هذا ، والحقّ أنّ العلم بالإجماع بكلّ من النقل والتتبّع وكليهما ممكن في الجملة في كلّ عصر ؛ لأنّ فتاوى أعيان القدماء والمتأخّرين محفوظة في الكتب المصنّفة ، فإذا ظهر في حكم من الأحكام المهمّة اتّفاقهم ولم نظفر بالتتبّع التامّ على مخالف له ، علم أنّه مذهب كلّ الإماميّة ؛ إذ العادة لم تجر بأنّ ما لا يكون كذلك لم يقع فيه خلاف ، مع مخالفة أذهانهم ومباينة سلقهم.
واحتمال أن يكون مخالف من المتقدّمين لم يصل خلافه إلى المتتبّع ؛ لخروج قوله عن الكتب المصنّفة ، ينافي اهتمامهم في تتبّع الأقوال وضبطها حتّى الأقوال الشاذّة في المسائل النادرة.
فيتمكّن المجتهد بتتبّع أقوالهم ـ وإن كان بوجدان بعضها في كتب غير قائله ـ أن يظفر باتّفاقهم على حكم وإن لم يعثر على نقل إجماع منهم.
ومن الأصحاب من قصر إمكان الاطّلاع عليه بكلّ من النقل والتتبّع على العصر المقارب لظهور الأئمّة ؛ نظرا إلى إمكان حصول العلم حينئذ بأقوالهم بالتتبّع ؛ لقلّتهم ووجود فتاويهم فيه ؛ لأنّ كتب أصحاب الأئمّة كانت حينئذ موجودة ، وخصّص أمثال زماننا بإمكان الاطّلاع عليه من جهة النقل فقط ؛ لعدم إمكان حصول العلم بأقوالهم حينئذ بالتتبّع ؛ لكثرتهم وانتشار أقوالهم ، وعدم وجود مصنّف من كلّ منهم ، واضمحلال كتب أصحاب الأئمّة ، ولم يضبط أصحاب التصانيف أقوال جميعهم في كلّ حكم ، وإلاّ صارت بحيث لا تعدّ كثرة ، فلا يمكن الاطّلاع على جميعها بالتتبّع ولو باستعانة نقل الخلف عن السلف ؛ لأنّ غاية ما يمكن حينئذ الاطّلاع على مذاهب أرباب التصنيف ومعظمهم من المتأخّرين ، ويبقى مذاهب القدماء وأصحاب الأئمّة في حيّز الجهل.
فكلّ إجماع يدّعى من زمان انتشار الأقوال ، كزمان المفيد وما قاربه إلى زماننا هذا ، إمّا أن يكون مستندا إلى نقل متواتر أو آحاد ، أي يكون حدوث ادّعائه من الزمان السابق عليه ، أو لا ، أي يكون حدوث ادّعائه من عصر المفيد وما تأخّر عنه. والثاني ليس حجّة ؛ لما ذكر (١) ، والأوّل حجّة ؛ لاستناده إلى ادّعاء العصر السابق ؛ فإنّ نقلهم حجّة ؛ لتمكّنهم من
__________________
(١) أي لانتشار الأقوال وعدم الحصول على جميع الأقوال.