مخلّص له منهما. ونفي هدى الله إيّاهم على هذا الوجه مجاز عقلي في نفي تيسير أسباب الهدى بحسب قانون حصول الأسباب وحصول آثارها بعدها. وعلى أي الاحتمالين فتوبة الكافر الظالم بالإيمان مقبولة ، وكثيرا ما آمن الكافرون الظالمون وحسن إيمانهم ، وآيات قبول التّوبة ، وكذلك مشاهدة الواقع ، ممّا يهدي إلى تأويل هذه الآية ، وتقدّم نظير هذه الآية قريبا ، أي (الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [النساء : ١٣٧] الآية.
وقوله : (إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) استثناء متّصل إن كان الطريق الذي نفي هديهم إليه الطريق الحقيقي ، ومنقطع إن أريد بالطريق الأوّل الهدى. وفي هذا الاستثناء تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه : لأنّ الكلام مسوق للإنذار ، والاستثناء فيه رائحة إطماع ، ثمّ إذا سمع المستثنى تبيّن أنّه من قبيل الإنذار. وفيه تهكّم لأنّه استثنى من الطريق المعمول (لِيَهْدِيَهُمْ) ، وليس الإقحام بهم في طريق جهنّم بهدي لأنّ الهدي هو إرشاد الضالّ إلى المكان المحبوب.
ولذلك عقّبه بقوله : (وَكانَ ذلِكَ) أي الإقحام بهم في طريق النّار على الله يسيرا إذ لا يعجزه شيء ، وإذ هم عبيده يصرفهم إلى حيث يشاء.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠))
بعد استفراغ الحوار مع أهل الكتاب ، ثمّ خطاب أهل الكفر بما هو صالح لأن يكون شاملا لأهل الكتاب ، وجّه الخطاب إلى النّاس جميعا : ليكون تذييلا وتأكيدا لما سبقه ، إذ قد تهيّأ من القوارع السالفة ما قامت به الحجّة ، واتّسعت المحجّة ، فكان المقام للأمر باتّباع الرسول والإيمان. وكذلك شأن الخطيب إذا تهيّأت الأسماع ، ولانت الطباع. ويسمّى هذا بالمقصد من الخطاب ، وما يتقدّمه بالمقدّمة. على أنّ الخطاب بيا أيّها النّاس يعني خصوص المشركين في الغالب ، وهو المناسب لقوله : (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ).
والتعريف في (الرَّسُولُ) للعهد ، وهو المعهود بين ظهرانيهم. (والحقّ) هو الشريعة والقرآن ، و (مِنْ رَبِّكُمْ) متعلّق ب (جاءَكُمُ) ، أو صفة للحقّ ، و (من) للابتداء المجازي فيهما ، وتعدية جاء إلى ضمير المخاطبين ترغيب لهم في الإيمان لأنّ الذي يجيء مهتمّا بناس يكون حقّا عليهم أن يتّبعوه ، وأيضا في طريق الإضافة من قوله (رَبِّكُمْ) ترغيب ثان لما تدلّ عليه من اختصاصهم بهذا الدّين الذي هو آت من ربّهم ، فلذلك أتي بالأمر