فكانت الشرائع السابقة تمهيدا وتهيئة لقبول دين الإسلام ، ولذلك صدرت هذه الآية بقوله: (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) ، فكما كان البشر في أول أمره أمة واحدة على هدى بسيط ثم عرضت له الضلالات عند تحرك الأفكار البشرية ، رجع البشر إلى دين واحد في حالة ارتقاء الأفكار ، وهذا اتحاد عجيب ، لأنه جاء بعد تشتت الآراء والمذاهب ، ولذا قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) ، وفي الحديث : «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما يعملون له عملا يوما إلى الليل على أجر معلوم فعملوا له إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل فقال لهم لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملا فأبوا وتركوا ، واستأجر آخرين بعدهم فقال لهم : أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا : لك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه ، فقال لهم أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا ، واستأجر قوما أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما ، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذا النور ، فقالت اليهود والنصارى ما لنا أكثر عملا وأقلّ عطاء ، قال هل ظلمتكم من حقكم شيئا؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء».
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (٢١٤))
إضراب انتقالي عن الكلام السابق فاحتاج إلى وجه مناسبة به ، فقال الطيبي أخذا من كلام «الكشاف» : إن قوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [البقرة : ٢١٣] كلام ذكرت فيه الأمم السالفة وذكر من بعث إليهم من الأنبياء وما لقوا منهم من الشدائد ، ومدمج لتشجيع الرسول والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين كما قال : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) [هود : ١٢٠] فمن هذا الوجه كان الرسول وأصحابه مرادين من ذلك الكلام ، يدل عليه قوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٢١٣] وهو المضرب عنه ببل التي تضمنها أم أي دع ذلك ، أحسبوا أن يدخلوا الجنة ا ه.
وبيانه أن القصد من ذكر الأمم السالفة حيثما وقع في القرآن هو العبرة والموعظة والتحذير من الوقوع فيما وقعوا فيه بسوء عملهم والاقتداء في المحامد ، فكان في قوله