ووجه كونه معصية أنه جراءة على الله بأن يعبده بما لم يشرع له ولو لم يكن فيه حرج على النفس كنذر صمت ساعة ، وأنه تعذيب للنفس التي كرّمها الله تعالى من التعذيب بوجوه التعذيب إلا لعمل اعتبره الإسلام مصلحة للمرء في خاصته أو للأمة أو لدرء مفسدة مثل القصاص والجلد. ولذلك قال : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء : ٢٩].
وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إنّ دماءكم وأموالكم وأنفسكم وأبشاركم عليكم حرام» لأن شريعة الإسلام لا تناط شرائعها إلّا بجلب المصالح ودرء المفاسد.
والمأخوذ من قول مالك في هذا أنه معصية كما قاله في «الموطأ». ولذلك قال الشيخ أبو محمد في «الرسالة» : «ومن نذر معصية من قتل نفس أو شرب خمر أو نحوه أو ما ليس بطاعة ولا معصية فلا شيء عليه ، وليستغفر الله» ، فقوله : «وليستغفر الله» بناء على أنه أتى بنذره مخالفا لنهي النبي صلىاللهعليهوسلم عنه. ولو فعل أحد صمتا بدون نذر ولا قصد عبادة لم يكن حراما إلا إذا بلغ إلى حد المشقة المضنية.
وقد بقي عند النصارى اعتبار الصمت عبادة وهم يجعلونه ترحما على الميت أن يقفوا صامتين هنيهة.
ومعنى (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) فانذري صوما وإن لقيت من البشر أحدا فقولي : إنّي نذرت صوما فحذفت جملة للقرينة. وقد جعل القول المتضمن إخبارا بالنذر عبارة عن إيقاع النذر وعن الإخبار به كناية عن إيقاع النذر لتلازمهما لأن الأصل في الخبر الصدق والمطابقة للواقع مثل قوله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ١٣٦]. وليس المراد أنها تقول ذلك ولا تفعله لأن الله تعالى لا يأذن في الكذب إلّا في حال الضرورة مع عدم تأتّي الصدق معها ، ولذلك جاء في الحديث : «إن في المعاريض مندوحة عن الكذب».
وأطلق القول على ما يدلّ على ما في النفس ، وهو الإيماء إلى أنها نذرت صوما مجازا بقرينة قوله (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا). فالمراد أن تؤدي ذلك بإشارة إلى أنها نذرت صوما بأن تشير إشارة تدلّ على الانقطاع عن الأكل ، وإشارة تدل على أنها لا تتكلّم لأجل ذلك ، فإن كان الصوم في شرعهم مشروطا بترك الكلام كما قيل فالإشارة الواحدة كافية ، وإن كان الصوم عبادة مستقلة قد يأتي بها الصائم مع ترك الكلام تشير إشارتين للدلالة على أنها نذرت الأمرين ، وقد علمت مريم أنّ الطفل الذي كلّمها هو الذي يتولى الجواب عنها حين تسأل بقرينة قوله تعالى : (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) [مريم : ٢٩].