نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-40-X
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٦٤

[ الاستدلال بروايات التوقف على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية ]

٣٣ ـ قوله (قدّس سره) : فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة (١) ... الخ.

توضيح الاستدلال بهذه الطائفة : أن الأمر بالتوقف إما نفسي أو طريقي أو إرشادي : لا مجال للنفسية ، وإلاّ لترتب العقاب على مخالفته من حيث هو زيادة على العقاب على مخالفة التكليف الواقعي المفروض ثبوته ، من حيث ظهور الهلكة في العقوبة ، فيلزم أن يكون ارتكاب الشبهة أسوأ من ارتكاب الحرام المعلوم.

مع أن التوقف والاحتياط عنوانهما التحرز عن مخالفة التكليف الواقعي ، والتحفظ على موافقته ، من دون نفسية للتوقف والاحتياط.

فيدور الأمر بين كون الأمر بالتوقف طريقيا لتنجيز الواقع المشتبه ، أو إرشاديا بداعي إظهار ما في الاقتحام في الشبهة من الهلكة الأخروية.

فان كان قوله عليه السلام : ( فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة ) (٢) تفريعا على الأمر بالتوقف كشف عن كون الأمر طريقيا بداعي تنجيز الواقع ، بتفريع لازمه ، وهو ثبوت العقاب على الواقع المنجز بهذا الأمر.

وحينئذ لا يمكن أن يكون الهلكة بمعنى مفسدة الواقع ، إذ المفسدة

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٥.

(٢) تهذيب الاحكام ٧ / ٤٧٤.

١٠١

الواقعية ليست من لوازم مخالفة الأمر حتى يفرع على الأمر بالتوقف ، فنفس التفريع شاهد على إرادة العقوبة من الهلكة.

وحيث إن الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي منجزة بغير هذا الأمر فلا معنى لارادة مثلها من الشبهة هنا.

فيعلم أن المراد هي الشبهة البدوية التي تتنجز بهذا الأمر ، لفرض تفريع تنجزها على الأمر بالتوقف عندها.

وأما إن كان قوله عليه السلام : ( فان الوقوف ... الخ ) ، تعليلا للأمر بالتوقف ، فيكون الأمر منبعثا عنه.

فيستحيل أن يكون هذا الأمر طريقيا ، بل إرشادي لا محالة ؛ لأن المفروض انبعاث الأمر عن كون الاقدام في المشتبه اقتحاما في الهلكة.

فالهلكة مفروضة بغير هذا الأمر ، فكيف يكون الأمر طريقيا مصححا للمؤاخذة والعقوبة؟

وإذا كان الأمر متمحّضا في الارشاديّة ، فلا بد من إحراز كون الشبهة ذات عقوبة من طريق آخر.

فلا يجدي الأمر الارشادي بالتوقف عن الشبهة التي فيها العقوبة لاثبات أن الشبهة البدويّة فيها العقوبة على تقدير مصادفة الحرام الواقعي ، ويستحيل تنجز الحرام الواقعي بلا منجز عقلي أو شرعي.

نعم يمكن اصلاح الاستدلال بهذه الطائفة بناء على كون الفقرة المزبورة تعليلا باثبات أمرين :

أحدهما : كون الشبهة مطلقة شاملة للشبهة البدوية ، لعدم تقيد الشبهة بما يأبى عن الشمول للبدوية.

ثانيهما : ظهور الهلكة في العقوبة ، لا فيما يعم المفسدة ، فيدل التعليل على أن الاقدام في كل شبهة اقتحام في العقوبة.

١٠٢

فصونا للكلام عن اللغوية يستكشف أمر طريقي بالاحتياط في الشبهة البدوية ، من باب استكشاف العلّة عن معلولها.

ولا يخفى عليك أن ايجاب الاحتياط الواقعي ، وإن كان غير قابل للمنجزية بل القابل هو الايجاب الواصل ، لكنه لا فرق في وصوله بين انحاء وصوله ، فوصوله بوصول معلوله ، كوصوله بنفسه.

نعم الأمر الارشادي بالتوقف المعلل بهذه العلة كما لا يمكن أن يكون بنفسه مصححا للعقوبة لفرض انبعاثه عن عقوبة مفروضة ، كذلك لا يعقل أن يكون وصوله وصول الأمر الطريقي المصحح للمؤاخذة ؛ لأن صحة المؤاخذة بنفس وصوله الموصل للأمر الطريقي ، فكيف ينبعث عن مؤاخذة مفروضة مستدعية لفرض الوصول بغير هذا الأمر المعلل؟

وعليه ينبغي حمل ما أفاده شيخنا العلامة (قدّس سره) في آخر العبارة.

فهذا الأمر المعلل لا بد من أن يكون كاشفا عن أمر طريقي واصل ، مع أنه لم يصل إلا هذا الأمر في الشبهة البدوية ، لأن الكلام في الاستدلال به لوجوب التوقف المنجز للواقع لا بغيره ، إلا بدعوى أن أمر المخاطب بالتوقف المعلل بهذه العلة كاشف عن وصول الأمر بالاحتياط إليه.

واحتماله في حق المخاطب بلا مانع ، وبضميمة قاعدة الاشتراك يكون واصلا إلينا ، لا بهذا الأمر الارشادي ليكون مستحيلا.

وحينئذ يكون الأمر بالتوقف ـ بضميمة قاعدة الاشتراك مع المخاطب ـ كاشفا عن إيجاب الاحتياط طريقيا في الشبهة البدوية.

فتلخص مما ذكرنا صحة الاستدلال على تنجز الواقع المشتبه ، بناء على التفريع والتعليل معا.

والجواب أنه بناء على التفريع ، وإن كان في نفسه شاهدا على طريقية الأمر بالتوقف ، وكونه منجزا لكل مشتبه ، إلا أنه لا معيّن للتفريع ، لاحتمال

١٠٣

التعليل ، بل لعله الظاهر ، ولذا لم يحتمله شيخنا (قدّس سره) ولا من قبله.

وأما على التعليل ، فيتوقف على إطلاق الشبهة وظهور الهلكة في العقوبة.

والأول وإن كان قابلا للمنع ، لكنه يكفي في المقام ما في ذيل مقبولة عمر ابن حنظلة حيث قال عليه السلام : ( فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات ) والجمع المحلّى يفيد العموم.

فالأولى المنع من ظهور الهلكة في خصوص العقوبة ؛ لأن هذا الكلام ذكر في موردين ، لا مانع من إرادة العقوبة في أحدهما ، ولا يمكن إرادتها في الآخر :

أما الأول ، ففي ذيل مقبولة عمر بن حنظلة بعد ذكر المرجحات وفرض التساوي من جميع الجهات ، حيث قال عليه السلام : ( إذا كان كذلك فارجه حتى تلقى إمامك ، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات (١).

فانه لا مانع من إرادة العقوبة ؛ لأن المورد من الشبهات التي يمكن إزالتها بملاقاة الامام عليه السلام.

مع أنه يمكن أن يقال : إن المراد هو التوقف من حيث الفتوى على طبق إحدى الروايتين في مقام فصل الخصومة ، كما هو مورد المقبولة ، ولذا لا تعارض الأخبار الدالة على التخيير بعد فرض المساواة ، فانه لا مجال للتخيير في مقام فصل الخصومة ، فان كلا من المتخاصمين يختار ما يوافق مدعاه ، فتبقى الخصومة على حالها.

وعليه ، فلزوم التوقف في الشبهة القابلة للازالة أو التوقف في الفتوى لا ربط له بما نحن فيه ، فكون الهلكة بمعنى العقوبة في مثلهما لخصوصية المورد.

وأما الثاني ، ففي موثقة مسعدة بن زياد عن الصادق عليه السلام عن أبيه عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلّى الله عليه وآله ، قال

__________________

(١) جامع الأحاديث : ١ / ٢٥٥ ، الكافي ( الأصول ) ١ : ٦٨.

١٠٤

( صلّى الله عليه وآله ) : ( لا تجامعوا في النكاح على الشبهة ، وقفوا عند الشبهة ) يقول : إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها ، أو أنّها لك محرّمة ، وما أشبه ذلك ، فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة (١).

فانه لا شبهة في أن الهلكة لا يراد منها العقوبة ، بل المفاسد الذاتية الواقعية ، كيف وقد نص في موثقة مسعدة بن صدقة بأن الاقدام حلال ممثّلا له بذلك وباشباهه؟!

وعليه ، فما في رواية أخرى أيضا لا ظهور للهلكة فيها في العقوبة ، بل في الجميع إرشاد إلى ما يعم العقوبة والمفسدة ، كل بحسب ما يقتضيه المورد من وجود المنجز وعدمه.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٧ / ٤٧٤ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٢٥٨ / ذيل الحديث ٢ ، جامع الأحاديث ١ / ٣٣٨.

١٠٥

[ في امكان الاستدلال على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية بالأخبار الظاهرة فيه وعدمه ]

٣٤ ـ قوله (قدّس سره) : وبما دل على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة (١) ... الخ.

توضيح الاستدلال بها أنّ هذه الطائفة ـ بملاحظة عدم فرض ثبوت العقوبة في موضوعها ـ تمتاز عن أخبار التوقف بامكان جعل الأمر فيها نفسيا أو طريقيا أو إرشاديا.

لكن الأمر بالاحتياط ليس نفسيا بحيث يستحق على مخالفته بما هي للعقوبة ، لأن الاحتياط بعنوانه ليس إلا لأجل التحفظ على الواقع وعلى الغرض المترقب منه ، فاحتمال النفسية بالمعنى المعروف بلا وجه.

كما أنه ليس الأمر به مقدميّا ، إذ ليس فعل محتمل الوجوب ولا ترك محتمل الحرمة مقدمة لوجود الواجب الواقعي أو ترك الحرام الواقعي ، بل عينه خارجا على تقدير المصادفة ، ولغو على تقدير عدمها ، فلا اثنينية على أي تقدير.

فيدور الأمر بين كونه طريقيا بداعي تنجيز الواقع ، أو إرشاديا بداعي إظهار رشد المكلف ، وخيره في الفعل أو الترك ، فلا يتنجز به الواقع المجهول ، بل لا بد في تنجيزه من التماس منجز آخر.

فينحصر تنجيز الواقع المجهول بالأمر بالاحتياط في جعله طريقيا

__________________

(١) كفاية الأصول : ٣٤٥.

١٠٦

بالمعنى المذكور. وبعد رفع اليد عن ظهور الأمر في البعث الحقيقي المنحصر في النفسي والمقدمي لا تعيّن للأمر بسائر الدواعي ، ولا شاهد يعيّن كونه طريقيا لو لم يكن فيما ورد في المقام شاهد على الارشادية.

وهذا البيان في منع إمكان الاستدلال أولى مما في المتن نقلا عن الشيخ الأعظم (قدّس سره) في رسالة البراءة من أن الأمر بالاحتياط ليس نفسيا ، إذ صريح الأخبار إرادة الهلكة المترتبة على الحرام الواقعي ، لا المترتبة على مخالفة الأمر بالاحتياط.

وليس مقدمة للتحرز عن العقاب على الواقع المجهول ، لأنه مستلزم لترتب العقاب على الواقع المجهول ، وهو قبيح.

وفيه : أن المانع المذكور عن النفسية إنما هو في أخبار التوقف دون أخبار الاحتياط ، بل المانع ما قدمناه.

وأما إيجاب الاحتياط مقدمة لا مقدميّا ، فهو إنما يقبح إذا لم يكن الأمر المزبور بداعي تنجيز الواقع ، فانه مستلزم لترتب العقاب على الواقع المنجز بهذا الأمر ، لا على الواقع المجهول بما هو مجهول.

مع أن جعل ايجاب الاحتياط مقدمة للتحرز عن عقاب الواقع المجهول لا بد من أن يكون بداع من الدواعي ، وإلا لكان محالا في نفسه.

فاذا لم يفرض كونه نفسيا ولا مقدميّا ولا إرشاديا فلا معنى لأصل ايجابه حتى يكون قبيحا لاستلزامه القبيح ، وهو العقاب على الواقع المجهول.

هذا ولكنك قد عرفت في حديث (١) الرفع وغيره (٢) أن الانشاء بداعي تنجيز الواقع المتكرر في كلام شيخنا العلامة الاستاذ (قدّس سره) أيضا لا يخلو

__________________

(١) التعليقة : ١٠.

(٢) نهاية الدراية : ٣ ، التعليقة : ٥٨.

١٠٧

عن محذور ؛ لأن ما يعقل أن يكون منجزا أو متنجزا غير قابل لتعلق الأمر به ، وما يقبل تعلق الأمر به غير قابل للمنجزية ولا للمتنجزية فراجع.

فلا مناص من جعل الأمر بالاحتياط هنا وجعل الأمر بتصديق العادل في الأخبار لمن يريد تنجيز الواقع بهما من جعلهما نفسيين ، لا بمعنى كون الاحتياط بما هو ، أو التصديق بما هو مطلوبا في حدّ ذاته ، بل بنحو المعرّفية للواجب الواقعي.

فالغرض المترقّب من فعل صلاة الجمعة يدعو إلى ايجاب صلاة الجمعة بعنوانها ، ومع عدم وصوله بعنوانها إلى المكلف يدعو ذلك الغرض إلى ايجابها بعنوان آخر ، كعنوان تصديق العادل ، أو عنوان الاحتياط.

فلا إيجاب حقيقي الا الايجاب بالعنوان الواصل بلسان أنه الواقع ، فوصوله حقيقة وصول الواقع عرضا ، وتنجزه حقيقة تنجزا لواقع عرضا ، وهو إنشاء بداعي جعل الداعي منبعثا عن ذلك الغرض الواقعي الباعث على الايجاب الواقعي ، ولذا يكون مقصورا على صورة موافقة الخبر ومصادفة الاحتمال.

وعليه ، فظهور الأمر بالاحتياط في معناه الحقيقي ـ وهو الانشاء بداعي جعل الداعي ـ محفوظ ، ولا تصل النوبة إلى الارشاد إلا مع القرينة ، ولا قرينة عليه في خصوص أخبار الاحتياط.

بل في أخبار التوقف ، لاستحالة حملها على النفسية والطريقية ؛ لفرض ثبوت العقوبة فيها مع قطع النظر عن الأمر بالتوقف ، فنفسيتها يستلزم تعدد العقاب ، وطريقيتها يستلزم الخلف كما مر مفصلا (١).

__________________

(١) في التعليقة المتقدمة حيث اختار فيها كون الفاء في قوله فان الوقوف للتعليل لأنه الظاهر من مثله وحينئذ فيلزم الخلف من القول بان مفاد الأمر بالتوقف هو الايجاب الطريقي لأن قوام

١٠٨

هذه غاية تقريب دلالة ادلة الاحتياط على تنجز الواقع المجهول.

والجواب عنها يظهر بملاحظة نسبتها مع أدلة البراءة ؛ فنقول : أما بالنسبة إلى حديث الرفع ، فمجمل القول فيها أن المراد من الرفع : إن كان عدم فعلية التكليف فقط فأدلة الاحتياط المثبتة لفعلية التكليف الواقعي حقيقة ، أو عرضا على الوجهين المتقدمين معارضة للدليل النافي لفعليته.

وإن كان المراد جعل عدم التكليف الواقعي فعليا ظاهرا ، كما اخترناه وحققناه ، نظرا إلى أن عدم فعلية التكليف بعدم المقتضي أو لوجود المانع غير مجعول ، بل المجعول الذي له رفع ووضع شرعا هو الايجاب إنشاء ، وعدمه إنشاء ، فقوله (عليه السلام) : ( رفع ما لا يعلمون ) بمنزلة لا يجب ما لا يعلم وجوبه ، ولا يحرم ما لا يعلم حرمته بنحو الجعل والانشاء ، فهو وارد على أخبار الاحتياط ؛ لأن موضوع أخبار الاحتياط هو التكليف المجهول ، ودليل الرفع دليل على عدمه الواقعي فعلا ، فلا موضوع كي يصير فعليا بالذات أو بالعرض.

فلا يبقى مجال لملاحظة النسبة بين الدليلين من حيث العموم والخصوص.

فان قلت : إن أدلة الاحتياط لها الورود على حديث الرفع من وجه آخر ، لا يبقى (١) مجال لجعل عدم التكليف فعليا.

لأن ايجاب الاحتياط :

إن كان نفسيا على الوجه المختار ، فالواقع مما علم وجوبه بعنوان آخر ، والظاهر من ( ما لا يعلمون ) ما لا يعلم وجوبه من جميع الوجوه ، وإلاّ كان معلوم

__________________

الطريقية بكونه لتنجيز الواقع ، مع أن التعليل لا يصح إلاّ إذا كان بغيره حتى يكون الأمر أو النهي في الرتبة السابقة علة لوجوب الاطاعة عقلا واستحقاق العقوبة على المخالفة ليصح التعليل بعد الأمر بالتوقف بقوله فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.

(١) في الأصل لا يبقى كما ترى في المتن فانه مطابق للاصل لكن الصحيح فلا يبقى.

١٠٩

الوجوب حقيقة ، ولا يشترط كون الشيء معلوم الوجوب بجميع عناوينه في ( عدم ) (١) جريان البراءة عنه جزما.

وإن كان طريقيا ، فهو وإن كان غير معلوم الوجوب حقيقة ؛ لان الانشاء ليس بداعي جعل الداعي ، بل بداعي تنجيز الواقع على تقدير ثبوته ، إلا أن المراد من العلم مطلق الحجة القاطعة للعذر.

فحديث الرفع يكون متكفلا لجعل عدم التكليف الذي لا منجز له فعلا.

والاحتمال بدليل الاحتياط منجز له شرعا ، فيكون رافعا لموضوع حديث الرفع.

قلت : الظاهر من ( ما لا يعلمون ) التكليف الذي لا يعلمونه ، فحديث الرفع كحديث الاحتياط يتضمن جعل الوظيفة لمن لا يعلم التكليف ، لا جعل الوظيفة لمن لا يعلم تكليفه ولمن لا يعلم (٢) وظيفة عدم العلم بتكليفه.

وقد مر الكلام (٣) فيه في حديث الرفع مفصلا فراجع.

وأما عموم العلم لكل منجز ، ففيه : أن العلم يمكن أن يجعل ـ بنفسه أو بدليل التنزيل ـ أعم من كل طريق ينجز الواقع بجهة جامعة ، وهو الوصول المؤثر ، وأما توسعته إلى كل منجز فلا ، ألا ترى أن قوله (عليه السلام) : ( حتى يرد فيه نهي ) قابل للنهي الوارد بخبر معتبر ، فانه وارد شرعا حقيقة.

وأما مجرد تنجّز النهي الواقعي بالاحتمال فلا يصحح صدق الورود والوصول.

فكذا العلم ، فانه يقبل التوسعة من حيث الطريق التام والناقص الذي

__________________

(١) في الأصل في جريان البراءة لكن الصحيح في عدم جريان البراءة فلذا جعلناه بين المعقوفين.

(٢) في الأصل ولمن لا يعلم كما في المتن لكن الصحيح ولا يعلم وظيفة عدم العلم بتكليفه.

(٣) التعليقة : ٨.

١١٠

نزل منزلة التام شرعا ، ولا يقبل التوسعة للاحتمال المنجز شرعا هذا.

وأما بالنسبة إلى قوله ( كل شيء لك حلال ... ) الخبر ، فدليل الاحتياط وإن لم يكن واردا عليه بلحاظ كونه مغيّا بالعلم بالحرام ـ لما عرفت آنفا ـ (١) إلا أنه معارض له ، لكن خبر ( كل شيء لك حلال ) نص في الحلّية ، ودليل الاحتياط ظاهر في الوجوب ، فيقدم النص الذي لا يقبل التصرف فيه على الظاهر القابل للتصرف بحمله على رجحان الاحتياط ، أو الأمر الارشادي.

إلا أنك قد عرفت سابقا (٢) اختصاص هذه الكلية بالشبهة الموضوعية ؛ لتطبيقها من الامام (عليه السلام) على مواردها وتعقيبها بما يختص بها فراجع.

وأما بالنسبة إلى قوله (عليه السلام) : ( الناس في سعة ما لم يعلموا ) ، فالكلام فيه كما في سابقه من كونه نصا في التوسعة ، ودليل الاحتياط ظاهر في التضييق ، ولا ورود لدليل الاحتياط عليه لما مر (٣) خصوصا بناء على كون كلمة ( ما ) زمانية ، أي في سعة ما دام لم يعلموا ، فان ظاهره حينئذ البراءة إلى أن يتحقق العلم بالتكليف.

وليس ما يتبدل جهله بالعلم إلا التكليف الواقعي ، وإلاّ فالاحتياط والبراءة متساوية الاقدام بالاضافة إلى الشبهة ، فالوظيفة فيها من أول الأمر ،

__________________

(١) من أن العلم لا يقبل التوسعة للاحتمال المنجز شرعا.

(٢) أي قوله عليه السلام كل شيء لك حلال بناء على انه صدر رواية مسعدة بن صدقة كما هو مختاره قده قال قده هناك وظهورها صدرا وذيلا في الشبهة الموضوعية في غاية الوضوح وليس من باب تخصيص الكلية بالمورد بل الامام عليه السلام طبقها على الشبهة الموضوعية بقوله عليه السلام وذلك مثل ... التعليقة : ١٨.

(٣) من عدم شمول العلم للاحتمال المنجز فلا يتبدل الجهل بالعلم بسبب الاحتمال المزبور عند الالتفات اليه.

١١١

إمّا البراءة وإمّا الاحتياط. فلا معنى لجعل البراءة واستمرارها إلى أن يعلم بوجوب الاحتياط ، أو يتنجز الواقع بالأمر به.

وليس في أخبار الاحتياط بعنوانه ما يكون أخص منه ليكون من هذه الجهة أظهر.

نعم بعض أدلة التوقف كقوله (عليه السلام) ( قف عند الشبهة ، فان الوقوف ... ) الخبر أضيق دائرة منه ، لاختصاصه بالشبهة التحريمية ، وخبر التوسعة أعم.

إلا أن أخبار التوقف ـ كما عرفت ـ بنفسها قاصرة الدلالة عن تنجيز الواقع ، مع أنها أعم من وجه ، لشمولها للشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي دون خبر التوسعة ، فتدبر.

وأما بالنسبة إلى قوله ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ) فهما وإن كانا متعارضين ، إلا أن خبر ( كل شيء ) نص من حيث الاطلاق ، وعدم التقيد بطرف الفعل كما في الواجب ، وبطرف الترك كما في الحرام ، ومن حيث المورد لاختصاصه بالشبهة التحريمية الحكمية ، دون أخبار الاحتياط بل أخبار التوقف.

ولا ورود لدليل الاحتياط بتوهم النهي عن الفعل بلسان ايجاب التوقف ، لما مرّ خصوصا بلحاظ كون الاطلاق مستمرا إلى أن يرد فيه نهي.

لا يقال : بناء على رواية الشيخ ( رضي الله عنه ) على ما حكي الخبر هكذا : ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي أو أمر ) (١) فتكون النسبة بينه وبين

__________________

(١) أمالي الطوسي ٢ / ٢٨١ لكن الرواية فيه هكذا عن ابي عبد الله عليه السلام قال الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر ونهي. ونقل بعض المحققين من مشايخنا دام بقائه أن النسخ المخطوطة مختلفة ففي بعضها بدل الواو كلمة أو وفي بعضها كما في النسخة المطبوعة وغير خفي أن المناسب للاعتبار هى أو.

١١٢

أخبار التوقف بالعموم من وجه ، لشمول الخبر للشبهة الحكمية التحريمية والوجوبية ، وشمول دليل التوقف للشبهة التحريمية الحكمية والموضوعية والمقرونة بالعلم الاجمالي ، ومورد الاجتماع هي التحريمية الحكمية.

لأنا نقول : لا يعامل مع مثله معاملة العامّين من وجه ، لأن شمول كل شيء له ليس بالعموم حتى يخصص بالوجوبية ويخرج التحريمية من تحته ، للتصريح بالغاية في كل من التحريمية والوجوبية.

فلا يمكن حمل الكلية على خصوص الشبهة الوجوبية ، فيكون كما إذا قيل : ( أكرم زيدا العالم وعمرا العالم ) وورد ( لا تكرم الفساق ) وكان عمرو العالم فاسقا ، فان شموله لعمرو حيث إنه بالخصوص ، فلا يعامل معهما معاملة العامين من وجه.

فكذا فيما نحن فيه ، فان التصريح بالغاية في كل منهما كالتصريح بهما. فتدبر جيّدا.

* * *

١١٣

[ في انحلال العلم الإجمالي بالأحكام بالأمارات والأصول المثبتة قبل المراجعة اليها وعدمه ]

٣٥ ـ قوله (قدّس سره) : إلا (١) إذا لم ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي (٢) ... الخ.

ملاك هذا الجواب ليس دعوى انحصار المعلوم بالاجمال في موارد الامارات المعتبرة والأصول المثبتة ، كما هو مفاد الجواب الآتي في آخر البحث.

وكذا ليس الملاك دعوى صيرورة المجمل مفصلا حقيقة ؛ إذ ليس مفاد الامارات القطع بالأحكام الواقعية ضرورة ، ولا صيرورة المجمل مفصلا حكما ؛ إذ ليس مقتضى أدلة الامارات تعيين الواقعيات المعلومة بها.

بل غايتها جعل الحكم المماثل على طبق مؤدّياتها ، لا أنه لا واقع في غيرها.

بل ملاك الجواب كما يظهر من كلامه (قدّس سره) احتمال انطباق المعلوم بالاجمال من الأول على الأحكام الثابتة بالأمارات والأصول المثبتة ، حيث لا تعين للواقعيات المعلومة بنحو لا يفي بها الطّرق.

ومع احتمال الانطباق من الأول لا علم بتكاليف فعلية أخرى في موارد الامارات والاصول وغيرها ، بل مجرد الاحتمال في غيرها ، فيندفع بالأصل السليم عن المعارض.

بل ربما يدّعى انطباق المعلوم بالاجمال على المعلوم بالتفصيل قهرا ، إذ لم

__________________

(١) هكذا في الأصل ، لكن في الكفاية : إلاّ أنه إذا.

(٢) كفاية الأصول / ٣٤٦.

١١٤

يتنجز بالعلم الاجمالي إلا عدد خاص مثلا بلا عنوان ، والمفروض تنجز واقعيات قامت عليها الأمارات بذلك المقدار.

فلو لم ينطبق عليها الواقعيات المعلومة بالاجمال قهرا لكان إما من جهة زيادة الواقعيات المعلومة بالاجمال على الواقعيات المنجزة بالأمارات ، أو من جهة تعيّن الواقعيات المعلومة بالاجمال بنحو تأبى عن الانطباق على الواقعيات المنجزة بالامارات ، أو تنجز غير الواقعيات بالامارات ، والكل خلف وخلاف الواقع.

والتحقيق : أن الانطباق المدّعى إما احتمالا ، أو قهرا ، إما انطباق المعلوم بالاجمال على نفس مؤديات الامارات ، وإما انطباقه عليها بلحاظ حكمها.

أما الأول ، فحيث إن الامارة طريق إلى الواقع وكاشف عنه ظنا ، فلا محالة يورث الظن بمطابقة المعلوم بالاجمال على ما أدّت إليه الامارة ؛ إذ لا تعدد في الواقع في كل موضوع.

إلا أن هذا الاحتمال لازم طريقية الامارة في نفسها ، سواء كانت حجة شرعا أم لا ، ومآله حقيقة إلى أن وجوب الظهر محتمل لوجهين : من حيث كونه أحد طرفي العلم ، ومن حيث كونه مؤدى الامارة ، دون الجمعة ، فانه محتمل من وجه واحد ، وهو كونه طرف العلم الاجمالي.

ومجرد هذا الاحتمال لا يزيل أثر العلم الاجمالي جزما.

ومنه علم أن انطباق المعلوم بالاجمال على مورد الامارة بنفسه قهرا مع كون الامارة ظنية يمكن خطؤها عن الواقع غير معقول.

بل المعلوم بالاجمال لعدم تعيّنه في مرتبة العلم قابل للانطباق على كل واحد من مورد الامارة وغيرها.

وأما الثاني : ـ وهو انطباقه عليها بلحاظ حكمها المستفاد من أدلة اعتبارها ـ فنقول : إن حجية الامارة سواء كانت بمعنى الوساطة في إثبات الواقع عنوانا

١١٥

بجعل الحكم المماثل للواقع ، أو بمعنى الوساطة في إثبات الواقع اعتبارا ، ومرجعه إلى اعتبار كون المؤدى واقعا. أو بمعنى الوساطة في إثبات الواقع أثرا ، ومرجعه إلى جعل منجزية الواقع بالامارة ، أو بمعنى الوساطة في إثبات الواقع علما ، أي اعتبار الامارة علما ، ووصولا للواقع.

فعلى أيّ تقدير يكون الثابت بدليل اعتبار الامارة غير الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال قطعا ، فلا يحتمل انطباقه عليه جزما.

أمّا الحكم الحقيقي المماثل فهو حكم إنشائي مجعول كنفس الحكم الواقعي ، وإن كان بلسان أنه هو ، فهو الواقع عنوانا لا حقيقة.

وأمّا اعتبار واقعية المؤدى ، فالمغايرة بينه وبين الواقع هي المغايرة بين الشيء بوجوده الحقيقي والشيء بوجوده الاعتباري.

وأما اعتبار المنجزية ، واعتبار الوصول والعلمية ، فمغايرتهما مع حقيقة الحكم أوضح من أن يخفى.

فالتحقيق في الجواب ، بناء على إرادة جعل الحكم المماثل على طبق مؤدّى الامارة في مقام انحلال العلم الاجمالي ، أن العلم الاجمالي لا يؤثر إلاّ إذا تعلق بحكم فعلي على أيّ تقدير ، ومع الحكم المماثل الفعلي في مورد الامارة من أول الأمر يستحيل حكم فعلي آخر واقعا على أي تقدير لاستحالة اجتماع الحكمين الفعليين ، فلا يبقى إلا احتمال الحكم في غير مورد الامارة ، والأصل فيه سليم عن المعارض.

وهذا الجواب يتوقف على أمرين :

أحدهما : كاشفية الامارة عن ثبوت التكليف الفعلي من أوّل الأمر.

ثانيهما : جعل الحكم المماثل الفعلي على طبقه من أول الأمر ، حتى يكون وجود الحكم الفعلي من الأول مانعا عن تحقق العلم الاجمالي بتكليف فعلي على أي تقدير ، لاستحالة اجتماع الفعليّين.

١١٦

والأمر الأول مما لا ريب فيه ، لأن الامارات الشرعية كاشفة عن أن الحكم في الشريعة هو ذلك من دون اختصاصه بحال قيام الامارة عند المكلف.

وأما الأمر الثاني ، فمبنى على أن الحجة بوجودها الواقعي ـ الذي هو في معرض الوصول بحيث إذا تفحص عنه ظفر به ـ كافية في تمامية الحجة على التكليف المستتبعة لجعل حكم مماثل فعلي على طبق مؤداها واقعا.

فالظفر بالحجة متأخر عن العلم الاجمالي ، دون نفس الحجة الحقيقية.

وبناءهم على عدم جريان قبح العقاب بلا بيان قبل الفحص كاشف عن أن وجوده (١) الواقعي صالح للبيانية عقلا ، وإلا لكان عدم البيان قبل وصوله مقطوعا به ، وسيأتي تحقيق الحال فيه في محله (٢).

هذا كله بناء على جعل الحكم المماثل ، وكذا بناء على اعتبار المؤدى واقعا فقط من دون جعل الحكم ، فان القائل به يرى هذا الواقع المعتبر شرعا باعثا فعليا من قبله ، وامتناع بعثين فعليين لا ينحصر فيما كان البعث بالانشاء بداعي البعث.

وأما جعل نفس اعتبار الواقع موجبا للانحلال نظرا الى صيرورة المجمل مفصلا شرعا.

فغير تامّ ، لأن جعل الحكم المماثل أو اعتبار واقعيّة المؤدى تابع لمقدار دلالة الامارة ، وليس مدلولها إلا وجوب الظهر واقعا ، لا وجوب ما علم وجوبه ، أو اعتبار وجوب ما علم وجوبه إجمالا.

كما أنها لا تدل بالمطابقة ولا بالالتزام على نفي وجوب غيرها حتى يكون دليل اعتبار الامارة حجة على نفي الواقع في الطرف الآخر.

__________________

(١) هكذا في الأصل لكن الصحيح : وجودها ، لأن مرجع الضمير هو : الحجة.

(٢) في التعليقة : ١٢٨.

١١٧

مع أنه لو كان الانحلال لهذه الجهة فلا محالة ينحصر الانحلال في قيام الامارة وما يشبهها من الوصول لا مطلقا.

مع أن الامارة إذا كانت حجة على نفي الواقع في غيرها فلا حاجة إلى إجراء الأصل في الطرف الآخر لنفي الواقع ، لكفاية الامارة في الاثبات والنفي معا.

٣٦ ـ قوله (قدس سره) : وأما بناء على أن قضيّة حجيته واعتباره (١) ... الخ.

نظرا إلى أن مؤدى الطريق ليس على طبقه تكليف شرعي لينطبق عليه التكليف المعلوم بالاجمال.

لكنك قد عرفت أنه لا يحتمل الانطباق على الأول لتغاير الحكمين المزبورين وجودا ، دون الثاني لوحدة المنجز بالامارة والمعلوم بالاجمال ، فلا مجال لدعوى الانطباق الحقيقي إلا على هذا الوجه ، لا أنه مناف له.

٣٧ ـ قوله (قدّس سره) : إلا أن نهوض الحجة على ما ينطبق عليه (٢) ... الخ.

يمكن أن يقال : إن ملاك الجواب ـ بناء على هذا الشق ـ هو أن المنجّز لا يتنجز ، ومع وجود الحجة المنجّزة شرعا ـ في طرف ـ لا أثر للعلم الاجمالي على أي تقدير ؛ إذ أحد التقديرين كون الواقع في ضمن المؤدى ، وهو متنجز بالحجة.

فلا يبقى إلا احتمال الحكم في الطرف الآخر ، وهو غير منجز للحكم عقلا.

وهذا أيضا مبني على صلاحية الحجة الواقعية القائمة على التكليف بوجودها الواقعي الذي هو في معرض الوصول لتنجيز التكليف عقلا كما مر (٣).

__________________

(١ و ٢) كفاية الأصول : ٣٤٧.

(٣) في التعليقة : ٣٥.

١١٨

فالعلم الاجمالي قد تعلق بما له تنجز واقعا فلا يؤثر في تنجيزه.

فالمتأخر عن العلم الاجمالي هو الظفر بالمنجّز لا نفس المنجّز.

بل لو فرض مقارنة الحجة ـ الصالحة لتنجيز التكليف ـ للعلم الاجمالي به ـ كما إذا كان هذا العلم الاجمالي أول زمان البلوغ ، فان الحجة لا يعقل أن تكون منجزة إلاّ فعلا ، فهما سببان صالحان للتنجيز فعلا من دون تقدّم وتأخر ـ لأمكن أن يجاب بأن الحجة الشرعية غير متقيدة بعدم كون موردها من أطراف العلم الاجمالي ، فتأثيرها شرعا غير مقيد بعدم العلم الاجمالي.

بخلاف العلم الاجمالي ، فإن تأثيره عقلا متقيد بعدم ما يصلح للتنجيز.

فيختص التأثير في التنجيز بالحجة الشرعية ، فالحجة الشرعية مانعة عن تأثير العلم الاجمالي مطلقا ، سواء تقدمت عليه أو تأخرت عنه أو قارنته ، فتدبر.

وأما ما في المتن من ابتناء الجواب على صرف تنجز الواقع إلى مورد الحجة ، لأن معنى الحجية تنجيز الواقع عند المصادفة للواقع ، والاعذار عنه عند عدمها :

فان كان مع الالتزام بكفاية الحجة الواقعية التي لو تفحص عنها لظفر بها في تنجيز الواقع ، فلا حاجة إلى دعوى الصرف ؛ إذ لا يعقل تأثير العلم الاجمالي حتى يحتاج إلى صرف تنجز الواقع إلى مورد الحجة.

وإن لم يكن مبنيا على الالتزام المزبور ، فلا وجه للصرف ؛ لأن الواقع : إن لم يكن له منجز كما إذا لم يكن علم إجمالي ، فلا معنى للصرف ، بل هو سالبة بانتفاء الموضوع.

وإن كان له منجز سابقا : فان كان الواقع في مورد الحجة ، فلا معنى لمنجزية الحجة عند وصولها ، لأن المنجز بالسبب السابق لا يتنجز ثانيا.

وإن لم يكن الواقع في موردها فهو منجز بالعلم الإجمالي الغير المزاحم بشيء في هذا الطرف ، ولا معنى للاعذار عن الواقع المنجز.

١١٩

نعم ما اخترنا من الوجه على هذا الشق مع ابتنائه على صلاحية الحجة الواقعية للتنجيز حتى يكون أسبق تأثيرا من العلم الاجمالي لا يجري في الامارات المتعلقة بالموضوعات ، فان البينة لا توجب التنجّز إلا عند قيامها ، وليست كالحجة على التكليف.

ولذا لا يجوز إجراء البراءة قبل الفحص في الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعية.

بل هكذا الأمر بناء على جعل الحكم المماثل الموجب لفعلية الواقع عرضا ، فانه لا تكليف فعلي على طبق حكم الموضوع الذي قامت عليه البينة إلا عند قيامها.

ويمكن الجواب بوجهين :

احدهما : أن الحجة مطلقا وإن لم تنجز الواقع بوجودها الواقعي الذي هو في معرض الوصول ، لكنه يوجب (١) تنجزه عند قيامها بترتيب الآثار السابقة فعلا

ولذا يحكم بنجاسة ملاقي ما قامت البينة على نجاسته ، مع فرض الملاقاة قبل قيام البينة ، فانه من حين قيامها يجب الحكم بنجاسته الملاقي من قبل.

وكذا إذا قامت الحجة على جزئية السورة للصلاة ، فانه وان لم تنجزها قبل قيامها ، لكن بعد قيامها يحكم ببطلان الصلوات السابقة الخالية عن السورة.

فالمنجز وإن كان متأخرا إلا أنه يقتضي ترتيب الآثار من قبل.

فالعلم الاجمالي وإن لم يكن له مزاحم في تنجيزه حال تحققه ، لكنه تعلق بما يقتضي الحجة المتأخرة ترتيب الآثار السابقة ، أو خلافها من قبل ، فلا تأثير له واقعا وإن كان بزعم العالم اجمالا انه ينجز الآثار.

ثانيهما : أن العلم الاجمالي يتعلق بوجوب ما لا يخرج عن الطرفين لا

__________________

(١) والصحيح : لكنها توجب.

١٢٠