ولأجل هذا اتّفق علماء الإسلام على عدم قبول شهادة أهل الكتاب بين المسلمين في غير الوصية في السفر ، واختلفوا في الإشهاد على الوصية في السفر ، فقال ابن عباس ومجاهد وأبو موسى الأشعري وشريح بقبول شهادة غير المسلمين في الوصية في السفر ، وقضى به أبو موسى الأشعري مدّة قضائه في الكوفة ، وهو قول أحمد وسفيان الثوري وجماعة من العلماء ، وقال الجمهور : لا تجوز شهادة غير المسلمين على المسلمين ورأوا أنّ ما في آية الوصية منسوخ ، وهو قول زيد بن أسلم ومالك وأبي حنيفة والشافعي ، واختلفوا في شهادة بعضهم على بعض عند قاضي المسلمين فأجازها أبو حنيفة ناظرا في ذلك إلى انتفاء تهمة تساهلهم بحقوق المسلمين ، وخالفه الجمهور ، والوجه أنّه يتعذّر لقاضي المسلمين معرفة أمانة بعضهم مع بعض وصدق أخبارهم كما قدمناه آنفا.
وظاهر الآية قبول شهادة العبد العدل وهو قول شريح وعثمان البتّي وأحمد وإسحاق وأبي ثور ، وعن مجاهد : المراد الأحرار ، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي ، والذي يظهر لي أنّ تخصيص العبيد من عموم الآية بالعرف وبالقياس ، أما العرف فلأنّ غالب استعمال لفظ الرجل والرجال ألّا يرد مطلقا إلّا مرادا به الأحرار ، يقولون : رجال القبيلة ورجال الحي ، قال محكان التميمي :
يا ربّة البيت قومي غير صاغرة |
|
ضمي إليك رجال الحيّ والغربا |
وأما القياس فلعدم الاعتداد بهم في المجتمع لأنّ حالة الرقّ تقطعهم عن غير شئون مالكيهم فلا يضبطون أحوال المعاملات غالبا ؛ ولأنّهم ينشئون على عدم العناية بالمروءة ، فترك اعتبار شهادة العبد معلول للمظنّة وفي النفس عدم انثلاج لهذا التعليل.
واشترط العدد في الشاهد ولم يكتف بشهادة عدل واحد لأنّ الشهادة لما تعلّقت بحق معيّن لمعيّن اتّهم الشاهد باحتمال أن يتوسّل إليه الظالم الطالب لحق مزعوم فيحمله على تحريف الشهادة ، فاحتيج إلى حيطة تدفع التهمة فاشترط فيه الإسلام وكفى به وازعا ، والعدالة لأنّها تزع من حيث الدين والمروءة ، وزيد انضمام ثان إليه لاستبعاد أن يتواطأ كلا الشاهدين على الزور. فثبت بهذه الآية أنّ التعدّد شرط في الشهادة من حيث هي ، بخلاف الرواية لانتفاء التهمة فيها إذ لا تتعلق بحقّ معيّن ، ولهذا لو روى راو حديثا هو حجة في قضية للراوي فيها حق لما قبلت روايته ، وقد كلف عمر أبا موسى الأشعريّ أن يأتي بشاهد معه على أنّ رسول الله قال : «إذا استأذن أحدكم ثلاثا ولم يؤذن له فليرجع» إذ كان ذلك في ادّعاء أبي موسى أنّه لما لم يأذن له عمر في الثالثة رجع ، فشهد له أبو سعيد