يسبق قبلهم هلاك أمة كذبت رسولها ، فهذا من التخصيص بدليل العقل لأن قوله : (قَبْلَهُمْ) يرشد بالتأمل إلى عدم شموله أول أمة أرسل إليها.
وقيل : يجوز أن يكون ضمير (أَلَمْ يَرَوْا) عائدا إلى ما عاد إليه ضمير (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) [يس : ١٣] ويكون المثل قد انتهى بجملة (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) ... [يس : ٣٠] الآية. وهذا بعيد لأنه كان يقتضي أن تعطف الجملة على جملة (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) كما عطفت جملة (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) [يس : ٣٣] الآية ، وجملة (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] ، وجملة (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [يس : ٤١] ، ولا ملجئ إلى هذا الاعتبار في المعاد ، وقد علمت توجيه الاعتبار الأول لتصحيح العموم.
والاستفهام يجوز أن يكون إنكاريا ؛ نزلت غفلتهم عن إهلاك القرون منزلة عدم العلم فأنكر عليهم عدم العلم بذلك وهو أمر معلوم مشهور ، ويجوز كون الاستفهام تقريريا بني التقرير على نفي العلم بإهلاك القرآن استقصاء لمعذرتهم حتى لا يسعهم إلّا الإقرار بأنهم عالمون فيكون إقرارهم أشد لزوما لهم لأنهم استفهموا على النفي فكان يسعهم أن ينفوا ذلك.
والرؤية على التقديرين علمية وليست بصرية لأن إهلاك القرون لم يكن مشهودا لأمة جاءت بعد الأمة التي أهلكت قبلها. وفعل الرؤية معلق عن العمل بورود (كَمْ) لأن (مْ) لها صدر الكلام سواء كانت استفهاما أم خبرا ، فإن (كَمْ) الخبرية منقولة من الاستفهامية وما له صدر الكلام لا يعمل ما قبله فيما بعده.
و (كَمْ) في موضع نصب ب (أَهْلَكْنا) : ومفادها كثرة مبهمة فسّرت بقوله : (مِنَ الْقُرُونِ) ووقعت (كَمْ) في موضع المفعول لقوله : (أَهْلَكْنا).
و (قَبْلَهُمْ) ظرف ل (أَهْلَكْنا) ومعنى (قَبْلَهُمْ) : قبل وجودهم.
وقوله : (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) بدل اشتمال من جملة (أَهْلَكْنا) لأن الإهلاك يشتمل على عدم الرجوع ؛ أبدل المصدر المنسبك من «أنّ» وما بعدها من معنى جملة (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) لأن معنى تلك الجملة كثرة الإهلاك أو كثرة المهلكين. وفعل الرؤية عامل في (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) بالتبعية لتسلط معنى الفعل على جملة (كَمْ أَهْلَكْنا) لأن التعليق يبطل العمل في اللفظ لا في المحل.