ثم إن كان الوعد يطلق على التعهد بالخير والشر كما هو كلام «القاموس» ـ تبعا لفصيح ثعلب ـ ففي قوله يعدكم الفقر مجاز واحد ، وإن كان خاصا بالخير كما هو قول الزمخشري في الأساس ، ففي قوله : (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) مجازان.
والفقر شدّة الحاجة إلى لوازم الحياة لقلة أو فقد ما يعاوض به ، وهو مشتق من فقار الظهر ، فأصله مصدر فقره إذا كسر ظهره ، جعلوا العاجز بمنزلة من لا يستطيع أدنى حركة لأنّ الظّهر هو مجمع الحركات ، ومن هذا تسميتهم المصيبة فاقرة ، وقاصمة الظهر ، ويقال فقر وفقر وفقر وفقر ـ بفتح فسكون ، وبفتحتين ، وبضم فسكون ، وبضمتين ـ ، ويقال رجل فقير ، ويقال رجل فقر وصفا بالمصدر.
والفحشاء اسم لفعل أو قول شديد السوء واستحقاق الذم عرفا أو شرعا. مشتق من الفحش ـ بضم الفاء وسكون الحاء ـ تجاوز الحد. وخصّه الاستعمال بالتجاوز في القبيح ، أي يأمركم بفعل قبيح. وهذا ارتقاء في التحذير من الخواطر الشيطانية التي تدعو إلى الأفعال الذميمة ، وليس المراد بالفحشاء البخل لأنّ لفظ الفحشاء لا يطلق على البخل وإن كان البخيل يسمّى فاحشا. وإطلاق الأمر على وسوسة الشيطان وتأثير قوته في النفوس مجاز لأنّ الأمر في الحقيقة من أقسام الكلام. والتعريف في الفحشاء تعريف الجنس.
(وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).
عطف على جملة (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) لإظهار الفرق بين ما تدعو إليه وساوس الشيطان وما تدعو إليه أوامر الله تعالى ، والوعد فيه حقيقة لا محالة. والقول في تقديم اسم الجلالة على الخبر الفعلي في قوله : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ) على طريقة القول في تقديم اسم الشيطان في قوله : (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ).
ومعنى «واسع» أنّه واسع الفضل ، والوصف بالواسع مشتق من وسع المتعدي ـ إذا عمّ بالعطاء ونحوه ـ قال الله تعالى : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [غافر : ٧] ، وتقول العرب : «لا يسعني أن أفعل كذا» ، أي لا أجد فيه سعة ، وفي حديث علي في وصف رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «قد وسع الناس بشره وخلقه». فالمعنى هنا أنّه وسع الناس والعالمين بعطائه.
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))