لأنّا نقول : سيأتي في مسألة التحسين والتقبيح أنّ الكذب الذي يدعى فيه القبح ليس هو الخبر الذي مخبره بخلافه حتى إذا أخبر عن أنه سيفعل في الغد كذا أن يتوقف كونه كذبا على أن لا يفعل وكونه صدقا على أن يفعل ، بل إذا أخبر عن مخبر وعنده أنّ الخبر بخلافه فهو الكذب ، ولذا عدّ المنافقين كاذبين مع وجود المخبر لما لم يكن عندهم أنّ المخبر على ما أخبروا به ، فقال تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ). (١) إذا صحّ ذلك علم أنّ المخبر به لا يتوقف عليه كونه صدقا غير كذب خبر يصلح داعيا إلى فعل كلّ المخبر به.
لا يقال : يفعل لتحصيل الانتفاع بالخبر.
لأنّا نقول : إذا كان تتوقف المنفعة بالخبر على الفعل وكذا الفعل يتوقف على الخبر فحينئذ يتوقف أحدهما على الآخر ، وهو دور.
وأمّا من يلقي البذر في الأرض فانّه يتوقع بفعله ـ القاء البذر ـ منفعة تحصل له بذلك لولاه لما حصل. وعلى هذا التخريج نسلّم جواز خلق الله تعالى لما فيه من قبل خلق العالم. فإذا صحّ هذا الجواب صارت الطرق متمشية على أصولنا.
والجواب : أنّا وإن سلّمنا جواز أن يفعل الله تعالى لمنفعة سابقة ولاحقة لكن ذلك لا يستقيم على أصولهم ، فانّ هؤلاء المشايخ الذين قالوا بالفناء منعوا من جواز أن يفعل الله تعالى فعلا لا لمنفعة مقارنة. وقالوا : إنّ الخبر عن إيجاد الشيء لا يجوز إلّا وأن يكون ذلك المخبر يقارن وجود منفعة ، ولو لا ذلك لم يجز الخبر عنه. وإذا تعلّق حسن الخبر بحسن المخبر وكونه نافعا فلو تعلّق حسن المخبر بحسن الخبر وكونه نافعا دار. ولذلك منعوا صحّة ما روي: أنّ الله تعالى يقول عند افناء
__________________
(١) والآية هكذا : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) المنافقون / ١.