نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-40-X
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٦٤

للمجعول التشريعي ، لا من لوازمه التشريعية ، لأن كل مجعول تشريعي مجعول تكويني ، ولا عكس ، فانه من حيث إنه من الموجودات الخارجية بما يناسبه من الوجود في نظام الوجود مجعول تكويني ، ومن حيث صدوره من الشارع بما هو شارع شريعة وجاعل طريقة ، لا بما هو جاعل هويات الممكنات ، مجعول تشريعي ، وملاك تشريعيته كونه ذا مصلحة موجبة لجعله شرعا.

ومن الواضح : أن وجوب المركب من حيث انبعاثه عن مصلحة فيه تشريعي.

وأما اتصاف الشارع الموجب بكونه حاكما ، واتصاف المكلف بكونه محكوما عليه ، أو اتصاف الحكم بكونه محمولا ، واتصاف متعلقه بالموضوعية ، فكلها من اللوازم التكوينية للمجعول التشريعي ، من حيث كونه تكوينيا.

فكذلك الجزئية والكلية بلحاظ تعلق شيء واحد بالمركب ، لا أن هذا المجعول التبعي منبعث عن مصلحة تبعية لمصلحة المركب ، كالوجوب المقدمي المعلول لمصلحة مقدمية تابعة لمصلحة ذيها. وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ تمام الكلام فيه في محله (١).

ثم إن هذا كله بناء على الانحلال من وجوه الاشكال.

وأما بناء على عدم الانحلال ، ففيه وجوه أخرى من الاشكال :

أحدها : ما عن شيخنا العلامة رفع الله مقامه في هامش (٢) الكتاب ، وهو منافاة رفع الجزئية مع العلم الاجمالي بالحكم الفعلي المحكوم عقلا بالاحتياط ، ولذا خص جريان حديث الرفع بما إذا علم إجمالا بمجرد الخطاب بالايجاب ، دون ما إذا علم بالحكم الفعلي.

__________________

(١) نهاية الدراية ٥ : التعليقة ٤٤.

(٢) كفاية الاصول / ٣٦٦.

٣٢١

لكنه بنفسه قابل للدفع ، فان محذور المناقضة أو الاذن في المخالفة إنما يكون مع جريان الأصل أو القاعدة في تمام الأطراف.

وأما إذا اختص أحد الاطراف بأمارة أو أصل أو قاعدة ، وكانت سابقة على العلم الاجمالي أو مقارنة له ، فلا علم إجمالي بحكم فعلي على أي تقدير حتى يكون له أثر.

والمفروض اختصاص الحديث بأحد الطرفين ، وسبقه على العلم الاجمالي.

بيانه : أن المراد من الحكم الفعلي الذي تعلق به العلم : إن كان الفعلي من قبل المولى ، كما هو مدلول الأدلة ، والعلم به يبلغه إلى درجة الفعلية البعثية والزجرية ، وهو الفعلي بقول مطلق ، فمع قيام الحجة على طرف من العلم بخصوصه لا يصلح العلم لجعله بالغا إلى درجة الفعلية المطلقة ، لما مرّ (١) سابقا من امتناع اجتماع الفعليين في طرف.

وإن كان الفعلي المتعلق به العلم هو الفعلي بقول مطلق ، فمع أنه غير (٢) معقول ـ كما مرّ مرارا ـ يرد عليه : أنه مع قيام الحجة لا يعقل انعقاد العلم الاجمالي بحكم بعثي فعلي على أي تقدير ، فاما لا علم وإما لا تأثير له في الفعلية ، فلا مناقضة ولا منافاة.

ثانيها : أنه إذا انحل العلم الاجمالي بالقاعدة فلا أثر له في الطرف الآخر ، فما الملزم بفعل الأقل؟ ولازمه تجويز المخالفة القطعية.

__________________

(١) في التعليقة ٣٥ و ٣٧.

(٢) لأن الفعلية بقول مطلق متقدمة بالعلم فما دام لم يعلم التكليف لم يكن الفعلية على الاطلاق وقد صرح قده في غير مورد بأن الحكم عبارة عن جعل ما يمكن أن يكون داعيا فاذا وصل كان فعليا بقول مطلق فراجع مبحث حجية القطع. نهاية الدراية ٣ : التعليقة ٤١ و ٤٣.

وراجع مبحث حجية الظن. نهاية الدراية ٣ : التعليقة ٥٥ و ٦٥.

وراجع مبحث البراءة التعليقة ٢٥ و ٧١ الى غير ذلك من الموارد.

٣٢٢

والجواب : أنا لا نقول بلزوم سائر الأجزاء من ناحية العلم الاجمالي حتى يرد المحذور ، بل بلزومها بالأدلة الدالة على جزئية تلك الأجزاء ، وأدلة الإجزاء لا تثبت إلا جزئيتها للواجب النفسي ، لا أنها تثبت تعلق الأمر النفسي بالأقل ، ليكون العلم الاجمالي منحلا بسببها ، ويلزم الخلف من انحلاله ، مع قطع النظر عن حديث الرفع ، ويكفي ثبوت جزئيتها للواجب النفسي في الالزام عقلا باتيانها ، وثبوت المؤاخذة على ترك الواجب النفسي بتركها.

ثالثها : أن رفع الجزئية لا يوجب انحلال العلم الاجمالي إلاّ بناء على الأصل المثبت ، لأن الجزئية ليست من أطراف العلم ، بل ملزومها من أطرافه ، وإجراء القاعدة في نفس ما هو من أطراف العلم غير ممكن للتساقط بالمعارضة ، فلا يرتفع الأمر النفسي عن الأكثر إلا بالملازمة العقلية.

والجواب عنه أولا : أن المورد ليس من موارد الأصل المثبت إذ لا نريد التعبد بعدم الملزوم بالتعبد بلازمه ، بل هما متلازمان في جميع مراتب وجودهما.

فالجزئية الواقعية ملازمة عقلا لتعلق الأمر النفسي واقعا بما يعم هذا الجزء ، والجزئية الفعلية ملازمة للأمر النفسي الفعلي بما يعم الجزء ، وكذا رفع الجزئية واقعا وفعلا.

فيكون حال ما نحن فيه حال اللازم الأعم للواقعي والظاهري ، بحيث يكون التعبد محققا لموضوعه ، لا موجبا للتعبد به كوجوب المقدمة ، فانه لازم عقلي لكل واجب واقعي أو ظاهري ، وكما أن التعبد بجزئية شيء ظاهرا مستلزم عقلا لتعلق الأمر فعلا بما يعمه ، كذلك التعبد بعدمها مستلزم لعدم تعلق الأمر الفعلي بما يعمه عقلا.

وبالجملة : عدم الانفكاك عقلا ليس مخصوصا بواقعهما ، حتى يكون الاستلزام في مقام التعبد مبنيا على الأصل المثبت ، بل سار في جميع مراتب الواقع والفعلية.

٣٢٣

وثانيا : أن رفع الجزئية ، وان لم يستلزم رفع الأمر النفسي عن الأكثر ، إلا أنه يرفع المؤاخذة على الواجب النفسي ، من قبل تركه بترك الجزء المشكوك ، ولا أثر للعلم الاجمالي بالأمر النفسي ، الذي لا أثر له على تقدير تعلقه بالأكثر ، وإن لم ينحل برفع أحد طرفيه.

وأما عدم ثبوت وجوب الأقل نفسيا برفع جزئية المشكوك فلا يضرنا بعد العلم باستحقاق العقاب على ترك الواجب النفسي ، بسبب ترك كل واحد من الأجزاء ما عدا المشكوك.

مع أنك قد عرفت سابقا (١) البرهان على قيام غرض نفسي بالأقل الكاشف ـ بنحو كشف العلة عن معلولها ـ عن ايجاب نفسي متعلق بالأقل في هذه الحال فراجع.

ومما ذكرنا يندفع إشكال الأصل المثبت بتقريب آخر ، وهو أن الماهية المتعلقة بها الأمر النفسي إما ملحوظة بنحو اللابشرط القسمي أو بنحو البشرطشيء ، ونفي الثاني لا يثبت كونها متعينة بالتعين اللابشرطي.

وأما دفعه (٢) بأن الاطلاق مقابل للتقييد بتقابل العدم والملكة ، لا بتقابل التضاد ، فاطلاق الماهية عين عدم تقيدها الثابت بحديث الرفع.

فمخدوش : بأن الاطلاق بمعنى اللابشرطية معنى ، وعدم تقيد الماهية بخصوصية معنى آخر ، فان اللابشرطية ملاحظة الماهية بحيث لا تكون مقترنة بخصوصية ، ولا مقترنة بعدمها ، فعدم الاقتران بالخصوصية لازم أعم للماهية اللابشرط والماهية بشرط لا ، لا أنه عين لحاظ الماهية لا بشرط.

نعم بعد الفراغ عن عدم اقتران الماهية بعدم الخصوصية ينحصر الأمر

__________________

(١) في التعليقة ٨٨.

(٢) كما عن المحقق النائيني قده. فوائد الأصول ٤ / ١٦٣.

٣٢٤

قهرا في الماهية اللابشرط ، وهذا غير العينية.

كما أنه تبين مما ذكرنا : أنه لا منافاة بين أن يكون تقابل التقييد وعدمه تقابل العدم والملكة ، وأن يكون تقابل الابشرطية والبشرطلائية والبشرطشيئية تقابل التضاد.

هذا إلاّ أن التمسك بحديث الرفع ـ حيث إنه مبني على نفي الجزئية لا نفي الوجوب النفسي للأكثر ـ لمكان التعارض ، مع ما عرفت في كون الجزئية مجعولا تشريعيا ، فلا مناص من الاشكال بناء على عدم الانحلال عقلا.

وغاية ما يمكن أن يقال : إنه لا أثر لتعلق الأمر النفسي بالأقل بحدّه ، حتى يعارض به الأمر النفسي بالأكثر ، الذي له الأثر من حيث المؤاخذة على تركه بترك الجزء المشكوك.

وتعلق أصل الأمر النفسي بذات الأقل غير معارض بتعلّقه بالأكثر ، لأن أصل تعلّقه بذات الأقل معلوم ، وإن لم يوجب هذا التعلق انحلال العلم على الفرض.

فما هو النافع في استحقاق العقاب على ترك الأقل غير معارض بشيء ، لعدم المنافاة بين الاستحقاق بترك ذات الأقل والاستحقاق بترك الجزء الزائد ، وما هو الطرف للعلم الاجمالي الموهم للمعارضة لا أثر له ، حتى لا يمكن رفع ما له الأثر ، فلا بأس حينئذ بشمول حديث الرفع للأمر النفسي بالأكثر من حيث كونه مشكوكا في نفسه.

ومنه يظهر الجواب عما أشكلناه سابقا على رفع جزئية الزائد بمعارضته بالتبع ، برفع كلية الأقل ، فان كليته وكونه تمام المتعلق لا أثر له على ما مر.

١٠٠ ـ قوله ( قده ) : نسبة الاستثناء (١) ... الخ.

إن كانت أدلة الأجزاء مثبتة لجزئيتها واقعا ، فحديث الرفع وشبهه ليس

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٦٧.

٣٢٥

في مرتبة الواقع ، حتى يكون بمنزلة الاستثناء.

وإن كانت مثبتة لجزئيتها فعلا ، فحديث الرفع ، وان كان بلحاظ أصل الفعلية صالحا ، لأن يكون بمنزلة الاستثناء ، إلا أنه مخدوش من وجهين :

أحدهما : عدم تكفل الأدلة واقعا للفعلية البعثية والزجرية ، بل للإنشاء بداعي جعل الداعي وهو الفعلي من قبل المولى ، وصيرورته مصداقا لجعل الداعي بالفعل متقوم بوصوله عقلا ، فهو غير فعلي بقول مطلق ، مع قطع النظر عن حديث الرفع.

وأما رفع الفعلية من قبل المولى فهو غير معقول ، لأن معناه رفع الواقع ، حيث لا واقع عندنا إلاّ الانشاء بداعي جعل الداعي ؛ لأن الانشاء المحض محال ، والانشاء بداع آخر لا يترقب منه فعلية الحكم البعثي والزجري.

وثانيهما : أن الفعلية المطلقة لو كانت واقعية ، فبالشك فيها لا يعقل أن يكون محكوما بعدم الفعلية ، لأن احتمال المتناقضين كالقطع بهما في الاستحالة.

* * *

٣٢٦

[ التنبيه الأول ]

١٠١ ـ قوله ( قده ) : فان الانحلال المتوهم في الأقل والأكثر (١) ... الخ.

تقريب الانحلال من وجوه :

أحدها : أن المقيد بما هو مقيد كما يتوقف وجوده على وجود القيد ، كذلك على وجود ذات المقيد ، فذات المقيد واجبة بقول مطلق ، إما بوجوب نفسي أو بوجوب مقدمي.

والجواب : بالفرق بين مقدمية ذات المقيد ومقدمية القيد ، فان الثاني مقدمة خارجية مباينة لذيها في الوجود ، فيمكن وجوبها المقدمي بخلاف ذات المقيد ، فانها من علل قوام المقيد بما هو مقيد ، كالاجزاء بالاضافة إلى المركب ، فهي غير مباينة لذيها في الوجود ، فلا يعقل وجوبها المقدمي مع فرض وجوب المقيد المتقوم بها.

فسبقها عليه بالتجوهر في مقام الماهية ، وسبقها عليه بالطبع في الوجود لا يجدي إلا في أصل المقدمية ، لا فيما هو ملاك الوجوب المقدمي.

ثانيها : أن ذات المقيد وان لم يكن لها وجوب غيري مقدمي ، إلا أنها متعلق الوجوب النفسي ، فللوجوب النفسي تعلق بها وبتقيدها ، كالمركب من الأجزاء المستقلة بالوجود في الخارج.

بيانه : أن ذات المقيد لها وجود حقيقي استقلالي في الخارج ، ولتقيدها وجود انتزاعي ، ولا جهة وحدة لهما إلا اللحاظ ؛ بداهة أن الماهيات في حدود ذواتها

__________________

(١) كفاية الاصول / ٣٦٧.

٣٢٧

متباينات ، ولا يعقل أن تكون ماهية من الماهيات جهة جامعة لماهيتين متباينتين.

فالجامع الذي به يتّحد الماهيات بعضها مع بعض ، ليس إلا لحاظها أو وجودها الخارجي ، وبه يستدل على أصالة الوجود واعتبارية الماهية.

وكما أن الجمع في اللحاظ في المركب الاعتباري المؤتلف من أجزاء مستقلة بالوجود ، لا ينافي انبساط الأمر على الأجزاء ، فلكل منها حظ من الوجوب المتعلق بها.

كذلك وحدة ذات المقيد والتقيد في اللحاظ ـ حيث لا جهة وحدة لهما سواه ـ لا تأبى انبساط الوجوب عليهما ، وكون كل واحد منهما متعلق الوجوب ، ولو بتعلق واحد ، كالاجزاء في المركب.

والجواب : أن نحوي وجود ذات المقيد ووجود التقيد ، وإن كانا متغايرين ، والجامع الموحد لهما هو اللحاظ ، إلاّ أن التقيد : ربما يلاحظ على وجه المعنى الاسمي ، فلا محالة يكون في عرض ذات المقيد ، فيوجب انبساط الأمر على ذات المقيد والتقيد.

وربما يلاحظ على وجه المعنى الحرفي ، وهو ملاحظة المقيد بما هو مقيد بحيث يكون التقيد ملحوظا آليا ، فيتعلق الأمر بالحصة الخاصة.

فبمقتضى هذه الملاحظة يكون الملحوظ خاصا ، لا أن الملحوظ معنيان مجموعان في اللحاظ ، وحينئذ فلا معنى لانبساط الأمر على جزءين.

ثالثها : أن المطلق عين المقيد في الوجود ، فالوجوب المضاف الى المقيد مضاف إلى المطلق ، فالمطلق إما له وجوب مضاف إليه بنفسه ، أو وجوب مضاف اليه من حيث إنه عين المقيد.

والجواب : أن عينية المطلق للمقيد لا أصل لها ، لا ماهية ولا وجودا ، إذ الحصة الموجودة ليست عين الوجود ، بل متحدة به اتحاد اللامتحصل مع المتحصل ، فالجامع بين الحصص أولى بأن لا يكون عين الوجود.

٣٢٨

كما أن تباين الحصة مع الجامع ماهية ومفهوما معلوم ، لا يحمل أحدهما على الآخر بالحمل الذاتي الذي هو مناط العينية من حيث الذات.

بل حيث إن الحصة متحدة مع الوجود ، والجامع ينطبق على كل حصة من حصصه بلحاظ الوجود ، فالوجود المضاف إلى الحصة بالذات مضاف إلى الجامع بالعرض ، فيكون الحصة واسطة في العروض.

وإذا عرفت نحو وجود الجامع ، تعرف نحو وجوبه أيضا ، فان حكم أحد المتحدين بالذات ينسب إلى الآخر بالعرض ، سواء كان المحمول هو الوجود أو الوجوب أو غيرهما.

وعليه ، فلا علم بوجوب الجامع إلا بالمعنى الأعم من ما بالذات وما بالعرض ، فيما إذا كان هناك ما بالذات وهو المقيد ، فان الجامع إما هو واجب بالذات إذا كان المطلق واجبا ، وإما واجب بالعرض إذا كان المقيد بما هو واجبا.

وأما في غير هذه الحصة ، فليس إلا احتمال الوجوب للجامع بالذات ، دون احتمال الوجوب بالعرض ، حتى يكون الوجوب بالمعنى الأعم معلوما.

وبالجملة لا وجه لدعوى أن وجوب الجامع معلوم لكنه لا يفيد في مقام إحراز الامتثال.

بل الصحيح : أن المعلوم من وجوب الجامع نحو وجوب لا ينطبق إلا على المقيد.

هذا كله في دفع ما يتوهم في مقام الانحلال والبراءة العقلية من الشرطية.

والتحقيق : أن كل خصوصية ليست شرطا في قبال الجزء ، بل كما مر (١) مرارا أن ذات ما يفي بالغرض هو المقتضى بسيطا كان أو مركبا ، غاية الأمر أنه إذا كان مركبا كان ما يأتلف منه المركب كل واحد منه موصوفا بأنه بعض ما يفي

__________________

(١) منها ما ذكره في مبحث الصحيح والاعم ، نهاية الدراية ١ : التعليقة ٧١. ومنها في مبحث التعبدي والتوصلي ، التعليقة ١٧٤.

٣٢٩

بالغرض ، أو بعض المطلوب بلحاظ مقام جعل الطلب.

ثم إن المقتضي أو أجزاءه : ربما يكون أمرا خاصا ، فالخاص هو المقتضي لا انه خصوصية واردة على المقتضي (١) أو يكون الجزء أمرا خاصا ، فيكون الخاص بعض ما يفي بالغرض ، لا أن الخصوصية واردة على الجزء المفروغ عن جزئيته.

فمثل هذه الخصوصية مقوم الجزء ، ولا يستحق إطلاق الشرط المقابل للجزء عليها.

وربما تكون الخصوصية دخيلة في فعلية تأثير المقتضي البسيط أو المركب ، ومثلها تسمى بالشرط ، لأن الشرط حقيقة إما من مصححات فاعلية الفاعل أو من متممات قابلية القابل ، فلا محالة له دخل إما في طرف المؤثر أو في طرف المتأثر ، والتقيد الخطابي على طبق التقيد الواقعي ، فالاناطة ليست جزافية.

إذا عرفت اختلاف الخصوصيات بحسب المقامات ، فاعلم أن التقيد المقوم للجزء مقوم للمطلوب بالطلب النفسي المنبسط عليه ، وحاله ما عرفت مفصلا.

وأما التقيد الذي له دخل في فعلية التأثير ، فغير مطلوب بعين الطلب النفسي ، بداهة أن الغرض لا يدعو إلا إلى ما يقوم به ، وما يفي به ، وأما ما له دخل في ترتب الغرض على ما يقوم به ، فهو مراد بارادة منبعثة عن إرادة متعلقة بنفس المقتضي المنبعثة عن الغرض القائم به ، فمثل هذه الخصوصية مطلوب بطلب مقدمي منبعث عن طلب نفسي.

فمرجع الشك في الشرطية الحقيقية إلى الشك في طلب غيري مستقل ، منبعث عن طلب نفسي ، والانحلال فيه ليس فيه مجال الاشكال.

__________________

(١) الصحيح : لا أن الخصوصية واردة على المقتضي ، بقرينة قوله فيما بعد : لا أن الخصوصية واردة على الجزء.

٣٣٠

فان قلت : هذا في القيد الذي له وجود استقلالي يمكن تعلق الطلب الغيري به ، وأما القيد الذي ليس له استقلال في الوجود ، كقيد الايمان في الرقبة ، فلا يعقل أن يكون مطلوبا بطلب غيري.

قلت : بعد فرض شرطيته واقعا وعدم دخله في اقتضاء الغرض ، بل في وجود الغرض من المقيد المقتضي له ، فلا محالة لا يعقل أن يكون مطلوبا بعين الطلب النفسي ، بل الواجب المفروغ عن وجوبه متقيد به.

وحينئذ فلا شك في أن عتق الرقبة واجب نفسي على أي تقدير ، وإنما الشك في تقيد الواجب النفسي بقيد وعدمه ، فليس متعلق الوجوب النفسي دائرا بين المقيد وغيره ، فلا ريب حينئذ في الانحلال.

ومن جميع ما ذكرنا تبين أن الشك في جزئية شيء بذاته مورد الانحلال للعلم بانبساط الأمر على سائر الأجزاء والشك في انبساطه على الزائد.

وكذلك الشك في شرطية شيء حقيقة مورد الانحلال ، للعلم بوجوب ذات المشروط ، والشك في انبعاث وجوب آخر من وجوبه بالاضافة إلى الشرط أو تقيد الواجب المعلوم به.

وأما إذا دار الأمر بين جزئية شيء بذاته أو بما له من الخصوصية فلا انحلال أصلا ، لعدم العلم تفصيلا بجزئية ذات الشيء كما عرفت تفصيلا ، وكذا لو كانت الخصوصية مقومة للمركب أو للبسيط.

١٠٢ ـ قوله ( قده ) : لدلالة مثل حديث الرفع على عدم شرطية (١) ... الخ.

قد عرفت حال رفع الأمر المجعول بالتبع من غير فرق بين الجزئية والشرطية.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٦٧.

٣٣١

إلا أنه بناء على صحة الرفع لا فرق بين التقيد الراجع إلى الشرطية الحقيقية والتقيد الراجع إلى كونه مقوّما للمقتضي أو كونه مقوّما للجزء ، فان التقيد في مرحلة الطلب مجعول بجعل الطلب على أي حال.

لكنه بينهما فرق من حيث كون ذات المشروط بعد نفي الشرطية معلوم الوجوب ، بل قد عرفت أنه لا حاجة فيه إلى نفي الشرطية ، لكفاية نفي الحكم التكليفي المقدمي عقلا وشرعا ، بخلاف نفي تقيد الجزء المقوم لجزئيته ، فان الأمر لم يتعلق بذاته على أي حال حتى يفيد في الخروج عن عهدته بعد نفي الخصوصية الجعلية.

١٠٣ ـ قوله ( قده ) : وليس كذلك خصوصية الخاص (١) ... الخ.

لا يخفى عليك أن المركب من جزءين حقيقيين كالجنس والفصل ، تارة يلاحظ جزءاه على ما هما عليه من الجزئية ، وأخرى يلاحظ أحدهما متقيدا بالآخر ، وبالاعتبار الأول يتوهم انبساط الأمر على الجميع ، فيكون حاله حال الشك في الجزئية ، وبالاعتبار الثاني يتوهم الاطلاق والتقييد ، فيجري البراءة عن القيد ، وكلا التوهمين فاسد.

أما الأول : فلان مورد الانبساط ما إذا كان كل من الجزءين مستقلا في التحصّل ، لينبعث من الأمر به استقلالا أو انبساطا إرادة مخرجة له من العدم إلى الوجود ، والجنس والفصل متحدان ، إذ نسبة واحد إلى الآخر نسبة القوة إلى الفعل ، فلا يعقل انبساط الأمر عليهما ، كما لا يعقل تعلقه استقلالا بكل منهما.

وأما الثاني : فمبنى الانحلال : إمّا أنّ الجامع متيقن الوجوب ، والمقيّد مشكوك.

فهو أولا : غير صحيح كما قدمناه (٢).

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٦٧.

(٢) في التعليقة ١٠١.

٣٣٢

وثانيا : غير مجد هنا ، لأن الجامع هناك من حيث إنه نوع تام متحصل الماهية والهوية أمكن تعلق الوجوب به ، واما ما نحن فيه فان الجنس لا تعيّن له من حيث الماهية إلا بفصله ، ولا تحصّل له من حيث الهوية إلا به ، فلا يعقل تعلق الوجوب به.

وإمّا أن القيد واجب بوجوب آخر ، غير وجوب ذات المقيد ، فلا محالة يئول الأمر إلى الشك في تكليف زائد.

وما نحن فيه لا يجري فيه هذا البيان ، لا من حيث ذات المقيد ، ولا من حيث نفس القيد. والوجه واضح مما سمعت آنفا.

بل لا يجري فيه الانحلال الذي وجهناه في القيد الغير المستقل في الوجود ، كوصف الايمان في الرقبة ، وذلك لأن ذات المقيد القائم به (١) الغرض النفسي هناك قابل (٢) للوجوب ، فيشك في تقيد الواجب النفسي به ، بخلاف ما نحن فيه ، فان ذات المقيد لا تعين له (٣) ولا تحصل له ، حتى يقوم به غرض نفسي ليجب بوجوب نفسي فتدبر جيدا.

وأما ما في المتن من أن الخصوصية انتزاعية من ذات الخاص ، فمرجعه الى أنها ليست جعلية كخصوصية الاقتران بالطهارة حتى يمكن نفيها بأدلة البراءة ، فليس هناك شرطية جعلية قابلة للرفع.

وهو وإن كان صحيحا إلا أنه لا تصل النوبة إليه مع استحالة تعلق الوجوب بذات الخاص على أي تقدير.

__________________

(١) والصحيح : بها.

(٢) والصحيح : قابلة.

(٣) والصحيح : لها ، وكذا الأمر في الضمائر الآتية والفعلين ، فان الصحيح فيها التأنيث.

٣٣٣

[ التنبيه الثاني ]

١٠٤ ـ قوله ( قده ) : فلو لا مثل حديث الرفع مطلقا (١) ... الخ.

أما إذا نسي الجزئية فواضح ؛ لأن الجزئية المنسية حكم شرعي وضعي تبعي ، فهو مرفوع.

وأما إذا نسى ذات الجزء ، فتارة يقال : إن الجزئية منسيّة بتبع نسيان ذات الجزء فهي مرفوعة ، وأخرى إن رفع ذات الجزء برفع حكمه وهي الجزئية.

وأما دعوى أن رفع الجزئية برفع منشأ انتزاعها ، وهو الأمر بالكل ، ومع رفع منشأ الانتزاع لا أمر بما عدا المنسي.

فمندفعة : بأن عنوان الجزء منتزع من ذات الجزء ، فمبدأ العنوان وهي الجزئية ، قائمة به بقيام انتزاعي ، والأمر مصحح الانتزاع ، وله دخل في منشئيّته للانتزاع.

ومن الواضح : أن مصحح انتزاع الجزئية من ذات الجزء تعلقه بذات الجزء في ضمن تعلقه بالمجموع.

فتعلق الأمر بالمجموع مصحح انتزاع الكلية من التمام ، ومصحح انتزاع الجزء أحد تعلقاته التحليلية وانبساطه على ذات الجزء.

فالشك في الجزئية شك في ذلك التعلق التحليلي وانبساط الأمر ، فالمرفوع هو ذلك التعلق التحليلي ، لا الأمر بالكل.

فيبقى الأمر بسائر تعلقاته واقتضاءاته على حاله ، ولو عبر عن ذلك برفع الأمر بالكل ، فالمراد رفع الأمر بالكل بما هو كل ، لا رفع الأمر بذاته وبكليته.

ولعله الوجه في دعوى أن المفهوم عرفا من رفع الجزئية رفع خصوصها مع

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٦٨.

٣٣٤

بقاء الأمر بالباقي ، أو دعوى أن نسبة حديث الرفع إلى أدلة الاجزاء نسبة الاستثناء ، وإلا فهو ليس في مرتبة الأدلة المتكفلة للاحكام الواقعية ، حتى يكون بمنزلة الاستثناء منها. فتدبر.

وأما بناء على عدم إمكان اختصاص الناسي بالأمر بما عدا المنسي ، كما عن الشيخ المحقق الأنصاري (قدس سره) على ما سيأتي (١) ـ إن شاء الله تعالى ـ بيانه ، وبيان دفعه ، فربما يقال : إنه لو كان محالا ، لما أمكن تخصيص الناسي بالأمر بما عدا المنسي ، فان حديث الرفع لا يوجب انقلاب المحال ممكنا :

ويمكن دفعه : بأن إشكال الاستحالة إنما يلزم من تنويع المكلف إلى الملتفت والناسي ، فيختص الناسي بحسب الدليل الاجتهادي بالأمر بما عدا المنسي ، فيلزم المحال الآتي.

ولزوم التنويع بملاحظة أن عنوان المكلف ليس مأمورا بتمام الاجزاء ، وإلا لزم اجتماع أمرين وبعثين على الناسي ، أحدهما بعنوان عام ، والآخر بعنوان خاص.

وهذا بخلاف ما إذا قلنا : بأن المكلف بعنوانه مأمور بتمام الأجزاء واقعا ، والنسيان كالجهل مانع شرعا من فعلية الأمر بالاضافة إلى الجزء المجهول ، أو الجزء المنسي ، ولا مانع من اجتماع الأمر الواقعي بالاضافة إلى المكلف بالتمام ، مع الأمر الفعلي بما عدا المنسي لنسيانه.

وفيه : أن كيفية التمسك بحديث الرفع مختلفة ، فتارة يقال : إن جزئية الأمر المنسي مجهولة ، فهي مرفوعة من حيث الجهل بها لا من حيث نسيانها ، بحيث لو لم يكن النسيان احد التسعة لصحّ رفعها برفع الجهل بها ، فالايراد وارد ، لأن معنى الشك في جزئيتها احتمال تعلق الأمر بالكل واحتمال تعلق الأمر بما عدا المنسي ، والمفروض أنه محال ، فكيف يجامع الاحتمال؟

__________________

(١) في التعليقة الآتية.

٣٣٥

وأخرى يقال : إن المنسي وإن كان جزء واقعا إلا أن النسيان مانع عن فعلية الجزئية فالمأتي موافق للمأمور به الفعلي ، فهو حينئذ لا يستلزم احتمال المحال.

نعم لا مجال للتمسك بحديث الرفع على التقديرين إلا مع استيعاب النسيان في تمام الوقت ، لأن طبيعي الصلاة المشتملة على الجزء المنسي انما يجب مطلق وجوده بين مبدأ الوقت ومنتهاه ، ومطلق وجود الجزء لا يكون منسيا إلا باستيعاب النسيان في تمام الوقت.

وأما المنع (١) عن التمسك حتى مع الاستيعاب ، نظرا إلى أن ترك الجزء ليس موضوعا لحكم حتى يرتفع في عالم التشريع ، فهو عجيب ، لأن الجزئية المجعولة حكم ذات الجزء ، والجزء حيث إنه منسي فترك لا أن الترك منسي ، فرفع الجزئية التي هي حكم ذات الجزء المنسي ، فتدبر.

١٠٥ ـ قوله ( قده ) : كذلك يمكن تخصيصها بهذا الحال (٢) ... الخ.

بيان الإشكال : أن الأدلة المتكفلة للجزئية ، مع عدم إطلاقها لحال النسيان بحسب مقام الاثبات ، إذا شك في جزئية شيء من تلك الأجزاء في حال النسيان ، فمقتضى البرهان كونه جزء في تلك الحال ، كما في حال الالتفات ، لأن تخصيص الناسي واقعا بما عدا الجزء المنسي يوجب تنويع المكلف إلى الملتفت المأمور بتمام الأجزاء ، والناسي المأمور بما عدا المنسي.

ومع التنويع وتخصيص الناسي ، لا يكون الحكم المرتب على عنوانه فعليا إلا بفعلية ذلك العنوان ، ولا يكون ذلك العنوان فعليا موجبا لتوجيه التكليف فعليا إلا بالالتفات إلى العنوان ، والالتفات إلى النسيان موجب لارتفاعه الموجب لارتفاع حكمه.

__________________

(١) كما عن المحقق النائيني قده. أجود التقريرات ٢ / ١٧٥.

(٢) كفاية الأصول / ٣٦٨.

٣٣٦

فهذا البعث المختص بعنوان الناسي محال على أيّ حال ، إذ بوجوده الواقعي المنوط بالنسيان واقعا لا باعثية له ، وليس الغرض من التكليف إلا بعث المكلف وحمله على الفعل ، وبوجوده الواصل بوصول موضوعه ، يلزم من فرض وجوده عدمه ، لما عرفت.

وأما لزوم التنويع المتفرع عليه هذا المحال ، فلأنه لو اختص الناسي بحكم ، مع عموم عنوان التكليف بالتمام ، يلزم منه توجه بعثين نحو الناسي : أحدهما بعنوان خاص ، وهو عنوان الناسي ، والآخر بعنوان عام ، وهو عنوان المكلف ، بخلاف ما إذا اختص التكليف بالتام بعنوان الملتفت.

ومنه تعرف أنه لو لم يؤخذ عنوان الناسي في التكليف بما عدا المنسي ، بل أخذ عنوان المكلف يلزم توجه بعثين أيضا إلى الناسي ، لأنه كالملتفت في توجه التكليف بالتام إليه ، لعدم خصوصية في عنوانه ، توجب ١ عدم توجهه إليه.

وحيث إن النسيان علّة لتوجه تكليف آخر بما عدا المنسي ، فلا محالة يكون مكلفا بذاته بتكليف آخر.

نعم الملتفت لعدم العلة الموجبة لتوجه تكليف آخر إليه ، ليس له إلا التكليف بالتمام.

وعليه فنقول : إن الناسي إما لا تكليف له أصلا ، أو له التكليف بما عدا المنسي ، أو له التكليف بالتمام ، والأول خلاف الاجماع والضرورة ؛ اذ محل الكلام هو التكليف بالمنسي واقعا ، لا التكليف مطلقا ، ولو بما عداه ، والثاني يلزم منه المحال ، بالتقريب المتقدم ، والثالث ـ هو المطلوب.

غاية الأمر أنه في حال الغفلة والنسيان لا يؤاخذ بترك التام ، إلا أنه بعد الالتفات يجب عليه إتيان ما هو مكلف به واقعا.

٣٣٧

هذه غاية تقريب (١) ما سلكه شيخنا العلامة الأنصاري (قدس سره) في عموم الجزئية لحال النسيان.

واجيب عنه بوجوه :

أحدها : أن يكون المكلف بعنوانه مأمورا بما عدا الجزء المنسي ، ويكون مطلقا من حيث فعل ذلك الجزء وتركه ، ثم يقيد ذلك الاطلاق في حق الملتفت باتيان ذلك الجزء ، فالملتفت عنوان المكلف بذلك الجزء ، وما أتى به الناسي مطابق لأمره الواقعي ، من دون لزوم التكليف بما عدا المنسي ، بما هو معنون بعنوان الناسي.

وفيه أنه خلاف ما وصل إلينا من أدلة الاجزاء ودليل المركب ، حيث إنه أمر فيها بالتمام بعنوان ذاته ، لا أنه أمر المكلف بما عدا المنسي مطلقا.

مضافا إلى أنه لا تعين للمنسي ، حتى يؤمر بما عداه مطلقا وبه مقيدا بالالتفات ، فلا بد من الالتزام بتعدد البعث بعدد ما يتصور من أنحاء نسيان الجزء إطلاقا وتقييدا.

ثانيها : أن يختص الناسي بما عدا المنسي ، لا بعنوان النسيان حتى يلزم المحال ، بل بعنوان واقعي يلازمه ، كأن يقول : من كثرت رطوبة مزاجه فهو مكلف بالتكبيرة والقراءة وغيرها ، مع عدم عدّ ذكر الركوع مثلا في عدادها ، فالمأتي به في حال النسيان مطابق للمأمور به في حقه ، من دون لزوم الانقلاب في النسيان ، حيث لم يؤخذ عنوانا للمكلف ، بل أخذ ملازمه الذي لا يوجب الالتفات إليه انقلابا. ولا بد من أخذ عنوان الملتفت أو ما يلازمه في التكليف بالتمام ، وإلاّ لكان متوجها إلى الناسي أيضا ، فيلزم منه اجتماع البعثين بالاضافة إليه.

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى ٢ / ١٣٢ و ١٣٣ و ١٣٤.

٣٣٨

وفيه أيضا عدم تعين المنسي حتى يؤمر بما عداه بعنوان ملازم.

مضافا إلى أن وجود ذلك العنوان الملازم للنسيان عموما أو في خصوص الصلاة ، مع أنه أمر وهميّ لا يكون الحكم عليه فعليّا إلا بوصوله ، ولم يصل إلى أحد من المكلفين مثل هذا العنوان.

ومع فرض وصوله لا بد أن لا يكون ملازمته عند الناسي معلومة ، وإلا فيلازم الالتفات إلى النسيان ، فيعود المحذور المتقدم.

ثالثها : الالتزام بعدم تكليف الناسي ، ولو بما عدا المنسي واقعا ، مع كون اتيان ما عدا المنسي ذا مصلحة ملزمة في حقه ، لئلا يلزم خلاف الاجماع والضرورة.

وإنما لم يؤمر بما عدا المنسي ، لأن الانشاء بداعي جعل الداعي ليس إلا لبعث المكلف وحمله على المطلوب منه واقعا ، وحيث إن الغافل غافل عن غفلته ، فيرى توجه التكليف إليه ، لاعتقاده أن ما التفت إليه من الاجزاء هو تمام المطلوب منه.

فمع وجود ما يحركه بحسب اعتقاده لا مجال لتحريكه نحو ما عدا المنسي ، وحيث إن الفعل ذا مصلحة ملزمة في حقه ومحبوب منه واقعا ، فيصدر الفعل منه قريبا.

ولا بد في هذا الوجه أيضا من تقييد الأمر بالتمام بالملتفت ، وإلا لو كان بعنوان المكلف لعم الناسي واقعا ، فيجب عليه التمام بعد زوال غفلته.

غاية الأمر أن الناسي يرى نفسه ملتفتا إلى التمام ، كسائر المكلفين لغفلته عن غفلته.

ولم يتعرض شيخنا العلامة الاستاذ (قدس سره) لهذا الجواب في الكتاب مع تعرضه له ايضا في تعليقته (١) الانيقة على رسالة البراءة.

__________________

(١) التعليقة على فرائد الأصول / ١٥٨.

٣٣٩

ولعله لأجل أن ما اعتقده من الأمر وتحرك على طبقه لم يكن في حقه ، فلا إطاعة حقيقة للأمر حيث لا أمر. وأما محبوبيته واقعا فكفى بها مقربة له ، لكنه ما أتى بالفعل بداعي محبوبيته.

فما يصلح للدعوة المقربة ما دعاه ، وما دعاه لا واقعية له حتى يضاف الفعل إلى المولى بسبب الداعي من قبله.

والأمر وإن كان بوجوده العلمي داعيا ، وهو غير متقوم بوجوده العيني ، لكنا قد بينا (١) سابقا أن كون الفعل إطاعة لأمر المولى حقيقة بوجوده الواقعي ، باعتبار أن الأمر بوجوده العلمي صورة شخصه ، فينسب الى الصورة بالذات وإلى مطابقها بالعرض ، وإذا لم يكن لها مطابق ، فلا أمر من المولى حقيقة ، حتى يكون الفعل إطاعة حقيقية بل انقيادا ، وهو حسن عقلا لا عبادة شرعا.

هذا. إلاّ إذا فرض ترتب المصلحة على العمل المأتي به ولو بعنوان الانقياد ، وهو كلام آخر.

وحيث عرفت عدم خلو الأجوبة المذكورة عن المحذور.

فاعلم : أنه يمكن أن يقال في دفع إشكال الاستحالة بنحو لا ينافي ما وصل إلينا من الأدلة : إن ما عدا الأجزاء الاركانية يمكن أن يكون متقيدا بالالتفات إليه ، بأن يكون الدخيل فى الغرض الجزء الذي التفت إليه المكلف بطبعه ، لا الجزء عن التفات ، كالصلاة عن طهارة حتى يجب تحصيله بقيده.

بل القيد سنخ قيّد بوجوده بطبعه ومن باب الاتفاق ، أو يكون الجزء بذاته دخيلا في الغرض ، لكنه لا مصلحة في الالزام به ، إلا إذا التفت إليه ، وعلى أي حال فلا جزئية إلا لذات الجزء الملتفت إليه.

فالتكليف بنحو القضية الحقيقية متعلق بالمكلف بالاضافة إلى كل جزء من الأجزاء المعلومة بالأدلة مع الالتفات إليه.

__________________

(١) في التعليقة ٥١.

٣٤٠