نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-40-X
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٦٤

وسائر الأحكام الظاهرية؟ (١)

ولا يخفى عليك أن غرضه (قدّس سره) ليس كفاية الحكم الظاهري في المخالفة العملية التدريجية ، بل وجود البدل الظاهري الذي به يتدارك مصلحة الواقع أو مفسدته.

ففي مثل الخبرين المتعارضين يكون في الالتزام بكل منهما مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع أو مفسدته ، أو نفس جعل الحكم على طبق الخبرين بنحو التخيير منبعث عن مصلحة في الفعل أو الترك بعنوان عارض إمّا مطلقا ، كما على موضوعية الخبر مطلقا ، أو في خصوص مورد التعارض ، كما على القول بالتخيير شرعا بعنوان التسليم الراجع أيضا إلى الموضوعية في مثل هذا الحال.

وعلى أي حال فهناك مصلحة يتدارك بها الواقع عند الخطأ عن الواقع.

ولا بد من الالتزام بمثله في التخيير بين المجتهدين ، أو جواز العدول.

وأما في مثل الحكم على معلوم الوجوب أو الحرمة بالاباحة مطلقا ، فليس هناك بدل ظاهري ، حيث إن الفعل والترك على حالهما من دون تعنونهما بعنوان ذي مصلحة حتى يكون الفعل المعنون بذلك العنوان بدلا ظاهريا عن الواقع.

كما لا معنى لتعنونهما ـ من قبل نفس الاباحة ـ بشيء ولو بالالتزام بالاباحة ، فان الاباحة تتعلق بنفس الفعل لا بالالتزام بها ؛ فانه غير معقول ، فيتمحض في الاذن في المخالفة العملية التدريجية ، وهو قبيح.

٦٤ ـ قوله (قدّس سره) : ثم إن مورد هذه الوجوه وان كان (٢) ... الخ.

لا يخفى عليك أن تخصيص المورد بالتوصليين ، وتقييده بعدم كونهما أو أحدهما تعبديا ، تارة : لجهة تناسب مباحث القطع ، وأخرى : لجهة تناسب هذا

__________________

(١) المورد هو المحقق الهمداني قدس سره في الفوائد الرضوية على الفرائد المرتضوية.

(٢) كفاية الأصول : ٣٥٦.

٢٢١

المبحث.

ففي مباحث القطع لأجل تمحض المورد للمخالفة الالتزامية ، إذ لو كانا تعبديين أو كان أحدهما كذلك ، وفعل لا بداعي القربة كانت المخالفة عملية. إذ لو كان حراما لفعله ، ولو كان واجبا لتركه ، حيث لم يأت به على وجهه.

كما أنه إذا فعله بداعي الأمر ، وكان محتملا للتعبدية كان متضمنا للموافقة الالتزامية ؛ إذ لا يمكن الفعل بنحو التعبدية إلا مع الالتزام بالحكم ، فلا يتمحض المورد للمخالفة الالتزامية إلا في التوصلي.

وأما هذا البحث فوجه التقييد فيه بالتوصليين ، أن جريان جميع الوجوه منوط بذلك ، وإن كان بعضها يناسب التعبدية أيضا ، مثلا الأخذ بأحدهما مخيرا أو التخيير العملي بين الفعل والترك مع التوقف عن الحكم ظاهرا وواقعا يلائم التعبدي والتوصلي ؛ لأن التخيير إنما يكون بين المحتملين بحسب حالهما.

ففي التعبديين يتخير عملا أو لزوما بين اتيان الفعل قربيّا أو الترك قربيّا ، ولا يعقل مع دوران الأمر بين التعبديين أن يكون مقتضى الأمر بالأخذ تخييرا ، أو مقتضى حكم العقل بعدم الحرج بفعل احد المحتملين إلاّ بنحو يحتمله.

وأما إجراء البراءة والحكم بالاباحة فلا يلائم إلا التوصليين :

أما إجراء البراءة فمقتضاه نفي الوجوب فعلا ونفي الحرمة ، والاذن في الفعل والترك ، والاذن في الفعل بمجرده والترك بمجرده من دون معاملة الواجب أو الحرام معه ، إذن في إتيانه لا بداعي القربة ، وفي الترك كذلك ، وهو إذن في المخالفة العملية القطعية ، لا أن اجراء البراءة يستلزم المخالفة العملية ، إذ هو غير مانع عن إتيان المحتمل بداعي الوجوب المحتمل.

وأما الحكم بالاباحة فهو مع المحذور المزبور يستلزم محذورا آخر ، وهو منافات الاباحة المقابلة لسائر الاحكام مع التعبدية المتقومة بالطلب اللزومي أو الغير اللزومي ، فلا يعقل الحكم على التعبدي بالاباحة الحقيقية.

٢٢٢

ومنه تبين أن القائل بالاباحة كشيخنا الاستاذ (قدّس سره) لا بد له من التخصيص بالتوصليين ، فان تخييره عملا ، وإن لم يكن منافيا للتعبدية إلا أن حكمه بالاباحة ينافي التعبدية.

نعم مثل الشيخ الأجل (قدّس سره) حيث يختار التوقف (١) ، وعدم الالتزام إلا بالواقع على ما هو عليه مع التخيير عملا بين الفعل والترك ، لا موجب للتخصيص عنده ، لا من حيث التخيير ولا من حيث التوقف ، وانما تخصيصه بالتوصليين لا بناء على مختاره (قدّس سره) ، بل بالنظر الى جريان جميع الوجوه.

٦٥ ـ قوله (قدّس سره) : ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلال العقل بتعينه (٢) ... الخ.

ربما يشكل بأن الحكم الشرعي الواقعي تعييني ، وهو إما الوجوب معينا ، أو التحريم معينا ، وليس كموارد التخيير والتعيين الشرعيين مما يحتمل كون الحكم الشرعي تعيينيا أو تخييريا.

بل لا يعقل كون الحكم الشرعي تخييريا بين الوجوب والحرمة في واقعة واحدة ، فان الايجاب التخييري إنما يعقل بين فعلين ، حتى يكون ايجابا له ، وترخيصا في تركه إلى بدل.

وأما ايجاب الفعل مع تجويز تركه لا الى بدل ، فينافي حقيقة الايجاب فضلا عن ايجاب تركه تخييرا أيضا.

وكذا الأمر في جعل الحكم المماثل على طبق الوجوب والحرمة تخييرا ، فانه في المحذور كالتخيير بين الحكمين الواقعيين.

وأما التخيير بين الخبرين الدال أحدهما على الوجوب والآخر على

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى : ٢ / ٦٤ و ٦٥

(٢) كفاية الأصول : ٣٥٦.

٢٢٣

الحرمة ـ بناء على السببية ـ فلا يرجع إلى ايجاب وتحريم تخييريّين ، بل الى حكمين تعيينيّين ظاهريين ، والتخيير بحكم العقل لمكان عدم القدرة على امتثالهما.

وحيث إن المقصود رجوعه إلى التخيير والتعيين العقليين ، فيشكل بأن الحاكم هو العقل ، ولا معنى لتردد الحاكم ، حتى يقال : بدوران الآمر بين التعيين والتخيير ، ومقتضى الاحتياط هو التعيين. بل العقل ـ في مورد احتمال الاهمية في أحد الطرفين ـ إما أن يستقل بالتعيين أو بالتخيير.

وحيث إن مناط الاهمية في حكمه بالتخيير (١) ـ لأجل التساوي (٢) ـ هي الاهمية في نظره ، ولا أهمية في نظره ، فلذا لا دوران في نظره ، بل يستقل بالتخيير.

والجواب : أن حكم الشارع وإن كان تعيينيا ، إلا أن تعيينية الحكم الشرعي لا يمنع عن اندراج المسألة تحت مسألة التعيين والتخيير ، فان الحكم في الواجبين الشرعيين المتزاحمين تعييني لا تخييري ، ومع ذلك إذا علم بأقوائية ملاك أحدهما المعين يحكم بفعليته المطلقة وبقاء الآخر على فعليته الذاتية ، واذا احتمل اقوائيته يدور الامر بين بقاء كليهما على فعليتهما الذاتية المقتضي للتخيير في مقام الامتثال عقلا ، أو بلوغ محتمل الاهمية لمرتبة الفعلية بقول مطلق وتعيّنه في مرحلة الامتثال.

وأما حديث عدم تردد الحاكم ، فالجواب عنه أن العقل يحكم كليا بقبح التسوية بين الراجح والمرجوح ، وبقبح ترجيح احد المتساويين على الآخر ، ولا تردد له في هذه الكبرى العقلية في الطرفين ولا في ملاك هذه الكبرى ، وانما يتردد في انطباق الكبرى على مورد ، للتردد في اقوائية ملاك الحكم الشرعي في طرف من ملاكه في طرف آخر ، وهذا تردد منه لا بما هو حاكم بتلك الكبريات ولا في

__________________

(١) هكذا في الأصل ، لكن الصحيح : بالتعيين.

(٢) هكذا في الأصل ، لكن الصحيح : لأجل عدم التساوي.

٢٢٤

ملاك الكبريات ، بل منه بما هو مدرك للحكم الشرعي ولملاكه ، واستقلال العقل بملاكات الاحكام الشرعية مما لا يذهب اليه ذو مسكة.

نعم التحقيق أن مسألتنا هذه غير مندرجة في مسألة التخيير والتعيين العقليين مع القطع بالاهمية فضلا عن احتمالها ، فان حكم العقل بالتخيير هنا ليس بملاك التخيير بين الواجبين المتزاحمين من حيث تساويهما في المقتضي ومقتضاه والقدرة على امتثاله في نفسه ، حتى يكون القطع باقوائية الملاك او احتمالها مانعا عن حكمه بالتخيير.

بل التخيير هنا عقلا بمعنى استقلال العقل بعدم الحرج في الفعل والترك ، بملاك عدم المتنجز للوجوب وللحرمة.

والقطع باهمية ملاك الحرمة ـ على تقدير ثبوتها واقعا ـ أجنبي عن هذا الملاك فضلا عن احتمالها ؛ لأن احتمال ثبوت الحكم الأهم كاحتمال ثبوت غير الأهم في عدم التنجز ، لعدم التمكن من الموافقة القطعية ، ومن ترك المخالفة القطعية (١) على حد سواء.

والموافقة الاحتمالية للتكليف المعلوم كالمخالفة الاحتمالية قهرية ، لا أنها لازم المراعاة بحكم العقل ، حتى يتوهم أنه مع القطع بالأهمية أو احتمالها في طرف يحكم العقل بمراعاة موافقته الاحتمالية بالخصوص.

نعم لو قلنا بوجوب الأخذ بأحد المحتملين ـ من باب دلالة الدليل على التخيير بين الخبرين ، على التخيير بين المحتملين ـ فلازمه كون احتمال الوجوب ذا مصلحة مقتضية لجعل الوجوب على طبقه. واحتمال الحرمة ذا مفسدة مقتضية لجعل الحرمة على طبقه.

وحيث لا يتمكن من امتثال الحكمين يحكم العقل بالتخيير من باب التخيير بين المتزاحمين ، فلا محالة يتوقف عن الحكم بالتخيير مع القطع بالاهمية

__________________

(١) هكذا في المصدر ، لكن الصحيح : ومن المخالفة القطعية.

٢٢٥

أو احتماله ، فتدبر جيّدا.

٦٦ ـ قوله (قدّس سره) : لشدّة الطلب في أحدهما وزيادته (١) ... الخ.

غرضه قوة المناط والملاك لتحقق الطلب تارة ، وزيادة ملاك آخر للطلب أخرى. فان قوة الملاك وزيادة ملاك آخر يوجب تأكد الطلب دائما ، وإلا فلا يعقل عروض طلب آخر على معروض الطلب. وفي التعبير بشدة الطلب وزيادته عن شدة الملاك وزيادته مسامحة.

٦٧ ـ قوله (قدّس سره) : بما لا يجوز الاخلال بها (٢) ... الخ.

بأن يكون موجب قوة الطلب ، بحيث لو كان وحده لكان لازم الاستيفاء ، وإلا لكان مقتضاه أولى ، لا متعينا.

٦٨ ـ قوله (قدّس سره) : وكذا وجب ترجيح احتمال (٣) ... الخ.

فكما تكون قوة الملاك وزيادته موجبة لتعين أحد المتزاحمين في باب التزاحم ، كذلك موجبة لتعين أحد المحتملين هنا في باب الدوران المحض حيث لا تعدد.

٦٩ ـ قوله (قدّس سره) : ضرورة أنه رب واجب (٤) ... الخ.

إلاّ أن يكون الغلبة والنوعية لطرف الحرام ، فانها مجدية هنا ، فان احتمال القوة في الحرمة على تقدير ثبوتها أقوى من احتمال القوة في الوجوب فيكون احتمال الحرمة أولى بالمراعاة فتدبر.

فان احتمال القوة في الحرمة ـ على تقدير ثبوتها ـ أقوى من احتمال القوة في الوجوب ، فيكون احتمال الحرمة أولى بالمراعاة. فتدبر.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٥٧.

(٢) كفاية الأصول : ٣٥٧.

(٣) كفاية الأصول : ٣٥٧.

(٤) كفاية الأصول : ٣٥٧.

٢٢٦

أصالة الاحتياط

٢٢٧
٢٢٨

العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين المتباينين

٧٠ ـ قوله (قدّس سره) : في دوران الامر بين المتباينين (١) ... الخ.

قد مرّ ـ في مبحث الاجمالي من مباحث القطع (٢) ـ ، أن البحث عن العلم الاجمالي.

تارة : من حيث شئون العلم ومقتضياته وهو كونه مقتضيا للتنجز من حيث المخالفة القطعية والموافقة القطعية وحيثيته الاقتضاء محفوظة ، ولو مع عدم فعلية مقتضاه ، لفقد شرط ، او وجود مانع.

وأخرى : من حيث شئون الشك والجهل ، وهو أن الجهل التفصيلي هل هو مانع عقلا أو شرعا عن فعلية مقتضى العلم الاجمالي؟ وهو المناسب للمقام.

ومنه تبين أن تخصيص البحث لمتقدم بحرمة المخالفة القطعية (٣) ، وتخصيص البحث هنا بوجوب الموافقة القطعية بلا وجه ؛ لأن فعلية حرمة المخالفة القطعية متوقفة على عدم مانعية الجهل التفصيلي ، وهو من شئون هذا البحث.

كما أن اقتضاء وجوب الموافقة القطعية من شئون ذلك المبحث.

وتوهم : أن البحث عن حرمة المخالفة القطعية راجع إلى البحث عن أصل الاقتضاء ، والبحث عن وجوب الموافقة القطعية هنا راجع الى مقدار

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٥٨.

(٢) نهاية الدراية : التعليقة : ٤٥.

(٣) كما عن الشيخ قده. فرائد الاصول المحشى ١ / ٣٥.

٢٢٩

الاقتضاء وكيفيته ، فاسد ؛ لأن :

مبنى الأول على أنه لا اقتضاء ، لو لم نقل بحرمة المخالفة القطعية.

مع أنك قد عرفت أن الاقتضاء محفوظ مع عدم فعلية مقتضاه.

ومبنى الثاني على أن وجوب الموافقة القطعية من باب دفع احتمال العقاب ، وهو من شئون الاحتمال.

وفيه أولا : أنه ليس البحث من حيث مقدار الاقتضاء ، وإلاّ لكان من شئون المقتضي ، وهو العلم.

وثانيا : ما تقدم في مبحث العلم الاجمالي (١) : أن وجوب الموافقة القطعية ليس من ناحية احتمال العقاب ، ولا من ناحية قاعدة دفع الضرر المحتمل ، فراجع ، وتدبّر. وسيجيء ـ إن شاء الله تعالى ـ فرق آخر بين المبحثين.

٧١ ـ قوله (قدّس سره) : إن كان فعليا من جميع الجهات بأن يكون (٢) ... الخ.

توضيح المقام : أن مسلكه (قدّس سره) سابقا كما في تعليقته الأنيقة على الرسائل (٣) دفع التنافي بين الأحكام الواقعية والظاهرية في موارد الأمارات والأصول ، والعلم الاجمالي مع القول بالترخيص على خلافه ، بحمل الأحكام الواقعية على الانشائية ، والأحكام الظاهرية على الفعلية ، بالالتزام بتعدد المراتب الأربع (٤) لطبيعي الحكم.

بيانه : أن الحكم له مراتب أربع :

__________________

(١) نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٤٥.

(٢) كفاية الأصول : ٣٥٨.

(٣) التعليقة على فرائد الأصول : ٥ ـ ٣٤.

(٤) كذا في الأصل والصحيح : بتعدد المراتب ، فقيد الاربع زائد.

٢٣٠

احداها : ثبوته اقتضاء : لا بنحو ثبوت المقتضى بثبوت المقتضي بثبوت عرضي ، فانه شأن المقتضي بمعنى السبب الفاعلي ، حيث إن المعلول يترشح من مرتبة ذات العلة الفاعلية ، دون المقتضي بمعنى الغاية الداعية إلى ذيها ، فان ذا الغاية ليس في مرتبة ذات الغاية ، لا بوجودها الخارجي ولا بوجودها العلمي ، ولا بنحو ثبوت المقبول بثبوت القابل ، كالانسان في النطفة القابلة ؛ بداهة أن المصلحة الداعية ليست في صراط المادية ، ولا يتصور بصورة الحكمية.

بل المراد ثبوت الحكم شأنا ، حيث إن طبيعي الفعل مستعد باستعداد ماهوي لا باستعداد مادي ؛ لأن يترتب عليه المصلحة إذا وجد في الخارج ، وهي صالحة للتأثير في الانشاء بداعي البعث والتحريك في مرتبة ذاتها وما هويتها ، فالوجوب بهذه الملاحظة له شأنية الوجود.

ومنه يعلم أنه ليس هنا ثبوت خارجي عرضي ، كما في المقتضى والمقبول ، بل ثبوت ماهوي وثبوت تقديري شأني.

ثانيتها : ثبوته إنشاء ، وهو وجود طبيعي البعث المفهومي بتبع اللفظ الذي ينشأ به ، فاللفظ موجود بالذات ، والبعث النسبي المفهومي بالعرض ، كما حققناه في مباحث الألفاظ (١).

ثالثتها : ثبوته فعلا وحقيقة ، وهو ما بالحمل الشائع بعث أو زجر عند العقلاء ، بحيث يكون قابلا للباعثية والزاجرية فعلا.

رابعتها : ثبوته بحيث يستحق على مخالفته العقوبة ، وهي مرتبة تنجزه ، وهذا شأن من شئونه ونشأة من نشئات تحققه ، كما فصلناه في أوائل مباحث القطع (٢).

__________________

(١) نهاية الدراية : ١ ، التعليقة : ١٥٠.

(٢) نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٨.

٢٣١

ومن الواضح : أن التضاد والتماثل بين الفعليّين من البعث أو الزجر ، لا بين الانشائيّين منهما ، ولا بين الفعلي والانشائي.

وحيث إن البعث المفهومي الانشائي لا أثر له ، فلا يترتب على القطع به شيء ، ولا التعبد به ذو أثر. فلذا عدل (قدّس سره) عن هذا المسلك في هذا الكتاب ، والتزم بفعلية الواقع من وجه ، بحيث يكون له أثر عند تعلق العلم به.

والكلام في تحقيق حال الفعلي من وجه والفعلي من جميع الجهات ، فانه بظاهره لا يخلو عن شيء : إذ لو كان كل منهما واجدا لملاك الفعلية ، وكان التفاوت بالمرتبة ، فتعدد المراتب لا يرفع التضاد والتماثل بعد كونهما واجدا للحقيقة التي بين أفرادها التماثل ، أو الحقيقتين اللتين بين أفرادهما التضاد.

ولو كان الفعلي من جهة فعليّا من قبل بعض مبادئه ، فالفعلي بالحقيقة تلك المقدمة لا ذوها ، بل هو باق على الشأنية كما مر تفصيله في مباحث القطع (١).

وما أفاده (قدّس سره) في البحث في مقام بيان الفعلي من جهة ، ومن جميع الجهات ـ كما ربما يساعده بعض عباراته في أوائل مباحث القطع (٢) ـ هو أن الغرض الباعث على التكليف : ربما يكون بحدّ يبعث المولى إلى جعله فعليا منجزا بايصاله ، ولو بنصب طريق موافق ، أو بجعل احتياط لازم ، ودفع موانع تنجزه بأي نحو كان.

ومثله يستحيل الترخيص في خلافه ؛ لأنه نقض للغرض.

وربما لا يكون الغرض بذلك الحدّ ، بل يدعوه إلى التكليف بحيث إذا وصل إلى المكلف من باب الاتفاق لتنجّز عليه ، فهو فعلي من حيث نفسه ، لا من حيث إيصاله إلى المكلف.

__________________

(١) نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٣٠.

(٢) كفاية الأصول : ٢٦٧.

٢٣٢

فلا يجب حينئذ دفع موانع تنجزه ولا ينافيه إبداء المانع عن تنجزه ، فإن إبقاء المانع وابداء المانع ـ في نظر العقل ـ على حد سواء. وليس الترخيص نقضا للغرض ، لأن سد باب تنجزه لا ينافي تنجزه لو وصل من باب الاتفاق.

والفرق بين العلم الاجمالي والعلم التفصيلي : أن الأول حيث إنه مقرون بالجهل ، فمع تمامية مقام الاثبات في الأدلة المرخصة في أطرافه يستكشف عن أن سنخ الغرض غير مناف للترخيص في خلافه.

وحيث إن الثاني غير مقرون بالجهل ، فلا تعمه الأدلة المرخصة.

فلا كاشف عن أن سنخ الغرض بحدّ لا ينافي الترخيص ، فلا محالة يكون الحكم فعليّا بقول مطلق.

والجواب أولا : أنّ سنخ الغرض من المكلف به وإن كان يختلف قوة وضعفا ، إلا أن سنخ الغرض من التكليف الحقيقي واحد ، وهو جعل الداعي إلى الفعل أو الترك.

فالترخيص وإن فرض أنه ليس نقضا للغرض من المكلف به ، لكنه نقض للغرض من التكليف ، لما بين جعل الداعي حقيقة والترخيص من المنافاة.

وثانيا : بأن المفروض أن سنخ الغرض من المكلف به تام الاقتضاء ، وقد انبعث منه حقيقة البعث والزجر ، غاية الأمر أنه لا يجب على المولى إيصاله ، لكنه بوصوله الاتفاقي ترتب عليه حكم العقل من وجوب الاطاعة وحرمة المعصية ، فلا محالة يكون منجزا بالعلم الاجمالي إذا لم يكن قصور في كونه وصولا.

وفرض قصوره شرعا ، خلف ، فان العلم حينئذ أخذ على وجه الموضوعية دون الطريقية ، فيكون له دخل في تمامية اقتضاء المقتضي الباعث على البعث.

ومثله يتصور في العلم التفصيلي المأخوذ على وجه الموضوعية. فتدبر جيّدا.

وربما يتوهم أن المراد من الحكم الفعلي من جميع الجهات هو الحكم البعثي

٢٣٣

والزجري والتحريك الجدي.

ومن الحكم الفعلي من وجه هو الانشاء بداعي إظهار الشوق إلى الفعل ، فالحكم البعثي والزجري فعلي من قبل هذه المقدمة ، وهو كون ذات الفعل مشتاقا اليه.

ولا منافاة بين الشوق إلى ذات الفعل والترخيص في تركه ، بل المنافاة بين التحريك والترخيص.

وفيه أولا : أن الارادة التشريعية بازاء الارادة التكوينية ، فاذا بلغ الشوق مبلغا بحيث لو كان المشتاق إليه من أفعال المشتاق لتحرك عضلاته نحوه ، كذلك إذا كان من أفعال الغير تسبب إلى ايجاده بالبعث فلا ينفك مثل هذا الشوق عن البعث.

وإذا لم يكن الشوق بهذا الحدّ ، فكما لا يوجب حركة العضلات في التكوينيات ، كذلك ليس علة للبعث في التشريعيات ومثله لو علم به تفصيلا أيضا لا أثر له.

وثانيا ما مرّ مرارا من أن الانشاء بأي داع كان ليس وصوله موجبا إلا لفعلية ذلك الداعي.

ففعلية مثل هذا الانشاء فعلية إظهار الشوق ، فلا يعقل أن يكون مثله واقعا في صراط فعلية البعث ، كما لا يخفى.

وسنحقق (١) ـ إن شاء الله تعالى ـ ما ينبغي أن يراد من الحكم الفعلي من وجه ، كما مرّ مرارا أيضا (٢).

وتحقيق حال العلم الاجمالي من حيث التنجيز برسم أمور :

__________________

(١) في الأمر الأول من الأمور التي يرسمها لتحقيق حال العلم الاجمالي من حيث التنجيز.

(٢) منها ما تقدم في مبحث حجية القطع التعليقة : ٣٠ و ٤٢.

٢٣٤

منها : أن الانشاء بلا داع محال ، والانشاء بأي داع كان فعليته فعلية ذلك الداعي ، فالانشاء بداعي الارشاد يكون وصوله موجبا لفعلية الارشاد ، والانشاء بداعي جعل القانون وصوله يوجب فعلية جعل القانون. وهكذا الانشاء بداعي جعل الداعي يكون مصداقا حقيقة لجعل الداعي بوصوله.

فما يمكن أن يقع في صراط فعلية جعل الداعي والبعث ليس إلا الانشاء بهذا الداعي دون غيره ، فانه إما محال في نفسه ، أو يستحيل انقلابه عما هو عليه ، أو يستحيل صيرورة غير ما بالقوة ما بالفعل.

ومثل هذا الانشاء الواقع في صراط البعث الحقيقي هو الفعلي من قبل المولى ، وتمام ما يصدر منه ، وبلوغه مرتبة الفعلية المطلقة ، وصيرورته مصداقا للبعث الحقيقي العقلائي بوصوله إلى المكلف إما بالعلم أو بالعلمي ، فالفعلية المطلقة يساوق التنجز.

فان كان مراده (قدّس سره) من الفعلية المنفكة عن مرتبة التنجز هذا المعنى من الفعلية ، فقد عرفت وستعرف برهانا أنهما متلازمان لا تنفك إحداهما عن الأخرى ؛ لأن ما به الفعلية وهو الوصول ما به التنجز.

وإن كان مراده (قدّس سره) من الفعلية ما هو الفعلي من قبل المولى ، فهو لا ينفك عن مرتبة الانشاء ؛ لأن الانشاء الذي هو من مراتب الحكم ويقع في صراط الفعلية ليس هو الانشاء المحض ؛ لأنه محال بنفسه ، ولا الانشاء بغير داعي جعل الداعي ، فانه يستحيل أن يصير مصداقا لجعل الداعي.

فاما أن يتحد الانشاء والفعلية ، أو يتحد الفعلية والتنجز ، فتدبر.

وأما أنّ الانشاء بداعي جعل الداعي لا يكون مصداقا لجعل الداعي حقيقة وفردا للبعث الجدي ، فلوجهين :

أحدهما : أن موطن الدعوة أفق النفس ، فلا تعقل دعوة الانشاء المزبور

٢٣٥

إلا بوجوده العلمي الواقع في موطن الدعوة ، لا بوجوده الواقعي الخارج عن أفق النفس.

ومجرد الالتفات اليه من دون وصوله الحقيقي بالعلم التصديقي ـ لا يحقق دعوته على أي تقدير ، لما مرّ (١) سابقا ان صورة الأمر الحاضرة في النفس لها الدعوة بالذات ، ومطابقها الخارجي له الدعوة بالعرض ، كالمعلوم بالذات والمعلوم بالعرض ، والمراد بالذات والمراد بالعرض.

فاذا أريد دعوة الانشاء الخارجي بالعرض على أي تقدير ، فلا بد من حضوره العلمي دون الاحتمالي فان الأمر الخارجي حينئذ لا يكون داعيا بالعرض ، إلا على تقدير المطابقة ، والمفروض جعل الانشاء داعيا ، لا جعل الانشاء الاحتمالي ، بل يستحيل جعل الانشاء المحتمل داعيا لزوميا ؛ إذ مع وصوله فبوصوله يتنجز ، وإلاّ فبمجرد احتماله لا يتنجز ، فيلغو الانشاء بهذا الداعي.

ولا يقاس بباب الاحتياط ، فان وصول الأمر الاحتياطي ينجز الأمر الواقعي المحتمل فما هو الواصل غير ما هو المحتمل.

ثانيهما : أن الانشاء بداعي جعل الداعي لا يدعو في نفوس العامة إلا باعتبار ما يترتب على مخالفته من العقوبة ، فما لم يصل بنحو يستحق على مخالفته العقاب لا يمكن أن يكون داعيا ، فلا بد من وصوله تحقيقا لدعوته.

ومنها : أن العلم الاجمالي المصطلح عليه في هذا الفن لا يفارق العلم التفصيلي في حد العلمية ، وليسا سنخين من العلم ، نظرا إلى تعلق الاجمالي بالمردد ، لما مر (٢) مرارا ان المردد بما هو مردد لا ثبوت له ذاتا ووجودا ، ماهية ، وهوية ، فلا

__________________

(١) التعليقة : ٥٥.

(٢) منها ما تقدم في مبحث القطع نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٤١ ومنها ما تقدم في مباحث الألفاظ نهاية الدراية : ٢ ، التعليقة : ٣٤. ومنها ما تقدم في رد الاخباريين حيث قالوا بلزوم الاحتياط بحكم

٢٣٦

يعقل تقوّم العلم الاجمالي به.

مع بداهة أن العلم المطلق لا يوجد كما أن وجوده في أفق النفس وتعلقه بالخارج عن أفق النفس غير معقول ، بل المقوم لهذه الصفة الجزئية لا بد من أن يكون في أفقها ، فهو المعلوم بالذات ، وما في الخارج معلوم بالعرض.

وعليه فمتعلق العلم حاضر بنفس هذا الحضور في النفس ، غاية الأمر أن طرف متعلقه مجهول أي غير معلوم بخصوصيته ، فلم يلزم تعلق صفة حقيقية بالمردد حتى يكون أصلا يبتنى عليه إمكان تعلق سائر الصفات الحقيقية ، وجملة الصفات الاعتبارية بالمردد.

وحيث عرفت أن تعلق الاجمالي بالمردد غير معقول ، وبالواقع بخصوصه غير معقول ؛ إذ لا معنى لتعلقه به إلا كونه معلوما به ، وهو خلف ، فلا محالة ليس المعلوم إلا الجامع بين الخاصين المحتملين ، فهو مركب من علم واحتمالين ، بل من علم تفصيلي بالوجوب ومن علم آخر ، بأن طرفه ما لا يخرج عن الطرفين.

فالوجوب الواقعي ، وان كان في الواقع متعينا بتعلقه بالظهر مثلا ، إلا أنه بما هو معلوم متعين علما بما لا يخرج عن الظهر والجمعة ، وإلا فلا يعقل تعلق العلم أيضا بأن طرف الوجوب أحد الأمرين ، لرجوعه إلى العلم بطرفية أحد الأمرين ، وهو من تعلق العلم بالمردد.

وقد نبهنا (١) على هذا المطلب مشروحا عند التكلم في الدليل العقلي للاخباريين.

ومنها : قد مرّ في مبحث (٢) التجري أن ملاك استحقاق العقاب ليست

__________________

العقل نهاية الدراية ٤ : التعليقة ٣٧.

ومنها ما تقدم في مبحث الانسداد. نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ١٣٢.

(١) في التعليقة : ٣٧ كما اشرنا اليه.

(٢) نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ١٠.

٢٣٧

مخالفة التكليف بما هو ، ولا ارتكاب المبغوض بما هو ، ولا تفويت الغرض ونقضه بما هو ، لوجود الكل في صورة الجهل ، وليس من زي الرقية ورسم العبودية عدم مخالفة التكليف واقعا ، أو عدم ارتكاب مبغوض المولى ونقض غرضه واقعا.

بل ما قامت عليه الحجة ، فانه هتك لحرمته وظلم عليه ، فيكون حينئذ مذموما عليه عقلا ومعاقبا عليه شرعا.

ومنها : أن الأفعال بحسب اتصافها بالحسن والقبح بمعنى استحقاق المدح والذم على ثلاثة أقسام :

أحدها : أنها في حد ذاتها ـ لو خليت ونفسها ـ لا تكون محكومة بالحسن والقبح ، كجملة من الأفعال كالمشي والأكل والشرب الغير الضروريين ، فانها ليست كالعدل والظلم حتى تكون بعنوانها محكومة بالحسن والقبح ، ولا كالصدق والكذب حتى تكون لو خليت ونفسها مندرجة تحت عنوان محكوم بذاته بالحسن أو القبح ، بل اندراجها تحت عنوان حسن أو قبيح دائما بواسطة عروض عارض.

ثانيها : أنها وان لم تكن بعنوانها محكومة بالحسن أو القبح ، لكنها لو خليت ونفسها تندرج تحت أحد عنوانين محكومين بذاتهما بأحد الوصفين كالصدق والكذب. فانهما لو خليا ونفسهما لاندرج الأول تحت عنوان العدل في القول والثاني تحت عنوان الجور في القول لكنه اذا عرض الأول عنوان إهلاك المؤمن اندرج تحت عنوان الظلم واذا عرض الثاني عنوان إنجاء المؤمن اندرج تحت عنوان العدل والاحسان.

ثالثها : أنّها تكون بعنوانها ـ من دون اندراجها تحت عنوان آخر ـ محكومة بأحد الوصفين ، كالعدل والاحسان والظلم والعدوان ، فانه مع حفظ عنوان العدل لا يكون إلا محكوما بالحسن ، ومع حفظ عنوان الظلم لا يكون إلا محكوما بالقبح ، دون الصدق فانه ـ مع حفظ عنوانه ـ يعرضه عنوان قبيح. والكذب ـ مع حفظ عنوانه ـ يعرضه عنوان حسن.

٢٣٨

وقد عرفت آنفا : أن مخالفة التكليف ما لم تقم عليه الحجة ليست خروجا عن زي الرقية ، لتكون ظلما حتى تكون قبيحة مذموما عليها.

ومنه تعرف أن مخالفة التكليف بما هي ليست بحيث لو خليت ونفسها لاندرجت تحت عنوان الظلم كالكذب ، بل اندراجها تحته منوط بعروض عارض ، وهو قيام الحجة على التكليف.

فمخالفة التكليف الواصل ظلم قبيح بذاته وبعنوانه ، وتخلف الحكم عن موضوعه التام خلف محال ، ومخالفة التكليف بما هي ليست بذاتها مندرجة تحت عنوان الظلم.

فوصول التكليف الذي لا فرق في حد ذاته بين التفصيلي والاجمالي موجب لاندراج المخالفة تحت عنوان يستحيل تخلف القبح عنه.

فالحكم باستحقاق الذم والعقاب على مخالفة التكليف المعلوم بالاجمال تنجيزي لا تعليقي.

لا يقال : لم لا تكون المخالفة مقتضية لاستحقاق الذم والعقاب ، ووصول التكليف شرطا.

لانا نقول : الاقتضاء هنا ليس بمعنى السببية حتى يكون قابلا للاشتراط الذي معناه دخل شيء في فعلية تأثيره.

لما عرفت من أن نسبة المدح والذم إلى هذه العناوين نسبة الحكم إلى موضوعه ، وليس الموضوع سببا فاعليا لحكمه ، بل اقتضاؤه له ـ كما هو المعروف في الألسنة ـ بنحو اقتضاء الغاية لذيها ، لا السبب لمسببه.

وقد عرفت أن الاقتضاء ـ بمعنى كونه لو خلي ونفسه ممدوحا عليه ومذموما عليه ـ غير متحقق في موافقة التكليف واقعا ومخالفته واقعا.

ومنه علم أنه ما لم يصل التكليف لا اقتضاء للذم على مخالفته بالمعنيين ومع وصوله يستحيل تخلف القبح عنها ، كما علم أن التعبير هنا بالعلية والاقتضاء

٢٣٩

للتنجيز فيه مسامحة واضحة.

فان قلت : مقتضى عدم تعلق العلم الاجمالي بالواقع على ما هو عليه ، وعدم تعلقه بأحدهما المصداقي المردد ، بل تعلقه بما لا يخرج عن الطرفين هو تنجيز العلم الاجمالي من حيث حرمة المخالفة القطعية فقط ، دون وجوب الموافقة القطعية أيضا ؛ لأن المخالفة الواقعية للتكليف الواقعي ليست ظلما حتى يكون احتمالها احتمال الظلم القبيح.

والمخالفة الاحتمالية بما هي مخالفة احتمالية للتكليف الواقعي ليست بظلم أيضا ، والمخالفة الاحتمالية للتكليف الواصل بنفسه أيضا ليست ظلما ، وإلا لاستحق ذمين وعقابين في صورة المخالفة القطعية ، لتحقق مخالفتين محتملتين.

كما أن المخالفة الواقعية للتكليف الواصل ليست ظلما واقعا حتى يكون احتمالها احتمال الظلم المذموم عليه ، بداهة [ أنه ] لو صدر بعد العلم بالتكليف فعل اختياري مخالف واقعا للتكليف الواصل لما كان ظلما ؛ إذ ليس من زي الرقية ورسم العبودية أن لا يخالف مولاه واقعا ، لا لأمره الواقعي ولا لأمره الواصل ، فلا يكون احتماله احتمال الظلم ، كما أنه ليس بنفسه ظلما.

فالمخالفة التي هي مصداق الظلم هي المخالفة في وجدان العقل للتكليف الواصل ، فينحصر مصداق الظلم في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم.

والموافقة الاحتمالية أو القطعية وإن كانت حسنة ، لكنه ليس ترك كل حسن قطعا ، إلا إذا اندرج تحت عنوان قبيح.

وقد عرفت عدم اندراجها بجميع الوجوه تحت عنوان الظلم القبيح ، لا قطعا ولا احتمالا.

وأما حرمة المخالفة القطعية ، فتحقيق الحال فيها : أن طبع المخالفة للتكليف المعلوم على طبع التكليف المعلوم ، فان التكليف إذا كان معلوما بالتفصيل ، فمخالفة المعلوم بالتفصيل تفصيلية ، يتصف بها فعل معين في وجدان

٢٤٠