن ابن حمزة أيضا.

والباقون على طهارتها بحيث لا نعرف في ذلك [ خلافا ] من سوى من ذكر. وحيث إنّ الخلاف هنا تابع للاختلاف في النجاسة فتأخير البحث في ذلك وبيان ما هو الحقّ فيه إلى محلّه من باب النجاسات هو المناسب.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المحقّق اختار طهارة ما عدا الأوّل من الأسئار

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ٨.

(٢) الخلاف ١ : ٥٨٧ ، المسألة ٣٠٦.

(٣) المعتبر ١ : ٩٩ ، ومنتهى المطلب ١ : ١٦٢.

(٤) المراسم : ٣٧.

(٥) مختلف الشيعة ١ : ٢٢٩.

٣٥٧

المذكورة ، واستوجه في بعضها الكراهة خروجا من خلاف من قال بالنجاسة (١). وهذا آت من الكلّ ، فلا وجه للتخصيص بالبعض.

وأمّا كراهة سؤر اليهود والنصارى على القول بطهارته فلا ريب فيه. والقائل بالطهارة مصرّح به ، كما قد علم ، والأخبار ناطقة بذلك أيضا.

كصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام أنّه : « سأله عن اليهودي والنصراني يدخل يده في الماء ، أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : لا ، إلّا أن يضطرّ إليه » (٢).

وحسنة سعيد الأعرج ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن سؤر اليهوديّ والنصرانيّ ، فقال : لا » (٣).

ورواية الوشّاء عمّن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّه كره سؤر ولد الزنا واليهوديّ والنصرانيّ والمشرك ، وكلّ من خالف الإسلام. وكان أشدّ ذلك عنده سؤر الناصب (٤).

وهذه الأخيرة تدلّ على كراهة سؤر ولد الزنا أيضا ، إن قيل بطهارته.

وبالجملة فكراهة المذكورات لا ينبغي التوقّف فيها حيث يقال بالطهارة ؛ فإنّ رعاية الخروج من الخلاف كافية في مثله.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٩٩.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٣ ، الحديث ٦٣٨.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٣ ، الحديث ٦٤٠.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٣ ، الحديث ٦٣٩.

٣٥٨

مسألة [٢] :

وفي تبعيّة السؤر للحيوان في الطهارة خلاف :

فذهب أكثر الأصحاب ، كالفاضلين والشهيدين (١) وجمهور المتأخّرين إلى طهارة سؤر كلّ حيوان طاهر ، وحكاه المحقّق في المعتبر عن المرتضى في المصباح (٢) ، وهو اختيار الشيخ في الخلاف والنهاية (٣) ، إلّا أنّه استثنى منه في النهاية سؤر ما أكل الجيف من الطير.

وذكر المحقّق رحمه‌الله أنّ المرتضى قدس‌سره استثنى الجلّال في المصباح (٤).

وقال ابن الجنيد : « لا ينجس الماء بشرب ما أكل لحمه من الدوابّ والطيور ، وكذلك السباع وإن ماسّته بأبدانها ما لم يعلم بما ماسّه نجاسة ولم يكن جلّالا وهو الآكل العذرة ولم يكن أيضا كلبا ولا خنزيرا ولا مسخا ».

وظاهر الشيخ في التهذيب المنع من سؤر ما لا يؤكل لحمه (٥). وكذا في الاستبصار إلّا أنّه استثنى منه الفأرة ، ونحو البازي والصقر من الطيور (٦).

وذهب في المبسوط إلى نجاسة سؤر ما لا يؤكل من الحيوان الإنسيّ ما عدا ما لا يمكن التحرّز منه كالفأرة والحيّة والهرّة ، وطهارة سؤر الطاهر من الحيوان

__________________

(١) المعتبر ١ : ٩٧. ونهاية الإحكام ١ : ٢٣٨. والروضة البهيّة ١ : ٢٨١.

(٢) المعتبر ١ : ٩٣.

(٣) الخلاف ١ : ١٨٧ ، والنهاية ونكتها ١ : ٢٠٣.

(٤) المعتبر ١ : ٩٧.

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ٢٢٤.

(٦) الاستبصار ١ : ٢٥.

٣٥٩

الوحشي ، طيرا كان أو غيره. حكاه عن المحقّق (١).

وحكى العلّامة عن ابن إدريس أنّه حكم بنجاسته ما يمكن التحرّز عنه ممّا لا يؤكل لحمه من حيوان الحضر غير الطير (٢).

والأظهر عندي مختار الأكثر.

لنا : الأصل ، بالتقريب السابق في المستعمل ، والأخبار الكثيرة الواردة بطهارة كثير ممّا وقع النزاع فيه ، كرواية الفضل أبي العبّاس ، قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن فضل الهرّة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع ، فلم أترك شيئا إلّا سألته عنه ، فقال : لا بأس به. حتّى انتهيت إلى الكلب فقال : رجس نجس لا تتوضّأ بفضله واصبب ذلك الماء » (٣).

وسند هذه الرواية جيّد ، لكن في بلوغه حدّ الصحّة نظر.

ورواية معاوية بن شريح ، قال : « سأل عذافر أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده عن سؤر السنّور والشاة والبقرة والبعير والحمار والفرس والبغل والسباع ، يشرب منه ، أو يتوضّأ منه؟ قال : نعم اشرب منه وتوضّأ. قال : قلت له : الكلب؟ قال : لا. قلت : أليس هو سبع؟ قال : لا والله إنّه نجس. لا والله إنّه نجس » (٤).

وطريق هذه الرواية صحيح إلى معاوية ، لكن هو مجهول.

وصحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن الكلب

__________________

(١) المعتبر ١ : ٩٣ ، والمبسوط ١ : ١٠.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٣٩.

(٣) الاستبصار ١ : ١٩ ، الحديث ٤٠.

(٤) الإستبصار ١ : ١٩ ، الحديث ٤١.

٣٦٠