وتقابل بالخسار وبالغبن ، قال تعالى حكاية عن شعيب (أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) [الشعراء : ١٨١] ولذلك قال هنا : (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) ، وهذه التوفية والزيادة يرجعان إلى تقدير يعلمه الله تعالى.
وقوله : (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) تأييس لهم إذ قد عرف عند العرب وغيرهم ، من أمم ذلك العصر ، الاعتماد عند الضيق على الأولياء والنصراء ليكفّوا عنهم المصائب بالقتال أو الفداء ، قال النابغة :
يأملن رحلة نصر وابن سيّار
ولذلك كثر في القرآن نفي الوليّ ، والنصير ، والفداء ـ (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) [آل عمران : ٩١].
[١٧٤ ، ١٧٥] (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥))
فذلكة للكلام السابق بما هو جامع للأخذ بالهدى ونبذ الضلال ، بما اشتمل عليه القرآن من دلائل الحقّ وكبح الباطل. فالجملة استئناف وإقبال على خطاب النّاس كلّهم بعد أن كان الخطاب موجّها إلى أهل الكتاب خاصّة. والبرهان : الحجّة ، وقد يخصّص بالحجّة الواضحة الفاصلة ، وهو غالب ما يقصد به في القرآن ، ولهذا سمّى حكماء الإسلام أجلّ أنواع الدليل ، برهانا.
والمراد هنا دلائل النبوءة. وأمّا النور المبين فهو القرآن لقوله : (وَأَنْزَلْنا) والقول في (جاءَكُمْ) كالقول في نظيره المتقدّم في قوله : (قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ) [النساء : ١٧٠] ؛ وكذلك القول في (أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ).
و (أمّا) في قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ) يجوز أن يكون للتفصيل : تفصيلا لما دلّ عليه (يا أَيُّهَا النَّاسُ) من اختلاف الفرق والنزعات : بين قابل للبرهان والنّور ، ومكابر جاحد ، ويكون معادل هذا الشقّ محذوفا للتهويل ، أي : وأمّا الذين كفروا فلا تسل عنهم ، ويجوز أن يكون (أمّا) لمجرد الشرط دون تفصيل ، وهو شرط لعموم الأحوال ، لأنّ (أمّا) في الشرط بمعنى (مهما يكن من شيء) وفي هذه الحالة لا تفيد التفصيل ولا تطلب