نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-40-X
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٦٤

موضوعا لحكمه بحسب لسان الدليل ، مثلا الموضوع للحكم الاستصحابي مع اختلاف السنة أدلته ، حيث إن التعبير عنه وقع تارة بقوله ( لا تنقض اليقين بالشك ) (١) ، وأخرى ( لا يدخل الشك في اليقين ) (٢) ، وثالثة ( يمضي على يقينه ) (٣) وهكذا ليس إلا ما أيقن به سابقا ، وحكمه الحكم المماثل لما أيقن به ، أو لحكم ما أيقن به.

وهكذا بالاضافة إلى حجية الخبر مع اختلاف الادلة عنوانا ليس موضوعها إلا ما أخبر به العادل ، أو الثقة ، ومحمولها الحكم المماثل لما أخبر به ، وتعدد المتيقن في الأول ، وتعدد المخبر به في الثاني لا يوجب تعدّد الجهة التقييدية العنوانية المأخوذة من الأدلة ، فلا يوجب تعدد المسألة.

فكذا فيما نحن فيه ، فان أدلة البراءة الشرعية وإن اختلفت من حيث رفع ما لا يعلمون تارة ، ووضع المحجوب أخرى ، وكون الناس في سعة مما لا يعلمون ثالثة وهكذا : إلا أن الموضوع الجامع بين الكل لبّا ليس إلا ما لم يعلم حكمه ، ومحموله رفع ذلك الحكم ، وتعدد مصاديق ما لم يعلم حكمه من حيث الوجوب ، أو الحرمة ، أو الالزام المطلق ، فضلا عن تعدد اسباب الجهل بالحكم ، لا يوجب تعدد الجهة التقييدية العنوانية لموضوع الحكم الشرعي المأخوذ من الشارع بحسب لسان دليله.

إلا أن عذر الشيخ الأعظم (قدس سره) في عقد مسائل متعددة أنه لم يقع نزاع في رفع الحكم مطلقا وعدمه مطلقا ، بل النزاع وقع في خصوصيات ربما يكون المخالف في إحداها موافقا في الأخرى ، كما عن الاخباريين في الشبهة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨ : ٢١٦ / ٣ ، عن الكافي ٣ / ٣٥٢.

(٢) وسائل الشيعة ٨ : ٢١٦ / ٣ ، عن الكافي ٣ / ٣٥٢.

(٣) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٦ / ٦ ، عن الخصال ٢ / ١٩.

٢١

التحريمية ، فانهم يقولون بالاحتياط فيها ، دون الشبهة الوجوبية ، بل ربما يوجد التفصيل في كل منهما بين ما لا نص فيه ، أو ما أجمل فيه النص.

وإلا فلو بنينا على ملاحظة الميزان المزبور الموافق لتدوين مسائل العلم ، لزم جعل البراءة الشرعية مطلقا مسألة مستقلة ، من دون فرق بين الشبهات البدوية ، أو المقرونة بالعلم الاجمالي ، سواء كان الترديد بين المتباينين ، أو الأقل والأكثر ، بأن يقال : هل الحكم المجهول مرفوع مطلقا ، سواء كان وجوبا ، أو تحريما ، نفسيا أو غيريا أو منتزعا من الوجوب النفسي ، كالجزئية والشرطية في باب الأقل والأكثر ، وسواء كان الجهل مقرونا بالعلم الاجمالي أم لا.

فمن يختار البراءة في الجميع يقول برفع الحكم مطلقا ، ومن لا يقول بها في الجميع يقول بعدم رفع الحكم مطلقا ، ومن يختار البراءة في بعض دون بعض لأي وجه ، سواء كان من جهة قصور الدليل عن الشمول أو لورود الدليل على خلافه ، يكون مفصلا في المسألة. فتوجد حينئذ تفاصيل كثيرة ، كما في مسألة الاستصحاب ، والله أعلم بالصواب.

* * *

٢٢

[ الاستدلال بالكتاب على البراءة في الشبهات الحكمية ]

٤ ـ قوله (قدس سره) : وفيه أن نفي التعذيب قبل إتمام (١) ... الخ.

يمكن أن يقال : إن الآيات والروايات الدالة على الثواب والعقاب ظاهرة في الاقتضاء ، لا الفعلية ، فكذلك ما دل على النفي ظاهر في الاقتضاء بقرينة المقابلة. كما أن الأمر كذلك في جميع القضايا الواردة في بيان الخواص والآثار ، فقولهم السم قاتل ، والسنا مسهل ، والنار محرقة ، وأشباه ذلك كلها في مقام إفادة الاقتضاء ، والحكم بثبوت محمولاتها لموضوعاتها اقتضاء لا فعلا ، فيكون دليلا على الاستحقاق وعلى عدم الاستحقاق في مثل ما نحن فيه.

لا يقال : لا منّة في رفع العذاب مع عدم الاستحقاق.

لأنّا نقول : اولا : لم يعلم أن الآية في مقام إظهار المنة ، بل لعلها في مقام إظهار العدل وأنه تعالى لا يظلم أحدا مثقال ذرة.

وثانيا : أن جعل العقاب إذا كان من الشارع ، فعدم جعله بعدم جعل الاحتمال منجزا فيه كمال المنة.

والتحقيق : أن ظاهر القضية الحكم بثبوت المحمول للموضوع فعلا ، وإنما نقول بكون القضايا المثبتة للخواص والآثار اقتضائية لا فعلية ، إذ قلما يوجد في العالم ما يكون علة تامة لثبوت شيء ، بل لا محالة له شرط أو مانع ، ولو من حيث قبول القابل ، وإن فرض أن الفاعل تام الفاعلية بخلاف طرف النفي ، فان العدم فعلي على أي حال سواء كان بعدم مقتضيه ، أو بعدم شرطه

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٣٩.

٢٣

أو بوجود مانعة ، فلا موجب للحمل على الاقتضاء دون الفعلية كما في طرف الاثبات ، وليس العدم بالاقتضاء حتى يتوهم كونه نظير ثبوت المقتضى بثبوت المقتضي.

فظهر أنه لا موجب لحمل القضايا النافية على غير الفعلية ، لا ثبوتا ولا إثباتا.

وعليه فعدم شيء إذا كان مترتبا على عدم شيء آخر ، فلا محالة [ عدم ](١) ذلك الآخر ، إما عدم مقتضيه أو عدم شرطه ، وإذا كان مترتبا على وجود شيء ، فلا محالة ذلك الشيء مانعة.

وحيث إن الوجود لا يقتضي العدم ، فعدمه من باب الشرط ، فترتب العدم عليه من باب ترتب عدم المشروط على عدم شرطه.

وعلى أي تقدير ، فترتب عدم شيء على وجود شيء أو عدم شيء لا يكشف عن ثبوت المقتضي ، ولا عن عدمه.

نعم إذا كان المترتب عليه عدم شرطه أو وجود مانعة ، فربما يكون كاشفا عن وجود المقتضي له ، وإلا لكان استناده إلى عدم المقتضي أولى من الاستناد إلى عدم شرطه ، أو وجود مانعة.

٥ ـ قوله (قدس سره) : لما صح الاستدلال بها إلا جدلا (٢) ... الخ.

وعن بعض الأجلة (٣) ( قدس سرهم ) دعوى إمكان جعله برهانا ، نظرا إلى الاجماع على عدم الاستحقاق على تقدير عدم الفعلية في هذه المسألة.

__________________

(١) في الأصل فلا محالة ذلك الآخر ولكن الصحيح عدم ذلك الآخر كما أثبتناه بين المعقوفين.

(٢) كفاية الأصول / ٣٣٩.

(٣) لم نعرفه ولعل المراد هو هذا الفقيه اليزدي ( قده ) في تعليقته على فرائد الأصول.

٢٤

وهو على فرض صحته أجنبي عن الاجماع المصطلح ، لأن الاستحقاق : إن كان عقليا ، فملازمته للعقاب في الآخرة وعدمها واقعيان ، لا جعليان تشريعيان ، فان أحد الطرفين مجعول عقلائي والآخر مجعول تكويني ، والملازمة وعدمها ليسا بتشريعيين حتى يكون الاجماع على أمر تعبدي ومجعول تشريعي.

وإن كان الاستحقاق شرعيا ، فهو وإن كان قابلا شرعا للاناطة بشيء ، فتكون الملازمة جعلية شرعية ، إلا أن إناطته بفعلية نفس العقاب في الآخرة غير معقولة حتى بنحو الشرط المتأخر ، لأنّ فعلية العقاب مترتبة على استحقاقه ، فترتب استحقاقه على فعليته دوريّ ، للزوم كون الشيء شرطا لنفسه.

نعم ، إناطة الاستحقاق ـ بعدم ما يمنع عن فعلية العقاب ـ معقولة ، فيرجع الأمر إلى إناطة الاستحقاق بالبيان بالاجماع ، فهو استدلال على عدم الاستحقاق مع الجهل بالاجماع من دون حاجة إلى الآية حتى يصح الاستدلال المفيد للقطع بالمركب من الآية والاجماع ، كما هو المقصود في محل النزاع ، فتدبّر جيّدا.

٦ ـ قوله (قدس سره) : مع وضوح منعه ضرورة أن ما شك (١) ... الخ.

ملخصه منع اعتراف الخصم بالملازمة بين عدم الفعلية وعدم الاستحقاق ، فان مجهول الحكم ليس بأعظم من معلومه ، وأدلة الاحتياط ليست بأقوى من أدلة الواجبات والمحرمات الواقعية بعناوينها ، مع أن عدم فعلية العقاب هناك لا يلازم عنده عدم الاستحقاق ، فكيف يقول بها هنا؟

وصرح (قدس سره) في تعليقته (٢) الأنيقة على رسالة البراءة بوجهه ، وهو أن الاخبار بالعقوبة من باب الاخبار بالشيء لقيام ما يقتضيه.

__________________

(١) كفاية الاصول / ٣٣٩.

(٢) التعليقة على فرائد الاصول / ١١٤.

٢٥

وعلى ما أفاده (قدس سره) لا يلازم وجود المقتضي وجود مقتضاه ، لا مكان وجود المانع من توبة ، أو فعل حسنة مذهبة للسيّئة ، أو شفاعة.

مع ان المانع ليس شأنه إلا مزاحمة المقتضي في تأثيره فعلا ، لا في وجوده ، ولا في اقتضائه.

لا يقال : لعل همّ القائل بالبراءة هو الأمن من فعلية العقاب ، فتكفيه الآية الدالة على نفي فعلية العقاب ، ولو لم تدل على عدم الاستحقاق.

لأنا نقول : القواعد الاصولية ـ التي هي مقدمة قريبة لعلم الفقه ـ هي القواعد المنتهية إلى حكم عملي إثباتا أو نفيا ، أو منجزيته أو المعذورية عنه شرعا.

وأما أن العقاب يتحقق في الآخرة أولا لوجود مانع ، فهو أجنبي عن العلمين ، ولا معنى لأن يكون همّ المجتهد المدوّن للقواعد الأصولية ذلك.

مع أن المجتهد إنما يذهب إلى البراءة نظرا إلى أنه غير عامل للحرام الفعلي ، وغير فاعل لما يستحق عليه الذم والعقاب ، لا ولو كان فاعلا للحرام الفعلي ، وما هو موجب للذم والعقاب.

والتحقيق في أصل الملازمة ـ إثباتا ونفيا ـ أن استحقاق العقاب على المعصية ، إما لعلاقة لزومية بينهما ، أو بمجرد جعل العقلاء ، أو جعل الشارع ، مع عدم علاقة لزومية بينهما :

فإن قلنا بالأول ، وأن العقاب من لوازم الأعمال ، وتوابع الملكات الرذيلة الحاصلة من القبائح المتكررة ، فالعمل مادة مستعدة لأن يتصور بصورة العذاب في النشأة الآخرة.

ومعنى الاستحقاق قبول المادة الدنيوية لافاضة الصورة الأخروية عليها.

والمانع حينئذ ما يكون عدمه شرطا لأن يتصور تلك المادة بتلك الصورة.

والشرط إما مصحح فاعلية الفاعل ، أو متمم قابلية القابل. والمبدأ

٢٦

المفيض للصور على المواد القابلة تام الفاعلية ، لا نقص في فاعليته ، حتى يخرج من القوة إلى الفعل بما يصحح فاعليته فلا محالة يكون الشرط بمعنى متمم قابلية القابل.

فالمانع إذا كان مقارنا لذات المادة ، فلا توجد المادة قابلة مستعدة لافاضة الصورة عليها كعدم البيان المقارن للعمل.

وإذا كان لاحقا لها فهو مسقط لها عن القابلية والاستعداد لإفاضة الصورة عليها ، كالتوبة والحسنة المكفرة للسيئة ، ولا نعني بالاستحقاق وعدمه إلا استعداد المادة لافاضة صورة العذاب عليها وعدمه.

وعليه فعدم الفعلية ملازم لعدم الاستحقاق ، وتمامية القبول والاستعداد إما حدوثا كما فيما نحن فيه ، وإما بقاء كما في الموانع المتأخرة عن العمل.

وان قلنا بالثاني فان كان استحقاق العقاب بحكم العقلاء ، فمعناه ـ على ما مر (١) في بيان الأحكام العقلية المبنية على التحسين والتقبيح العقلائيين ـ كون الفعل بحيث يصح ذم فاعله عليه ، وذم الشارع عقابه ، ومعنى استحقاق الثواب كونه بحيث يحسن مدح فاعله عليه ، ومدح الشارع ثوابه ، فمع وجود المانع عن الذم والعقاب لا يصح الذم ، فليس كون الفعل فعلا بحيث يحسن ذم فاعله عليه إما حدوثا ، كما فيما نحن فيه وإما بقاء ، كما في الموانع المتأخرة عن الفعل.

فإن قلت : إذا كان عدم البيان مانعا عن فعلية الذم كان مساوقا لعدم الاستحقاق ، وعدم صحة الذم والعقوبة.

وأما إن كان عدم فعلية الذم منة منه تعالى على الفاعل ، فلا ينافي صحة الذم ، وإنما لا يذمه فضلا منه تعالى ، وامتنانا على العبد.

__________________

(١) راجع تعليقته ذيل قول المصنف قده لقاعدة الملازمة ، حيث قال فيها : وأما إمكان الحكم المولوي ... الخ نهاية الدراية ٣ : التعليقة ١٤٥.

٢٧

قلت : الارادة الجزافية التي يقول بها الأشاعرة مستحيلة عندنا ، لرجوعها إلى جواز الترجح بلا مرجح ، وهو مساوق لوجود المعلول بلا علة ، فلا محالة تكون الارادة منبعثة عن خصوصية موجبة للامتنان على العبد ، ولو كانت تلك الخصوصية موجبة للجواد الكريم والرءوف الرحيم دون غيره فلا يحسن الذم منه ، وإن حسن من غيره.

والعبرة ـ في باب استحقاق الذم والعقاب ـ باستحقاقهما من الشارع ، فان التمسك بالاستحقاق عند العقلاء لأجل أن الشارع رئيس العقلاء وواهب العقل ، وإلا فالاعتبار بحسن الذم والعقاب منه تعالى.

ولا منافاة بين حسن الذم منه بما هو عاقل ، وعدم حسن الذم منه تعالى بما هو جواد كريم ، فافهم وتدبر. هذا كله إن كان الاستحقاق بحكم العقلاء.

وإن كان بجعل الشارع ، فمعناه الوعد على الفعل بالثواب ، والتوعيد عليه بالعقاب ، وفعليتهما عبارة عن إيفائه بوعده ، وتصديقه لتوعيده ، وإذا وجد هناك مانع عن تصديقه لوعيده من توبة ، أو حسنة مكفرة للسيئة ، فلا محالة يمنع من بقاء توعيده ، ويكون محددا لا يعاده بالعقاب بما إذا لم يحصل منه توبة مطهرة أو حسنة مكفرة.

وكذا الأمر في المانع البدوي عن تصديقه لوعيده ، فانه مخصص لتوعيده بما إذا قام عليه البيان ، وبلّغه الرسول مثلا ، فليس الفعل هنا موعدا عليه بالعقاب حدوثا ، وفي غيره بقاء. فتدبر جيدا.

ثم إنه ربما يورد (١) على أصل الاستدلال بالآية ، بأن سياقها يقتضي إرادة العذاب الدنيوي دون الأخروي ، ونفي أحدهما قبل اتمام الحجة لا يلازم نفي الآخر.

__________________

(١) لم نجد المورد فيما بايدينا من الكتب.

٢٨

وفيه : إن أريد أصل العذاب الدنيوي ، فالعذاب الأخروي منفي بالأولوية ، فانه أعظم وأدوم ، وتوقف الأخف على إتمام الحجة يقتضي توقف الأشد بالأولوية.

وان اريد المعاجلة بالعقوبات الدنيوية ، فلا مجرى لها في العقوبة الأخروية ، حيث لا يتصور فيها المعاجلة ، لكونها في حد ذاتها مؤجلة.

إلا أن الآية بناء على تسليم إرادة العذاب الدنيوي ناظرة إلى أصله ، لا إلى المعاجلة به ، فتدبر.

كما أنه ربما يورد (١) على الاستدلال بها بأن ظاهرها عدم وقوع التعذيب منه سابقا قبل البعث ، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السالفة.

وفيه : أن مساقها ظاهر في أنه سنة الله تعالى في عباده.

وهذه الأمة المرحومة أولى بالعناية والرعاية.

ومن حيث العقوبة الدنيوية قد عرفت ما فيها من الأولوية.

وأما ما عن شيخنا العلامة (قدس سره) في الجواب من أن الأفعال المنسوبة إليه تعالى منسلخة غالبا عن الزمان (٢).

فقد حققنا في مبحث المشتق من أن الفعل الزماني لا يكون إلا لفاعل زماني ، ومع ذلك فالافعال المنسوبة إليه تعالى كالأفعال المنسوبة إلى غيره من حيث الدلالة على الزمان ، إما بمعيّته القيوميّة مع الزمان ، فمع السابق سابق ، ومع اللاحق لا حق ، وإما بلحاظ سبقه بملاك السبق الزماني ، وهو عدم مجامعة المتأخر مع المتقدم في الوجود ، وإما بوجه آخر ، فراجع مبحث المشتق (٣) ، وتدبر.

__________________

(١) المورد هو الشيخ الأعظم قده فرائد الاصول المحشى ٢ / ٨.

(٢) التعليقة على فرائد الأصول / ١١٤.

(٣) نهاية الدراية ١ : التعليقة ١٠٦.

٢٩

[ الاستدلال بحديث الرفع على البراءة في الشبهات الحكمية ]

٧ ـ قوله (قدّس سره) : فالالزام المجهول مما لا يعلمون ... الخ (١).

لا يخفى عليك أن المناسب للرفع عن الأمة تعلقه بأمر ثقيل عليهم ، فالموصول إذا كان كناية عن الموضوع ـ أعني الفعل أو الترك ـ فاتصافه بكونه ثقيلا ، إما بلحاظ ترتب المؤاخذة عليه ، وإما بلحاظ كون المكلف مقهورا عليه فعلا ، أو تركا.

فان كان بلحاظ المؤاخذة ، فالموصوف به في الحقيقة نفس مخالفة التكليف الايجابي أو التحريمي ، دون الايجاب والتحريم ، ودخلهما في ترتب المؤاخذة على المخالفة على حد دخل الشرط في تحقق عنوان محكوم عليه باستحقاق العقوبة.

وشرط اتصاف الشيء بكونه ثقيلا لا يوصف بكونه ثقيلا حتى يناسبه تعلق الرفع به ؛ لما حقق في محله أن السبب لا يوصف بمسببه ، فضلا عن الشرط بمشروطه ، لأن القيام به يصحح صدق الوصف المأخوذ من المبدأ الذي له القيام ، لا القيام عنه ، فسبب بياض الجسم مثلا لا يوصف بالبياض ، بل الأبيض عنوان ما يقوم به البياض ، لا ما يصدر عنه البياض ، فضلا عما هو شرط لتحققه.

وإن كان بلحاظ المقهورية في الفعل والترك.

فتارة : يراد من المقهورية كون المكلف بسبب التكليف اللزومي بالفعل مسلوب القدرة عن الترك من قبل المولى ، بعد أن كانت قدرته بالاضافة إلى الفعل والترك متساوية ، فكونه مكلفا بالفعل ـ الموجب لتخصص قدرته بالفعل ؛ لأنه جعل للداعي نحو الفعل ، فيجب إعمال قدرته في تحصيل الفعل ـ غير كونه

__________________

(١) كفاية الاصول / ٣٣٩.

٣٠

مسلوب القدرة عن الترك ، بل ملازم له.

فالفعل هو الواجب ومورد التكليف ، والترك هو مورد انسلاب القدرة عنه ، فيكون مقهورا في الفعل ، لانسلاب قدرته من ناحية التكليف عن الترك ، وقد مر أن السبب لا يوصف بمسببه ، فلا يوصف التكليف بانه ثقيل ، بل سبب لثقل الفعل بتلك الملاحظة.

وأخرى : يراد من المقهورية نفس كون الفعل مما لا بد منه شرعا ، فاللابدية عين التكليف اللزومي بالفعل مثلا ، فاللابدية نفس ثقل الفعل لا أنها موصوفة بكونها ثقيلة ، والظاهر من ( ما لا يعلمون ) حينئذ أنهم لا يعلمون الثقيل لا أنهم لا يعلمون ثقله.

وبالجملة : المحمول على المكلف هو الثقيل عليه ، والفعل هو المحمول ، والتكليف تحميله عليه ، فالفعل هو الثقيل ، والتكليف تثقيله ، وجعله ثقيلا ، فالايجاب تثقيل ، والوجوب ثقل ، والفعل ثقيل ، فما يتعلق به الرفع إذا كان هو الثقيل ، فالفعل هو المرفوع.

بل يمكن أن يقال : إن ايجاب الفعل هو حمله على المكلف ، ووضعه على عاتقه ، والرفع بديل الوضع ، فيرد على ما يرد عليه الوضع ، لا أنه يرد على الوضع.

والتحقيق : أن الرفع عن المكلف وإن كان يستدعي الثقل في المرفوع ، إلا أن غاية ما يقتضيه تعلقه بما له مساس بالثقل ، سواء كان ثقيلا ، أو ثقلا ، أو موجبا للثقل ، فلا حاجة إلى اتصاف التكليف بكونه ثقيلا ، ويشهد له قوله صلّى الله عليه وآله ( رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ) (١) فانه إما قلم التكليف ، أو قلم

__________________

(١) لعله قده نقل الرواية بالمعنى وإلاّ فليس في كلام النبي صلّى الله عليه وآله العبارة المزبورة وإنما الذي ورد عنه صلّى الله عليه وآله في وصيته لعلي عليه السلام قال : يا علي لا رضاع بعد فطام ولا

٣١

المؤاخذة ، فهو موجب للثقل بواسطة أو أكثر.

مع أن الفعل بلحاظ ترتب المؤاخذة عليه أيضا لا قيام للمؤاخذة به ذلك النحو من القيام المصحح لصدق وصف الثقيل ، بل المؤاخذة هي الثقيلة على المكلف.

نعم العقاب بمعنى ظهور العمل بصورة العذاب في الآخرة يوجب كون العمل ثقيلا ، بنفسه معنى كما لا يخفى.

مضافا إلى كثرة اتصاف الشيء بكونه ثقيلا بسبب الاشتمال والتضمن لما هو ثقيل ، كما في قوله تعالى : ( وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً )(١) لوقوع الأهوال الثقال فيه.

وقوله تعالى : ( سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً )(٢) بناء على إرادة القرآن المتضمن للتكاليف ، أو إرادة التكليف بقيام الليل ، كما تشهد له الآية المتصلة به.

وأما بناء على إرادة الوحي المغيّر لحاله صلّى الله عليه وآله فهو الثقيل بالحقيقة.

والغرض أن الاتصاف بالثقيل بتلك الملاحظة ليس فيه كثير عناية حتى بكون توصيفه من باب التوصيف بحال المتعلق بالنظر العرفي ، وإن كان كذلك بالنظر الدقيق العقلي.

وأما حديث تبادل الرفع والوضع ، وتعلقهما بالفعل ، فتوضيح الحال فيه أن كون شيء على شيء ، وإن كان من أعراض ذلك الشيء ، وحيثية الاستعلاء

__________________

يتم بعد احتلام. الفقيه ٤ : ٢٦٠.

نعم عن علي عليه السلام أما علمت أن القلم يرفع عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم.

الحديث ، الخصال ٩٤.

(١) الانسان : ٢٧.

(٢) المزمل : ٥.

٣٢

مقومة لذلك الكون العارض ، ومنوعة له ، فيكون نوعا من مقولة الأين ، له نسبه خاصة إلى المكان ، وليس لهذا النوع من العرض كون استعلائي على ذلك المستعلى عليه ، بل هو عين الكون الاستعلائي للغير ، فثبوت الفعل على المكلف الذي هو عين وجوبه عليه وان كان حينئذ متقوما اعتبارا بما ينوعه ويجعله نوعا خاصا من العرض الاعتباري ، لكنه ليس له كون استعلائي بالاعتبار ، بل هو عين الكون الاستعلائي للفعل بالاعتبار.

إلا أن الفعل الذي يتعلق به التكليف حيث إنه في مرتبة تعلق التكليف مقوّم للتكليف وثابت بنحو ثبوته. فالفعل في مرتبة الارادة ، وهي الشوق الأكيد النفساني مقوم للارادة ، حيث إن الشوق المطلق لا يوجد ، ويستحيل أن يكون موجود فعلي مقوما لفعلي آخر ومشخصا له ، لاستحالة اتحاد الفعليين.

فلا محالة يكون ثبوت الفعل في مرتبة الشوق بثبوت شوقي ، وفي مرتبة البعث الاعتباري كذلك ثابتا بنحو ثبوت البعث.

فالثابت بالحقيقة هو الشوق ، أو البعث ، فهو المجعول والموضوع على المكلف ، والفعل مجعول بجعله ، وموضوع بوضعه ، فهو مرفوع برفعه.

ولذا لا ريب في صحة نسبة الوضع إلى نفس التكليف ، كما فيما سيجيء إن شاء الله تعالى من حيث الحجب ، فان المحجب علمه الموضوع عن المكلف ليس إلاّ التكليف ، فهو الموضوع عليه إذا كان غير محجوب ، فتدبره ، فانه حقيق به.

ومما ذكرنا تبين أنه لا مانع من تعلق الرفع بنفس الحكم ، لا من حيث تعلقه بالأمر الثقيل ، ولا من حيث كونه بديلا للوضع ، بل قد عرفت أنه لا بد أن يتعلق في الحقيقة ، وبلا عناية بنفس الحكم ، وسيجيء إن شاء الله تعالى بقية

٣٣

الكلام (١).

٨ ـ قوله (قدس سره) : فهو مرفوع فعلا وان كان ثابتا واقعا (٢) ... الخ.

هذا بناء على ما سلكه (قدس سره) في تعليقته المباركة (٣) من مراتب الحكم ، وأن الحكم الواقعي حكم إنشائي ، لا فعلي.

وأما على ما سلكه (قدس سره) في مبحث جعل الطريق (٤) من كون الحكم الواقعي فعليا من وجه ، فلا حاجة إلى رفع الحكم الفعلي ؛ فان رفعه إما بلحاظ أثره وهي المؤاخذة ، أو بلحاظ المضادة بين الحكم الواقعي والظاهري.

مع أن المؤاخذة أثر التكليف المنجز عقلا ، لا أثر التكليف الفعلي ، ولو لم ينجز حتى بايجاب الاحتياط.

كما أن الحكم الفعلي من وجه لا ينافي الفعلي من جميع الوجوه عنده (رحمه الله) ، فلا موجب لرفع الحكم الفعلي.

وأما حمله على إرادة رفع الفعلية المطلقة ، وثبوت مطلق الفعلية.

فهو مناف لظاهر العبارة ، فان ظاهرها المقابلة بين الفعلية والثبوت الواقعي فتدبر.

والتحقيق ـ على ما مر (٥) مرارا ـ أن الانشاء بلا داع محال ، والانشاء بداع من الدواعي ليست فعليته ، إلا فعلية ذلك الداعي.

ففعلية الانشاء بداع الارشاد إرشاد فعلي ، وبداع البعث بعث فعلي ،

__________________

(١) التعليقة ١٢.

(٢) كفاية الاصول / ٣٣٩.

(٣) التعليقة على فرائد الأصول / ٥ ـ ٣٤.

(٤) كفاية الاصول / ٢٧٨.

(٥) منها ما تقدم في مبحث حجية القطع التعليقة ٢٩ ، ومنها في مبحث حجية الظن التعليقة ٦٦ نهاية الدراية ٣.

٣٤

ويستحيل أن يكون الانشاء بداع في صراط الفعلية بداع آخر ، وقياسه معه.

فلا محالة ليس الانشاء الواقعي المترقب منه فعلية البعث والزجر ، إلا الانشاء بداعي جعل الداعي فعلا أو تركا.

وقد مرّ ـ منّا (١) مرارا ـ أن فعلية كل داع متقومة بالوصول ، فالانشاء بداع الارشاد قبل وصوله لا يكون إرشادا فعلا إلى ما هو خير العبد ورشده ، والانشاء بداع البعث والتحريك قبل وصوله ليس قابلا فعلا للتحريك. وانقداح الداعي على أي تقدير في نفس المكلف.

وعليه ، فعدم فعليّته البعثيّة بعدم الوصول عقلي لا جعلي.

كما أن ما هو أمره بيد المولى ـ وهو تمام ما هو الفعلي من قبله ـ هو نفس الانشاء بداع البعث ، وبوصوله يكون مصداقا للبعث الحقيقي ، فكأن ما هو بعث بالقوة يخرج من حد القوة إلى الفعل.

وليكن المراد من الفعلي من وجه نفس ما هو فعلي من قبل المولى.

والفعلي بقول مطلق ما هو بحيث يكون مصداقا للبعث فعلا.

ثم إن الوصول التعبدي :

تارة : بجعل الحكم المماثل على طبقه بعنوان تصديق العادل بلسان أنه الواقع ، فثبوت الحكم المماثل ثبوت الواقع تنزيلا ، ووصوله وصول الواقع عرضا ، وتنجزه تنجز الواقع اعتبارا ، وإلاّ فالواقع على ما هو عليه لم يخرج من حد إلى حد حقيقة.

وأخرى : بايصال الواقع بأثره ، بجعل الخبر مثلا منجزا له ، إذ ليس أثر الواقع الواصل إلا فعليته المساوقة لتنجزه ، فجعل الخبر منجزا له شرعا يخرج

__________________

(١) منها في التعليقة ٦٦ من مبحث حجية الظن ، ومنها في مبحث حجية القطع التعليقة ٤١ نهاية الدراية ٣.

٣٥

الانشاء الواقعي من حد القوة إلى حد الفعلية عند مصادفة الخبر للواقع.

وكذا الأمر فيما نحن فيه ، فانه كما سيأتي منه (قدس سره) يكون إيجاب الاحتياط بداعي تنجيز الواقع ، فانه إيصال للواقع المحتمل بأثره ، فيرجع الى جعل احتماله منجزا له على تقدير ثبوته ، فيصير فعليا منجزا على تقدير المصادفة ، كما في الامارة المعتبرة بهذا الوجه.

وقد عرفت أن عدم فعلية الواقع بعدم ايصاله بجميع أنحائه ، وعدم الفعلية بعدم جعل الحكم المماثل ، أو بعدم جعل الخبر ، أو الاحتمال منجزا ليس مجعولا حتى يكون معنى رفع الفعلية رفعها بعدم جعل الاحتياط.

بل العدم المجعول المعدود من الأحكام المجعولة ما كان كالوجود مجعولا ، فعدم الوجوب بعدم المقتضي ليس مجعولا شرعيا ، بل قوله : لا يجب إنشاء جعل للعدم تسبيبا.

فاذا كان قوله عليه السلام رفع على حد قوله عليه السلام ( كل شيء لك حلال ) جعلا لعدم التكليف كالجعل للاباحة. فلا محالة يكون إيصالا لعدم التكليف في موارد الجهل بعبارة جامعة لها ، فيكون مفاده فعلية عدم التكليف ظاهرا ، لا عدم فعلية التكليف ، لما عرفت أن عدم فعلية التكليف بعدم الوصول عقلي لا جعلي.

نعم لازم إيصال عدم التكليف فعلا عدم فعلية التكليف ، لاستحالة ثبوت المتنافين من حيث الفعلية.

وحينئذ ففائدة إيصال عدم التكليف وجعل عدمه فعليا بايصاله دلالته على عدم وجوب الاحتياط ، المبلغ للحكم الواقعي إلى مرتبة الفعلية والتنجز.

بل حيث إن لسانه عدم التكليف ، فهو وارد على دليل الاحتياط ، فانه في مورد ثبوت الواقع احتمالا ، وهذا ناف لموضوعه ، لأنّ لسانه فعلية العدم ، لا مجرد عدم فعلية التكليف.

٣٦

ومنه تبين أن مثل إيصال عدم التكليف بقوله ( رفع ) الذي مفاده أنه لا يجب ولا يحرم جعلا وانشاء رافع لموضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فان موضوعه عدم وصول التكليف.

وكما أنه مع وصوله لا موضوع للقاعدة ، كذلك مع وصول عدمه ، فان عدم الوصول حينئذ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

ونكتة إيصال العدم ـ مع كفاية عدم الوصول في رفع الفعلية ، وأثرها (١) ـ التنبيه على عدم وجوب الاحتياط ، بحيث يكون دليلا على عدمه بعدم موضوعه ، لا مجرد كشف عدم الفعلية عن عدم وجوب الاحتياط.

ومن جميع ما ذكرنا تبين أن حديث الرفع إذا كان متكفلا لأمر مجعول تشريعي ، فهو عدم التكليف ، بحيث يكون العدم فعليا جعليا ، لا عدم فعلية التكليف الواقعي ، فان مثله غير مجعول ، وان عدم فعلية التكليف مستند إلى عدم وجوب الاحتياط ، فيكشف عنه كشف المعلول عن العلة ، بخلاف فعلية عدم التكليف ، فانه يستند إليه عدم وجوب الاحتياط ، فيكشف عنه كشف العلة عن المعلول ، فتدبره ، فانه حقيق به.

ثم إن مفاد حديث الرفع ـ سواء كان رفع فعلية التكليف بدوا ، أو جعل عدم التكليف فعلا ـ فهو بحسب لسانه رفع ، وفي اللبّ دفع ، فانه بحسب لسانه حيث إنه رفع الإلزام المجهول المفروض ثبوته ، فهو رافع له ، وقاطع لاستمراره ، وبحسب اللبّ حيث إن إعدام الحكم الواقعي المجهول غير معقول ، فهو دافع لفعليته مع وجود المقتضي لجعله فعليا بايصاله بجعل الاحتياط.

ولا يخفى عليك أن مانعية شيء عن تأثير شيء ، وإن لم تكن متقومة بسبق وجود أثر ذلك الشيء ، ولا بعدمه.

__________________

(١) والصحيح وأثره فان مرجع الضمير إيصال العدم.

٣٧

إلا ان صدق عنوان الرافع والدافع منوط بوجود الاثر في الأول وعدمه في الثاني.

كما في عنوان الحدوث والبقاء ، فان وجود شيء في زمان غير منوط بوجوده في السابق ، ولا بعدمه فيه ، إلا أن عنوان الحدوث والبقاء منوط بسبق العدم في الاول وسبق الوجود في الثاني.

فتوهم عدم الفرق بين الرافع والدافع ، وصحة استعمال كل منهما مكان الآخر ، لعدم تفاوت المانعية فاسد لما عرفت.

ولعل نسبة الرفع دون الدفع بلحاظ تعلقه في مرحلة الاسناد الكلامي بما هو مفروض الثبوت. واللازم في باب مراعاة إسناد مفهوم إلى ما يناسبه ملاحظة مقام الاسناد الكلامي ، فان طرف الاسناد في ظرف اسناد المفهوم مناسب له قطعا.

ويمكن أن يقال : إن الظاهر من الخبر ثبوت هذه الأحكام في الشريعة الالهية سابقا ، فنسبة الرفع وهو العدم بعد الوجود بلحاظ أصل ثبوته حقيقة في الشريعة الالهية ، فرفع عن هذه الأمّة لا بملاحظة وجود المقتضي لفعليته في هذه الأمّة حتى يكون متمحضا في الدفع ، والله العالم.

٩ ـ قوله (قدس سره) : لا يقال ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية (١) ... الخ.

الاشكال في المؤاخذة من وجهين :

أحدهما : ما تعرض (قدس سره) له صريحا ، وهو أن المؤاخذة ليست من الآثار الشرعية ، بل استحقاقها عقلي ، لا جعلي شرعي.

__________________

(١) كفاية الاصول / ٣٣٩.

٣٨

ونفس المؤاخذة وإن كانت جعلية لكنها تكوينية لا تشريعية ، فلا معنى للتعبد بها نفيا واثباتا ، لا بلا واسطة ، كمن يقول بتعلق الرفع بالمؤاخذة ، ولا مع الواسطة ، كمن يقول بالتعبد برفعها برفع الحكم الفعلي ، ولو برفع ايجاب الاحتياط.

ثانيهما : أن المؤاخذة من آثار التكليف الفعلي المنجز ، ولا عقاب عقلا على ما لم يتنجز ، فليس للواقع المجهول هذا الأثر كي يرفع برفعه.

ويندفع الأول بما أفاده (قدس سره) في المتن وفي الهامش ، وجامعهما أن رفع المؤاخذة ليس بعنوان التعبد برفعها حتى لا يعقل التعبد بها نفيا أو اثباتا ، بل بعنوان تحقيق موضوعها ، فان الاستحقاق مترتب على التكليف الفعلي الواقعي أو الظاهري ، فعدمه مترتب على عدمهما ، سواء كان بعدم التكليف ظاهرا ، كما هو مفاد جواب الهامش ، أو بعدم فعلية التكليف بجعل الاحتياط ، كما هو مفاد جواب المتن.

وبالجملة مخالفة التكليف الواصل ـ واقعيا كان أو ظاهريا ـ موضوع استحقاق العقاب.

وعدم الاستحقاق تارة ، بعدم مخالفة التكليف الواصل وأخرى ـ بعدم التكليف ، وثالثة ـ بعدم وصوله.

فعدم التكليف ظاهرا محقق لموضوع عدم الاستحقاق حقيقة.

كما أن عدم فعلية التكليف بعدم جعل الاحتياط المبلغ له إلى مرتبة الفعلية المطلقة أيضا محقق لموضوع عدم الاستحقاق.

فلا تعبد حقيقة إلا بعدم التكليف ، أو بعدم فعليته بعدم ايجاب الاحتياط ،

ويندفع الاشكال الثاني بما يظهر من جوابه (قدس سره) في المتن ، من أن رفع المؤاخذة ليس برفع التكليف المجهول بما هو ـ حتى يقال : إنها ليست من آثار الواقع ، بل من آثار التكليف المنجز ـ وإنما هي من آثار الواقع بالواسطة

٣٩

فان التكليف الواقعي يقتضي جعله فعليا بايجاب الاحتياط المصحح للمؤاخذة فهي أثر الأثر.

فالتعبد برفع الواقع تعبد بأثره ومقتضاه ، وهو عدم ايجاب الاحتياط ، وهو موضوع الاستحقاق هذا.

لكنك قد عرفت (١) في مباحث القطع والظن ، أن استحقاق العقاب بحكم العقل موضوعه مخالفة التكليف الواصل المنطبق عليها الظلم ، لكونها خروجا عن زيّ الرقية ورسم العبودية.

وليست نفس المخالفة مقتضية للاستحقاق ووصول التكليف شرطا ، إذ الحكم بالاستحقاق بالاضافة إلى مخالفة التكليف الواصل المنطبق عليها الظلم حكم بالاضافة إلى موضوعه.

وقد مرّ (٢) مرارا أن الحكم لا يترشح من مقام ذات موضوعه ، بل سببه الفاعلي هو الحاكم.

ومعنى كون الحكم باقتضاء موضوعه ، أن الفائدة المترقبة من موضوعه غاية داعية للحاكم ، لا بمعنى المقتضي الذي يترشح منه مقتضاه حتى يعقل اشتراط تأثيره بشيء.

ومن الواضح أن الغاية الداعية للعقلاء الى البناء على مدح فاعل بعض الأفعال وذم فاعل بعضها الآخر ، كون العدل مثلا بعنوانه مما ينحفظ به النظام ، وكون الظلم بعنوانه مما يختل به النظام ، وانحفاظ النظام هي الفائدة المترقبة من العدل ، واختلال النظام هي المفسدة المترتبة على الظلم.

__________________

(١) مبحث حجية القطع : التعليقة ١٠ ومبحث حجية الظن : التعليقة ١١٩. نهاية الدراية ٣.

(٢) منها في مبحث حجية القطع : التعليقة ٤١ و ٤٥. ومبحث الانسداد التعليقة ١٤٥. نهاية الدراية ٣.

٤٠