معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ١

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي

معالم الدين وملاذ المجتهدين - ج ١

المؤلف:

الشيخ حسن بن زين الدين العاملي


المحقق: السيد منذر الحكيم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الفقه للطباعة والنشر
المطبعة: باقري
الطبعة: ١
ISBN: 964-91559-5-3
الصفحات: ٤٤٧
الجزء ١ الجزء ٢

وروى الكليني في الكافي عن يعقوب بن يزيد عن عدّة من أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « لا يسخّن للميت الماء ، لا يعجّل له النار » (١). الحديث.

فرعان :

[ الفرع ] الأوّل :

استثنى الشهيد في الذكرى من نفي البأس عن استعمال المسخّن بالنار في غير الأموات : ما لو اشتدّت السخونة بحيث يقضي إلى عسر الإسباغ فقال : « إنّ الأولى الكراهيّة حينئذ لفوات الأفضليّة » (٢). وله وجه.

[ الفرع ] الثاني :

استثنى الشيخان من كراهة المسخّن بالنار للأموات (٣) ما إذا خاف الغاسل على نفسه من استعمال الماء لشدّة البرد ، فحكما بعدم كراهيّة المسخّن حينئذ (٤).

لكن الشيخ أطلق في النهاية (٥).

وقيّده المفيد في المقنعة بالقلّة حيث قال : « فإن كان الشتاء شديد البرد فليسخن له قليلا ليتمكّن غاسله من غسله » (٦).

وتبعهما في أصل الاستثناء جمع من الأصحاب محتجّين له بأنّ فيه دفعا

__________________

(١) الكافي ٣ : ١٤٧ ، الحديث ٢. وفي « ب » : لا تسخّن للميّت الماء ، لا تعجّل له بالنار.

(٢) ذكرى الشيعة : ٨.

(٣) في « ب » : المسخّن بالنار في غسل الأموات.

(٤) في « أ » و « ب » : عدم كراهيّة التسخين.

(٥) النهاية ونكتها ١ : ٢٤٦.

(٦) المقنعة : ٨٢.

٤٠١

للضرر. والصدوقان استثنيا أيضا من الكراهة هنا حالة شدّة البرد (١). إلّا أنّ الظاهر من كلامهما كون المقتضي لذلك رعاية حال الميّت لا خوف الغاسل حيث قال الشيخ علي في الرسالة : « ولا تسخّن الماء إلّا أن يكون شتاء باردا فتوقي الميّت ممّا توقي منه نفسك ولا يكون الماء حارّا شديد الحرارة ، وليكن فاترا ». وقال ولده في من لا يحضره الفقيه : « قال أبو جعفر عليه‌السلام : لا يسخّن الماء للميّت ». وروي في حديث آخر : « إلّا أن يكون شتاء باردا فتوقي الميّت ممّا توقي منه نفسك » (٢).

وهذا الكلام كما دلّ على ذهابهما إلى كون المقتضي لنفي الكراهة حينئذ هو ملاحظة الميّت على خلاف ما ذكره غيرهما من الأصحاب ، فقد دلّ أيضا على أنّ الحجّة في ذلك هي النصّ لا دفع الضرر ، كما احتجّ به جماعة.

وعبارة من لا يحضره الفقيه وإن لم يصرّح فيها بالحكم حيث أورده بلفظ روي ، إلّا أنّ البناء على قاعدته التي قرّرها في أوّله من أنّه لا يورد فيه من الروايات إلّا ما يفتي به يدلّ على ذلك لا سيّما مع قرب العهد بها كما لا يخفى.

مسألة [٣] :

ولا بأس بالطهارة بماء الحمّات وهي العيون الحارّة التي يشمّ منها رائحة الكبريت. ولا نعرف في ذلك من الأصحاب مخالفا إلّا ابن الجنيد فإنّه قال في المختصر : « ماء الحمّات التي لا يوجد إلّا والرائحة المكروهة مقارنة لها كالكبريت وغيره ممّا أكره الطهارة به ». وابن البرّاج حيث قال بكراهة استعمالها ،

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٤٢.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٤٢.

٤٠٢

فيما يحكى عنه (١). ولم نقف لما قالاه على حجّة.

نعم ذكر الصدوق رحمه‌الله في من لا يحضره الفقيه أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أن يستشفى بها ، وقال : « إنّها من فوج جهنّم » (٢).

وروى في الكافي عدّة أخبار تدلّ على ذلك (٣). ومن ثمّ حكم كثير من الأصحاب بكراهة التداوي بها.

مسألة [٤] :

إذا تغيّر المطلق في أحد الأوصاف بممازجة طاهر أو مجاورته لم يخرج بالتغيير عن إفادة التطهير ما لم يسلبه إطلاق اسم الماء سواء كان المقتضي للتغيير (٤) ممّا لا ينفكّ الماء عنه كالتراب والطحلب والكبريت وورق الشجر ، أو ممّا ينفكّ كالدقيق والزعفران ، أو من المائعات كاللبن وماء الورد ، أو ممّا يجاوره ولا يشبع فيه كالعود. بغير خلاف في ذلك كلّه لأحد من الأصحاب فيما نعلم.

وإنّما حكوا فيه خلافا لبعض العامّة حقيقا بالإعراض عنه.

وحجّة الأصحاب في ذلك إنّ إفادة التطهير منوطة بالمائيّة وهي موجودة فيه ، وأنّ الصحابة كانوا يسافرون وغالب أسقيتهم الأدم وهي لا تنفكّ عن الدباغ المغيّر للماء غالبا ولم يمنع منها ، وأنّ الماء لرطوبته ولطافته منفعل

__________________

(١) المهذّب ١ : ٢٧.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ١٩ ، الحديث ٢٥.

(٣) الكافي ٦ : ٣٨٩ ، باب المياه المنهيّ عنها ، الأحاديث ١ و ٢ و ٣ و ٤.

(٤) في « أ » و « ب » : المقتضي للتغيّر.

٤٠٣

بالكيفيّات الملاقية ، فلو خرج بتغيّر أحد الأوصاف عن التطهير لعسرت الطهارة ؛ لأنّه لا يكاد ينفكّ عن التكيّف برائحة الإناء. وكلّ هذا واضح.

فرع :

قال المحقّق في المعتبر : « لو كان معه ما لا يكفيه لطهارته فأكمله بمائع فإن لم يسلبه الإطلاق صحّ الوضوء به ؛ لاستهلاك المائع فيه وبقاء الصفة المقتضية للتطهير » (١). وما قاله جيّد.

وظاهر بعض الأصحاب أنّ هذا الحكم موضع وفاق بينهم. ووجهه يعلم من الحكم بعدم تأثير تغيّر أحد الأوصاف بمثله حيث لا يوجب الخروج عن الاسم كما قرّر. هذا.

وقد اختلفوا في وجوب الإكمال حينئذ إذا لم يجد ماء آخر للطهارة. ومحلّ البحث في ذلك باب التيمّم.

مسألة [٥] :

وإذا حصل التغيّر للمطلق من قبل نفسه لطول المكث فإن بقي صدق الاسم فهو على حكمه ، وإلّا فلا.

والوجه في الأمرين ظاهر ممّا سلف.

وقد ذكر كثير من الأصحاب كراهة الطهارة به على تقدير بقاء الاسم مع وجدان غيره ؛ استنادا إلى ما رواه الشيخ في الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « في الماء الآجن يتوضّأ. منه إلّا أن يجد ماء غيره فيتنزّه

__________________

(١) المعتبر ١ : ٣٨.

٤٠٤

منه » (١). ولأنّه مستخبث طبعا فكان اجتنابه أنسب بحال المستظهر (٢) لطهارته. وهو حسن.

ولا يقدح في الاحتجاج بالحديث كونه أخصّ من المدّعى حيث لا تعرّض فيه لغير الوضوء ، فقد قرّبه الشهيد في الذكرى بأنّ الغسل أولى لقوّته وإزالة الخبث أحرى ؛ لأنّ العينيّة أشدّ من الحكميّة (٣).

مسألة [٦] :

قد بيّنا أنّ جمود الماء يخرجه عن الاسم ويلحقه بالجامدات في الحكم.

وإنّ ادّعاء العلّامة في المنتهى عدم خروجه بذلك عنه (٤) ضعيف. وفي معناه الثلج.

لكن لو استعمل أحدهما في الطهارة بحيث يصدق معه مسمّى الغسل في الوضوء أو الغسل بأن ينحلّ منه بعض الأجزاء وتجري على الأعضاء بقدر ما يتوقّف عليه صدق اسم الغسل صحّ. وقد ادّعى فيه الشيخ في الخلاف إجماع الفرقة (٥). وقال المحقّق لم أعرف فيه من الأصحاب مخالفا (٦).

والظاهر من كلام الشيخ في الخلاف الاكتفاء في صحّة الوضوء به بمجرّد

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ٤٠٨.

(٢) في « ب » : أنسب بحال التطهير.

(٣) ذكرى الشيعة : ٨.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٧٢.

(٥) الخلاف ١ : ٥٣.

(٦) المعتبر ١ : ٣٩.

٤٠٥

الدهن وأنّ ذلك ثابت بالإجماع ولولاه لم يكتف به.

وتحقيق الحال في هذا المعنى ببحث الوضوء أليق ؛ إذ الغرض هنا إثبات أصل الحكم.

والدليل عليه : أنّه بالانحلال يعود إليه اسم الماء فيثبت له أحكامه.

ويؤيّده ما رواه الشيخ عن محمّد بن مسلم قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يجنب في السفر لا يجد إلّا الثلج قال : يغتسل بالثلج » (١). الحديث.

وعن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : « سألته عن الرجل الجنب أو على غير وضوء لا يكون معه ماء وهو يصيب ثلجا وصعيدا أيّهما أفضل أيتيمّم أم يمسح بالثلج وجهه؟ قال : الثلج إذا بلّ رأسه وجسده أفضل ، فإن لم يقدر على أن يغتسل به فليتيمّم » (٢).

وعن معاوية بن شريح قال : « سأل رجل أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا عنده فقال : يصيبنا الدمق والثلج ونريد أن نتوضّأ ولا نجد إلّا ماء جامدا ، فكيف أتوضّأ؟ أدلّك به جلدي؟ قال : نعم » (٣).

فأمّا ما رواه الكليني في الكافي عن محمّد بن مسلم في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن رجل أجنب في سفر ولم يجد إلّا الثلج أو ماء جامدا؟ فقال : هو بمنزلة الضرورة يتيمّم ، ولا نرى أن يعود إلى هذه الأرض التي توثق دينه » (٤). فمحمول على ما إذا لم يتمكّن من استعماله على وجه

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ : ١٩١.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ١٩٢.

(٣) الاستبصار ١ : ١٥٧.

(٤) الكافي ٣ : ٦٧.

٤٠٦

يصدق معه مسمّى الغسل.

قال العلّامة رحمه‌الله : « الغالب في تلك الأراضي التي لا يوجد فيها إلّا الثلج أو الجمد شدّة البرودة المانعة من الملامسة فيحمل عليه لظهوره » (١).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ صحّة استعمال الثلج والجمد لا يختصّ بحال الضرورة ـ بناء على ما اخترناه من اشتراطه بتحقّق الغسل ـ إذ لا يبقى بينه وبين غيره من المياه فرق وأمّا على ما يظهر من كلام الشيخ من الاكتفاء فيه بالدهن وجعل ذلك من خصوصيّاته (٢) ، فالذي ينبغي تقييده بحال الضرورة.

فرع :

قال العلّامة في المنتهى : الذائب من الثلج والبرد يجوز التطهّر به أمّا الملح الذائب إذا كان أصله من السبخ فلا (٣).

وهذا الكلام يلوح منه أنّه يرى الفرق في الملح بين ما أصله من السبخ وهو المسمّى بالجبلي وبين ما أصله الماء ويعبّر عنه بالمائي وأنّ المنع من الاستعمال في الطهارة مخصوص بالجبلي.

وله في النهاية كلام يخالف هذا حيث قال : إنّ الملح المائي أصله الأرض أيضا ؛ لأنّ المياه تنزل من السماء عذبة ثمّ يختلط بها أجزاء السبخة فينعقد ملحا. ولهذا لا تذوب بالشمس. ولو كان منعقدا من الماء لذاب كالمجمّد (٤). وهذا هو الأظهر.

__________________

(١) منتهى المطلب ١ : ١٧٤.

(٢) الخلاف ١ : ٥٢ ، ذيل المسألة ٣.

(٣) منتهى المطلب ١ : ٢٣.

(٤) نهاية الإحكام ١ : ٢٢٧.

٤٠٧

مسألة [٧] :

ماء البحر كغيره من أصناف الماء المطلق فيجوز استعماله في الطهارة وإن وجد خلافه.

وهو موضع وفاق بيننا ؛ إذ حكى فيه إجماعنا جمع من الأصحاب ، منهم الشيخ في الخلاف (١) والمحقّق في المعتبر (٢) والعلّامة في المنتهى والتذكرة (٣). وأكثر الجمهور على ذلك أيضا.

ويعزى إلى شذوذ منهم الخلاف فيه وهو ممّا لا يلتفت إليه.

ويدلّ على هذا الحكم مع الإجماع المذكور أنّه يصدق عليه اسم الماء فيساوي غيره في تناول عموم الأدلّة له.

ويؤيّده ما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « سألته عن ماء البحر أطهور هو؟ قال : نعم » (٤).

وما رواه أبو بكر الحضرمي قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ماء البحر أطهور هو؟ قال : نعم » (٥).

__________________

(١) الخلاف ١ : ٤١ ، المسألة الثانية.

(٢) المعتبر ١ : ٣٧.

(٣) منتهى المطلب ١ : ١٨. وتذكرة الفقهاء ١ : ١١.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٢١٦ ، الحديث ٥.

(٥) تهذيب الأحكام ١ : ٢١٦ ، الحديث ٦.

٤٠٨

مسألة [٨] :

ذهب الشيخ في النهاية إلى المنع من استعمال الماء الذي وقع فيه الوزغ وخرج منه حيّا ، فقال : « والوزغ إذا وقع في الماء ثمّ خرج منه لم يجز استعماله على حال » (١). وظاهر كلام الصدوقين يعطي ذلك أيضا حيث قال في من لا يحضره الفقيه : « فإن وقع وزغ في إناء فيه ماء اهريق ذلك الماء » (٢). وقريب من هذه العبارة عبارة والده في الرسالة.

وكأنّ الشيخ بنى ذلك على ما حكم به في باب تطهير الثياب من مساواة الوزغ للكلب والخنزير في وجوب غسل ما يصيبه من الثوب أو البدن برطوبة (٣). وسيأتي البحث فيه وبيان ضعفه.

والظاهر أنّ كلام الصدوقين ناظر إلى ذلك أيضا.

وقد قال المحقّق في المعتبر بعد حكايته لهذا الحكم عن الجماعة : « والوجه الكراهيّة تمسّكا بالأصل ؛ ولأنّه ليس بنجس العين (٤). ولما رواه علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر قال : « سألته عن العظاية والحيّة والوزغ يقع في الماء فلا يموت أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : لا بأس » (٥). وما قاله المحقّق جيّد. والحديث الذي ذكره صحيح.

ويكفي في الكراهيّة رعاية الخروج من خلاف الجماعة.

__________________

(١) النهاية ونكتها ١ : ٢٠٨.

(٢) من لا يحضره الفقيه ١ : ٨.

(٣) النهاية ونكتها ١ : ٢٦٧.

(٤) المعتبر ١ : ١٠٠.

(٥) الاستبصار ١ : ٢٣ ، الباب ١١.

٤٠٩
٤١٠

المقام الثاني

في المضاف

٤١١
٤١٢

المقام الثاني

في المضاف

مسألة [١] :

الماء المضاف هو ما لا ينصرف إليه لفظ الماء عند الإطلاق في العرف ، ويصدق عليه مع القيد : كالمصعّد من الأنوار ، والمعتصر من الثمار ، والممتزج بما يسلبه صدق الاسم عند الإطلاق.

وهو على أصل الطهارة بإجماع الناس فيما حكاه المحقّق وغيره (١) ، ولأنّ النجاسة حكم يستفاد من الأدلّة الشرعيّة ، ولا دليل هنا.

وينجس بملاقاة النجاسة له وإن كان كثيرا ، وذلك مذهب الأصحاب لا يعرف فيه خلاف بينهم. قاله في المعتبر (٢). وفي التذكرة هو قول علمائنا أجمع (٣). وفي المنتهى نفى الخلاف بيننا فيه (٤). وصرّح الشهيدان في الذكرى والروضة

__________________

(١) المعتبر ١ : ٨١.

(٢) المعتبر ١ : ٨٤.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ : ٣٣.

(٤) منتهى المطلب ١ : ١٢٧.

٤١٣

والروض بدعوى الإجماع عليه (١). وهو الحجّة.

وقد احتجّوا له مع ذلك بما رواه زرارة في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت ، فإن كان جامدا فألقها وما يليها وكل ما بقي ، وإن كان ذائبا فلا تأكله واستصبح به. والزيت مثل ذلك » (٢). وبأنّ المائع قابل للنجاسة ، والنجاسة موجبة لنجاسة ما لاقته فيظهر حكمها عند الملاقاة ثمّ تسري النجاسة بممازجة المائع بعضه بعضا.

والكلفة على الوجهين ظاهرة ؛ فإنّ مورد الرواية ليس ممّا نحن فيه.

والنظر إلى الاشتراك في المائعيّة وأنّها هي المقتضية للنجاسة حينئذ بقرينة المقابلة الحكم الجمود وأنّ الماء المطلق خرج بالدليل ممكن لكنّه عين التكلّف.

وقولهم : إنّ المائع قابل للنجاسة ، والنجاسة موجبة لنجاسة ما لاقته .. إلى آخره ، منظور فيه ؛ فإنّ قبول المائع للنجاسة إن كان باعتبار الرطوبة المقتضية للتأثّر عند ملاقاة النجس فمن البيّن أنّها موجودة في كثير من أفراد الجامد الذي من شأنه الميعان كالسمن ، ولا ريب في عدم تأثّره بنجاسة ما يتّصل به من أجزائه المحكوم بنجاستها مع تحقّق الملاقاة بينهما. وقد صرّح بهذا في الحديث الذي احتجّوا به.

وإن كان باعتبار الدليل الدالّ عليه فكان الأولى الاحتجاج به على تقدير وجوده.

والظاهر أنّ الملحوظ في الاحتجاج هو الاحتمال الأوّل ؛ إذ لم نجد في الروايات ما يقتضي تعلّق الحكم بعنوان المائع على جهة العموم ، وإنّما ورد

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٧ ، والروضة البهيّة ١ : ٢٧٩ ، وروض الجنان : ١٣٣.

(٢) تهذيب الأحكام ٩ : ٨٥ ، الحديث ٩٥.

٤١٤

معلّقا بمائع خاصّ فيحتاج التعدية إلى ارتكاب التكلّف الذي أشرنا إليه.

وعلى كلّ حال فكون الحكم إجماعيّا يسهّل الخطب.

مسألة [٢] :

جمهور الأصحاب على أنّ الماء المضاف لا يرفع الحدث بل ادّعى عليه الإجماع جماعة منهم المحقّق في الشرائع (١) والعلّامة في النهاية والمنتهى (٢) ، والشهيد في الذكرى (٣).

وخالف في ذلك الصدوق رحمه‌الله فقال في من لا يحضره الفقيه : « ولا بأس بالوضوء والغسل من الجنابة والاستياك بماء الورد » (٤).

وحكى الشيخ في الخلاف عن قوم من أصحاب الحديث منّا أنّهم أجازوا الوضوء بماء الورد (٥). والمعتمد عندي ما عليه الأكثر.

لنا : قوله تعالى ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) (٦) أوجب عند عدم الماء المطلق التيمّم ، فعلم انتفاء الواسطة.

ويؤيّده ما رواه الشيخ عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « عن الرجل

__________________

(١) شرائع الإسلام ١ : ١٥.

(٢) نهاية الإحكام ١ : ٢٣٦ ، ومنتهى المطلب ١ : ١١٤.

(٣) ذكرى الشيعة : ٧.

(٤) من لا يحضره الفقيه ١ : ٦.

(٥) الخلاف ١ : ٥٥ ، المسألة الخامسة.

(٦) المائدة : ٦.

٤١٥

يكون معه اللبن أيتوضّأ منه للصلاة؟ قال : لا ، إنّما هو الماء والصعيد » (١).

وكلمة إنّما للحصر بنصّ أهل اللغة وقضاء العرف.

فأمّا ما ذهب إليه الصدوق رحمه‌الله فلا نعلم تمسّكه فيه بأي دليل.

نعم قال المحقّق في المعتبر : ربّما كان مستنده ما رواه سهل بن زياد عن محمّد بن عيسى بن عبيد عن يونس عن أبي الحسن عليه‌السلام : « في الرجل يتوضّأ بماء الورد ويغتسل به؟ قال : لا بأس » (٢).

ثمّ إنّ المحقّق أجاب عنه بالطعن في السند أوّلا ؛ فإنّ سهلا ومحمّد بن عيسى ضعيفان.

وبمنع دلالته على موضع النزاع ثانيا ؛ لأنّه يحتمل السؤال عن الوضوء والغسل به للتطيّب والتحسّن لا لرفع الحدث ، ولأنّ تسميته بماء الورد قد تكون لإضافة قليلة لا تسلبه إطلاق اسم الماء فيحتمل أن تكون الإشارة إلى مثله (٣).

وقد سبق الشيخ المحقّق إلى الكلام على هذا الحديث بنحو ما حكيناه عن المحقّق مبالغا في تقريبه فقال :

أوّلا : « إنّه خبر شاذّ شديد الشذوذ. وإن تكرّر في الكتب والاصول فإنّما أصله يونس عن أبي الحسن ولم يروه غيره وقد أجمعت العصابة على ترك العمل بظاهره. وما يكون هذا حكمه لا يعمل به ». ثمّ قال :

« ولو سلّم لاحتمل أن يكون أراد به الوضوء الذي هو التحسين وقد بيّنا فيما تقدّم أنّ ذلك يسمّى وضوء ».

__________________

(١) الاستبصار ١ : ١٤.

(٢) الاستبصار ١ : ١٤ ، الحديث ٢ ، تهذيب الأحكام ١ : ٢١٨ ، الحديث ٦٢٧.

(٣) المعتبر ١ : ٨١.

٤١٦

وليس لأحد أن يقول إنّ في الخبر أنّه سأله « عن ماء الورد يتوضّأ به للصلاة » ؛ لأنّ ذلك لا ينافي ما قلناه ؛ لأنّه يجوز أن يستعمل للتحسين ومع هذا يقصد (١) الدخول به في الصلاة من حيث إنّه متى استعمل الرائحة الطيّبة لدخوله في الصلاة ولمناجاة ربّه كان أفضل من أن يقصد التلذّذ به حسب. ثمّ قال :

« ويحتمل أيضا أن يكون أراد عليه‌السلام بقوله : « ماء الورد » الماء الذي وقع فيه الورد لأنّ ذلك قد يسمّى ماء ورد وإن لم يكن معتصرا منه » (٢) هذا كلامه.

وكأنّه أشار ـ بقوله : وقد بيّنا فيما تقدّم .. إلى آخره ـ إلى ما ذكره في شرح حديث رواه في الصحيح عن ابن بكير عن عبيد بن زرارة قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الدقيق يتوضّأ به؟ قال : لا بأس بأن يتوضّأ به وينتفع به » (٣).

قال الشيخ : معناه أنّه يجوز التمسّح به والتوضّؤ الذي هو التحسين دون الوضوء للصلاة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الشيخ روى في الصحيح عن عبد الله بن المغيرة عن بعض الصادقين ، قال : « إذا كان الرجل لا يقدر على الماء وهو يقدر على اللبن فلا يتوضّأ باللبن إنّما هو الماء أو التيمّم. فإن لم يقدر على الماء وكان نبيذا فإنّي سمعت حريزا يذكر في حديث أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد توضّأ بنبيذ ولم يقدر على الماء » (٤).

وقد تكلّم الشيخ وغيره من الأصحاب على هذا الحديث حيث ادّعي

__________________

(١) في « ب » : ومع هذا فيفيد الدخول به.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢١٩.

(٣) الاستبصار ١ : ١٥٥ ، الحديث ٢.

(٤) الاستبصار ١ : ١٥ ، تهذيب الأحكام ١ : ٢١٩ ، الحديث ٦٢٨.

٤١٧

الإجماع على ترك العمل بظاهره فطعنوا فيه بالإرسال أوّلا.

ووجّهه الشيخ والعلّامة بأنّ عبد الله بن المغيرة لم يسند إلى إمام وإنّما قال « عن بعض الصادقين » قال العلّامة في المختلف : قوله : « عن بعض الصادقين » لا ينصرف قطعا إلى الإمام بل ولا ظاهرا (١).

وفيه نظر ؛ فإنّ الظاهر من هذه الكناية كونها عن الصادق عليه‌السلام لكن المتعلّق بهذه العبارة من الحديث لا إشكال فيه ، وموضع البحث هو قوله : « سمعت حريزا يذكر في حديث .. إلى آخره » ، وهذا مرسل قطعا ؛ إذ لم يذكر الواسطة في النقل عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس هذا الكلام من تتمّة الكلام الأوّل كما لا يخفى ، بل هو كلام مستأنف ابتداؤه قوله : « فإن لم يقدر » قاله عبد الله بن المغيرة بطريق الضميمة إلى الحديث الأوّل.

وقد أطلق الشهيد رحمه‌الله في الذكرى الطعن فيه بالإرسال (٢) ، فسلم كلامه من الإشكال.

ثمّ إنّهم تأوّلوا متنه ثانيا فحملوه على ماء مالح طيّب بتمرات يسيرة طرحت فيه حتّى عذب ولم يخرجه عن الإطلاق.

وقرّبوه بأنّ النبيذ في اللغة هو ما ينبذ فيه الشي‌ء فيجوز أن يسمّى مثل هذا نبيذا (٣).

واحتجّ له الشيخ مع ذلك بما رواه سماعة بن مهران عن الكليني النسّابة : أنّه سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن النبيذ؟ فقال : حلال. فقال : إنّا ننبذه فنطرح فيه

__________________

(١) مختلف الشيعة ١ : ٢٢٨.

(٢) ذكرى الشيعة : ٧.

(٣) راجع مجمع البحرين ٣ : ١٨٩ ، وتاج العروس ٢ : ٥٨ ، منشورات مكتبة دار الحياة.

٤١٨

العكر وما سوى ذلك. فقال : شه شه تلك الخمرة المنتنة. قال : قلت : جعلت فداك فأيّ نبيذ تعني؟ قال : إنّ أهل المدينة شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تغيّر الماء وفساد طبائعهم فأمرهم أن ينبذوا ، فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له فيعمد إلى كفّ من تمر فيقذف به في الشنّ فمنه شربه ومنه طهوره. فقلت : وكم كان عدد التمر الذي في الكفّ؟ فقال : ما حمل الكفّ. قلت : واحدة أو ثنتين؟ فقال : ربّما كانت واحدة وربّما كانت ثنتين. فقلت : وكم كان يسع الشنّ؟ فقال : ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى فوق ذلك. فقلت : بالأرطال؟ فقال : أرطال مكيال العراق » (١).

مسألة [٣] :

وللأصحاب في إزالة النجاسة بالمضاف قولان :

أحدهما : المنع وهو قول المعظم.

والثاني : الجواز وهو اختيار الشيخ المفيد (٢) والسيّد المرتضى (٣). ويحكى عن ابن أبي عقيل ما يشعر بالمصير إليه أيضا (٤) إلّا أنّه خصّ جواز الاستعمال بحال الضرورة وعدم وجدان غيره ، وظاهر العبارة المحكيّة عنه أنّه يرى جواز الاستعمال حينئذ في رفع الحدث أيضا حيث أطلق تجويز الاستعمال مع الضرورة ، ولم يذكر الأكثر خلافه في المسألة السابقة.

__________________

(١) الإستبصار ١ : ١٦.

(٢) المقنعة : ٦٤.

(٣) الناصريّات ( المطبوع ضمن الجوامع الفقهيّة ) : ٢١٩.

(٤) مختلف الشيعة ١ : ٢٢٢.

٤١٩

وقد نبّه عليه الشهيد في الذكرى فقال : ظاهر الحسن بن أبي عقيل طرد الحكم في المضاف والاستعمال (١).

احتجّوا للأوّل بوجوه :

أحدها : ورود الأوامر بالغسل من النجاسة بالماء ، وإنّما يفهم منه عند الإطلاق المطلق.

فروى الحسين بن أبي العلاء قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن البول يصيب الجسد؟ قال : صبّ عليه الماء مرّتين » (٢).

ومثله روى أبو إسحاق النحوي عنه عليه‌السلام (٣). وروى الحلبي في الحسن قال : « سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن بول الصبي؟ قال : يصبّ عليه الماء (٤). وروى الصدوق في الصحيح عن محمّد الحلبي أنّه : « سأل أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره؟ قال : يصلّي فيه فإذا وجد الماء غسله » (٥).

وتوجيه دلالة إيجاب الغسل بالمطلق على عدم جواز غيره أنّه لو كان الغسل بغير المطلق جائزا لكان تعيين المطلق تضييقا وهو غير جائز ؛ لما فيه من الحرج.

أو نقول : لو كان غير المطلق صالحا لإزالة النجاسة لكان المكلّف مخيّرا

__________________

(١) ذكرى الشيعة : ٧.

(٢) تهذيب الأحكام ١ : ٢٤٩ ، الحديث ٧١٤.

(٣) تهذيب الأحكام ١ : ٢٤٩ ، الحديث ٧١٦.

(٤) تهذيب الأحكام ١ : ٢٤٩ ، الحديث ٧١٥.

(٥) من لا يحضره الفقيه ١ : ٦٨ ، الحديث ١٥٥.

٤٢٠