مقررة في علم البشر وهي مما يعبر عنه في المنطق «بالأصول الموضوعة» القائمة مقام المحسوسات.
ثم استدرجهم إلى التكوين الثاني بدلالة خلق النسل من نطفة وذلك علم مستقر في النفوس بمشاهدة الحاضر وقياس الغائب على المشاهد ، فكما يجزم المرء بأن نسله خلق من نطفته يجزم بأنه خلق من نطفة أبويه ، وهكذا يصعد إلى تخلق أبناء آدم وحواء.
والنطفة تقدمت عند قوله تعالى : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) في سورة الكهف [٣٧].
وقوله : (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) يشير إلى حالة في التكوين الثاني وهو شرطه من الازدواج. ف (ثُمَ) عاطفة الجملة فهي دالة على الترتيب الرتبي الذي هو أهمّ في الغرض أعني دلالة التكوين على بديع صنع الخالق سبحانه فذلك موزع على مضمون قوله : (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ).
والمعنى : ثم من نطفة وقد جعلكم أزواجا لتركيب تلك النطفة ، فالاستدلال بدقة صنع النوع الإنساني من أعظم الدلائل على وحدانية الصانع. وفيها غنية عن النظر في تأمل صنع بقية الحيوان.
والأزواج : جمع زوج وهو الذي يصير بانضمام الفرد إليه زوجا ، أي شفعا ، وقد شاع إطلاقه على صنف الذكور مع صنف الإناث لاحتياج الفرد الذكر من كل صنف إلى أنثاه من صنفه والعكس.
(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ).
بعد الاستدلال بما في بدء التكوين الثاني من التلاقح بين النطفتين استدل بما ينشأ عن ذلك من الأطوار العارضة للنطفة في الرحم وهو أطوار الحمل من أوله إلى الوضع.
وأدمج في ذلك دليل التنبيه على إحاطة علم الله بالكائنات الخفية والظاهرة ، ولكون العلم بالخفيّات أعلى قدّم ذكر الحمل على ذكر الوضع ، والمقصود من عطف الوضع أن يدفع توهم وقوف العلم عند الخفيّات التي هي من الغيب دون الظواهر بأن يشتغل عنها بتدبير خفيّاتها كما هو شأن عظماء العلماء من الخلق ، لظهور استحالة توجه إرادة الخلق نحو مجهول عند مريده.