لو أقرّ بالأصلين كان الاقرار بالمعلوم الثالث اللازم منهما واجبا بالضرورة ؛ وهو الاقرار باستحالة مذهبه المفضي إلى هذا المحال.
فهذه ثلاث مناهج في الاستدلال جلية لا يتصور إنكار حصول العلم منها ، والعلم الحاصل هو المطلوب والمدلول ، وازدواج الأصلين الملتزمين لهذا العلم هو الدليل. والعلم بوجه لزوم هذا المطلوب من ازدواج الأصلين علم بوجه دلالة الدليل. وفكرك الذي هو عبارة عن إحضارك الأصلين في الذهن وطلبك التفطن لوجه لزوم العلم الثالث من العلمين الأصلين هو النظر ؛ فإذن عليك في درك العلم المطلوب وظيفتان ؛ إحداهما : إحضار الأصلين في الذهن وهذا يسمى فكرا ، والآخر : تشوقك إلى التفطن لوجه لزوم المطلوب من ازدواج الأصلين وهذا يسمى طلبا. فلذلك قال من جرّد التفاته إلى الوظيفة الأولى حيث أراد حدّ النظر أنه الفكر. وقال من جرّد التفاته إلى الوظيفة الثانية في حد النظر أنه طلب علم أو غلبة ظن. وقال من التفت إلى الأمرين جميعا أنه الفكر الذي يطلب به من قام به علما أو غلبة ظن. فهكذا ينبغي أن تفهم الدليل والمدلول ووجه الدلالة وحقيقة النظر ودع عنك ما سوّدت به أوراق كثيرة من تطويلات وترديد عبارات لا تشفي غليل طالب ولا تسكن لهمة متعطش ولن يعرف قدر هذه الكلمات الوجيزة الا من انصرف خائبا عن مقصده بعد مطالعة تصانيف كثيرة. فان رجعت الآن في طلب الصحيح إلى ما قيل في حد النظر دل ذلك على انك تخص من هذا الكلام بطائل ولن ترجع منه إلى حاصل ، فإنك إذا عرفت أنه ليس هاهنا إلا علوم ثلاثة : علمان هما أصلان يترتبان ترتبا مخصوصا ، وعلم ثالث يلزم منهما وليس عليك فيه الا وظيفتان : إحداهما إحضار العلمين في ذهنك ، والثانية التفطن لوجه العلم الثالث منهما. والخيرة بعد ذلك أليك في اطلاق لفظ النظر في ان تعبر به عن الفكر الذي هو احضار العلمين ، أو عن التشوف الذي هو طلب التفطن لوجه لزوم العلم الثالث ، او عن الامرين جميعا ، فان العبارات مباحة والاصطلاحات لا مشاحة فيها.