نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-40-X
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٦٤

ثم إن وصول التكليف الواقعي ـ الذي يوجب كون مخالفته هتكا لحرمة المولى وظلما عليه ـ ليس بمجرد الانشاء بداعي تنجيز الواقع ، فان هذا الانشاء الطريقي كنفس التكليف الحقيقي ليس وجوده الواقعي موجبا للفعلية والتنجز ، إذ لو كفى وجوده الواقعي لكفى نفس التكليف الواقعي في فعلية نفسه وتنجزه ، بل لا بد من وصوله حتى يكون وصولا للواقع بأثره.

فايجاب الاحتياط واقعا لا ينجز الواقع ، بل الايجاب الواصل.

إذا عرفت هذه المقدمة تعرف أن كون التكليف الواقعي مقتضيا لايجاب الاحتياط ، وايجاب الاحتياط مقتضيا لاستحقاق المؤاخذة غير صحيح.

إذ موضوع استحقاق العقاب مخالفة التكليف الواصل بايجاب الاحتياط الواصل.

ومع عدم وصول ايجاب الاحتياط ، أو عدم ايجابه ، وإن لم يتحقق موضوع الاستحقاق ، إلاّ أن استحقاق المؤاخذة لا مرفوع ولا مدفوع :

أما الأول فواضح ؛ إذ لم يثبت الاستحقاق حتى يكون عدمه بعد ثبوته رفعا له.

وأما الثاني ، فلأنّه لم يثبت مقتضي الاستحقاق حتى يكون عدمه مع مقتضي الثبوت دفعا له.

لما عرفت من أن مقتضي الاستحقاق بالمعنى المعروف من المقتضي لا يعقل ، وبمعنى الغاية الداعية لا يثبت إلا مع وصول التكليف ، ولو بوصول ما ينجزه.

فمع عدمهما وإن لم يكن استحقاق ، لكنه غير مدفوع أيضا.

إذ ليس كل عدم دفعا ، كما لا يكون كل عدم رفعا.

نعم هذا الاشكال شديد الورود على من يرفع المؤاخذة بدوا ، فانه لا رفع ولا دفع.

٤١

وأما من يرفع التكليف فهو في سعة من هذا الاشكال ، إذ لا يجب عليه رفع المؤاخذة أو دفعها ، بل يكفيه عدمها المرتب على عدم مقتضيها بعدم التكليف الفعلي ، ولو بعدم ايجاب الاحتياط الواصل من دون حاجة إلى عنوان رفع المؤاخذة أو دفعها.

اللهم إلا أن يكتفي في نسبة الدفع إلى ثبوت مقتضي المقتضي ، فان ثبوت التكليف الواقعي أو الغرض الباعث إليه مقتض لإيصاله بايجاب الاحتياط الواصل. فتدبر جيدا.

١٠ ـ قوله (قدس سره) : لا يقال : لا يكاد يكون ايجابه مستتبعا (١) ... الخ.

توضيحه أن ايجاب الاحتياط ، إما مقدمي ، وإما إرشادي ، وإما نفسي.

والكل غير صحيح :

أما الأول ، فلان الوجوب المقدمي وجوب معلولي لوجوب ذي المقدمة فيتبعه ثبوتا ، وفعلية ، وتنجزا ، فكيف يعقل أن يكون تنجز وجوب ذي المقدمة من قبله؟.

مع أن الاحتياط عنوان ما تعلق به التكليف المجهول ، ولا اثنينية بينهما وجودا ، ليكون مقدمة وجودية له حتى تجب بوجوبه.

وأما الثاني ، فلأن الارشاد الى ترتب العقاب على الواقع فرع تنجز الواقع ، والمفروض أنه لا منجز له إلا الأمر الارشادي بالاحتياط.

وأما الارشاد إلى غير العقاب ، فلا يجدي في ما هو المهم في هذا الباب ، وهو واضح.

وأما الثالث ، فلان مقتضى النفسية تنجز نفسه بوصوله دون الواقع ، وهو

__________________

(١) كفاية الاصول / ٣٣٩.

٤٢

خلف.

مع أن الاحتياط في محتمل الوجوب مثلا بفعل الواجب. ولا يعقل عروض وجوبين نفسيين على واحد خصوصا إذا كان متعلق أحدهما معنون متعلق الآخر.

مضافا إلى ما يقال : من أن ايجاب الاحتياط لا يوجب تنجز الواقع لبقاء الجهل على حاله ، فملاك عدم تنجز الخطاب الواقعي وهو الجهل به ، حيث إنه لم يرتفع ، فكيف يتنجز؟

وأجاب عنه شيخنا العلامة (١) ( رفع الله مقامه ) بأن ايجاب الاحتياط سنخ آخر من الايجاب ، وهو الانشاء بداعي تنجيز الواقع ، وملاك عدم التنجز ليس الجهل بما هو ، بل عدم قيام الحجة ، ومع الانشاء بداعي تنجيز الواقع يصح له الاحتجاج به على العبد ، ولا يكون معذورا من قبل مولاه مع أنه جعله غير معذور عن قبل ما أقام عليه الحجة من قبله.

ولكنك قد عرفت (٢) في مبحث جعل الطريق أن الانشاء بهذا الداعي لا يخلو عن إشكال هو أن الانشاء بأي داع كان هو مصداق ذلك الداعي بالاضافة إلى ما يرد عليه مفاد الهيئة.

فالانشاء بداعي البعث الى الصلاة مصداق حقيقة للبعث نحو الصلاة ، وبداعي الامتحان مصداق للامتحان بالمادة التي تعلقت به الهيئة. وهكذا.

ومن الواضح أن القابل للتنجز هو التكليف ، وللتنجيز هو الخبر ، او أمارة اخرى أو اليقين السابق في الاستصحاب ، أو احتمال التكليف في باب الاحتياط ، وما تعلق به مفاد الهيئة الموصوف بأنه تنجيز نفس مادة الاحتياط.

__________________

(١) في تعليقته على فرائد الأصول / ١١٧.

(٢) نهاية الدراية ٣ / ٥٨.

٤٣

فما هو قابل لتعلق البعث الانشائي به غير قابل للتنجز ولا للتنجيز ، وما هو قابل للمنجزية والمتنجزية وهو الاحتمال والتكليف غير قابل لتعلق البعث الانشائي به.

فالايجاب بداعي تنجيز التكليف الواقعي في جميع الموارد غير معقول ، لا أن تنجز الواقع بالخبر ونحوه غير معقول وقد تقدم بعض الكلام في مبحث جعل الطريق.

ويمكن أن يقال : إن ايجاب تصديق العادل أو ايجاب الاحتياط ، ايجاب حقيقي بداعي جعل الداعي ، ومنبعث عن المصلحة الواقعية على حد التكليف الواقعي.

لكن التكليف الواقعي متعلق بالفعل بذاته ، وايجاب التصديق وايجاب الاحتياط متعلق به بعنوانه ، ايصالا للواقع في الأوّل ، وتحفظا عليه في الثاني.

وايجاب الشيء بمعرّف أو معرفات إذا كان منبعثا عن غرض واحد بداعي جعل الداعي لا يوجب تعدد الايجاب الحقيقي.

لما عرفت (١) في محله أن التماثل والتضاد بين الحكمين الفعليين ، لا بين الفعلي والانشائي بداعي جعل الداعي الذي لم يتصف بفعلية الدعوة لعدم وصوله.

فايجاب الاحتياط ايجاب حقيقي نفسي بعنوان آخر غير نفس عنوان الفعل.

وحيث إنه منبعث عن الغرض الواقعي ، فلذا يكون مقصورا على صورة الموافقة مع الواقع ، فلا يستحق إلا عقوبة واحدة.

وحيث إنه بعنوان التحفظ على الواقع ، فوصوله وصول الواقع وتنجزه

__________________

(١) مبحث حجية الظن التعليقة ٥٥ و ٥٦ نهاية الدراية ٣.

٤٤

تنجز الواقع.

وجميع تعاريف الواجب النفسي منطبقة عليه ، فانه منبعث عن غرض في نفسه أي ما هو بالحمل الشائع احتياط ، لفرض كونه معرفا لنفس الواجب الواقعي. وهو واجب لا لواجب آخر ، حيث إن وجوبه غير منبعث عن وجوب آخر ، كالواجب المقدمي. فافهم جيدا.

١١ ـ قوله (قدس سره) : بما هو قضيته من ايجاب الاحتياط فرفعه (١) ... الخ.

ظاهره هنا كصريحه (رحمه الله) في العبارة السابقة أن وجوب الاحتياط من مقتضيات التكليف الواقعي وآثاره ، فلذا حكم (قدّس سره) بأن التعبد برفع التكليف الواقعي تعبد برفع أثره ومقتضاه ، وهو ايجاب الاحتياط.

ولكن لا يخفى عليك أن ايجاب الاحتياط ليس من مقتضيات التكليف بوجه من الوجوه :

لا المقتضى بمعنى المسبب بالاضافة إلى سببه.

لما (٢) مرّ مرارا أن المقتضي لكل حكم بمعنى سببه الفاعلي هو الحاكم.

ولا المقتضى بمعنى ذي الغاية بالاضافة إلى الغاية الداعية اليه ، لان التكليف الواقعي ليس من الفوائد القائمة بوجوب الاحتياط ، حتى يكون اقتضائه له بهذا النحو من الاقتضاء.

ولا المقتضى بمعنى مطلق الأثر الشامل للحكم بالاضافة إلى موضوعه ، لأن ايجاب الاحتياط ليس حكما متعلقا بالتكليف الواقعي ، بل لا يعقل أن يكون كذلك.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٠.

(٢) مبحث حجية القطع التعليقة ٤١ و ٤٥ نهاية الدراية ٣.

٤٥

ومجرد تأخر رتبة وجوب الاحتياط عن التكليف الواقعي ، لكونه حكما في مرتبة الجهل بالتكليف الواقعي ، لا يقتضي أن يكون من مقتضياته ومعلولاته. بل المعروف استحالة اقتضاء التكليف شيئا في مرتبة الجهل به ثبوتا وإثباتا ، للزوم أخذ الشيء في مرتبة نفسه ، وكون الشيء مقتضيا لنفسه.

بل المعقول ما أشرنا اليه في مطاوي كلماتنا من أن الغرض الباعث على التكليف ، كما يدعو إلى جعل التكليف ، كذلك يدعو الى ايصاله بايجاب الاحتياط الواصل المبلّغ له إلى مرتبة الفعلية والتنجز ، حتى يكون المكلف مقهورا في ايجاده ، وغير معذور في تركه.

فكلا الايجابين من مقتضيات الموضوع ، لا أن أحدهما من مقتضيات الآخر ، حتى يكون من باب التعبد بالأثر عند التعبد بما يترتب عليه.

بل هما بحسب الغرض الداعي متلازمان ، ولا يصحح التعبد بأحدهما التعبد بالآخر.

نعم لو أريد الموضوع من الموصول لصح أن يكون التعبد به تعبدا بكلا الأثرين ، وهذا أحد الوجوه المصححة لارادة الموضوع من الموصول.

١٢ ـ قوله (قدّس سره) : فان ما لم يعلم من التكليف مطلقا (١) ... الخ.

تعميم ما لا يعلمون للشبهة الحكمية والموضوعية بوجوه :

منها : ما في المتن ، وهو إرادة التكليف المجهول مطلقا ، سواء كان سبب الجهل به فقد النص ، أو إجماله ، أو تعارض النصين ، أو الامور الخارجية ، فالمراد من الموصول خصوص التكليف مع التعميم من حيث أسباب الجهل به.

ويمكن أن يقال : إن الظاهر من التكليف الذي لا يعلمونه ، أنه بنفسه غير معلوم ، لا أن انطباقه على المورد غير معلوم بسبب الجهل بانطباق موضوعه

__________________

(١) كفاية الاصول / ٣٤٠.

٤٦

الكلي ، فان من لم يعلم بخمرية مائع لا يقال : إنه غير عالم بحرمة الخمر والمائع ـ بما هو ـ لا حكم له واقعا ليقال : إن حرمة هذا المائع غير معلومة ، بل المائع بما هو خمر حرام ، وحرمة الخمر معلومة ، وكون المائع خمرا غير معلوم ، فالانطباق غير معلوم.

ولا منافاة بين ظهور التكليف الذي لا يعلمونه في كونه بنفسه غير معلوم ، والقول بانحلال النهي ، لدوران فعليته مدار فعلية موضوعه عقلا.

والتحقيق : أن فعلية التكليف في المورد مساوقة لتحققه بحقيقته التي لها الاطاعة والعصيان ، لا أمر زائد على حقيقته ، والحرام ليس إلا شرب ما هو خمر بالحمل الشائع.

فحرمة هذا المائع بما هو خمر غير معلومة ، وليس هذا من باب الوصف بحال المتعلق ، فان الجهل بخمريته سبب حقيقة للجهل بحرمته حقيقة بما هو خمر.

منها : إرادة الفعل من الموصول ، لكنه بما هو واجب وحرام ، لأنه بهذا العنوان ثقيل على المكلف ، إما بنفسه ، أو بلحاظ ترتب المؤاخذة عليه بما هو فعل حرام ، أو ترك واجب ، مع التعميم من حيث أسباب الجهل بالواجب والحرام.

وفيه أنه مناف لظاهر سائر الفقرات ، فان الموصول فيها عبارة عن الأفعال بعناوينها ، لا بعنوان الواجب والحرام.

فالمراد مما اكرهوا عليه ذات الفعل الذي اكره عليه ، لا الحرام الذي اكره عليه ، فان الاكراه على الفعل بما هو شرب الخمر ، لا عليه بما هو حرام.

وكذا فيما اضطروا إليه ، وهكذا.

والتحقيق : أن المشتقات غير موجودة بالذات ، ولذا لا تدخل تحت المقولات ، بل الموجود بالذات نفس ذات الموضوع ، ومبدأ المحمول.

٤٧

فالمجهول بالذات ، إما نفس ذات الموضوع كالجهل بالخمر ، وإما مبدأ المحمول كالجهل بالحرمة ، وإما الجهل بالفعل المعنون بعنوان الحرام ، فليس أمرا ما وراء أحد النحوين من الجهل بالذات.

بل العنوان كما أنه موجود بالعرض كذلك مجهول بالعرض بنحو وساطة أحد النحوين من الجهل لعروضه ، لا وساطتهما لثبوته كوساطة الجهل بالموضوع لثبوت الجهل بالحكم.

ومن الواضح أن المراد ( مما لا يعلمون ) الشيء الذي لا يعلمونه حقيقة ، لا ما لا يعلمونه عرضا من حيث نسبة الجهل بشيء حقيقة إليه عرضا.

منها : إرادة الفعل بما هو من الموصول ، لكنه مع تعميم الجهل به ، من حيث الجهل به بنفسه ، أو بوصفه وهو حكمه.

وفيه أنه مناف لظاهر الوصف ، فان إرادة الجهل به بوصفه من باب الوصف بحال المتعلق ، فان الظاهر مما لا يعلمون الشيء الذي لا يعلمونه لا الشيء الذي لا يعلمون حكمه.

فان قلت : عدم العلم التصديقي كنفس العلم التصديقي يتعلق بثبوت شيء لشيء ، ولا فرق حينئذ بين ثبوت الخمرية للمائع ، أو ثبوت الحرمة لشرب التتن من حيث كون العنوان مجهولا.

غاية الأمر أن عنوان الخمرية للمائع ذاتي ، وعنوان الحرمة للشرب عرضي.

فالمجهول دائما عنوان ذات الفعل ، وإلا فالفعل بذاته لا جهل به ، لعدم تعلق الجهل المقابل للعلم التصديقي ـ بتقابل العدم والملكة ـ بالمفردات.

قلت : إذا كان المراد من الموصول هو الفعل ، فلا محالة ليس إلا موضوع الحكم ، فانه الذي يكون رفع الحكم برفعه ، دون الفعل الذي ليس موضوعا للحكم.

٤٨

فشرب المائع ليس موضوعا للحكم ، حتى يقال : إن شرب المائع حيث لم يعلم عنوانه ، وهو كونه خمرا ، فهو مرفوع.

بل شرب الخمر هو الموضوع ، وهو المرفوع إذا كان مجهولا ، وحينئذ ، فالمراد من الجهل به هو الجهل بتحققه.

فالموضوع تارة : يكون معلوم الوجود ، فيترتب عليه حكمه.

وأخرى : مجهول الوجود ، فحكمه مرفوع ، ولم يلزم حينئذ تعلق الجهل بالمفرد ، بل بكونه موجودا.

منها : إرادة الحكم والموضوع معا من الموصول ، بلحاظ عموم الموصول من حيث انطباقه عليهما ، فالمراد رفع كل ما كان مجهولا ، حكما كان أو موضوعا.

وأورد عليه شيخنا العلامة ( رفع الله مقامه ) في تعليقته (١) بعدم إمكانه.

لأن إسناد الرفع إلى الحكم إسناد إلى ما هو له ، واسناده الى الموضوع إسناد إلى غير ما هو له ، والجامع بين الاسنادين غير معقول.

والجواب : أن الحاجة إلى الاسناد الجامع بين الاسنادين إنما تثبت إذا كان اتصاف الاسناد الواحد ـ بكونه إلى ما هو له ، وإلى غير ما هو له ـ من باب اتصاف الواحد بوصفين متقابلين ، وهو محال ، فلا بد من تعقل إسناد جامع ، وهو أيضا محال ، لعدم خروج الطرف عن كونه ما هو له ، أو غير ما هو له ، وإلا فلا إسناد.

مع أن اتصاف الاسناد الواحد بوصفين متقابلين ـ إذا كانا اعتباريين ـ معقول ، لتعقل اعتبارين في واحد ، بلحاظ كل منهما له اعتبار مغاير لاعتبار آخر ، نظير ما ذكرنا (٢) في باب استعمال اللفظ في معنييه : الحقيقي والمجازي ، في

__________________

(١) التعليقة على فرائد الاصول / ١١٤ و ١١٥.

(٢) نهاية الدراية / ١. التعليقة ٩٦.

٤٩

دفع شبهة استلزام اجتماع المتقابلين ، ولو كان الاستعمال في أكثر من معنى ممكنا.

وحاصل الدفع : أن اللفظ من حيث استعماله فيما وضع له موصوف بالحقيقة ، ومن حيث استعماله في غير ما وضع له موصوف بالمجازية ، فهناك وصفان بلحاظ حيثيتين واقعيتين.

فكذلك هنا نقول : إن الشيء بشيئيته لا مرفوع ، ولا غير مرفوع ، بل بلحاظ انطباقه على الحكم والموضوع.

فهذا الاسناد الواحد إلى الشيء من حيث انطباقه على الحكم إسناد إلى ما هو له ، ومن حيث انطباقه على الموضوع إسناد الى غير ما هو له ، فلهذا الإسناد الجدي وصفان اعتباريان بلحاظ حيثيتين حقيقيتين ، وهي حيثية الانطباق على الحكم ، وحيثية الانطباق على الموضوع.

ثم اعلم أنه لا بد من هذا التصحيح لمن يريد شمول الخبر للشبهة الحكمية لا بلحاظ التفكيك بين السياق ، إذا حمل الموصول في ( ما لا يعلمون ) على الحكم ، وفي غيره على الموضوع.

بل لأن صدر الخبر نسب فيه الرفع إلى التسعة بقوله عليه السلام : ( رفع عن أمتي تسعة أشياء ) ، فان هذا الاسناد الواحد الذي طرفه التسعة بالاضافة إلى بعضها إسناد إلى ما هو له ، وبالاضافة إلى بعضها الآخر إسناد إلى غير ما هو له ، وليس كالاسناد إلى الموصول المتعدد ، ليكون الاسناد الكلامي متعددا حقيقة.

ولكن لا يخفى عليك أن اتصاف الاسناد الواحد بوصفين ، وإن كان معقولا ، إلا أن مخالفته للظاهر ـ لعدم تمحضه في الاسناد إلى ما هو له ـ باقية على حالها ، وسيأتي (١) إن شاء الله دفعها.

__________________

(١) في الوجه الذي يذكره بقوله : ومنها ارادة الموضوع الخ.

٥٠

ومنها ـ إرادة الموضوع من الموصول في ( ما لا يعلمون ) كما في سائر الفقرات ، إلاّ أن الموضوع ليس هو المائع المردّد خارجا ، إذ متعلق الحكم وموضوعه ما يتقوم به الحكم في أفق الاعتبار ، لا الشيء الخارجي كما بيناه (١) في اجتماع الأمر والنهي ، بل الموضوع الكلي المقوم للحكم ، وجعل الموضوع بهذا المعنى بعين جعل الحكم ، فان البعث المطلق لا يوجد بنحو وجوده الاعتباري ، إلا متعلقا بمتعلقه ، وموضوعه.

فالموضوع الكلي المقوم للحكم موجود بعين الوجود الاعتباري المحقق للحكم.

ووساطة الحكم لعروض الوجود للموضوع وساطة دقيقة برهانية كوساطة الوجود لموجودية الماهية مع أن صدق الموجود على الماهية المتحدة مع الوجود عرفا مما لا شك فيه بلا عناية ولا مسامحة.

ومنه يظهر أن رفع الموضوع الكلي تشريعا مساوق لرفع الحكم ، كما أن وضعه بعين وضعه.

فالاسناد إلى الجميع إسناد إلى ما هو له عرفا مع انحفاظ وحدة السياق في الجميع.

وعليه ، فرفع الموضوع الكلي في ( ما لا يعلمون ) أعم من رفع الموضوع المجهول نفسا ، ومن المجهول تطبيقا ، فشرب التتن المجهول كونه موضوعا مرفوع ، وشرب الخمر المجهول كونه موضوعا تطبيقا أيضا مرفوع.

١٣ ـ قوله (قدّس سره) : بعد وضوح أن المقدّر فى غير واحد غيرها (٢) ... الخ.

__________________

(١) نهاية الدراية ٢ : التعليقة ٦٢.

(٢) كفاية الاصول / ٣٤٠.

٥١

ما يتعين أن يكون المقدّر فيه غير المؤاخذة ليس إلا الثلاثة الأخيرة ، وهي الحسد ، والطيرة ، والوسوسة ، فانها غير محرمة ، لا أنها محرمة معفو عنها.

إلا أن عدم حرمتها لا يوجب عدم تقدير المؤاخذة فيها. بل يقدر المؤاخذة في الكل بجامع عدم التكليف المصحح للمؤاخذة ، مع وجود المقتضي لما يصحح المؤاخذة حتى يصح نسبة الرفع ، ولو بمعنى الدفع إلى الكل ، ويصح اختصاص رفعها بهذه الأمة دون سائر الأمم ، وإن امتاز بعض التسعة عن بعضها الآخر بثبوت التكليف الواقعي ، وعدمه.

ثم إن ظاهر شيخنا العلامة الأنصاري (قدّس سره) (١) في المقام أن تقدير المؤاخذة يوجب إرادة الفعل من الموصول حتى في ( ما لا يعلمون ). إذ لا مؤاخذة على التكليف ، بل على الفعل أو الترك.

بخلاف تقدير الآثار ؛ فانه لا يأبى عن إرادة التكليف من ( ما لا يعلمون ) حتى مع شمول الآثار للمؤاخذة.

وتوجيهه : أن عنوان المؤاخذة لا تضاف إلى التكليف ، فتقديرها بعنوانها يأبى عن إرادة التكليف من الموصول ، بخلاف عنوان الآثار ، فانها بمعنى مقتضيات الموضوع والحكم ، والمؤاخذة من مقتضيات التكليف ، وان لم تكن على التكليف.

وحينئذ فارادة خصوص المؤاخذة في الجميع مع إرادة التكليف من ( ما لا يعلمون ) معقولة ، لكنه لا بعنوانها ، بل بعنوان مقتضى التكليف ، كما هو واضح.

ثم إن لزوم التقدير ـ إما لخصوص المؤاخذة لتيقنها ، أو لمطلق الآثار لكونه أقرب إلى نفي الحقيقة ، أو الأثر الظاهر في كل مورد بحسبه ، لكونه المتيقن في مقام التخاطب ـ ، إنما يتوجه بناء على عدم توجه الرفع الى نفس

__________________

(١) فرائد الاصول المحشى ٢ / ١٠.

٥٢

التكليف.

وأما إذا أريد من ( ما لا يعلمون ) نفس التكليف ، فمقتضى عموم الموصول ارتفاع كل تكليف مجهول.

نعم لزوم التقدير إنما يكون في غير ( ما لا يعلمون ) مما يتعين فيه ارادة الفعل من الموصول.

١٤ ـ قوله (قدس سره) : كما استشهد الامام عليه السلام بمثل هذا الخبر (١) ... الخ.

لا يخفى عليك أن ظاهر السؤال والجواب عن لزوم الحلف على المذكورات ، لا عن الأحكام التكليفية المترتبة على الطلاق ، والعتق ، والصدقة ، أو المؤاخذة.

فما عن غير واحد ، منهم شيخنا الاستاذ ( قده ) في تعليقته (٢) من أن إرادة رفع المؤاخذة معقولة ، غاية الأمر أن المؤاخذة : تارة على ذات الفعل. وأخرى على مخالفة التكليف المنبعث عن الوضع.

فلا دلالة له على رفع الوضع فيما لا يترتب عليه حكم تكليفي مصحح للمؤاخذة.

أجنبي عن مورد الرواية سؤالا وجوابا.

ثم إن الحلف على المذكورات وإن كان باطلا حتى مع الاختيار أيضا ، إلا أن استدلال الامام عليه السلام في مقام الالزام لا يصح إلا مع دلالة رفع الاكراه على رفع أثره الوضعي.

نعم إذا احتمل أنه من باب الالزام بما يراه المخالف ظاهرا في رفع الوضع

__________________

(١) كفاية الاصول / ٣٤٠ ـ ٣٤١.

(٢) التعليقة على فرائد الاصول / ١١٦.

٥٣

وإن لم يكن كذلك لصح الالزام بما تسالم عليه الخصم.

وحيث إنه عليه السلام في مقام الالزام والافحام على الخصم ، لا في مقام بيان الحكم الحقيقي من قبل الاكراه ، لم يكن الاحتمال المزبور بعيدا. وله نظائر في كلماتهم عليهم السلام.

١٥ ـ قوله (قدس سره) : أن المرفوع في ما اضطروا اليه وغيره (١) ... الخ.

توضيحه أنه قد أورد على ( حديث الرفع ) كما في الرسائل (٢) بأنه موهون إذا أريد منه رفع جميع الآثار للزوم التخصيص الكثير فيه ، لأن آثار الخطأ والنسيان غير مرتفعة.

وأجاب عنه الشيخ الاعظم (٣) (قدس سره) بأن الخبر لا يرفع آثار الخطأ والنسيان بما هما.

بل الآثار المترتبة على ذات الفعل لا بشرط العمد والخطأ مرفوعة بالخبر إذا صدر عن الخطأ قائلا : بأنه لا يعقل رفع الآثار الشرعية المترتبة على الخطأ والسهو من حيث هذين العنوانين.

ولعله بملاحظة أن رفع ما فرض ثبوته في هذه الشريعة تناقض ، فان معناه حينئذ أن الآثار الثابتة لهذه العناوين في هذه الشريعة غير ثابتة في هذه الشريعة ، وهو تناقض واضح.

مع أن الرفع إذا كان بمعناه الحقيقي كانت هذه المناقضة ثابتة فيما إذا

__________________

(١) كفاية الاصول / ٣٤١.

(٢) فرائد الاصول المحشى ٢ : ١١.

(٣) قال قده : فاعلم أنه إذا بنينا على عموم رفع الآثار فليس المراد بها الآثار المترتبة على هذه العنوانات من حيث هي إذ لا يعقل رفع الآثار الشرعية المترتبة على الخطأ والسهو من حيث الخ

فرائد الاصول المحشى ٢ : ١١ ـ ١٢.

٥٤

رفعت آثار الفعل لذاته في حال الخطأ ، فان الرفع الحقيقي يقتضي ثبوتها في هذه الشريعة للفعل في حال الخطأ ، فرفعها في حال الخطأ مناقضة ، ورفع الآثار الثابتة في الشرائع السابقة صحيح في كلا المقامين.

وأما إذا أريد الرفع بمعنى الدفع ، فمعقول في كلا المقامين ، فكما يكفي ثبوت المقتضي للاثر حتى في حال الخطأ ، كذلك يكتفي بثبوت المقتضي له في نفس الخطأ ، فلا يكون رفعه بما هو أقوى اقتضاء منه مناقضة.

نعم يكون معارضا للأدلة المتكفلة لآثار الخطأ والنسيان بما هما ، وهذا غير عدم المعقولية.

وبالجملة : الاشكال في الخبر من حيث إن ظاهر أخذ عنوان في الموضوع كونه عنوانا ، ومقتضيا له حقيقة ، فمعنى رفع حكم الخطأ رفع حكمه بما هو خطأ ، لا رفع حكم ذات ما أخطأ عنه.

فيكون معارضا للدليل المتكفل لحكم الخطأ بما هو ، فيلزم التخصيص الكثير في الحديث إذا كان المراد منه رفع مطلق الآثار.

ويمكن الجواب عنه بوجهين :

أحدهما : أن ورود الخبر مورد الامتنان يقتضي أن الجهات الموجبة للمنة ـ برفع الأحكام والآثار ـ هي هذه العناوين المأخوذة في الخبر من الجهل والخطأ والنسيان والاكراه والاضطرار.

فاذا كانت هذه الجهات مقتضية لرفع تلك الأحكام ، فلا محالة ليست بما هي مقتضية لثبوتها ، إذ لا يعقل أن يكون العنوان الواحد مقتضيا لطرفي النقيض ، فموضوعات تلك الأحكام المستدعية لها ذات المجهول وذات ما أكره عليه وهكذا.

وعليه ، فلا يكون الخبر رافعا لآثار الخطأ والنسيان بما هما حتى ، يلزم ورود التخصيص الكثير عليه.

٥٥

ثانيهما : أن هذه العناوين الظاهرة في العنوانية على حد سائر العناوين المأخوذة في موضوعات القضايا ، إلا أنها موضوعات لنفي الحكم لا للحكم المنفي.

فقوله رفع الاكراه ينحل إلى قضية موضوعها الفعل المكره عليه بما هو كذلك ، ومحمولها نفي الحكم عنه بما هو كذلك ، ومفاده لا يحرم الفعل المكره عليه.

وحيث إن العنوان موضوع لنفي الحكم ، فلا محالة موضوع الحكم المنفي غيره ، لاستحالة اقتضاء الشيء للمتنافيين.

فالتحفظ على ظاهر القضية ، وظهور العنوان في العنوانية بضميمة البرهان ، يدل على أن موضوع نفي الحكم شيء ، وموضوع الحكم المنفي شيء آخر ، ولو لم يكن الخبر واردا مورد الامتنان.

ولا معنى لجعل حكم الخطأ موضوعا ، وجعل رفعه محمولا ، حتى يكون مفاد القضية ان حكم الخطأ مرفوع ، فان المحمول لكل موضوع باقتضاء موضوعه بنحو من الاقتضاء. ويستحيل اقتضاء الشيء لعدم نفسه ، فلا محالة الخطأ موضوع مقتض لرفع الحكم عن نفسه.

والتحقيق : أن الأمر وإن كان كذلك في العنوان المقتضي لثبوت الحكم أو المقتضي لنفيه.

لكنه حيث إن رفع المذكورات في الخبر بعنوان رفع الحكم برفع موضوعه. فلا بد أن يكون الموضوع المرفوع موضوع الحكم المرفوع ، لا موضوع رفع الحكم.

وإلا فلو كان الموضوع موضوع رفع الحكم لكان رفعه مفيدا لضد المقصود ، إذ رفع موضوع الرفع يقتضي رفع الرفع وثبوت الحكم ، لا نفيه.

وحينئذ ، فيتوجه الاشكال المتقدم من ظهور الخبر في رفع حكم الخطأ بما هو خطأ ، لا حكم ذات ما أخطأ عنه.

٥٦

وما ذكر من البرهان إنما يتم في ما إذا كان نفي الحكم باقتضاء الموضوع المجعول في القضية النافية موضوعا.

وأما إذا كان عدم الحكم بعدم موضوعه من باب عدم المقتضى بعدم المقتضي ، ولو لاختلاف الأزمنة ، لإناطة اقتضائه بزمان خاص ، كما في النسخ أحيانا ، فلا موقع للبرهان المزبور ، فلا كاشف عن أن موضوع الحكم المنفي غيره.

بل الأمر في الثلاثة الأخيرة من التسعة ، وهي الحسد والطيرة والوسوسة كذلك ، فان موضوع الحكم المنفي ليس إلاّ نفس هذه الثلاثة.

فالأولى الاقتصار على الجواب الأول باستظهار رافعية هذه العناوين الطارية من نفس ورود رفعها مورد الامتنان.

وأما الثلاثة الأخيرة ، فالمقتضي للرفع غلبة وقوعها حتى ورد أنه لا يخلو منها أحد ، فغلبة وقوعها مانعة عن تأثير اقتضائها للحكم امتنانا على الأمة المرحومة.

١٦ ـ قوله (قدس سره) : كيف وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم (١) ... الخ.

بيانه : أن ايجاب الاحتياط حال العلم بالتكليف لا معنى له.

وكذا ايجاب التحفظ حال التذكر لا معنى له.

فلا محالة لا يكون ايجاب الاحتياط إلاّ بلحاظ حال الجهل بالتكليف.

ولا يكون ايجاب التحفظ إلاّ بلحاظ الخطأ والنسيان ، فيكون الخبر دليلا على رفع آثار هذه العناوين بما هي ، لا رفع آثار ذوات المعنونات.

والجواب ما مرّ (٢) منا مفصلا : أن كون إيجاب الاحتياط مثلا من

__________________

(١) كفاية الاصول / ٣٤١.

(٢) في التعليقة ١١ من هذا الجزء.

٥٧

مقتضيات التكليف أو من مقتضيات التكليف المجهول ، سواء كان بنحو اقتضاء السبب لمسبّبه ، أو بنحو اقتضاء الغاية لذي الغاية ، غير معقول.

فليس وجوب الاحتياط من آثار التكليف وأحكامه ، ولا من أحكام التكليف المجهول وآثاره.

بل من مقتضيات نفس الغرض الباعث على التكليف الواقعي ، فان الغرض الواقعي كما يدعو المولى إلى جعل البعث نحو ما يحصّله ، كذلك يدعوه إلى ايصاله بما يبلغه إلى مرتبة الفعلية والتنجز ، إما بنصب الطريق ، أو بجعل الاحتياط بأحد النحوين المتقدمين.

بل يستحيل أن يكون ايجاب التحفظ من آثار الخطأ والنسيان ، كيف وايجاب التحفظ لئلا يقع في الخطأ والنسيان ، فكيف يكون من آثار الفعل الصادر خطأ ، أو نسيانا؟

لا يقال : مرجع كون وجوب الاحتياط أثرا للتكليف المجهول ، أو الحكم على الخطأ والنسيان إلى تحريم مخالفة التكليف المجهول بما هو. فالتكليف المجهول ليس متعلقا للتكليف حتى يقال باستحالته ، بل موضوع لتعلق التكليف.

لانا نقول : مخالفة التكليف المجهول بما هو إذا كانت ذات مفسدة مقتضية للتحريم ، فهي خارجة عن محل الكلام ، لأنها اجنبية عن عنوان الاحتياط ، والتحفظ على الواقع المجهول ، والأمر في التكليف المنبعث عن الغرض الواقعي ما مرّ.

وكذا إيجاب التحفظ لئلا يقع في الخطأ والنسيان مرجعه الى حفظ الغرض الذي يفوت بالخطإ والنسيان ، لا إلى الفرار عن المفسدة التي تترتب على الخطأ بما هو خطأ وعلى النسيان بما هو نسيان فتدبر جيّدا.

* * *

٥٨

[ الاستدلال بحديث الحجب على البراءة في الشبهات الحكمية ]

١٧ ـ قوله (قدس سره) : إلاّ أنه ربما يشكل بمنع ظهوره في وضع (١) ... الخ.

لا ريب في ظهور الحجب في ثبوت الحكم الموحى إلى النبي صلى الله عليه وآله أو الملهم به الوصي عليه السلام ، إذ مع قطع النظر عنه لا ثبوت إلا للمقتضي ، فلا مقتضى حينئذ حتى يكون محجوبا أو غير محجوب.

ونسبة الحجب إلى العلم لعلها مبالغة في حجب المعلوم ، وإلا فحيث لا يعقل ثبوت العلم وكونه محجوبا عن العالم ، فلا محالة يراد من ظهوره ثبوته ، فان الوجود عين الظهور ، ويراد من احتجابه عدمه ، لكونه في ظلمة العدم.

وثبوت العلم والجهل المقابل له بتقابل العدم والملكة ، وإن كان لا يستدعي إلا ثبوت المعلوم والمجهول بثبوته الماهوي لا بثبوته الخارجي ، لعدم توقف العلم إلا على المعلوم بالذات ، لا على المعلوم بالعرض ، كما مرّ مرارا فلا دلالة حينئذ على ثبوت التكليف خارجا وحيا أو إلهاما.

لكنه مع ذلك لا يصدق في شأنه أنه مما لم يوقف الله عباده عليه ولم يعلمهم به ، فانه ظاهر في ثبوت حكم ما أوقفهم الله عليه ولم يطلعهم عليه لا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

فاتضح أن الحجب على أي حال يستدعي ثبوت التكليف وحيا أو الهاما وحجبه حينئذ بأحد وجهين :

__________________

(١) كفاية الاصول / ٣٤١.

٥٩

إما بعدم أمره حججه عليهم السلام بتبليغه وتعريفه للعباد.

أو باختفائه بعد تبليغ الحجج وتعريفهم إياه باخفاء الظالمين ، أو غيره من العوارض الموجبة لاختفائه.

ونسبة الحجب إليه تعالى على الأول ظاهرة ، حيث إن الحكم صار محجوبا من قبله تعالى بعدم أمره حججه عليهم السلام بتعريفه وتبليغه.

وأما على الثاني ، فلا : إما لأنه لا يصدق في حقه أنه مما حجبه الله عن العباد ، بل عرفهم إياه على لسان حججه عليهم السلام ، وإن لم يصل إلى بعضهم لعارض.

وإما لأن حجبه مستند إلى الظالمين وغيرهم لا إليه تعالى.

فان قلت : نسبة الحجب اليه تعالى بلحاظ انتهاء سلسلة الاسباب إلى رب الأرباب ، فيكون كقوله عليه السلام : كلّ ما غلب الله عليه فهو أولى بالعذر (١).

مع أن المقهورية في الاسباب العذرية مستندة ابتداء إلى أسباب طبيعية من نوم أو إغماء أو جنون ونحوها ، بل ليس في العالم شيء إلا وله سبب أو أسباب ، ومرجع الكل الى مسبب الأسباب.

قلت : قد ذكرنا في مبحث الطلب والارادة (٢) أن المسببات بما هي موجودات محدودة لا تنسب إلا إلى أسباب هي كذلك ، وبما هي موجودات بقصر النظر على طبيعة الوجود المطلق تنسب إلى الموجود المطلق ، لأن الفاعل الذي منه الوجود منحصر في واجب الوجود دون فاعل ما به الوجود ، فانه غير منحصر في شيء.

نعم ربما يكون الفعل المحدود بلحاظ تأثيره اثرا خارقا للعادة بغلية

__________________

(١) الكافي / ٣ : ٤١٢ لكن فيه : فالله أولى بالعذر

(٢) نهاية الدراية ١ : التعليقة ١٥٢.

٦٠