نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-40-X
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٦٤

العنصر الربوبي فيه مما ينسب اليه تعالى : ( وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى )(١).

بل ربما يكون بلحاظ غلبة العنصر الربوبي على الجهة التي تلي الماهية لخلوصه ووقوعه قريبا ينسب اليه تعالى كما في قوله تعالى : ( وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ )(٢) وقوله تعالى : ( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ )(٣). كما انه اذا غلبت الجهة التي تلي الماهية ينسب الى الشخص كما في قوله تعالى : ( وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ )(٤).

مع انه بلحاظ الاطلاق والنظر الى طبيعة الوجود قال تعالى : ( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ )(٥).

فالمسببات الصادرة عن الاسباب الطبيعة بلحاظ الاطلاق ينسب إليه تعالى فهو المحيي ، والمميت ، والضار ، والنافع.

بخلاف ما اذا صدرت عن اشخاص غلبت الجهة التي تلي الماهية فيهم ، فإنها تنفي عنه تعالى بهذا النظر كما عرفت.

وما اختفى باخفاء الظالمين من هذا القبيل ، فلذا ورد في كلامه تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ ) الخ (٦) فنسب الكتمان اليهم لغلبة الجهة التي تلي الماهية.

__________________

(١) الأنفال : ١٧.

(٢) التوبة : ١٠٤.

(٣) النساء : ٧٩.

(٤) النساء : ٧٩.

(٥) النساء : ٧٨.

(٦) البقرة : ١٥٩.

٦١

فكذا فيما نحن فيه ، فان الحكم الذي أمر حججه عليهم السلام بتبليغه للعباد فقد عرفه لهم وإنما حجبه غيره.

والتحقيق : أن الأمر كذلك في عدم الاسناد إليه تعالى لتلك النكتة إذا كان الحجب بعد البيان باخفاء الظالمين.

ولا موجب لحصره فيه ، مع كون المبحوث عنه أعم مما فقد فيه النص وما أجمل فيه النص ، وما تعارض فيه النصان ، بل لا يكاد يشك في أن عدم بيان حكم شرب التتن وأمثاله لعدم الابتلاء به في أزمنة الحضور. فلم يكن موقع للسؤال ، والجواب.

إلا أن يراد من إخفاء الظالمين سد باب الامامة والولاية ، وإلا لوصل الينا جميع الأحكام.

فان قلت : ظهور الوضع المساوق للرفع في رفع ما كان ثابتا عليهم قرينة على أن المراد حجب ما أمر الحجة بتبليغه ، فانه الثابت عليهم ، فالثبوت في نفسه لا يناسب الرفع ، بل الثبوت عليهم ، ولا يكون ثابتا عليهم إلا بعد التبليغ والتعريف.

قلت : ليس الوضع بمعنى الرفع ، بل الوضع بمعنى الجعل والاثبات :

فان تعدى بحرف الاستعلاء كان المراد منه جعل شيء على شيء وإثباته عليه.

وإن تعدى بحرف المجاوزة كان المراد صرفه عنه إلى جانب.

فقد يكون ثابتا حقيقة ، فصرفه عنه يكون مساوقا للرفع.

وقد لا يكون ثابتا بل مقتضيه ثابت ، فيتمحض في الصرف والجعل عنه إلى جانب ، فاذا كان مقتضي جعل الحكم مقتضيا لاثباته على العباد ، ولكن مصلحة التسهيل أو مصلحة أخرى منعت من أمره بتبليغه وتعريفه ، فقد صرف عنهم ، وجعل عنهم الى جانب.

٦٢

فحينئذ لا معارض لظهور الحجب المستند اليه تعالى حتى يلتزم بالحجب بالمعنى الثاني فتدبر.

وعن شيخنا الحر العاملي (رحمه الله) في الوسائل (١) في الجواب عن هذه الرواية أنها مختصة بالشبهة الوجوبية مدعيا أن قوله عليه السلام : موضوع عنهم قرينة ظاهرة في إرادة الشك في وجوب فعل وجودي.

ولعل نظره (رحمه الله) إلى أن الواجب هو الفعل الثابت على المكلف فيناسب رفعه ، بخلاف الحرام ، فان المكلف مزجور عنه ، لا أنه ثابت عليه. وليس ترك الحرام واجبا شرعيا حتى يقال : بثبوته على المكلف ، بل ترك الحرام ترك ما يستحق العقوبة على فعله.

والجواب ـ ما مرّ (٢) منا سابقا ـ أن التكليف اللزومي ـ بملاحظة ثقله على المكلف بالجهات المتقدمة ـ يكون على المكلف.

ولذا كما يتعدى الوجوب بحرف الاستعلاء بالاضافة إلى المكلف ، فيقال : يجب عليه ، كذلك الحرمة تتعدى بحرف الاستعلاء ، فيقال : يحرم عليه ، كما تشهد له الاستعمالات القرآنية ، حتى في المحرمات التكوينية كما في قوله تعالى : ( وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ )(٣) وقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ )(٤) الى غير ذلك.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٧ : ١٦٣ / ٣٣. ٥ : ٦ / ٦.

(٢) في التعليقة ٧.

(٣) القصص : ١٢.

(٤) الاعراف : ٥٠.

٦٣

[ الاستدلال بحديث : « كل شيء لك حلال » على البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية ]

١٨ ـ قوله (قدّس سره) : ومنها قوله عليه السلام : كل شيء لك حلال حتى تعرف (١) ... الخ.

وما ورد بهذا المضمون روايات :

منها : ما رواه شيخ الطائفة عن عبد الله بن سنان قال : قال أبو عبد الله عليه السلام ( كل شيء يكون فيه حرام وحلال ، فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ) (٢).

ومنها : ما رواه في الكافي عن عبد الله بن سليمان عن أبي جعفر عليه السلام بعد السؤال عن الجبن ، فقال ( سأخبرك عن الجبن وغيره ، كل ما كان فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام بعينه فتدعه ) (٣).

ومنها : ما رواه البرقي بسنده عن معاوية بن عمار عن رجل من أصحابنا قال : كنت عند أبي جعفر فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر عليه السلام ( إنه لطعام يعجبني وسأخبرك عن الجبن وغيره ، كل شيء فيه الحلال والحرام ، فهو لك حلال حتى تعرف الحرام فتدعه بعينه ) (٤).

ومنها : ما رواه في الكافي بسنده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : سمعته عليه السلام ، يقول عليه السلام ( كل شيء هو لك

__________________

(١) كفاية الاصول / ٣٤١.

(٢) تهذيب الأحكام ٩ / ٧٩.

(٣) الكافي ٦ / ٣٣٩.

(٤) المحاسن ٢ / ٤٩٦ ـ ٤٩٧.

٦٤

حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعله حرّ قد باع نفسه أو خدع فبيع أو قهر أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك ، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البينة ) (١).

هذا جميع ما وقفنا عليه في جوامع الأخبار.

وما ورد في مورد الجبن ونحوه ، مع أنه كليّة في مورد الشبهة الموضوعية ، فيه التقييد بوجود الحلال والحرام فيه.

وفيه المحاذير المانعة عن الاستدلال ، فلا يجدي الخبر الأول المطلق أيضا.

وما ليس فيه هذا التقييد منحصر في خبر مسعدة بن صدقة ، وظهورها ـ صدرا وذيلا ـ في الشبهة الموضوعية في غاية الوضوح.

وليس من باب تخصيص الكليّة بالمورد ، بل الإمام عليه السلام طبّقها على الشبهة الموضوعية ، بقوله عليه السلام : وذلك مثل ... الخ.

ثم أكدها أخيرا بما يختص بالشبهة الموضوعية ، بقوله عليه السلام : أو تقوم به البينة.

وما يظهر (٢) من شيخنا الاستاذ (قدس سره) هنا تبعا

__________________

(١) الكافي ٥ / ٣١٣ ـ ٣١٤.

(٢) يعني في متن الكفاية حيث استدل على البراءة في الشبهة الحكمية بقوله عليه السلام كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه ومن المعلوم أن الاحتجاج بها انما يصح اذا كانت غير رواية مسعدة وإلاّ لم يكن وجه للاستدلال لاختصاصها بالشبهة الموضوعية كما هو صريح تطبيقه عليه السلام لها على الأمثلة.

وأما أن الأصل في الاستدلال بالرواية هو الشيخ فلأنه ( قده ) بعد ذكر الروايات التي استدل بها على البراءة في الشبهة الحكمية قال وقد يستدل على المطلب أخذا من الشهيد في الذكرى بقوله عليه السلام كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه ثم أخذ في البحث نقضا وابراما بالتفصيل ومن الواضح ايضا إن صحة الاستدلال

٦٥

للشيخ الأعظم (قدس سره) في الرسائل (١) من ورود خبر آخر بهذا المضمون من دون تطبيق على الشبهة الموضوعية ، كما في طي كلماته في المقام ، وفي صريح كلامه في أول (٢) الشبهة الموضوعية التحريمية لا أثر منه في جوامع الأخبار والآثار.

ويشهد لما ذكرنا أنه لو كان مثل هذه الكلية المطلقة لم يتكلف القوم بالاستدلال بقوله عليه السلام ( كل شيء فيه حلال وحرام ... ) الخ مع ما فيه من المحذور ، والله العالم.

__________________

متوقفة على استقلال الرواية وكونها غير رواية مسعدة وإلاّ لما كان له وجه هذا ما ذكره في اول. البراءة وأما ما ذكره في الشبهة التحريمية الموضوعية فهو انه ( قده ) قال في دوران الحكم بين الحرمة وغير الوجوب مع كون الشك في الواقعة الجزئية لأجل الاشتباه في بعض الأمور الخارجية ـ والظاهر عدم الخلاف في ان مقتضى الأصل فيه الاباحة للاخبار الكثيرة في ذلك مثل قوله عليه السلام كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام وكل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال واستدل العلامة في التذكرة على ذلك برواية مسعدة بن صدقة ثم ذكر الرواية بتمامها فانه ( قده ) كما ترى جعل رواية مسعدة غير الرواية الثانية صريحا فلذا نسب الاستدلال بها الى العلامة ( قده ) واورد عليه بعد ذكرها.

ولا يخفى أن التي احتج بها المنصف ( قده ) هنا هي الرواية الأولى دون الثانية أو الثالثة مع أن التي استدل بها الشيخ قده في أول البراءة هي الرواية الثانية دون الأولى نعم بين ما ذكره المصنف هنا وما ذكره الشيخ ( قده ) في الشبهة الموضوعية التحريمية فرق يسير في اللفظ وهو لا يضر بالمطلوب هذا ومن المحتمل أن يكون الرواية التي استدل بها المصنف قده هنا هو صدر رواية مسعدة وذلك لما ذكره من التوجيه هناك في تعليقته على كلام الشيخ قده حيث قال لكن يمكن أن يقال أنه ليس ذكرها للمثال بل إنما ذكرت تنظيرا لتقريب أصالة الاباحة في الأذهان وأنها ليست بعادمة النظير في الشريعة الخ فان التوجيه المزبور دليل على إمكان الاستدلال بها للشبهة الحكمية.

(١) فرائد الأصول المحشى ٢ / ١٦.

(٢) فرائد الأصول المحشى ٢ / ٤١.

٦٦

١٩ ـ قوله (قدّس سره) : فهو حلال تأمل (١) ... الخ.

وجهه : أن كل حكم إيجابي أو تحريمي لا ينحل إلى حكمين إيجابي وتحريمي فعلا وتركا.

بل ترك الواجب حيث إنه ترك الواجب يستحق عليه العقاب ، لا أنه حرام ، وكذلك في طرف الحرام.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٢.

٦٧

[ الاستدلال بحديث السعة على البراءة في الشبهات الحكمية ]

٢٠ ـ قوله (قدّس سره) : فانه يقال لم يعلم الوجوب أو الحرمة (١) ... الخ.

بيانه أن إيجاب الاحتياط : إن كان نفسيا ـ بأن كان فعل محتمل الوجوب ـ بما هو محتمل الوجوب ـ واجبا حقيقة ، لمصلحة فيه بهذا العنوان ، أو كان فعل محتمل الحرمة ـ بما هو ـ حراما حقيقة ، لمفسدة فيه بهذا العنوان ـ فالتكليف الواقعي ، وإن كان مما لم يعلم ، إلا أن التكليف الفعلي بعنوان آخر معلوم ، فاذا علم ـ ولو بعنوان من العناوين الطارية ـ خرج عن كونه من ( ما لا يعلمون ) فيكون دليل الاحتياط الموجب للعلم بالتكليف بعنوان آخر رافعا لموضوع دليل البراءة حقيقة.

وإن كان إيجاب الاحتياط طريقيا ، أي إنشاء بداعي تنجيز الواقع باحتماله ، فالواقع على حاله مما لم يعلم ، وكما أن دليل الاحتياط منجّز للواقع المحتمل ، كذلك دليل البراءة معذّر عن الواقع المحتمل ، فيتعارضان.

ويمكن أن يقال : أمّا إن كان الاحتياط واجبا نفسيا ، فوروده مبنيّ على ظهور ( ما لا يعلمون ) في دليل البراءة في الأعم على ما تقدم.

مع أن ظاهره أنهم في سعة من التكليف الذي لا يعلمونه ، لا في سعة مما لا يعلمونه ولا يعلمون حكم ما لا يعلمونه.

وبالجملة : فرق بين التعميم من حيث العناوين الذاتية والعرضية ، وبين

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٢.

٦٨

العناوين المترتبة على التكليف بالعناوين الأولية ، فان ظاهر الخبر تعيين وظيفة من لا يعلم تكليفه ، لا تعيين وظيفة من لا يعلم تكليفه ولا يعلم وظيفة عدم علمه بتكليفه.

مضافا إلى أن دليل الاحتياط إذا كان عاما كان دليل البراءة لغوا ، فان مثل هذا الدليل ظاهر في الشبهة الحكمية ، ومع قيام الدليل على الاحتياط في كل محتمل التكليف لا مجال للتوسعة حينئذ.

نعم اذا قلنا باختصاصه بالشبهة التحريمية كان مورد التوسعة هي الشبهة الوجوبية.

مع أن معنى الخبر إذا كان التوسعة ما دام لا يعلمون ، فظاهره كون المورد مما يقبل تبدل جهله بالعلم ، وهذا إنما يكون في التكاليف الواقعية التي يمكن قيام الطريق عليها بعد الجهل بها ، بخلاف التكليف الظاهري اللزومي ، فان دليل الاحتياط متحقق من الأول. فلا مجال لأن يقال : هم في سعة ما دام لا يعلمون ، فتدبر.

ويندفع الإيراد على التعميم بأن غرضه (قدّس سره) من الوجوب النفسي هو الوجوب المنبعث عن مصلحة أخرى ما وراء مصلحة الواقع ، ومثله ليس وظيفة عملية للجاهل بحكمه حتى لا يعمه ( ما لا يعلمون ) بل هو كالحكم الواقعي ، غاية الأمر أن عنوانه عرضي للعنوان الواقعي.

نعم وجوب الاحتياط نفسيا بالمعنى الذي بيناه سابقا (١) المساوق للأمر الطريقي وظيفة عملية للجاهل بالواقع ، فيرد عليه ما أوردناه ، لكنه غير مراد له قدّس سره.

وأما إن كان الاحتياط واجبا طريقيا ، فيمكن أن يقال : بورود دليل ،

__________________

(١) في التعليقة ١١.

٦٩

الاحتياط أيضا بناء على إرادة مطلق الحجة القاطعة للعذر من العلم.

فمفاد دليل البراءة حينئذ هي التوسعة فيما لم تقم حجة على الواقع.

وبعد أن كان احتمال التكليف منجزا بدليل الاحتياط كان كما إذا وردت أمارة ، وقلنا : بأن معنى حجيتها منجزيتها للواقع ، فكما لا شبهة في ورودها على دليل البراءة ، كذلك ينبغي أن لا يرتاب في ورود دليله على دليل البراءة.

فان قلت : كما أن دليل البراءة موضوعه ( ما لم يعلم ) بمعنى عدم الحجة المنجزة للواقع ، كذلك موضوع دليل الاحتياط المشتبه بمعنى ما لم تقم حجة معذرة عن الواقع ، فيتعارضان ، لأن أحدهما يوجب المنجزية ، والآخر يوجب المعذرية ، ولا وجه للتوسعة في الاول دون الثاني.

قلت : حيث إن إيجاب الاحتياط بعنوان التحفظ على الغرض الواقعي المنبعث عنه التكليف الواقعي ، إما بايصاله عرضا بايصال الحكم المماثل ، أو بايصاله بأثره بجعل الواقع منجزا به ، فلا محالة ليس موضوعه إلا احتمال التكليف اللزوميّ المنبعث عن الغرض الواقعي ، لا احتمال عدمه ، ولا عدم قيام المعذر عنه.

بخلاف دليل البراءة ، فانه في مقام التوسعة مما لم يتنجز بمنجز واقعي أو جعليّ ، فموضوعه ما لم يقم عليه منجز

والكلام في ورود دليل الاحتياط بلحاظ لسان دليله ، وعنوان موضوعه ، وإلا فتعارض المنجّز والمعذّر بديهي.

لا يقال : إذا لم يكن دليل الاحتياط كما ذكر من حيث عموم موضوعه لعدم المعذّر لم يكن وجه لتقديم الأمارة النافية عليه ، بناء على كون الأمارة منجزة أو معذّرة

لأنا نقول : حيث إنّ لسان الأمارة النافية عدم التكليف ، فالمعذوريّة من حيث إنّ لسانها نفي التكليف ، فلا مجال لما يكون لسانه منجزية احتمال ثبوت

٧٠

التكليف ، ولأجل هذه الخصوصية يكون دليل الأمارة واردا أيضا إذا كانت مثبتة منجّزة للتكليف ، فان لسانها ثبوت التكليف ، فلا مجال لما يكون لسانه منجّزية احتمال ثبوته ، فتدبّر.

وسيجيء إن شاء الله تعالى تتمة الكلام عند التعرّض للجمع بين أخبار الاحتياط والبراءة (١)

__________________

(١) في التعليقة ٣٤.

٧١

[ الاستدلال بحديث كل شيء مطلق ... على البراءة في الشبهات الحكمية التحريمية أو الأعم منها ومن الوجوبية ]

٢١ ـ قوله (قدّس سره) : ودلالته تتوقف على عدم صدق الورود (١) ... الخ.

تحقيق المقام : ان المراد بقوله عليه السلام حتى يرد فيه نهي : تارة : هو الورود في نفسه المساوق للصدور واقعا.

وأخرى : هو الورود على المكلف المساوق للوصول إليه.

والنافع في المقام هي إباحة ما لم تصل حرمته إلى المكلف ، لا إباحة ما لم يصدر فيه نهي واقعا ، فانه دليل إباحة الاشياء قبل الشرع ، لا الاباحة فيما لم يصل ، وإن صدر فيه نهي واقعا.

توضيحه أن الاباحة على قسمين :

إحداهما : بمعنى اللاحرج من قبل المولى في قبال الحظر العقلي ، لكونه عبدا مملوكا ينبغي أن يكون وروده وصدوره عن رأي مالكه.

ثانيتهما : الاباحة الشرعية في قبال الحرمة الشرعية الناشئة عن المفسدة الباعثة للمولى على زجره عما فيه المفسدة.

وهي تارة : إباحة واقعية ثابتة لذات الموضوع ، ناشئة عن لا اقتضائيّة الموضوع لخلوّه عن المصلحة والمفسدة.

واخرى : إباحة ظاهريّة ثابتة للموضوع بما هو محتمل الحرمة والحلية

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٢.

٧٢

ناشئة عما يقتضي التسهيل على المكلف بجعله مرخصا فيه.

والاباحة القابلة لان يغيّا بعدم صدور النهي واقعا هي الاباحة بمعنى اللاّحرج ، لا الاباحة الشرعية سواء كانت واقعيّة أو ظاهريّة.

أما الاباحة الواقعية ، فالمفروض أنها ناشئة عن لا اقتضائية الموضوع فلا يعقل ورود حرمة في موضوعها للزوم الخلف من فرض اقتضائية الموضوع المفروض أنّه لا اقتضاء.

لا يقال : لا اقتضائيته من حيث ذاته لا تنافي عروض عنوان عليه يقتضي الحرمة.

لانا نقول : نعم إلا أن الذي يرد فيه نهي ذلك العنوان الذي له اقتضاء الحرمة ، لا أن النهي يرد في مورد الاباحة.

وفرق بين ورود نهي في مورد الاباحة كما هو ظاهر الخبر ، وبين انطباق عنوان ورد فيه النهي على مورد الاباحة ، فالماء مثلا مباح والغصب حرام ، وانطباق عنوان الغصب على الماء لا يقتضي صدق ورود النهي في الماء المغصوب ، بل من انطباق العنوان الوارد فيه النهي على مورد الاباحة.

هذا إذا أريد ما هو ظاهر الخبر من كون الاباحة مغيّاة بورود النهي في موردها.

وأمّا إذا أريد بورود النهي تحديد الموضوع وتقييده ، ـ بأن يكون المراد أن ما لم يرد فيه نهي مباح ، وأن ما ورد فيه نهي ليس بمباح ، ـ فهو : إن كان بنحو المعرفية فلا محالة يكون حمل الخبر عليه حملا على ما هو كالبديهي الذي لا يناسب شأن الامام عليه السلام.

وإن كان بمعنى تقييد موضوع أحد الضدين بعدم الضد حدوثا أو بقاء ، فهو غير معقول : لأن عدم الضد ليس شرطا لوجود ضده ، لا حدوثا ولا بقاء ، ولا معنى لتقييد موضوع الاباحة بعدم ورود النهي حقيقة إلا شرطيته.

٧٣

وأمّا الاباحة الظاهرية ، فجعلها مغيّاة أو محدّدة ومقيّدة بعدم صدور النهي في موضوعها واقعا غير صحيح من وجوه :

منها : أن الاباحة الظاهرية التي موضوعها المشكوك لا يعقل أن تكون مغيّاة إلاّ بالعلم ، ولا محدّدة إلاّ بعدمه ، لا بأمر واقعي يجامع الشّك ، وإلاّ لزم تخلف الحكم عن موضوعه التامّ ، فإنه مع فرض كون الموضوع وهو المشكوك موجودا يرتفع حكمه بصدور النهي المجامع مع الشك واقعا.

فلا يعقل أن تتقيد إلا بورود النهي على المكلف ، ليكون مساوقا للعلم المرتفع به الشك.

ومنها : أن الاباحة حيث إنها مغيّاة بصدور النهي واقعا ، أو محدّدة بعدم صدوره واقعا ، والغاية أو القيد مشكوك الحصول ، فلا محالة يحتاج إلى أصالة عدم صدوره لفعلية الاباحة.

وسيجيء (١) إن شاء الله تعالى أن الأصل إمّا أن يكون كافيا وإن لم يكن هذا الخبر ، أو لا يكون كافيا إن أردنا ترتيب مضمون الخبر عليه تعبدا.

فعلى الأول لا استدلال بالخبر ، وعلى الثاني لا يصح الاستدلال به.

ومنها : أن ظاهر الخبر جعل ورود النهي غاية رافعة للاباحة الظاهرية المفروضة ، ومقتضى فرض عدم الحرمة الاّ بقاء هو فرض عدم الحرمة حدوثا ، ومقتضاه عدم الشك في الحلية والحرمة من أول الأمر ، فما معنى جعل الاباحة الظاهرية المتقوّمة بالشك في الحلية والحرمة في فرض عدم الحرمة الا بقاء.

وليست الغاية غاية للاباحة الانشائية حتى يقال : إنه يحتمل في فرض فعلية الشك صدور النهي واقعا ، بل غاية لحقيقة الاباحة الفعلية بفعليّة موضوعها وهو المشكوك.

__________________

(١) في التعليقة الآتية.

٧٤

وحيث إن المفروض صدور النهي بقاء في مورد هذه الاباحة الفعلية ، فلذا يرد المحذور المزبور.

فان قلت : هذا إذا كان المراد صدور النهي منه تعالى شأنه. وأمّا إذا أريد صدوره من النبي صلّى الله عليه وآله ، أو الوصي عليه السلام على طبق ما أوحي به أو ما الهم به ، فيندفع هذا المحذور ، لتقوّم الشك باحتمال صدوره منه تعالى ، والغاية صدوره من النبي صلّى الله عليه وآله أو الوصي عليه السلام ، فيساوق رواية ما حجب الله علمه عن العباد.

فيفيد أن الحرمة الواقعية الموحى بها أو الملهم بها لا تؤاخذ لها ، إلاّ بعد صدور النهي على طبقها من النبي صلّى الله عليه وآله أو الوصي عليه السّلام.

وهذا الاحتمال غير بعيد ، إذ الظاهر من الصدور التدريجي بعد جعل الاباحة الظاهرية هو الصدور من النبي صلّى الله عليه وآله أو الوصي عليه السلام في مقام تبليغ أحكامه تعالى تدريجا.

فيكون إعطاء لقاعدة كلية ، حتى يقوم النبي صلّى الله عليه وآله أو الوصي عليه السلام في مقام التبليغ.

قلت : مضافا إلى بقاء المحذورين الأولين على حالهما ، أن الحكم الذي لم يقم النبي صلّى الله عليه وآله أو الوصي عليه السلام بصدد تبليغه لا أثر لمقطوعه حتى يحتاج إلى جعل الاباحة الظّاهرية في مشكوكه.

وعدم الاثر واضح حتى من حيث وجوب الاحتياط ، فانه لا يصال ما ثبت على المكلف وتنجيزه عليه ، فلا يعقل في موضوع عدم التبليغ ، كما هو واضح.

وحيث علم من جميع ما ذكرنا عدم إمكان إرادة الاباحة الشرعية واقعية كانت أو ظاهرية ، بناء على إرادة الصدور من الورود ، فلا مناص من حمل الإباحة على اباحة الاشياء قبل الشرع بمعنى اللاّحرج العقلي ، فانها محدودة ومغيّاة بعدم صدور الحرمة الشرعية ، فيكون الخبر دليلا على هذه الاباحة ، لا

٧٥

الاباحة الشرعية الظاهرية المبحوث عنها هنا.

إلاّ أن حمل الاباحة على الاباحة المالكية قبل الشرع التي يحكم بها عقل كل عاقل بعيد غير مناسب للامام عليه السلام المعدّ لتبليغ الاحكام ، خصوصا بملاحظة أن الخبر مروي عن الصادق عليه السلام بعد ثبوت الشرع ، واكمال الشريعة ، خصوصا في المسائل العامّة البلوى التي يقطع بصدور حكمها عن الشارع ، فلا فائدة في الاباحة مع قطع النظر عن الشرع.

وعليه ، فالمراد من الورود هو الورود على المكلف المساوق لوصوله إليه.

والمراد بالاطلاق هو الترخيص الشرعي الظاهري ، وعدم تقيّد المكلف ظاهرا بطرف الترك ، أو بطرف الفعل ، فيكون دليلا على المسألة.

والتعبير عن الوصول بالورود تعبير شايع لا ينسبق الى أذهان أهل العرف غيره.

بل الظاهر كما يساعده تتبع موارد الاستعمالات أن الورود ليس بمعنى الصدور أو ما يساوقه ، بل هو معنى متعد بنفسه ، فهناك بلحاظه وارد ومورود ، فيقال : ورد الماء وورد البلد ووردني كتاب من فلان ، وإن كان بلحاظ إشراف الوارد على المورود ربما يتعدى بحرف الاستعلاء.

نعم ربما يكون الوارد أمرا له محل في نفسه كالحكم ، فيقال : ورد فيه نهي مثلا ، فالموضوع محل الوارد ، لا مضايف الوارد ، بل مضايفه من ورده هذا التكليف الخاص ، ولذا لا يصح أن يقال : بالاضافة إلى الموضوع : ورده نهي ، بل ورد فيه.

بخلاف المكلف ، فانه الذي ورده التكليف أو ورد عليه بلحاظ إشرافه عليه.

وبالجملة : نفس معنى الورود متعد بنفسه إلى المورود ، ولمكان التضايف لا يعقل الوارد إلا بلحاظ المورود ، وليس المورود هنا إلا المكلف دون محل الوارد ، ولذا لو لم يكن الوارد محتاجا الى المحل لا يتعدى إلا بنفسه ، أو بحرف الاستعلاء

٧٦

بلحاظ الاشراف.

فتحقق أن الورود ليس بمعنى الصدور وما يساوقه مفهوما حتى لا يحتاج في ذاته إلى مكلّف يتعلق به ، بل بمعنى يساوق الوصول إليه ، لتضايف الوارد والمورود ، فتدبّر جيدا.

وعن شيخنا الاستاذ (قدس سره) تقريبان آخران في الجواب :

احدهما : ما في تعليقته (١) الأنيقة من أن الورود بمعنى الصدور ، والاباحة الشرعية ـ قبل صدور الحرمة منه تعالى أو قبل صدورها من النبي صلّى الله عليه وآله لعدم الأمر بتبليغها ـ خارجة عن مورد النزاع ، وداخلة فيما حجب الله علمه عن العباد.

وحيث إن هذه الاباحة مغيّاة بصدور النهي واقعا فلا يمكن إثباتها بالخبر فقط ، بل بضمّ أصالة عدم صدور النهي.

إلا أنه مع ذلك لا يجدي ؛ لأن التعبد بعدم الغاية لا يقتضى إلا التعبد بالمغيّا ، والمفروض أن المغيّى أجنبي عما نحن فيه. هذا ملخصه بتوضيح مني.

وثانيهما : ما في متن الكفاية من أن الاباحة وإن كانت مجدية إلاّ أنها مغيّاة بصدور النهي ، فلا بد من الأصل.

فبضميمة الأصل تثبت إباحة واقعية للشيء بعنوانه الواقعي ، كما هو ظاهر الشيء من دون قرينة صارفة إلى الشيء بما هو مجهول الحلية والحرمة ، كما فيما إذا كان الورود بمعنى الوصول ، فانه يحدّد الموضوع ، وإباحة الشيء بعنوان أنه مجهول الحكم محل الكلام.

ثم أجاب بأن المهم دفع تبعة شرب التتن مثلا سواء كان بالحكم باباحته بما هو أو بما هو مجهول الحكم.

__________________

(١) التعليقة على فرائد الأصول / ١٢٠.

٧٧

فأورد عليه بانه يجدي في غير صورة العلم بصدور النهي والاباحة ، وشك في تقدّمها وتأخّرها.

حيث إن الاستدلال إنما يتم بالاصل ، ولا أصل ، أو لان الخبر بنفسه لا يعمّ مثله.

ثم أجاب بالالحاق بعدم الفصل.

فأورد عليه بأنه يتم فيما إذا كان اثبات أحد المتلازمين بالدليل لا بالأصل.

وسيجيء إن شاء الله تعالى التعرض لما يتعلق بما أفاده (قدس سره).

٢٢ ـ قوله (قدس سره) : ولكن بضميمة أصالة العدم (١) ... الخ.

لا يخفى عليك أن إجراء الأصل : تارة ـ لمجرد نفي الحرمة ودفع تبعتها ظاهرا ، فلا مانع منه.

إلا أنه ليس من الاستدلال بالخبر ، بل الأصل عدم الحرمة ، كان هناك قوله : ( كل شيء مطلق ) ، أو لم يكن.

وأخرى ـ للتعبد بالاباحة المغيّاة أو المقيدة بعدم صدور الحرمة ، أو لتحقيق موضوع تلك الاباحة ، فحينئذ يرتبط الأصل بالاستدلال بالخبر.

إلا أنه لا يكاد يجدي إجراء الأصل لهذا الغرض ، فان المراد بالاباحة المتعبد بها ـ إما لأجل التعبد بعدم تحقق غايتها ، أو التعبد بقيدها ـ إمّا هي الاباحة الشرعية ـ واقعية كانت أو ظاهرية ـ وإما الاباحة المالكية بمعنى اللاحرج.

والتعبد بالاولى فرض معقوليتها في نفسه. وقد عرفت (٢) عدم معقوليتها واقعية كانت أو ظاهرية ، فلا معنى للتعبد بها ، لا بلا واسطة ولا معها.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٢.

(٢) في التعليقة ٢١.

٧٨

والتعبد بالثانية لا معنى له ؛ لان المفروض أن الاباحة قبل الشرع بمعنى اللاحرج العقلي ليست من مقولة الحكم ، وإلا لزم الخلف. وليست موضوعا ذات حكم شرعي أيضا.

وأما كون الأصل محققا لموضوعها ، فانما يصح إذا كانت من لوازم الأعم من الواقع والظاهر ، كوجوب الاطاعة وحرمة المعصية ، ووجوب المقدمة وحرمة الضد.

ومن الواضح أن الاباحة قبل الشرع هي اللاّحرج عقلا قبل الشرع حقيقة ، لا قبله ولو ظاهرا ، مع ثبوته واقعا.

نعم اللاّحرج قبل وصول التكليف من لوازم الأعم من عدم وصوله واقعا أو ظاهرا.

لكنه بمعنى يساوق قبح العقاب بلا بيان ، ومثله أجنبي عن اللاحرج المغيّا بعدم صدور النهي على الفرض.

فحمل الاباحة على هذا المعنى خلف ؛ لأن المفروض أن الغاية صدور النهي ، لا وصوله.

مضافا إلى أنه لو ترتبت الاباحة بوجه على الأصل لا يجدي في هذه المسألة ، إلا إذا كانت الاباحة المترتبة عليه بمعنى الاباحة الظاهرية المترتبة على مجهول الحكم ، بحيث لو علم لوجب امتثاله.

وأما الاباحة المالكية ، فهي غير شرعية ، فلا دخل لها بالبراءة مع النظر إلى ما هو تكليف المكلف فعلا شرعا.

كما أن الاباحة المترتبة على الجهل بالحكم الذي ما قام النبي صلّى الله عليه وآله أو الوصي عليه السلام بصدد تبليغه لا تجدي في الحكم بالاباحة في مورد الجهل بالحكم الصادر الذي لو علم به لوجب امتثاله ، كما هو المفروض في مسألة البراءة ، ولذا قلنا : بأن رواية الحجب لا تجدي في محل البحث.

٧٩

٢٣ ـ قوله (قدّس سره) : ولا يكاد يعم ما إذا ورد النهي عنه في زمان (١) ... الخ.

امّا لعدم جريان الأصل فيهما في نفسه ، لعدم إحراز اتصال زمان الشك بزمان اليقين ، أو لجريانهما وتساقطهما للمعارضة.

ولكنه لا يخفى عليك أن الاباحة الواقعية المستفادة من قوله عليه السلام ( كل شيء مطلق ) ، إما أن تكون مغيّاة حقيقة بعدم صدور النهي واقعا ، أو محدّدة بعدم صدوره.

فان أريد الاولى بحيث كانت هناك إباحة مستمرة تزول بالنهي ، فحينئذ لا يعقل فرض الشك في التقدم والتأخر ؛ لأن هذه الاباحة متقدمة على النهي لفرض ثبوتها واستمرارها إلى أن يرد النهي ، والاباحة الاخرى لا يعقل ورودها على موضوع محكوم بالاباحة ، فلا محالة لو فرضت إباحة أخرى غير الاولى فهي متأخرة عن صدور النهي.

وإن أريد الثانية بحيث كان المراد أن ما لم يصدر فيه نهي مباح ، وما صدر فيه نهي ليس بمباح ، ففرض الشك في التقدم والتأخر معقول ؛ لاحتمال أن يكون المورد كان مما لم يصدر نهي فيه ، فكان مباحا ثم ورد فيه نهي ، أو كان المورد مما صدر فيه نهي ، فلم يكن مباحا من الاول ، ثم زال النهي وصار مباحا.

إلا أن مثل هذا الفرض لا يكون في نفسه مشمولا للخبر ، لا أنه لا يصح الاستدلال بالخبر عليه ، لعدم جريان الأصل المتمم للاستدلال به كما هو ظاهر سياق العبارة.

والسر في عدم شمول الخبر ـ لهذا الفرض في نفسه ـ أن الظاهر ـ بعد جعل عدم صدور النهي محددا للموضوع ـ أن ما لم يصدر فيه نهي مباح ، وأن ما

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٣.

٨٠