وممّا يدل على إبطال الكمون والنفوذ جميع ما يدلّ على وجود الكون والفساد.
واعلم أنّ هؤلاء إنّما صاروا إلى هذين المذهبين الفاسدين باعتبار حكمهم بامتناع كون شيء لا عن شيء ، وامتناع صيرورة شيء شيئا آخر. (١)
وأمّا المذهب الثالث : (٢) فيدل على إبطاله : أنّ الماء إذا سخن فانّ أجزاءه إن كانت متشابهة لم يتميّز بعضها عن البعض في استحقاق قبول الأثر ، إلّا (٣) لأجل أنّ القريب أولى لقبول الأثر من البعيد فكان يجب إذا ظهرت السخونة أن يظهر كلّ السخونة في بعض الماء حتى يصير بعضه كالنار ويبقى الباقي على كمال برودته ، لكن الأمر بخلافه فانّه يظهر بعض السخونة في كلّ الجسم على سبيل التشابه وتظهر في الكلّ ضعيفة ثمّ تشتد.
لا يقال : إنّ ذلك لتخلّل أجزاء عديمة السخونة بين الأجزاء النارية.
لأنّا نقول : يلزم أن يقال الحرارة تعدّت من الجزء الأوّل إلى الثالث في الإسخان وتركت الوسط ، وذلك محال مع فرض تساوي الأجزاء كلّها.
__________________
(١) راجع الفصل الثالث من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء.
حكمهم بامتناع كون شيء لا عن شيء ، إنكار التغيير في الصورة ، فانّ اللحم مثلا كان معدوما فكيف يكون عن لا شيء؟ وحكمهم بامتناع صيرورة شيء شيئا آخر ، إنكار الاستحالة في الكيف ، فانّ الماء لم يكن حارا فكيف يصير حارا؟
والجواب عن الأوّل : بأنّ الهيولى مشتركة فيزول عنها صورة وتوجد فيها أخرى بحسب استعدادها ، وليس هذا وجود شيء عن لا شيء محض. وعن الثاني : بأنّ الماء كان باردا فاستعد بواسطة مجاورة النار لزوال البرودة عنها والتكيف بكيفية الحرارة ، وهذا ليس ببعيد. راجع شرح قطب الدين الرازي على شرح الإشارات ٢ : ٢٧٩ ـ ٢٨٠.
(٢) وهو قول من يقول : الماء إذا سخن فذلك لأنّه صار بعض أجزائه نارا. راجع المباحث المشرقية ١ : ٦٩٩.
(٣) ساقطة في المباحث.