نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-40-X
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٦٤

وأما فرض كون المفسدة القائمة بالجميع متعددة متمانعة كما فرضناها ، فيسقط الطلب بفعل البعض كلية ، فلا يوجب وحدة الحكم حقيقة.

بل هذا فرض معقول حتى فيما إذا اعتبر كل ترك موضوعا مستقلا ، فانه لا يبقى مجال لامتثال سائر أفراد الطلب ، فلا يختص هذا الحكم بصورة لحاظ الوحدة في الموضوع والحكم.

ثم اعلم أن ملاك جريان البراءة عقلا عنده (قدّس سره) بحسب الظاهر من تقسيمه (قدّس سره) تعدد الحكم ، وملاك عدمه وحدته.

ففي صورة التعدد لا يكون تنجز الحكم ، لمكان إحراز موضوعه موجبا لتنجز حكم آخر ليس له هذا الشأن.

بخلاف صورة الوحدة فان الحكم الواحد ـ بعد تنجزه في الجملة ـ يجب الفراغ عن عهدته ؛ لأن الواحد لا يتبعض من حيث التنجز وعدمه.

وأنت خبير بأن الحجة على الكبرى : إن كانت حجة على الصغرى ، فلا فرق بين كبرى طلب الترك المطلق وكبرى طلب كل ترك.

وان لم تكن حجة على الصغرى ، فلا فرق بين الشك في انطباق مدخول أداة العموم على المائع المردد ، والشك في انطباق طبيعي الترك المطلق على ما يسع هذا الفرد المردد ، وليس الشك في هذا الفرد شكا في محصل الترك المطلق ، بل هذا الفرد المردد على تقدير كونه خمرا مثلا يكون ترك شربه مقوم طبيعي ترك شرب الخمر بحده لا محصلا له.

فشرب (١) هذا المائع بالاضافة إلى طبيعي الترك ، وإن لم يكن كالفرد بالاضافة إلى الكلي ، بل مطابق طبيعي الترك بحدّه واحد ، وهو ما بالحمل الشائع ترك شرب الخمر بنهج الوحدة في الكثرة.

إلا أن المطلوب بالحمل الشائع بنحو فناء العنوان في المعنون هو الترك

__________________

(١) كذا في الاصل ، لكن الصحيح : فترك شرب هذا المائع ، لأن الكلام في ترك الشرب لا في نفسه.

٢٠١

الجامع بين التروك الخارجية بنهج الوحدة في الكثرة ، وكون ترك شرب هذا المائع من جملة تلك الكثرات ـ التي يكون جامعها بالحمل الشائع متعلقا للطلب ـ مشكوك.

فما بالحمل الشائع مطلوب يشك في سعته لهذا المائع المردد ، والحجة على الكبرى ليست حجة على الصغرى ، إلا بمقدار يعلم بسعة المطلوب بالحمل الشائع له.

وأما ما أفيد (١) من استصحاب الترك المطلق إذا كان مسبوقا به.

فهو غير مفيد ، لأن الغرض الفراغ عن عهدة التكليف المنجز ببقاء الترك المطلق على حاله ، وعدم انقلابه باتيان الفرد المشكوك ، ومثل هذا الأثر العقلي غير مترتب على بقاء طبيعي الترك بحدّه على حاله.

وليس المستصحب أمرا جعليّا في نفسه كي يكون بالاضافة إلى الأثر العقلي كالمحقق لموضوعه ، والتعبد ببقاء الموضوع يجدي في التعبد ببقاء حكمه لا في الفراغ والاشتغال.

كما أن ما افيد أخيرا (٢) ؛ من أن أصالة البراءة وإن كان (٣) يقتضي جواز الاقتحام في المشكوك ، إلا أن قضية لزوم احراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه ، ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه أيضا.

لا يخلو عن محذور ، إذ لا شك في طلب هذا الفرد من الترك بالخصوص ليجري البراءة عنه ، وإنما الشك في سعة الترك المطلوب لمثل هذا الترك فعلا.

فلو فرض جريان البراءة فيه ، لم يكن الحكم الفعلي المنجز إلا ما لا يسع هذا المشكوك ، فإما لا براءة ، وإما لا اشتغال. فتدبر جيدا.

والتحقيق : أن حقيقة البعث مثلا هو الانشاء بداعي جعل الداعي ، ولا

__________________

(١) في الكفاية / ٣٥٣.

(٢) في الكفاية / ٣٣٤.

(٣) مقتضى القاعدة تأنيث الفعلين لأن مرجع الضمير هي أصالة البراءة.

٢٠٢

يكون هذا الانشاء الخاص داعيا إلا بوجوده العلمي الذي لا يعقل الدعوة منه إلاّ في موطن النفس ، لا بوجوده الواقعي الغير الواصل.

وكما لا يعقل دعوة الآمر بوجوده الواقعي كذلك لا يعقل دعوته إلى أمر غير حاضر في أفق النفس حتى يتحقق منه الدعوة إليه في موطن الدعوة ، وفي محل انبعاث الشوق إليه.

وهكذا بالاضافة إلى متعلق فعل المكلف كالماء والخمر والنجس ، فان حضور هذه المتعلقات ـ أيضا في البعث إلى الشرب ، أو الزجر عنه في فعلية الباعثية والزاجرية ـ لازم عقلا.

وهكذا الأمر بالاضافة الى حركة العضلات بالقبض والبسط نحو موضوع خارجي ، فانه لا يتحرك العضلات نحو هذا الموضوع ، دون غيره جزافا ، بل بسبب انطباق ذلك المتعلق الكلي على الجزئي في وجدان العقل لا في الخارج.

فانتهاء أمر دعوة البعث والزجر إلى ما تحرك نحوه العضلات قبضا وبسطا خارجا يقتضي حضور نفس البعث والزجر ومتعلقهما ، وما يضاف إليه المتعلق عنوانا ومعنونا (١) في وجدان العقل ، بحيث لو اختلّت إحدى هذه المقدمات لم يعقل الدعوة ، فلا يعقل جعل الداعي بالفعل.

وهذا هو السر في اشتراط التكليف بالقدرة أيضا ، فان نسبة القدرة إلى الارادة نسبة النقص إلى الكمال ، والقوة إلى الفعل ، والامكان إلى الوجوب.

فاذا لم يكن الشيء مقدورا لم يخرج الفعل من حد القوة إلى الفعل بالارادة حتى يعقل جعل الداعي المحصّل للارادة.

__________________

(١) كشرب الخمر مثلا ، فان الزجر تعلق بالشرب المضاف إلى الخمر ، فلا بد من علم المكلف به من حيث العنوان ، وهو عنوان الخمر ، والمعنون وهو المائع الخارجي الخاص الذي يزيل العقل ، فانه لو لم يعلمه من الجهتين لم يمكن الامتثال من جهة الجهل بحقيقته أو بأصل عنوانه ، فلا يعقل الانزجار.

٢٠٣

ولا يخفى عليك أن الغرض من الانشاء بداعي جعل الداعي ، حيث إنه جعله بنفسه داعيا على أي تقدير ، فلا محالة يكون بوجوده الواصل حقيقة داعيا ـ لما مر سابقا (١) ـ من أن المعلول الفعلي لا ينبعث عن علة تقديرية ، بل عن علة فعلية.

فالأمر المحتمل بصورته الحاضرة في النفس داع بالذات على أي تقدير ، والأمر الخارجي المطابق له داع بالعرض ، كالمعلوم بالذات والمعلوم بالعرض ، والمراد بالذات والمراد بالعرض.

ففي صورة احتمال الأمر لا يكون الأمر الخارجي الداعي بالعرض داعيا على أي تقدير ، بل على تقدير تحققه ومطابقته للصورة الحاضرة للنفس.

فاذا كان الانشاء الواقعي المفروض تحققه بداعي جعل الداعي حقيقة ، فهو بعنوان جعل الداعي بالعرض على أي تقدير ، ولا يعقل أن يكون كذلك إلا بنحو وجوده الواصل في وجدان العقل ، وإلا ففي صورة احتماله لا يكون داعيا بالعرض على أي تقدير.

وكذا الأمر بالاضافة إلى عنوان متعلقه ، فان جعله داعيا إلى الشرب بعنوانه يستدعي إحداث الشوق اليه بعنوانه لا الى احتماله.

وكذا بالاضافة إلى ما أضيف إليه المتعلق عنوانا ومعنونا.

نعم إذا قام الدليل على تنجيز المحتمل كان ذلك راجعا إلى جعل وجوده المحتمل داعيا.

أو إذا (٢) كان من باب جعل الحكم المماثل كان في الحقيقة جعل الحكم المماثل الواصل داعيا حقيقة بعنوان أنه الواقع ، فهو الداعي بالحقيقة ، والحكم الواقعي داع عنوانا وبالعرض.

__________________

(١) التعليقة : ٥١.

(٢) هكذا في الأصل لكن الصحيح : وإذا.

٢٠٤

ومن جميع ما ذكرنا تبين أن ملاك البراءة عدم فعلية الحكم بعدم الوصول كبرى وصغرى ، من دون فرق بين كون القضية حقيقية أو خارجية. فأخذ (١) القضية حقيقية مقدمة للبراءة ـ وأن فعلية الحكم بفعلية موضوعه بخروجه عن حد الفرض والتقدير ـ مقدمة مستدركة.

ولذا إذا كانت القضية خارجية كانت فعلية الحكم بالوصول أيضا ، كما إذا قال لا تشرب هذه الخمور الموجودة في الدار ، وتردد أمر مائع بين كونه منها وعدمه ، فانه قطعا مجرى البراءة ، مع أن القضية خارجية ، فتدبره فانه حقيق به.

ومما ذكرنا تبين أنه لا شك في [ عدم ](٢) فعلية الحكم الواقعي المحتمل ، بل ما ذكرنا برهان على عدم فعليته من دون وصول النوبة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وأما مع قطع النظر عن ذلك وملاحظة قاعدة قبح العقاب بلا بيان ومقتضاها في الشبهة الموضوعية ، فنقول : ليس المراد بالبيان ما هو وظيفة الشارع ، وهو بيان الكبرى حكما وموضوعا ، حتى يتوهم حصوله ، وأن بيان الموضوع الجزئي ليس وظيفة الشارع.

بل المراد قبح العقاب بلا مصحح للعقوبة والمؤاخذة عقلا وشرعا ، وان لم يكن مصداقه وظيفة الشارع.

وقد بينا مرارا ان (٣) مخالفة التكليف الواقعي بما هي ليست مصححة للعقوبة عقلا ، بل بما هي ظلم على المولى وخروج عن زي الرقية ورسم العبودية.

وكما أن مخالفة التكليف الذي لا حجة على أصله ولا على متعلقه كلية ليست ظلما ، إذ ليس من زي الرقية اتيان ما لا حجة عليه من قبل المولى أو

__________________

(١) كما ذهب اليه المحقق النائيني قده. اجود التقريرات ٢ / ٢٠٠.

(٢) أثبتناه لضرورة السياق.

(٣) منها ما تقدم في مبحث حجية القطع : التعليقة ١٠ و ٤١ و ٥٥. نهاية الدراية ٣.

٢٠٥

التجنب عما لا حجة عليه من قبله.

كذلك مخالفة التكليف المعلوم الذي صادف الفرد المشكوك في الواقع ، فان فعل هذا المشكوك أو تركه ليس خروجا عن زي الرقية ، فان الحجة على الكبرى بما هي لا يعقل أن تكون حجة على الصغرى ، حتى يندرج في موضوع مخالفة ما قامت عليه الحجة ، ليكون مصداقا للظلم المحكوم عليه بأنه مذموم عليه.

لا يقال : إتيان المشكوك ، وإن لم يكن ظلما مذموما عليه ، إلا أن مخالفة التكليف المعلوم وعدم الخروج عن عهدته ظلم ، موجب للذم والعقاب ، فلزوم ترك المشكوك ليس من حيث نفسه ، بل من حيث لزوم الخروج عن عهدة التكليف المنجز.

لانا نقول : بعد تسليم أن إتيان هذا المشكوك من حيث كونه مخالفة ذلك التكليف المعلوم ليس ظلما ، فلا محالة لا يتنجز ذلك التكليف المعلوم إلا بمقدار يكون مخالفته ظلما وخروجا عن زي الرقية.

ولا يجب الفراغ عن عهدة ما لا يتنجز بالاضافة إلى شيء ، بل يجب الفراغ عن عهدة ما كان منجزا له.

لكن قد بينا في محله أن عدم استحقاق العقاب بعدم مخالفة التكليف الواصل ، لا بقبح العقاب من المولى ، بل قبح معاقبته متفرع على عدم استحقاقه ، فراجع.

* * *

٢٠٦

[ التنبيه الرابع ]

٥٦ ـ قوله (قدّس سره) : قد عرفت حسن الاحتياط عقلا ونقلا (١) ... الخ.

لا يخفى عليك أن معنى حسنه عقلا كونه انقيادا للمولى ، وهو عنوان ممدوح عليه ، ومعنى حسنه شرعا لا بد من أن يكون رجحانه شرعا بقيام غرض مولوي به.

وإلاّ فكونه ممدوحا عليه عند الشارع بما هو من العقلاء فهو راجع إلى رجحانه العقلي ، وليس بناء على كونه راجحا عند الشارع ـ بما هو شارع ـ إلا كون الأمر به منبعثا عن نفس مصلحة الواقع بجعل الحكم المماثل ، تحصيلا للواجب الواقعي والغرض منه ، أو كون الأمر به بداعي تنجيز الواقع المحتمل ، لأجل الوصول إلى الغرض منه.

وأما الأمر به إرشادا ، فهو أمر منه بما هو عاقل ، لا بما هو شارع ذو غرض مولوي.

ومنه يعلم أنه بعد الحكم برجحانه شرعا في الرسائل (٢) لا مورد للترديد في أن الامر به للاستحباب أو للارشاد ، والأمر سهل.

٥٧ ـ قوله (قدّس سره) : ما لم يخل بالنظام فعلا فالاحتياط قبل ذلك (٣) ... الخ.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٥٤.

(٢) فرائد الأصول المحشى ٢ / ٣٦.

(٣) كفاية الأصول : ٣٥٤.

٢٠٧

أما بالاضافة إلى حسنه عقلا ، فلأن ما يخل بالنظام قبيح عندهم ، بل قد مرّ مرارا (١) أن ملاك الحسن والقبح العقليين كون الشيء ذا مصلحة ينحفظ بها النظام ، أو ذا مفسدة يختل بها النظام.

وأما بالاضافة إلى وجوبه أو استحبابه الشرعي فلأنها بداعي جعل الداعي ، ومع قبح الاحتياط المخل بالنظام في نظر العقل لا يعقل تصديق الجعل منه ، فيلغوا البعث قهرا.

بل نقول : إن نفس التكليف الواقعي ـ الذي يقتضي الجمع بين محتملاته الاخلال بالنظام ـ لا يبقى عليه فعلية الباعثية والزاجرية ، لا من حيث إنه يقتضي ما يخل بالنظام ؛ لأن مقتضاه نفس متعلقه ، وهو قطعا لا يخل بالنظام ، بل الاخلال في تحصيل العلم بامتثاله ، وليس ذلك من مقتضيات نفس التكليف ولو بالواسطة ، كما قدمنا شرحه في أوائل (٢) دليل الانسداد.

بل من حيث إن العقل بعد ما لم يحكم بتحصيل العلم بامتثاله لا معنى لبقائه على صفة الدعوة الفعلية كما قدمناه هناك (٣)

وأما ما في المتن من أن الاحتياط قبل الاخلال يقع حسنا ، وبعد لزوم الاختلال منه لا يكون حسنا ، فهو بالاضافة إلى الجمع بين الاحتياطات بالنسبة إلى تكاليف متعددة ، لا بالاضافة الى الجمع بين محتملات تكليف واحد ، فانه مبني على إمكان الانفكاك بين الموافقة القطعية وترك المخالفة القطعية. فتدبر.

__________________

(١) منها في مبحث حجية القطع التعليقة ١٠. ومنها في مبحث الظن التعليقة : ٥١ و ١٤٥ نهاية الدراية ٣.

(٢) نهاية الدراية ٣ : التعليقة ١٣٠.

(٣) في التعليقة : ١٢٨.

٢٠٨

[ دوران الامر بين المحذورين ]

٥٨ ـ قوله (قدّس سره) : وشمول مثل كل شيء لك حلال (١) ... الخ.

قد تقدم (٢) في مباحث القطع أن شمول كل شيء ... الخ يتوقف على أمور :

منها : شموله للشبهة الحكمية والموضوعية معا ، مع أنه قد بينا (٣) في أدلة البراءة اختصاصه بالشبهة الموضوعية.

ومنها : شموله للشبهة الوجوبية والتحريمية ، بتقريب أن الحرام يراد به ما حرم فعله أو تركه ، فعموم الغاية يدل على عموم المغيّى ، مع أن كل حكم من الأحكام الخمسة أمر بسيط لا ينحل إلى حكمين فعلا وتركا ، مع ظهور أن الايجاب ينبعث عن مصلحة في متعلقه ، وليس في تركه مفسدة حتى ينبعث منها تحريم.

كما أن التحريم ينبعث عن مفسدة في متعلقه ، لا أن في تركه مصلحة كي ينبعث منها ايجاب.

وكذا ليس في المراد التشريعي اللزومي في موطن النفس إلا إرادة متعلقة بفعله لا كراهة متعلقة بتركه ، إذ لا فرق بين الارادة التشريعية والتكوينية إلا من حيث تعلق الأولى بفعل الغير وتعلق الثانية بفعل نفس المريد.

وكذا لا يستحق عقوبتين على كل معصية ، لأن المفروض أن فعل

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٥٥.

(٢) نهاية الدراية ٣ : التعليقة ٣٩.

(٣) التعليقة : ١٨.

٢٠٩

الحرام ينطبق عليه (١) ترك الواجب ، وبالعكس في ترك الواجب.

فتبين عدم التعدد من حيث المبادئ والنتائج والغايات.

ومنها : أن تكون الغاية عقلية ، لا شرعية جعلية ؛ إذ لو كانت شرعية فهي حاصلة لفرض العلم الاجمالي بالوجوب أو الحرمة ، بخلاف ما لو كانت عقلية ، فان المراد من العلم هو المنجز ، ومع فرض عدم منجزية هذا العلم من حيث الموافقة القطعية وترك المخالفة القطعية ، فالغاية غير حاصلة بمجرد العلم.

وسيأتي إن شاء الله تعالى الاشكال في الغاية ، حتى بناء على كونها غاية عقلية (٢).

فاتضح أن الاستدلال به مبني على مقدمات كلها غير مسلمة. فتدبر.

٥٩ ـ قوله (قدّس سره) : ولا مانع منه عقلا ولا نقلا (٣) ... الخ.

قد تقدم في مباحث القطع بيان الموانع ودفعها فراجع (٤).

٦٠ ـ قوله (قدّس سره) : وقد عرفت أنه لا يجب موافقة الأحكام التزاما (٥) ... الخ.

في البحث عن وجوب الموافقة الالتزامية جهتان :

إحداهما : تناسب مباحث القطع ، وهي أنه هل للتكليف المعلوم مرحلتان من الاطاعة والمعصية ، عملا والتزاما؟ أو الأولى فقط؟ وقد أشبعنا الكلام فيها هناك (٦).

__________________

(١) كذا ، والصحيح : لا ينطبق عليه.

(٢) في التعليقة : ٦٢.

(٣) كفاية الأصول : ٣٥٥.

(٤) نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٣٩.

(٥) كفاية الأصول : ٣٥٥.

(٦) نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٣١ و ٣٢.

٢١٠

وثانيتهما ـ هل وجوب الموافقة الالتزامية وحرمة مخالفتها ـ ولو بدليل من الخارج ـ يمنع عن إجراء الاباحة والبراءة شرعا أو لا؟ وهذه الجهة تناسب مباحث الشك ومجاري الأصل.

وقد قدمنا الكلام فيها أيضا بتبع تعرض شيخنا العلامة ـ رفع الله مقامه ـ لها هناك (١). وبينا هناك (٢) أن الأمر دائر بين ما يستحيل لزومه وما لا يمنع لزومه عن إجراء الاباحة والبراءة. فراجع.

وحيث عرفت أن الغرض هنا ليس مجرد لزوم الموافقة الالتزامية كما هو المناسب لمبحث القطع ، حتى يقال : بعدم اللزوم كلية ، أو أن الالتزام بالواقع إجمالا ممكن ، بل الغرض عدم مانعية الالتزام اللازم ، حيث لا منافاة بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، فلا مانع من الالتزام بهما معا.

لا يقال : هذا إذا تعلق الالتزام بنفس الواقع الذي هو إما الوجوب أو الحرمة ، وكل منهما حيث إنه مجهول فلا يكون فعليا ، حتى يكون الالزام بحكمين فعليين ، حتى يقال : بانه غير معقول كعدم معقولية نفس اجتماع الفعليين.

واما اذا كان الالتزام بالمردد محالا ، لعدم تعين الطرف المقوم للالتزام الجدي الجزئي ، وإلاّ لزم إما تردد المعين أو تعين المردد ، وكلاهما خلف ، فلا محالة يجب الالتزام بنفس طبيعي الالزام.

وحيث إنه معلوم تفصيلا فيكون فعليا فيمنع عن الاباحة الفعلية ، كما أن الالتزام به لا يجتمع مع الالتزام بما ينافيه.

لأنا نقول : لا فعلية لطبيعي الإلزام إلا بفعلية نوعه ، فاذا لم يكن نوعه فعليا لم يكن الجنس فعليا ، فلا ينافي الاباحة الفعلية ، فلا يكون الالتزامان

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢٦٨.

(٢) التعليقة : ٣٥ و ٣٦ و ٣٧.

٢١١

متنافيين ، هذا ، وبقية الكلام مما يتعلق بالمقام قد تقدمت مفصلة في مباحث القطع فراجع (١).

٦١ ـ قوله (قدّس سره) : وقياسه بتعارض الخبرين (٢) ... الخ.

لا يخفى عليك أن القياس بالخبرين المتعارضين وابطاله ، تارة : لاثبات التخيير الذي هو أحد الوجوه في المسألة ونفيه.

وأخرى : لتتميم البحث عن عدم وجوب الالتزام بأحد الحكمين بنحو التخيير حتى يمنع عن إجراء البراءة شرعا والحكم بالاباحة ، وإن كان لازمة بطلان القول بالتخيير. وظاهر العبارة هو الثاني ، كما هو مقتضى كلمات شيخنا العلامة الأنصاري (قدّس سره) في الرسائل في هذه المسألة (٣).

وتقريب وجوب الالتزام بأحد الحكمين بنحو التخيير بوجهين :

احدهما : أنه يجب الالتزام شرعا بالحكم الواقعي بعنوانه ، فاذا كان الواقع هو الوجوب فالالتزام الواجب واقعا هو الالتزام بالوجوب ، وإذا كان هي الحرمة فالالتزام الواجب هو الالتزام بالحرمة.

وحيث لا يتمكن من الموافقة القطعية للالتزام الواجب وجبت موافقته الاحتمالية ، وهي بالالتزام بالوجوب أو الالتزام بالحرمة.

والجواب : أن أصل الالتزام الجدي بالواقع بعنوانه الخاص المجهول غير معقول ، حتى يجب واقعا على طبق الواقع ، حتى يجب موافقته الاحتمالية ، بل مقولة الالتزام الجدي بشيء سنخ مقولة لا تتعلق إلا بما علم ، وهو ليس إلا نفس طبيعي الالزام ، وهذا معنى ما أفيد في الرسائل ، وهو قوله ( رحمة الله عليه ) وليس

__________________

(١) نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٣٧.

(٢) كفاية الأصول : ٣٥٥.

(٣) فرائد الأصول المحشى : ٢ / ٦٣ و ٦٤ و ٦٥.

٢١٢

حكما شرعيا ثابتا في الواقع ، حتى تجب مراعاته ، ولو مع الجهل التفصيلي (١) ... الخ.

ومنه تبين أنه لا جامع بين التخيير هنا والتخيير بين الخبرين ، حتى يقاس احدهما بالآخر :

إذ ملاك التخيير هنا مراعاة وجوب الالتزام الواحد بالاحتياط المقتضي للموافقة الاحتمالية.

وملإك التخيير هناك عدم امكان الجمع بين التزامين واجبين ، فيتخير بين الالتزامين الواجبين.

ولذا قال (قدّس سره) بعد العبارة المتقدمة ، ومن هنا يبطل قياس ما نحن فيه ... الخ.

ثانيهما : قياس المورد بالخبرين المتعارضين بتنقيح المناط ، وبيان الملاك بينهما :

توضيحه : أن نفس التكليف الواقعي وإن كان لا يقتضى عقلا الالتزام به أو بضده ، ودليل الالتزام بالاحكام من الخارج وإن كانت (٢) غير مقتضية (٣) للالتزام بها بعناوينها الواقعية ، إلا أن الدليل على التخيير بين الخبرين دليل على التخيير بين الحكمين هنا ؛ لأن الملاك هناك. إما رعاية الحكم الظاهري الأصولي وهي الحجية ، ورعاية الحكم الواقعي أولى.

وإما لأن الخبرين مع ما نحن فيه مشتركان في نفي الثالث. ففيما نحن فيه علما ، وفي الخبرين علميّا.

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى : ٢ / ٦٣.

(٢) الصحيح : وإن كان.

(٣) الصحيح : مقتضيا ، وزيادة : غير.

٢١٣

وإما لأن الخبرين لا خصوصية لهما إلا إحداث احتمال الحكمين واقعا ، وهو موجود فيما نحن فيه ؛ إذ لا شأن للخبرين بناء على الطريقية المحضة إلا إحداث الاحتمال.

والجواب : أن الحجية : إما بمعنى لزوم الالتزام بمؤدى الخبر مقدمة للعمل ، لا تطبيق العمل على مقتضى الخبر كما يظهر من بعض كلمات الشيخ الأجل (قدّس سره) (١).

وإما بمعنى جعل الحكم المماثل لمؤدى الخبر بعنوان ينطبق على ذات الواجب مثلا كعنوان تصديق العادل عملا.

وإما بمعنى تنجيز الواقع بالخبر. وعلى أي حال فالقياس مع الفارق.

أما الحجية بالمعنى الأول ، فايجاب الالتزام بمؤدى الخبر منبعث عن مصلحة في نفس الالتزام إذا كان ايجاب الالتزام حقيقيا لا كنائيا. فهناك مصلحتان مقتضيتان لايجابين متعلقين بالالتزام.

وحيث لا قدرة على امتثال هذين الواجبين المنبعثين عن مقتضيين ، فلا محالة يحكم العقل بالتخيير بينهما كسائر الواجبات المتزاحمة.

وليس فيما نحن فيه إلا مصلحة مقتضية للوجوب الواقعي ، أو مفسدة مقتضية للتحريم الواقعي ، ولا موجب إلا لالتزام واحد بالمقدار الواصل ، وهو طبيعي الالزام.

نعم أصل الحجية بهذا المعنى محل الاشكال ، إذ الالتزام بمؤدى الخبر ـ من حيث إنه مؤداه ـ لا معنى للزومه ، حيث إنه ليس من الأحكام حتى يجب الالتزام به.

والالتزام الجدي بالحكم الواقعي الغير الواصل حقيقة ولا تعبدا غير

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى : ١ / ٤٨.

٢١٤

معقول.

أما أنه غير واصل حقيقة ، فهو واضح.

وأما أنه غير واصل تعبدا ، فلان المفروض عدم جعل الحكم المماثل ، بل ايجاب الالتزام فقط.

وحيث إنه غير معقول ، فليحمل على ايجاب الالتزام كناية عن تطبيق العمل ؛ لأن العمل لا يكون إلا عن التزام ، فهو أمر بالالتزام كناية ، وبالعمل حقيقة ، فيندرج تحت الشق الثاني.

وكذا لو جعلنا ايجاب الالتزام حقيقيا كاشفا بدلالة الاقتضاء عن جعل الحكم المماثل بجعل لازمه ، أو قبلا فيندرج تحت الشق الثاني.

وأما الحجية بالمعنى الثاني ، وهو جعل الحكم المماثل ، فهو على قسمين :

فتارة ـ ينبعث هذا الجعل المماثل عن مصلحة قائمة بالعنوان الطارئ ، فالحكم المماثل لا يدور ثبوته الحقيقي مدار الواقع ، لانبعاثه عن ملاك آخر غير ملاك الواقع. وهذا معنى الحجية على الموضوعية والسببية.

فهناك على الفرض في الخبرين بحسب دليل الحجية مقتضيان لحكمين مماثلين لمؤدى الخبرين ، فالتخيير بينهما من باب التخيير بين الواجبين المتزاحمين.

فلا بقاس به ما ليس فيه إلا مقتضي واحد ، ومقتضى واحد.

وأخرى ينبعث الجعل المماثل عن نفس مصلحة الواقع ، بحيث لا غرض فيه إلا إيصال الواقع بعنوان آخر ، فلا محالة يكون مقصورا على مصادفة الخبر للواقع.

ولا تخيير هنا بحسب القاعدة ، إذ لا مقتضي هناك إلا نفس مقتضي الحكم الواقعي ، وهو واحد ، والحكم المماثل الحقيقي أيضا واحد ، فليس هناك واجبان متزاحمان.

والتخيير إذا كان ثابتا شرعا فهو لوجه آخر مختص بالخبرين ، وهو

٢١٥

الاخذ بأحد الخبرين بعنوان التسليم لما ورد عنهم (عليهم السلام).

فدليل التخيير بناء على هذا كدليل حجية الخبر عموما على الموضوعية ، فان عنوان التسليم حيث إنه ذو مصلحة ، وكلاهما وارد ، فينطبق على كليهما هذا العنوان ، وحيث لا قدرة على التسليم لكليهما ، وجب التسليم لاحدهما مخيرا.

وليس مثل هذا العنوان فيما نحن فيه ، حتى يكون دليل التخيير هناك دليلا على التخيير هنا ، فعلم ان التخيير بين الخبرين ليس لأجل ما توهم من الملاك ، بل لما ذكرناه في هذا الشقوق (١).

وأما الحجية بالمعنى الثالث ، فحالها حال جعل الحكم المماثل على الطريقية المحضة ، إذ لا غرض في هذا الانشاء على الفرض إلا إيصال الواقع بأثره لا بمماثله ، فذاك الغرض هو الداعي الى تنجيز الواقع بالخبر ، وهذا شأن الخبر الموافق دون كليهما.

فلا تخيير على القاعدة ، بل بدليل خاص بعنوان التسليم لما يرد عنهم (عليهم السلام) بتوسط الثقات.

وأما ما عن شيخنا العلامة (قدّس سره) في المتن من الجواب بناء على الطريقية من وجود ملاك الطريقية في كلا الخبرين ، هو احتمال الاصابة شخصا ، وغلبة الاصابة نوعا ، فالعلم الاجمالي بالكذب الواقعي غير مانع ؛ إذ ليس الكذب الواقعي مانعا ومع وجود الملاك في كليهما ، فلا محالة يكون التخيير على القاعدة ، ولا يقاس به ما نحن فيه ، حيث إنه ليس فيه إلا مجرد احتمال الحكمين ، لا ملاكان لاعتبار الحجية في كلا الخبرين.

فقد بينا في محله أنه لا يخلو عن محذور ، إذ بناء على الطريقية المحضة لم ينبعث الانشاء بداعي جعل الحكم المماثل ، أو بداعي تنجيز الواقع إلا عن نفس مصلحة الواقع ، فالحكم المماثل واحد ، والمنجز بالحقيقة واحد عن مقتض واحد.

__________________

(١) هكذا في الاصل ، ولكن الصحيح : هذه الشقوق.

٢١٦

غاية الامر أنه لم يجعل الحكم المماثل على طبق مؤدى كل أمارة ، ولم يجعل الواقع منجزا بأية أمارة كانت ، بل على طبق ما له احتمال الاصابة شخصا ، وغلبة الاصابة نوعا.

ودخل هذه الخصوصية في الجعل المزبور عن المقتضي الواقعي أمر ، وكونه مقتضيا للجعل المزبور أمر آخر ، ومجرد وجود الشرط مع عدم المقتضي لا يفيد شيئا ، ولا يكون التخيير على القاعدة كالمتزاحمين. فتدبر جيدا.

٦٢ ـ قوله (قدّس سره) : ولا مجال هاهنا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان (١) ... الخ.

ليس الغرض فقد التمكن المعتبر في تعلق التكليف ، فانه حاصل قطعا ، بل الغرض فقد التمكن من الامتثال من حيث الموافقة القطعية وترك المخالفة القطعية ، وهو معتبر في موضوع حكم العقل باستحقاق العقاب على المخالفة القطعية وترك الموافقة القطعية ، وهو أثر تنجز التكليف.

فلا نقص في منجزية العلم من حيث نفسه ، بل من حيث اعتبار التمكن من الامتثال في تنجز التكليف واستحقاق العقاب.

فكما أن فعلية التكليف منوطة بأمرين :

احدهما : وصوله ، والآخر : القدرة على متعلقه ، ولا ربط لاحدهما بالآخر.

كذلك تنجز التكليف ، واستحقاق العقاب على مخالفته القطعية ، وترك موافقته القطعية منوط بأمرين :

أحدهما : الوصول الأعم من التفصيلي والاجمالي ، والآخر : التمكن من الموافقة القطعية ، وترك المخالفة القطعية ، ولا ربط لأحدهما بالآخر. فلا وجه لاحتساب التمكن المزبور من بيانية العلم.

وأما أن العلم لا يصلح للبيانية بتوهم تعلقه بجنس التكليف ، ففيه :

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٥٦.

٢١٧

أنه إذا علم بوجوب فعل في اليوم أو حرمته في غد لا علم له إلاّ بجنس التكليف ، ومع ذلك يؤثر للتّمكن من الامتثال.

كما أنّه إذا علم بوجوب الجلوس في مكان في اليوم ، والجلوس في مكان آخر في اليوم لا يؤثر في التنجز ، مع أنه متعلق بنوع التكليف ، لعدم التمكن من الامتثال.

فيعلم أن العلم مطلقا قابل للتأثير ، وإنما المانع عدم التمكن من الامتثال المعتبر عقلا في استحقاق العقاب على تركه.

ومما ذكرنا يظهر الاشكال في أدلة البراءة الشرعية ، لأن ظاهرها كونها في مقام معذرية الجهل وارتفاعها بالعلم ، فما كان تنجزه وعدمه من ناحية العلم والجهل كان مشمولا للغاية والمغيّى ، وما كان من ناحية التمكن من الامتثال وعدمه فلا ربط له بأدلة البراءة.

ومنه تبين أن الغاية في كل شيء لك حلال ، وإن كانت عقلية لا يجدي لشمول المغيّى لما نحن فيه ، إذ ليست المعذورية هنا لأجل عدم حصول الغاية.

وهذا ما وعدناك به سابقا (١) ، فتدبره فانه حقيق به.

٦٣ ـ قوله (قدس سره) : لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها (٢) ... الخ.

ظاهره عدم تنجز التكليف من حيث ترك المخالفة القطعية مطلقا سواء كانت في واقعة أو في واقعتين ، مع أنه بالاضافة إلى الواقعتين يتمكن من المخالفة القطعية العملية التدريجية.

فانه إذا فعل في واقعة ، وترك في واقعة أخرى يقطع بمخالفة التكليف ، فانه إذا كان حراما فقد فعله ، وإن كان واجبا فقد تركه.

__________________

(١) التعليقة : ٥٨.

(٢) كفاية الأصول : ٣٥٦.

٢١٨

ويقال : إن العقل لا يفرق في قبح المخالفة القطعية بين الدفعية والتدريجية.

بل ظاهر الشيخ الاعظم (قدّس سره) ـ في الرسائل (١) في مباحث القطع ـ الحكم بقوة قبح المخالفة القطعية العملية في واقعتين.

وعدم الحكم بتنجز التكليف في واقعة لعدم التمكن من المخالفة القطعية لا ينافي الحكم بتنجزه في واقعتين ، لمكان التمكن منها.

وقد عرفت أنه لا قصور في منجزية العلم ، وإنما المانع عدم التمكن من الامتثال ، والمفروض حصوله من حيث ترك المخالفة القطعية بالاضافة إلى واقعتين ، فالمقتضي موجود والمانع مفقود.

وهذه غاية ما يمكن أن يقال في توجيه حكم العقل بقبح المخالفة القطعية التدريجية في واقعتين.

والتحقيق : أن العلم لا ينجز إلا طرفه ، مع القدرة على امتثال طرفه.

ومن البين أن هناك تكاليف متعددة في الوقائع المتعددة ، فهناك علوم متعددة بتكاليف متعددة في الوقائع المتعددة ، لا ينجز كل علم إلا ما هو طرفه في تلك الواقعة ، والمفروض عدم قبول طرفه للتنجز ، ولا توجب هذه العلوم المتعددة علما ـ إجماليا أو تفصيليا ـ بتكليف آخر يتمكن من ترك مخالفته القطعية.

نعم انتزاع طبيعي العلم من العلوم المتعددة ، وطبيعي التكليف من التكاليف المتعددة ، ونسبة المخالفة القطعية إلى ذلك التكليف الواحد المعلوم بعلم واحد ، هو الموجب لهذه المغالطة.

ومن الواضح أن ضم المخالفة في واقعة إلى المخالفة في واقعة أخرى ، وإن كان يوجب القطع بالمخالفة ، لكنه قطع بمخالفة غير مؤثرة ، لفرض عدم الأثر

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى : ١ / ٤٢.

٢١٩

لكل مخالفة للتكليف المعلوم في كل واقعة.

ومما ذكرنا تبين أن التمكن من ترك المخالفة القطعية في واقعتين غير مفيد ، لأنه ليس امتثالا للتكليف المعلوم الذي يترقب امتثاله.

فان كل تكليف في كل واقعة يستدعي امتثال نفسه بحكم العقل لا امتثاله ، أو امتثال تكليف آخر في واقعة أخرى.

ولا يخفى عليك أن عدم الفرق بين المخالفة القطعية الدفعية والتدريجية صحيح اذا كان التدريجي طرف العلم ، لا في مثل ما نحن فيه من كون كل واقعة أجنبية عن واقعة أخرى من حيث العلم والمعلوم فكذا من حيث الامتثال.

فليس الاشكال فيما نحن فيه من حيث تدريجية المخالفة ، كي يجاب :

تارة : بأن التكليف بالمتأخر بنحو المعلق ، أو بنحو المشروط بالشرط المتأخر ، فهو فعلي حال تعلق العلم.

وأخرى : بأن الواجب المشروط إذا علم بتحقق شرطه في ظرفه كفى في تنجزه في ظرفه.

ثم إنه ربما ينتقض قبح الاذن في المخالفة التدريجية بالتخيير الاستمراري بين الخبرين الدالّ أحدهما على الوجوب والآخر على الحرمة ، وبالتخيير الاستمراري في الرجوع إلى المجتهدين المتساويين في مثل الفرض المذكور ، وبجواز العدول من مجتهد إلى آخر مطلقا ، أو ببعض مسوغات العدول في مثل الفرض المزبور.

وأجاب عنه الشيخ الأجل (قدّس سره) (١) بعدم البأس به إذا كان للمكلف في كل واقعة بدل ظاهري ، وتعبد بحكم ظاهري.

وربما يورد عليه : بأنه أيّ فرق بين الاباحة الظاهرية في كل واقعة ،

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى : ١ / ٤٢.

٢٢٠