موسى من الموعظة حين قال لهم بمسمع من فرعون (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) [طه : ٦١] ، أي وستجدون عذابي أشد من العذاب الذي حذرتموه. وهذا من غروره. ويدل على أن ذلك مراد فرعون ما قابل به المؤمنون قوله (أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) بقولهم (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) [طه : ٧٣] ، أي خير منك وأبقى عملا من عملك ، فثوابه خير من رضاك وعذابه أشد من عذابك.
[٧٢ ـ ٧٣] (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣))
أظهروا استخفافهم بوعيده وبتعذيبه ، إذ أصبحوا أهل إيمان ويقين ، وكذلك شأن المؤمنين بالرسل إذا أشرقت عليهم أنوار الرسالة فسرعان ما يكون انقلابهم عن جهالة الكفر وقساوته إلى حكمة الإيمان وثباته. ولنا في عمر بن الخطّاب ونحوه ممن آمنوا بمحمدصلىاللهعليهوسلم مثل صدق.
والإيثار : التفضيل. وتقدّم في قوله تعالى : (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) في سورة يوسف [٩١]. والتفضيل بين فرعون وما جاءهم من البيّنات مقتض حذف مضاف يناسب المقابلة بالبيّنات ، أي لن نؤثر طاعتك أو دينك على ما جاءنا من البيّنات الدالة على وجوب طاعة الله تعالى ، وبذلك يلتئم عطف (وَالَّذِي فَطَرَنا) ، أي لا نؤثرك في الربوبية على الذي فطرنا.
وجيء بالموصول للإيماء إلى التّعليل ، لأنّ الفاطر هو المستحق بالإيثار.
وأخر (الَّذِي فَطَرَنا) عن (ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ) لأنّ البيّنات دليل على أنّ الذي خلقهم أراد منهم الإيمان بموسى ونبذ عبادة غير الله ، ولأنّ فيه تعريضا بدعوة فرعون للإيمان بالله.
وصيغة الأمر في قوله (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) مستعملة في التسوية ، لأن (ما أَنْتَ قاضٍ) ما صدقه ما توعدهم به من تقطيع الأيدي والأرجل والصّلب ، أي سواء علينا ذلك بعضه أو كلّه أو عدم وقوعه ، فلا نطلب منك خلاصا منه جزاء طاعتك فافعل ما أنت فاعل (والقضاء هنا التنفيذ والإنجاز) فإنّ عذابك لا يتجاوز هذه الحياة ونحن نرجو من ربنا الجزاء الخالد.