دفعة بل على التدريج يسيرا يسيرا. ولم يذكر الحكماء عليه دليلا ، بل قنعوا فيه بالإحساس بانتقال الماء من برودته إلى السخونة ، وانتقال الحصرم من حموضته إلى الحلاوة على التدريج. لكن ليس كلّ ما حدث في الحس دفعة كان في الحقيقة كذلك ولا بالعكس.
أمّا الأوّل : فلأنّ الشيخ حكى حجة في إفساد الشعاع البصري الخارج وهي : أنّه لو كان كذلك كان يجب أن تكون نسبة زمان حركة الشعاع إلى شيء على بعد ذراعين إلى زمان حركته إلى الثوابت نسبة المسافتين ، فيجب أن يظهر بين الزمانين تفاوت عظيم ، فكان يجب إذا فتحنا العين أن لا نرى الثوابت إلّا بعد زمان.
ثمّ زيّفها وقال : من الممكن أن يفرض زمان غير محسوس قصرا تحصل فيه حركة الشعاع إلى الثوابت ، ثمّ إنّه يمكن أن ينقسم ذلك الزمان إلى غير النهاية وحينئذ يحصل فيه جزء نسبته إليه كنسبة المسافة القصيرة إلى المسافة البعيدة ، فهذه النسبة تكون حاصلة مع أنّ الزمان العظيم لا يكون محسوسا. (١)
وهذا تصريح بأنّ ما يكون في الحس دفعة قد لا يكون في الحقيقة كذلك.
وأمّا العكس ، فلأنّ مذهبه : أنّ الصورة الحيوانية تحدث دفعة مع أنّا نرى المني يتكون حيوانا يسيرا يسيرا ، وليس ذلك إلّا أنّه وإن كان متدرجا في الحس لكنّه حاصل دفعة في الحقيقة. فظهر أنّه لا يمكن التعويل في وقوع الحركة في هذه الكيفيات على التدريج المحسوس.
ثمّ الذي يدلّ على فساده أنّ الكيفية إذا تغيرت فإمّا أن لا تبقى مع التغيّر أو تبقى فإن لم تبق فإمّا أن يكون عدمها على التدريج ، وهو محال لما مرّ من إبطال الحصول التدريجي ، أو دفعة واحدة فيكون آنيا ، وحينئذ إن استمر بعد ذلك لم تكن
__________________
(١) طبيعيات الشفاء ، الفصل الخامس من المقالة الثالثة من كتاب النفس. نقله الرازي أيضا في المباحث المشرقية ١ : ٧٠٩.