كثر ذلك وشاع حتى تنوسي ما فيه من الاستعارة والكناية وصار لمجرد التنبيه على ما يجيء بعده ، والاهتمام حاصل في الحالين.
وتقدم ذلك عند قوله تعالى : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ) في سورة النساء [٧٣] ، وقوله : (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) في سورة الفرقان [٢٨].
وموقع مثله في كلام الله تعالى تمثيل لحال عباد الله تعالى في تكذيبهم رسل الله بحال من يرثي له أهله وقوعه في هلاك أرادوا منه تجنبه.
وجملة (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ) بيان لوجه التحسّر عليهم لأن قوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) وإن كان قد وقع بعد ذكر أهل القرية فإنه لما عمّم على جميع العباد حدث إيهام في وجه العموم. فوقع بيانه بأن جميع العباد مساوون لمن ضرب بهم المثل ومن ضرب لهم في تلك الحالة الممثل بها ولم تنفعهم المواعظ والنذر البالغة إليهم من الرسول المرسل إلى كل أمة منهم ومن مشاهدة القرون الذين كذبوا الرسل فهلكوا ، فعلم وجه الحسرة عليهم إجمالا من هذه الآية ثم تفصيلا من قوله بعد : (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا) [يس : ٣١] إلخ.
والاستثناء في قوله : (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) مفرغ من أحوال عامة من الضمير في (يَأْتِيهِمْ) أي لا يأتيهم رسول في حال من أحوالهم إلّا في حال استهزائهم به.
وتقديم المجرور على (يَسْتَهْزِؤُنَ) للاهتمام بالرسول المشعر باستفظاع الاستهزاء به مع تأتّي الفاصلة بهذا التقديم فحصل منه غرضان من المعاني ومن البديع.
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١))
هذه الجملة بيان لجملة (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)[يس : ٣٠] لما فيها من تفصيل الإجمال المستفاد من قوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فإن عاقبة ذلك الاستهزاء بالرسول كانت هلاك المستهزئين ، فعدم اعتبار كل أمة كذبت رسولها بعاقبة المكذبين قبلها يثير الحسرة عليها وعلى نظرائها كما أثارها استهزاؤهم بالرسول وقلة التبصر في دعوته ونذارته ودلائل صدقه.
وضمير (يَرَوْا) عائد إلى العباد كما يقتضيه تناسق الضمائر. والمعاد فيه عموم ادعائي كما تقدم آنفا ، فيتعين أن تخص منه أول أمة كذبت رسولها وهم قوم نوح فإنهم لم