وتخصيص وصف (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) من بين الأوصاف الإلهية للإشارة إلى أنه عالم بالنوايا ، وأن القائل يعلم ذلك فالذي يعلم هذا لا يجترئ على الله بادعائه باطلا أنه أرسله إليكم ، فالإعلام بهذه الصفة هنا يشبه استعمال الخبر في لازم فائدته وهو العلم بالحكم الخبري.
ويجوز أن يكون معنى : (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) يرسل الوحي ، أي على من يشاء من عباده كقوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [غافر : ١٥] ويكون قوله (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) إشارة إلى أنه أعلم حيث يجعل رسالاته لأن المشركين كانوا يقولون : لو لا أنزلت علينا الملائكة دون محمد.
وارتفع (عَلَّامُ) على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هو علّام الغيوب ، أو على أنه نعت لاسم (إِنَ) إما مقطوع ، وإما لمراعاة محل اسم (إِنَ) حيث إنها استوفت خبرها لأن حكم الصفة حكم عطف النسق عند أكثر النحاة وهو الحق. وقال الفراء : رفع الاسم في مثل هذا هو غالب كلام العرب. ومثّله بالبدل في قوله تعالى : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) [ص : ٦٤].
وقرأ الجمهور (الْغُيُوبِ) بضم الغين. وقرأه أبو بكر وحمزة والكسائي بكسر الغين كما جاء الوجهان في باء «بيوت».
(قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩))
أعيد فعل (قُلْ) للاهتمام بالمقول كما تقدم آنفا.
وجملة (قُلْ جاءَ الْحَقُ) تأكيد لجملة (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) [سبأ : ٤٨] فإن الحق قد جاء بنزول القرآن ودعوة الإسلام. وعطف (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) على (جاءَ الْحَقُ) لأنه إذا جاء الحق انقشع الباطل من الموضع الذي حلّ فيه الحق.
و (يُبْدِئُ) مضارع أبدأ بهمزة في أوله وهمزة في آخره والهمزة التي في أوله للزيادة مثل همزة : أجاء ، وأسرى. وإسناد الإبداء والإعادة إلى الباطل مجاز عقلي أو استعارة.
ومعنى (ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) الكناية عن اضمحلاله وزواله وهو ما عبر عنه بالزهوق في قوله تعالى : (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) في سورة الإسراء [٨١]. وذلك أن الموجود الذي تكون له آثار إمّا أن تكون آثاره مستأنفة أو معادة فإذا لم يكن له إبداء ولا