الأول : أن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يوجب الوفاء بالنذر في مثل هذا ، فدلّ على أنه غير قربة.
الثاني : أنه لم يأمر فيه بكفارة شأن النذر الذي يتعذر الوفاء به أو الذي لم يسم له عمل معيّن كقوله : عليّ نذر. وفي «الموطأ» عقب ذكر الحديث المذكور قال مالك : ولم يأمره بكفارة ولو كانت فيه كفارة لأمره بها فدلّ ذلك على أنه عمل لا اعتداد به بوجه.
الثالث : أنه أومأ إلى علّة عدم انعقاد النذر به بقوله : «إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغنيّ».
فعلمنا من ذلك أنّ معنى العبادة أن تكون قولا أو فعلا يشتمل على معنى يكسب النفس تزكية ويبلغ بها إلى غاية محمودة مثل الصوم والحج ، فيحتمل ما فيها من المشقة لأجل الغاية السامية ، وليست العبادة بانتقام من الله لعبده ولا تعذيب له كما كان أهل الضلال يتقربون بتعذيب نفوسهم ، وكما شرع في بعض الأديان التعذيب القليل لخضد جلافتهم.
وفي هذا المعنى قوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) [الحج : ٣٦ ـ ٣٧] ، لأنهم كانوا يحسبون أن القربة إلى الله في الهدايا أن يريقوا دماءها ويتركوا لحومها ملقاة للعوافي.
وفي «البخاري» : عن أنس «أن النبي صلىاللهعليهوسلم رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال : ما بال هذا؟ قالوا : نذر أن يمشي. قال : إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغنيّ. وأمره أن يركب» ، فلم ير له في المشي في الطواف قربة.
وفيه عن ابن عباس : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم مرّ وهو يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير أو بخيط أو بشيء غير ذلك ، فقطعه النبي بيده ثم قال : قده بيده».
وفي «مسند أحمد» عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي : «أن النبيصلىاللهعليهوسلم أدرك رجلين وهما مقترنان. فقال : ما بالهما؟ قالا : إنّا نذرنا لنقترنن حتى نأتي الكعبة ، فقال : أطلقا أنفسكما ليس هذا نذرا إنما النذر ما يبتغى به وجه الله». وقال : إسناده حسن.
الرابع : أنّ الراوي لبعض هذه الآثار رواها بلفظ : نهى رسول الله عن ذلك ، ولذلك قال مالك في «الموطأ» عقب حديث الرجل الذي نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس: «قال مالك : قد أمره رسول الله أن يتمّ ما كان لله طاعة ويترك ما كان لله معصية».