وهذا الحكم تدريج في تحريم موالاة المسلمين للكافرين ، جعل مبدأ ذلك أن لا يحضروا مجالس كفرهم ليظهر التمايز بين المسلمين الخلّص وبين المنافقين ، ورخّص لهم القعود معهم إذ خاضوا في حديث غير حديث الكفر. ثم نسخ ذلك بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ* قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) [التوبة : ٢٣ ، ٢٤].
وجعل جواب القعود معهم المنهي عنه أنّهم إذا لم ينتهوا عن القعود معهم يكونون مثلهم في الاستخفاف بآيات الله إذ قال : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) فإنّ (إذن) حرف جواب وجزاء لكلام ملفوظ به أو مقدّر. والمجازاة هنا لكلام مقدّر دلّ عليه النهي عن القعود معهم ؛ فإنّ التقدير : إن قعدتم معهم إذن إنّكم مثلهم. ووقوع إذن جزاء لكلام مقدّر شائع في كلام العرب كقول العنبري :
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي |
|
بنو اللقيطة من ذهل شيبانا |
إذن لقام بنصري معشر خشن |
|
عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا |
قال المرزوقي في «شرح الحماسة» : «وفائدة (إذن) هو أنّه أخرج البيت الثاني مخرج جواب قائل له : ولو استباحوا ما ذا كان يفعل بنو مازن؟ فقال : إذن لقام بنصري معشر خشن». قلت : ومنه قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) [العنكبوت : ٤٨]. التقدير : فلو كنت تتلو وتخطّ إذن لارتاب المبطلون. فقد علم أنّ الجزاء في قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) عن المنهي عنه لا عن النهي ، كقول الراجز ، وهو من شواهد اللغة والنحو :
لا تتركنّي فيهم شطيرا |
|
أنّي إذن أهلك أو أطيرا |
والظاهر أنّ فريقا من المؤمنين كانوا يجلسون هذه المجالس فلا يقدمون على تغيير هذا ولا يقومون عنهم تقية لهم فنهوا عن ذلك. وهذه المماثلة لهم خارجة مخرج التغليظ والتهديد والتخويف ، ولا يصير المؤمن منافقا بجلوسه إلى المنافقين ، وأريد المماثلة في المعصية لا في مقدارها ، أي أنّكم تصيرون مثلهم في التلبّس بالمعاصي.
وقوله : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) تحذير من أن يكونوا مثلهم ، وإعلام بأنّ الفريقين سواء في عدواة المؤمنين ، ووعيد للمنافقين بعدم جدوى