(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧))
استئناف عن قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ) [النساء : ١٣٦] الآية ، لأنّه إذا كان الكفر كما علمت ، فما ظنّك بكفر مضاعف يعاوده صاحبه بعد أن دخل في الإيمان ، وزالت عنه عوائق الاعتراف بالصدق ، فكفره بئس الكفر. وقد قيل : إنّ الآية أشارت إلى اليهود لأنّهم آمنوا بموسى ثم كفروا به إذ عبدوا العجل ، ثم آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد ، وعليه فالآية تكون من الذمّ المتوجّه إلى الأمّة باعتبار فعل سلفها ، وهو بعيد ، لأنّ الآية حكم لا ذمّ ، لقوله (لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ) فإنّ الأولين من اليهود كفروا إذ عبدوا العجل ، ولكنّهم تابوا فما استحقّوا عدم المغفرة وعدم الهداية ، كيف وقد قيل لهم (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) إلى قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) [البقرة : ٥٤] ، ولأنّ المتأخّرين منهم ما عبدوا العجل حتّى يعدّ عليهم الكفر الأول ، على أنّ اليهود كفروا غير مرّة في تاريخهم فكفروا بعد موت سليمان وعبدوا الأوثان ، وكفروا في زمن بختنصر. والظاهر على هذا التأويل أن لا يكون المراد بقوله : (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) أنّهم كفروا كفرة أخرى ، بل المراد الإجمال ، أي ثم كفروا بعد ذلك ، كما يقول الواقف : وأولادهم وأولاد أولادهم وأولاد أولاد أولادهم لا يريد بذلك الوقوف عند الجيل الثالث ، ويكون المراد من الآية أنّ الذين عرف من دأبهم الخفّة إلى تكذيب الرسل ، وإلى خلع ربقة الديانة ، هم قوم لا يغفر لهم صنعهم ؛ إذ كان ذلك عن استخفاف بالله ورسله.
وقيل : نزلت في المنافقين إذ كانوا يؤمنون إذا لقوا المؤمنين ، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ، ولا قصد حينئذ إلى عدد الإيمانات والكفرات. وعندي : أنّه يعني أقواما من العرب من أهل مكة كانوا يتّجرون إلى المدينة فيؤمنون ، فإذا رجعوا إلى مكة كفروا وتكرّر منهم ذلك ، وهم الذين ذكروا عند تفسير قوله : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) [النساء : ٨٨].
وعلى الوجوه كلّها فاسم الموصول من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ) ... (كَفَرُوا) مراد منه فريق معهود ، فالآية وعيد لهم ونذارة بأنّ الله حرمهم الهدى فلم يكن ليغفر لهم ، لأنّه حرمهم سبب المغفرة ، ولذلك لم تكن الآية دالّة على أنّ من أحوال الكفر ما لا ينفع الإيمان بعده. فقد أجمع المسلمون على أنّ الإيمان يجبّ ما قبله ، ولو كفر المرء مائة مرة ، وأنّ التوبة من الذنوب كذلك ، وقد تقدّم شبه هذه الآية في آل عمران [١٩٠] وهو قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ).