عليهم بما يبيّن هذا في قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ـ إلى قوله ـ وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت : ٤٨ ـ ٥١] ، أي فما فائدة كونه ينزل في قرطاس من السماء مع أنّ المضمون واحد.
وقال في ردّ قولهم : (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣]. نعم إنّ الله قد يقيم آيات من هذا القبيل من تلقاء اختياره بدون اقتراح عليه ، وهو ما يسمّى بالمعجزة مثل ما سمّى بعض ذلك بالآيات في قوله : (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) [النمل : ١٢] ، فذلك أمر أنف من عند الله لم يقترحه عليه أحد. وقد أعطى نبيّنا محمدا صلىاللهعليهوسلم من ذلك كثيرا في غير مقام اقتراح من المعرضين ، مثل انشقاق القمر ، ونبع الماء من بين أصابعه ، وتكثير الطعام القليل ، ونبع الماء من الأرض بسهم رشقه في الأرض. هذا هو البيان الذي وعدت به عند قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) في هذه السورة [٨].
ومن المفسّرين من جعل معنى قوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّهم لا يعلمون أنّ إنزال الآية على وفق مقترحهم يعقبها الاستئصال إن لم يؤمنوا ، وهم لعنادهم لا يؤمنون. إلّا أنّ ما فسّرتها به أولى لئلّا يكون معناها إعادة لمعنى الآية التي سبقتها ، وبه يندفع التوقّف في وجه مطابقة الجواب لمقتضى السؤال حسبما توقّف فيه التفتازانيّ في تقرير كلام «الكشاف».
وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) تنبيه على أنّ فيهم من يعلم ذلك ولكنّه يكابر ويظهر أنّه لا يتمّ عنده الاستدلال إلّا على نحو ما اقترحوه.
وإعادة لفظ (آيَةٌ) بالتنكير في قوله (أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) من إعادة النكرة نكرة وهي عين الأولى. وهذا يبطل القاعدة المتداولة بين المعربين من أنّ اللفظ المنكّر إذا أعيد في الكلام منكّرا كان الثاني غير الأول. وقد ذكرها ابن هشام في «مغني اللبيب» في الباب السادس ونقضها. وممّا مثّل به لإعادة النكرة نكرة وهي عين الأولى لا غيرها قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) [الروم : ٥٤]. وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير في سورة النساء [١٢٨].