فتفهم عنه. ويجوز أن يسمّي ذلك دعاء إمّا على الحقيقة أو على المجاز. وقد قال أبو جعفر الطبري (١) : إنّ ذلك ليس بأمر ولا دعاء ، ولكنّه عبارة عن تكوين الشيء ووجوده ، كما قال تعالى في الذين مسخهم : (كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (٢) وإنّما أخبر عن تكوينهم كذلك من غير أمر ولا دعاء ، فيكون المعنى على هذا التأويل. ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ، فإنّ الله تعالى يؤلّف تلك الأجزاء ويعيد الحياة فيها ، فيأتينك سعيا ، وهذا وجه قريب.
فإن قيل : على الوجه الأوّل كيف يصحّ أن يدعوها وهي أحياء؟ وظاهر الآية يشهد بخلاف ذلك ؛ لأنّه تعالى قال : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً). وقال عقيب هذا الكلام من غير فصل : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً). فدلّ ذلك على انّ الدعاء توجّه إليهن وهنّ أجزاء متفرّقة.
قلنا : ليس الأمر على ما ذكر في السؤال ؛ لأنّ قوله : (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) لا بدّ من تقدير محذوف بعده ، وهو : فإنّ الله يؤلفهن ويحييهن (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً). ولا بدّ لمن حمل الدعاء لهنّ في حال التفرّق وانتفاء الحياة من تقدير محذوف في الكلام عقيب قوله : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ)؛ لأنّا نعلم أنّ تلك الأجزاء والأعضاء لا تأتي عقيب الدعاء بلا فصل ، ولا بدّ من أن يقدّر في الكلام عقيب قوله : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ)، فإنّ الله تعالى يؤلّفهنّ ويحييهنّ فيأتينك سعيا.
فأمّا أبو مسلم الاصفهاني فإنّه فرارا من هذا السؤال حمل الكلام على وجه ظاهر الفساد ؛ لأنّه قال إنّ الله تعالى أمر إبراهيم عليهالسلام بأن يأخذ أربعة من الطيور ، ويجعل على كل جبل طيرا ، وعبّر بالجزء عن الواحد من الأربعة ، ثمّ أمره بأن يدعوهنّ وهنّ أحياء من غير إماتة تقدّمت ولا تفرّق من الأعضاء ، ويمرّنهنّ على الاستجابة لدعائه ، والمجيء إليه في كل وقت يدعوها فيه. ونبّه
__________________
(١) تفسير الطبرى ٣ / ٤٠.
(٢) سورة البقرة ، الآية : ٦٥ ؛ وسورة الأعراف ، الآية : ١٦٦.