نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-40-X
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٦٤

صدر فيه نهي ليس بمباح ، لا ما صدر فيه نهي وزال مباح ، أو ما لم يصدر فيه نهي ثم صدر ليس بمباح. والله العالم. وإن كانت العبارة غير آبية عن إرادة عدم شمول الخبر في نفسه لهذا الفرض.

٢٤ ـ قوله (قدّس سره) : إلا أنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالاباحة (١) ... الخ.

توضيحه : أنه لو ثبت الملازمة بين حكمين واقعيين أو ظاهريين ، فالدليل على ثبوت أحد المتلازمين دليل على ثبوت الآخر ، كما يراه شيخنا الاستاذ (قدس سره) أو دليل الملازمة عند وضع أحد المتلازمين دليل على ثبوت الآخر ، كما اخترناه (٢) سابقا. وهذا في الأحكام الواقعية ظاهر.

وفي الأحكام الظاهرية ما تقدم (٣) منه في قوله : ( كل شيء لك حلال ) حيث إن مورده الشبهة التحريمية ، وبعدم القول بالفصل حكم (قدس سره) بالبراءة في الشبهة الوجوبية ؛ نظرا إلى ثبوت الاتفاق على اتحاد حكم الشبهة فيهما نفيا وإثباتا ، فاذا ثبتت البراءة بقوله عليه السلام : ( كل شيء لك حلال ) في الشبهة التحريمية ، ثبتت البراءة في الشبهة الوجوبية لأحد الوجهين المتقدّمين.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٣.

(٢) قال قده في مبحث مقدمة الواجب بل وجوب المقدمة شرعا نتيجة ثبوت الملازمة عقلا عند وجوب ذي المقدمة شرعا كما هو الحال في كل متلازمين عقلا فان دليل الملازمة عند وضع الملزوم دليل على اللازم. نهاية الدراية ٢ : التعليقة ١.

وقال في موضع آخر ما حاصله أنها موضوعية أحد المتلازمين لحكم لا يستلزم موضوعية الآخر لذلك الحكم ولحكم آخر بل لا بد من فرض الاستلزام بين التنزيلين والتعبدين. فدليل الملازمة عند وضع احد المتلازمين دليل على ثبوت الآخر لا الدليل على ثبوت احد المتلازمين كما هو مبنى المصنف قدس سره.

(٣) كفاية الأصول / ٣٤١.

٨١

وأما فيما نحن فيه فلا ملازمة بين جريان الاستصحاب في مورد وجريان البراءة في مورد آخر ، بحيث إذا جرى الاستصحاب في بعض أفراد الشبهة التحريمية تجرى البراءة في بعض أفرادها الآخر.

بل الملازمة بين جريان البراءة في تمام أفراد الشبهة التحريمية ، ولا دليل على أحد المتلازمين من هذه الحيثية في بعضها كي يقال : بثبوت الآخر.

وعليه ينبغي حمل العبارة ، لا ما يتراءى منها من الفرق بين الدليل ، والأصل الموهم لكون المانع عدم ثبوت اللوازم بالاصل ، فانه جار في مفاد ( كل شيء لك حلال ) أيضا.

بل ما ثبت بالأصل هنا ليس طرف الملازمة ، إذ الطرفان البراءة في هذا والبراءة في ذاك ، لا الاباحة التعبدية بعنوان حرمة نقض اليقين بالشك في طرف ، والاباحة الظاهرية بعنوان مجهول الحلية والحرمة في طرف آخر. فافهم وتدبر.

٨٢

[ الاستدلال بحكم العقل على البراءة في الشبهات الحكمية ]

٢٥ ـ قوله (قدس سره) : أما العقل فقد استقل بقبح العقوبة (١) ... الخ.

نحن وإن ذكرنا مرارا (٢) أن مدار الاطاعة والعصيان على الحكم الحقيقي ، وأن الحكم الحقيقي متقوم بنحو من أنحاء الوصول ، لعدم معقولية تأثير الانشاء الواقعي في انقداح الداعي.

وحينئذ فلا تكليف حقيقي مع عدم الوصول ، فلا مخالفة للتكليف الحقيقي فلا عقاب ، فانه على مخالفة التكليف الحقيقي.

إلا أن عدم العقاب لعدم التكليف أمر ، وعدم العقاب لعدم وصوله أمر آخر ، وما هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو الثاني دون الأول.

مضافا إلى أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان مما اتفق عليه الكل ، وتقوّم التكليف بالوصول مختلف فيه.

بل صريح شيخنا الاستاد (قدس سره) في تعليقته (٣) الأنيقة انفكاك مرتبة الفعلية البعثية والزجرية عن مرتبة التنجز.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٣.

(٢) قد تقدم في مبحث حجية القطع في التعليقات ٨ و ٤١ و ٤٢ و ٤٣.

وفي مبحث حجية الظن في التعليقات ٥٩ و ٦٥ و ٦٦. نهاية الدراية

وفي مبحث البراءة التعليقة ٨. نهاية الدراية ٤.

(٣) التعليقة على فرائد الأصول / ٣٥.

٨٣

فالاولى تقريب القاعدة بوجه عام مناسب للمقام.

فنقول : في توضيح المقام إن هذا الحكم العقلي حكم عقلي عملي بملاك التحسين والتقبيح العقليين ، وقد بينا في مباحث القطع (١) والظن مرارا أن مثله مأخوذ من الاحكام العقلائية التي حقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع ، وهي المسماة بالقضايا المشهورة المعدودة في الصناعات الخمس من علم الميزان.

ومن الواضح أن حكم العقل ـ بقبح العقاب بلا بيان ـ ليس حكما عقليا عمليا منفردا عن سائر الاحكام العقلية العملية ، بل هو من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء ، نظرا إلى أن مخالفة ما قامت عليه الحجة خروج عن زي الرقية ورسم العبودية ، وهو ظلم من العبد على مولاه ، فيستحق منه الذم والعقاب.

كما أن مخالفة ما لم تقم عليه الحجة ليست من أفراد الظلم ، إذ ليس من زي الرقية أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع وفي نفس الامر ، فليس مخالفة ما لم تقم عليه الحجة خروجا عن زي الرقية حتى يكون ظلما.

وحينئذ فالعقوبة عليه ظلم من المولى على عبده ؛ إذ الذم على ما لا يذم عليه ، والعقوبة على ما لا يوجب العقوبة عدوان محض ، وايذاء بحت بلا موجب عقلائي ، فهو ظلم ، والظلم بنوعه يؤدّي إلى فساد النوع ، واختلال النظام ، وهو قبيح من كل أحد بالاضافة إلى كل أحد ولو من المولى إلى عبده.

لكن لا يخفى أن المهم هو دفع استحقاق العقاب على فعل محتمل الحرمة مثلا ما لم تقم عليه حجة منجزة لها.

__________________

(١) في التعليقات ١٠ و ٢١ و ٤١ من مبحث القطع وفي التعليقة ١٣٤ و ١٤٥ من مبحث الظن نهاية الدراية ٣.

٨٤

وحيث إن موضوع الاستحقاق بالأخرة هو الظلم على المولى ، فمع عدمه لا استحقاق قطعا ، وضم قبح العقاب من المولى أجنبي عن المقدار المهم هنا ، وإن كان صحيحا في نفسه.

٢٦ ـ قوله (قدّس سره) : مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة (١) ... الخ.

لأن مقتضى ما تقدم أنه لا ملازمة بين مخالفة التكليف الواقعي واستحقاق الذم والعقاب بل الملازمة بين مخالفة التكليف الذي قامت عليه الحجة واستحقاق الذم والعقوبة.

فاذا لم يكن تلازم بين مخالفة التكليف الواقعي واستحقاق العقاب ، فلا يلازم احتمال التكليف احتمال استحقاق العقوبة على مخالفته ، إذ الملازمة بين القطعين أو الظنّين أو الاحتمالين ، للتلازم بين المقطوعين والمظنونين والمحتملين ، فبعد فرض انتفاء الملازمة بين المحتملين لا يعقل التلازم بين الاحتمالين.

ولا يخفى عليك أن حصر الملازمة ـ في ما ذكرنا ـ لا يبتني على كون استحقاق العقاب بحكم العقل من باب قبح الظلم.

بل إذا كان بجعل الشارع كان الأمر كذلك ، لما مرّ في غير مقام أن بناء جعل العقاب شرعا على أن قاعدة اللطف تقتضي إيصال العباد إلى مصالحهم بالبعث نحو ما فيه المصلحة ، وحفظهم عن الوقوع في المفاسد بزجرهم عما فيه المفسدة.

وحيث إن البعث والزجر ما لم يكن على مخالفتهما عقوبة لا يكون باعثا فعليا ، ولا زاجرا كذلك في نفوس العامة ، فقاعدة اللطف تقتضي جعل العقاب على مخالفتهما.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٣.

٨٥

وحيث ان جعل العقاب واقعا ما لم يصل إلى العبد لا يكون بوجوده الواقعي محقّقا للباعثيّة الفعلية والزاجريّة الفعلية ، فقاعدة اللطف تقتضي إيصاله تتميما لمرحلة البعث والزجر.

فلا تكون فعلية استحقاق العقاب المجعول شرعا الا بوصوله إلى العبد.

فلا يكون احتمال التكليف ملازما لاحتمال فعلية الاستحقاق شرعا.

نعم العلم بالتكليف علم بلازمه المجعول ، وبهذا العلم يصير الاستحقاق المجعول فعليا مؤثرا ، كما أنه به يصير التكليف فعليا قابلا للباعثية والزاجرية فعلا.

٢٧ ـ قوله (قدّس سره) : فلا يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضرر (١) ... الخ.

توضيحه : أن موضوع قاعدة دفع الضرر المحتمل : إن كان احتمال العقوبة لا على تقدير ، فاحتمال العقوبة قبل المراجعة إلى القاعدتين في نفسه غير ملازم لاحتمال التكليف ، لما مرّ من (٢) أن الملازمة بين الاحتمالين فرع الملازمة بين المحتملين ، والملازمة بين العقوبة ومخالفة التكليف غير ثابتة قبل المراجعة حتى تورث التلازم بين احتمال العقوبة واحتمال التكليف ، فلا احتمال للعقاب ، بل للتكليف فقط ، وبعد المراجعة إلى القواعد العقلية ، فقاعدة قبح العقاب تنفي الملازمة بين التكليف واستحقاق العقوبة على مخالفته بما هو ، بل تفيد أن الملازمة إنما تكون بين التكليف الذي قامت عليه الحجة واستحقاق العقوبة. فالاستدلال بقاعدة قبح العقاب بلا بيان للجزم بعدم العقوبة ، لا للفراغ عن حكم العقاب المحتمل لا على تقدير ، إذ المفروض عدم احتمال العقاب لا على

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٣.

(٢) في التعليقة السابقة.

٨٦

تقدير بمجرد احتمال التكليف ، لأنه فرع إحراز الملازمة بين المحتملين.

وان كان موضوع قاعدة دفع الضرر المحتمل أعم من الاحتمال على تقدير ولا على تقدير ؛ لأن ملاكه أعم كما هو واضح ، فاحتمال التكليف ملازم لاحتمال العقوبة ، لاحتمال الملازمة واقعا بين مخالفة التكليف واستحقاق العقوبة ، فالموضوع محرز قبل المراجعة إلى القاعدتين.

وحينئذ فتقديم قاعدة قبح العقاب بلا بيان على قاعدة دفع الضرر المحتمل ، لأجل أن قاعدة دفع الضرر المحتمل حكم في فرض الاحتمال ، وقاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث تنفي الملازمة بين مخالفة التكليف الواقعي واستحقاق العقوبة ، فهي رافعة للاحتمال بتّا ، بحيث لا يحتمل العقوبة على تقدير لابطال التقدير بقاعدة قبح العقاب ، فهي واردة على قاعدة دفع الضرر المحتمل.

٢٨ ـ قوله (قدّس سره) : كي يتوهم أنها تكون بيانا (١) ... الخ.

ظاهر العبارة صلاحية قاعدة دفع الضرر المحتمل في نفسها لأن تكون بيانا ، غاية الأمر أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث إنها رافعة لموضوعها فتسقط عن البيانية ، نظرا الى ما في تعليقته الأنيقة (٢) وعن غيره ( قده ) أيضا أن بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل تستلزم الدور ، لأن بيانيّتها فرع تحقق موضوعها ، وتحقق موضوعها فرع عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان الرافعة لموضوعها ، وعدم جريانها فرع بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل فبيانيتها دورية ، فيستحيل كونها بيانا.

إلاّ أنه يمكن إجراء الدور في طرف قاعدة قبح العقاب بلا بيان أيضا ،

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٣.

(٢) التعليقة على فرائد الأصول / ١٢٣.

٨٧

بعد فرض صلاحية قاعدة دفع الضرر المحتمل للبيانية في نفسها كما هو مفروض العبارة : بتقريب أن جريان قاعدة قبح العقاب فرع موضوعها ، وهو عدم البيان ، وهو موقوف على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر ، وعدم بيانيتها موقوف على عدم موضوعها ، وعدم موضوعها موقوف على جريان قاعدة قبح العقاب الموقوفة على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر ، فعدم بيانيتها أيضا موقوفة على عدم بيانيتها فكما أن بيانيتها دورية ، كذلك عدمها.

فالتحقيق : أن يقال : إن قاعدة دفع الضرر في نفسها لا تصلح للبيانية حتى يرتفع بها موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، لأن المراد بالبيان المأخوذ عدمه في موضوعها ما يصحح المؤاخذة على مخالفة التكليف ، كالعلم التفصيلي والاجمالي ، والخبر المجعول منجزا للواقع ، وأشباه ذلك ، وهذا المعنى غير متحقق بقاعدة دفع الضرر المحتمل ، لأنّها إما حكم إرشادي من العقل بدفع العقاب المحتمل ترتبه على التكليف الواقعي المحتمل ، كما هو ظاهر العلماء ، أو قاعدة كلية ظاهرية متكفلة للعقوبة على مخالفة التكليف المحتمل بما هي كذلك ، وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع ، كما هو صريح شيخنا العلامة الأنصاري ( قده ) في خصوص هذا المبحث من (١) الرسائل.

وعلى أي حال ، فهي ليست مصححة للمؤاخذة على مخالفة التكليف الواقعي المحتمل.

أما على الأول ، فلأن استحقاق المؤاخذة مفروض في موضوعها ، لا أنه ناش من حكمها.

فهذا الاستحقاق المفروض الثبوت لا بد من أن يكون بسبب مصحح للمؤاخذة غيرها ، فلذا ينحصر موردها في صورة العلم الاجمالي بالاضافة إلى كل

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى ٢ / ٢٠.

٨٨

من الطرفين أو بالاضافة إلى الخبر المنجز للواقع على تقدير مصادفته واشباه ذلك.

وأما في ما نحن فيه فحيث لم يفرض فيه وجود المصحح ، فالقاعدة غير صالحة في نفسها للبيانية.

وأما على الثاني ، فلأنها على الفرض مصححة للمؤاخذة على مخالفة التكليف المحتمل بما هي مخالفة له مع قطع النظر عن الواقع ، فكيف يعقل أن تكون بيانا مصححا للمؤاخذة على مخالفة الواقع.

وحيث إن عنوان القاعدة دفع الضرر المحتمل ، فموضوع هذا الحكم مما فرض فيه الوقوع في العقاب على تقدير ثبوته ، فلا يعقل أن يكون هذا الحكم طريقيا ، لأن المنجز لا يتنجز ، فيستحيل أن يكون هذا الحكم العقلي طريقيا.

بل إذا فرض هناك حكم ، فهو حكم نفسي حقيقي يترتب على مخالفته العقاب ، وهو أجنبي عن تنجيز الحكم الواقعي المجهول.

وحيث عرفت أنها لا تصلح أن تكون بيانا في نفسها ، فلا يعقل أن تكون في نفسها رافعة لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، بل رافعة لحكمها على تقدير سلامة موضوع نفسها ، فتدبره فانه حقيق به.

٢٩ ـ قوله (قدس سره) : كما انه مع احتماله لا حاجة الى القاعدة (١) ... الخ.

بيانه أن كون قاعدة دفع الضرر قاعدة عقلية لا معنى لها إلا مفاد الحكم العقلي العملي ، أو بناء العقلاء عملا ، كبنائهم على العمل بخبر الثقة وبالظاهر وأشباه ذلك.

وأما كونها حكما عقليا عمليا ، فيحث إن العاقلة لا بعث لها ولا زجر لها ،

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٣.

٨٩

بل شأنها محض التعقل ـ كما مرّ تفصيله في مبحث الظن وغيره (١) ـ.

ومنه تعرف أنه لا معنى لحكم العقل الارشادي ، فان الارشادية في قبال المولوية من شئون الأمر ؛ وإذ لا بعث ولا زجر فلا معنى لارشادية الحكم العقلي.

فلا محالة ليس معنى الحكم العقلي إلا إذعان العقل بقبح الاقدام على الضرر بملاك التحسين والتقبيح العقلائيين.

وقد مرّ (٢) مرارا أن الحسن والقبح العقليين في أمثال المقام كون الفعل ممدوحا عليه أو مذموما عليه عند العقلاء ، ومدح الشارع ثوابه وذمه عقابه ، كما مر تفصيله سابقا.

ومن الواضح أن الاقدام على الممدوح أو المذموم ليس موردا لمدح آخر أو ذم آخر ، والاقدام على الثواب أو العقاب ليس موردا لثواب آخر أو عقاب آخر ، بل لا يترتب على العدل الممدوح عليه إلا ذلك المدح ، ولا يترتب على الظلم المذموم إلا ذلك الذم ، وكذا في الثواب والعقاب.

فالاقدام على مقطوع العقاب فضلا عن محتمله خارج عن مورد التحسين والتقبيح العقليين.

مضافا إلى خروجه عنه لوجه آخر ، وهو أن ملاك البناء العقلائي على مدح فاعل بعض الأفعال ، وذم فاعل بعضها الآخر كون الأول ذا مصلحة عامة موجبة لانحفاظ النظام وكون الثاني ذا مفسدة مخلّة بالنظام.

فلذا توافقت آراء العقلاء ـ الذين على عهدتهم حفظ النظام بايجاد موجباته وإعدام موانعه ـ على مدح فاعل ما ينحفظ به النظام ، وذم فاعل ما يخل به.

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ : التعليقة ٦ و ١٤٥.

(٢) نهاية الدراية ٣ : التعليقة ١٤٥ : نهاية الدراية ٤ : التعليقة ٦.

٩٠

والاقدام على العقاب إقدام على ما لا يترتب ، إلاّ في نشأة أخرى أجنبية عن انحفاظ النظام واختلاله.

نعم نفس الفعل المذموم المعاقب عليه ذا مفسدة نوعية مخلة بالنظام.

وأمّا كونها داخلة في سلك البناءات العقلائية الغير المربوطة بالتحسين والتقبيح العقليين ، كالبناء على العمل بالخبر أو بالظاهر مثلا ، ففيه أن تلك البناءات منبعثة عن حكمة نوعية في نظر العقلاء تدعوهم إلى العمل بالخبر الثقة أو الظاهر أو نحوهما.

ومن البيّن أن الاقدام على العقاب المقطوع أو المحتمل لا يترتب عليه إلا ذلك الأمر المقطوع أو المحتمل ، لا أن هناك مصلحة مترتبة على ترك الاقدام ، أو مفسدة مترتبة على نفس الاقدام زيادة على الامر المقطوع أو المحتمل حتى تبعث العقلاء على البناء على دفعه ، ليكون إمضاء الشارع لهذا البناء مقتضيا لايجاب دفعه بحيث يترتب عليه عقاب آخر على الاقدام ، وإلا فنفس ذلك الامر المقطوع أو المحتمل غير منوط ترتّبه ببناء العقلاء على دفعه.

ومما ذكرنا تبين أن قاعدة دفع الضرر ليست قاعدة عقلية ولا عقلائية بوجه من الوجوه.

نعم كل ذي شعور بالجبلة والطبع حيث إنه يحبّ نفسه يفر عما يؤذيه ، وهذا الفرار الجبلي أيضا ليس ملاكا لمسألة الاحتياط ، إذ الذي يحتاج إليه القائل بالاحتياط مجرد ترتب استحقاق العقاب ، لا التزام العقلاء بالفرار عنه مع فرض ثبوته في الواقع ، بل مجرد الوقوع في العقاب المترتب على مخالفة التكليف الواقعي كاف في مرامه هنا. فتدبره جيّدا.

٣٠ ـ قوله (قدّس سره) : وأما ضرر غير العقوبة ، فهو وإن كان

٩١

محتملا (١) ... الخ.

تحقيق المقام أن الحكم العقلي المدعى في خصوص هذا الشق لا بد من أن يكون بملاك التحسين والتقبيح العقليين.

وإلا فمجرد الفرار عن المضرة الدنيوية المحتملة لئلا يقعوا فيها لا يقتضي إلا الوقوع فيها مع عدم الفرار.

مع ان الكلام هنا ( في ) (٢) الوقوع في العقاب باقدامه على الضرر المحتمل ، ليكون بيانا واردا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فهذا الشق والشق الأول متعاكسان.

فهناك يكفي نفس احتمال العقاب سواء التزم بدفعه العقلاء أم لا.

وهنا لا يكفي التزامهم بدفعه ، بل لا بد من إثبات الذّم عليه عقلا حتى يستحق العقاب عليه شرعا.

وحينئذ نقول : إن حكم العقل بدفع المفسدة إما من حيث عنوان المفسدة ، لان المذموم عندهم ليس إلا باعتبار كونه ذا مفسدة.

وإمّا من حيث عنوان الضرر ، كما هو مفروض المقام ، وظاهر قاعدة دفع الضرر المحتمل :

أما من حيث عنوان المفسدة ، فقد بينا في مبحث الظن (٣) عند التعرض للتحسين والتقبيح العقليين أن المصلحة والمفسدة الملحوظتين في التحسين والتقبيح العقليين هي المصالح العامة والمفاسد العامة ، بمعنى أن العدل حيث إنه بنوعه ينحفظ به النظام كان حسنا ، وأن الظلم حيث إنه بنوعه

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٣.

(٢) في الأصل هنا الوقوع والصحيح ما اثبتناه.

(٣) نهاية الدراية ٣ : التعليقة ١٤٥.

٩٢

يختل به النظام كان قبيحا.

فمصلحة انحفاظ النظام ومفسدة اختلاله من حيث نوعي العدل والظلم هي الموجبة للبناء على مدح فاعل العدل وذم فاعل الظلم.

ومن الواضح أن مصالح الأحكام الشرعية ومفاسدها لا يجب أن تكون انحفاظ النظام واختلاله ، بل مصالح خاصة ، أو مفاسد خاصة ربما تختلف من حيث الأشخاص والاحوال والأزمان.

فالصلاة مثلا وان كانت من حيث كونها تعظيما للمولى حسنة ، لأنها إحسان إلى المولى ، إلا أن وجوبها الشرعي ليس من حيث كون الاحسان إلى المولى والانقياد له مما ينحفظ به النظام.

بل من حيث إنّها حركات خاصة توجب استكمال نفس العبد مثلا وهكذا سائر الواجبات.

وكذا الأمر في مفاسد المحرمات ، فانها لا توجب بنوعها اختلال النظام.

وقد بينا في مسألة الملازمة بين حكمي العقل والشرع في البحث عن حجية الظن من باب الحكومة أو الكشف تفصيل ذلك ، ومعنى الملازمة ، فراجع (١).

وأما من حيث عنوان الضرر ـ نظرا إلى أن المفاسد مضار واقعية ، والعقل يحكم بدفعها ، بل لعل المضارّ الدنيوية هي الملحوظة في نظر العقلاء الذين توافقت آراءهم على دفعها حفظا للنظام وابقاء للنوع ـ فالكلام فيه من وجهين :

أحدهما : من حيث الصغرى وأنّ المفسدة ضرر أم لا؟

وثانيهما : من حيث الكبرى ، وأنّ العقل بملاك التحسين والتقبيح العقليين هل يحكم بدفع كل مضرة ام لا؟

أما الأول : فقد منع (قدّس سره) من كون المفسدة أو ترك استيفاء

__________________

(١) نهاية الدراية ٣ التعليقة ١٤٥.

٩٣

المصلحة الملزمة ضررا.

بل ربما يكون في استيفاء المصلحة ضررا ، كما في استيفاء مصلحة الزكاة ، فان فيها ضررا ماليا.

وربما يكون في التحرز عن المفسدة ذهاب المنفعة ، كما في التحرز عن مفسدة البيع الربوي وشبهه.

فليست المصالح منافع ، ولا المفاسد مضارّا دائما ، وإن اتفق أحيانا.

ولا يخفى أنه لو عمّمنا الضرر إلى كل نقص ينبعث من الفعل إمّا في نفسه أو بدنه أو ماله أو أحد تلك الأمور بالاضافة إلى غيره ، ولو إلى النوع ، فلا محالة لا يخلو الحرام عن أحد تلك الأمور ، وإلا لم يكن هناك تأثير واقعي للفعل.

كما أن المصلحة إذا كانت أعم من أثر كماليّ راجع الى نفسه أو بدنه أو ماله أو بالاضافة إلى غيره ، ولو إلى نوعه ، فلا محالة لا يخلو الواجب عن أحد تلك الأمور ، والله العالم.

وأمّا الثاني فالوجه في منع الكبرى أمران :

أحدهما ما عنه (قدّس سره) هنا وفيما (١) بعد ، وفي تعليقته المباركة في مبحث (٢) حجية الظن ، من أن الاقدام على الضرر ببعض الدّواعي لا قبح فيه عقلا ، وأن الضرر المقدم عليه ربما يترتب على التحرز عنه ضرر أقوى ، أو يفوته منفعة أهم من التحرز عنه ، وأنه ليس كل منفعة عائدة إلى المكلف جابرة للضرر

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٨.

(٢) التعليقة على فرائد الأصول / ٧٤ ولا يخفى أن ظاهره ( قده ) أن الذي نقله بتمامه موجود في الكفاية في الموضعين وفي التعليقة مع أنه ليس كذلك فان قوله : من أن الاقدام على الضرر إلى قوله أو يفوته منفعة أهم من التحرز عنه مضمون ما في الكفاية في الموضعين وقوله وأنه ليس كل منفعة إلى قوله أو فيما يلازمه هو ما في التعليقة.

٩٤

الذي يترتب على الفعل ، بل إذا كانت في خصوص الفعل ، أو فيما يلازمه.

فيكشف كل ذلك عن أن الاقدام على الضرر ـ بما هو ـ غير قبيح عقلا أو شرعا ، بل ربما يكون جائزا أو واجبا. عقلا أو شرعا.

ولا يخفى عليك أن الضرر بما هو كالكذب بحيث لو خلي ونفسه يكون قبيحا ، لاندراجه تحت عنوان الظلم.

بخلاف الظلم فانه بذاته من دون اندراجه تحت عنوان آخر قبيح ، فلا يتخلف عنه قبحه.

وعليه ، فالكذب المنجي للمؤمن من حيث إنه يندرج تحت عنوان العدل والاحسان إلى المؤمن يتصف بالحسن.

وكذا الاقدام على الضرر ، فانه لا منافاة بين أن يكون بنفسه من دون ملاحظة شيء آخر مندرجا تحت عنوان الظلم القبيح ، وبلحاظ ترتب التحرز عن أقوى الضررين عليه ، أو ترتب منفعة عليه مندرجا تحت عنوان حسن.

فاتصافه بالحسن العقلي والشرعي أحيانا لا يكشف عن عدم قبحه لو خلي ونفسه.

فاذا كان الاقدام على الضرر الدنيوي المحتمل ، كالاقدام على الضرر المقطوع كان التكليف المحتمل كاشفا عن المفسدة التي هي على الفرض ضرر دنيوي ، وليس هناك في نفسه ما يتدارك به الضرر حتى لا يكون قبيحا بالفعل ، فيجب الحكم بقبحه عقلا.

هذا إذا كان المراد الاقدام على الضرر ببعض الدواعي العقلائية بما هي دواع عقلائية مبنية على ملاحظة الحسن والقبح.

وأما الدواعي العقلائية بما هي دواع حيوانية موافقة لقوّتي الشهوية والغضبية ، فاقدام العقلاء حينئذ لا يكشف عن عدم القبح ، كيف؟ وأفراد العقلاء بما هم ذوو طباع بشرية يقدمون على ما هو مذموم عقلا ، ومعاقب عليه

٩٥

شرعا.

وثانيهما ـ أن المشاهد من العقلاء ليس إلا الفرار عن الضرر الدنيوي لئلا يقعوا فيه ، لا لئلا يقعوا في ذمّه.

فليس هذا الفرار منهم بما هم عقلاء بملاك رعاية المدح والذم العقلائي حتى يجدي هنا ، بل بما هم ذوو شعور يحبون أنفسهم ويبغضون ما يؤذيهم على حد فرار سائر أنواع الحيوانات من المؤذيات.

وليس ذمهم على من لا يفر من الضرر البحث إلا من باب الذم على عدم شعوره ، لا الذم على الفعل بما هو.

والتحقيق : أن بناء المدح والذم ـ الذي هو ملاك التحسين والتقبيح العقلائيين كما مرّ مرارا (١) ـ على كون الفعل ذا مصلحة عامة وذا مفسدة عامة ، بحيث لو لا هذا المدح والذم الذي هو أول موجبات انحفاظ النظام وأول موانع اختلاله لكانت الطباع البشرية مقتضية للاقدام عليه ، كما في الاضرار بالغير بالاقدام على قتاله ، أو التعرض لعياله ، أو سلب ماله ، لا الاضرار بالنفس بلا فائدة عائدة إليه ، فان الزاجر الطبيعي ، وهو كونه منافرا له في حدّ ذاته كاف في الزّجر عنه ، فان ما يلحقه منه أعظم مما يلحقه من ذم العقلاء.

فالبناء العقلائي على المدح والذم إنما هو فيما لم يكن هناك باعث طبيعي أو زاجر طبيعي ، وهو في الاحسان بالغير والاساءة إليه ، لا في الاحسان الى نفسه بجلب منفعة أو الاساءة إليه بالاقدام على مضرة.

ويشهد لما ذكرنا من عدم قبح الاضرار بالنفس أنه لو كان كالاضرار بالغير ظلما قبيحا لو خلي ونفسه لما ارتفع قبحه بمجرد عود منفعة إليه ، كما لا

__________________

(١) منها ما تقدم في مبحث الانسداد التعليقة ١٤٥. ومنها ما تقدم في مبحث حجية القطع التعليقة ١٠ و ٢١ نهاية الدراية ٣. ومنها ما تقدم في التعليقة السابقة ٢٩.

٩٦

يرتفع قبح الكذب بمجرّد جلب منفعة الى نفسه أو الى غيره.

مع أن تحمل المضارّ لجلب المنافع التي لا يتضرر بعدم تحصيلها مما عليه مدار عمل العقلاء من دون شبهة في عدم قبحه.

وليس كذلك الاضرار بالغير ، فانه قبيح ولو مع عود نفع إليه.

فيعلم أن عدم الاقدام على الضرر المحض لكونه سفهائيا ، لا لكونه قبيحا بملاك قبح الظلم. وعليك بارجاع ما أفاده شيخنا العلامة رفع الله مقامه اليه.

ثم إنه لو سلمنا كون الاقدام على الضرر ظلما على النفس ، لكنه لا يجدي لما نحن فيه ، فإن الحسن والقبح بمعنى كون الفعل ممدوحا عليه ، وكونه مذموما عليه من صفات الأفعال الاختيارية الصادرة عن علم وعمد.

فلا يصدر ضرب اليتيم حسنا إلا إذا صدر بعنوان التأديب اختيارا ، ولا يكفي صيرورته مصداقا للتأديب واقعا.

كما أن الصدق لا يصدر قبيحا إلا ـ إذا صدر بعنوان كونه مهلكا للمؤمن عن علم وعمد ، ولا يكفي كونه واقعا كذلك.

وعليه ، فقبح الفعل بما هو إضرار لا يجدي ، إلا إذا صدر بعنوانه عن علم وعمد.

فوجوب دفع الضرر المحتمل يحتاج إلى بناء آخر من العقلاء دون ذلك البناء.

وحيث إن المحتمل ليس فيه إلا المفسدة الواقعية على فرض ثبوتها ، بداهة أن محتمل المفسدة ليس بأعظم من مقطوعها ، فليس في المحتمل بناء بملاك التحسين والتقبيح العقليين.

نعم يعقل منهم بناء آخر بنحو البناء على حجية الظاهر ، أو حجية خبر الثقة ، بحيث تتنجز المفسدة الواقعية المحتملة باحتمالها على تقدير ثبوتها.

٩٧

إلا أنه لا طريق إليه ، إلا فرار العقلاء من الضرر المحتمل لئلا يقعوا فيه ، لا أن فرارهم هذا لحكمة نوعية تدعوهم إلى الفرار ، كما في البناء على العمل بالظاهر ، أو بخبر الثقة ، حتى يكون هذا البناء بضميمة إمضاء الشارع ، أو عدم ردعه عنه موجبا لمنجزية الاحتمال شرعا.

ومن جميع ما ذكرنا تبين أنه لا صحة لوجوب دفع الضرر المحتمل ، لا بملاك التحسين والتقبيح العقليين ، ولا بملاك آخر يجدي في المقام.

٣١ ـ قوله (قدّس سره) : حيث إنهم لا يحترزون عما لا يؤمن مفسدته (١) ... الخ.

الأولى تسليم احترازهم ، وعدم الدلالة على أنه بملاك التحسين والتقبيح ، وإلا فاحترازهم عن المفسدة المحتملة إذا كانت ضررا دنيويا مما لا يكاد ينكر.

كما أنّ إذن الشارع لا يكشف عن أنّه لو خلي ونفسه لا يكون قبيحا ، بل عن أنه ليس موضوعا تامّا للقبح كالظلم على ما عرفت تفصيله (٢) ، ويجدي القبح في نفسه للخصم عند ملاحظة القاعدتين العقليتين كما عرفت.

وأمّا ما حكي عن شيخ الطائفة (قدّس سره) من استشهاده بقبح الأخبار عما لا يعلم.

فهو مدفوع بأنه ليس من أجل كونه محتملا للكذب ، بل من أجل كونه إغراء بالجهل على حدّ الأخبار عما يعلم عدمه.

فالوجه في قبحه اشتراكه مع الكذب في العنوان القبيح.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٤.

(٢) في التعليقة المتقدمة.

٩٨

[ الاستدلال بآية التهلكة على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية ]

٣٢ ـ قوله (قدّس سره) : وعن الالقاء في التهلكة (١) ... الخ.

توضيح الجواب عن هذه الآية أن المراد من التهلكة ، إما هي التهلكة الأخروية أو الدنيوية :

فان أريد الأولى ، فالنافع للخصم كون النهي نفسيا ، أو طريقيا بداعي تنجيز الواقع.

وحيث إن العقاب مفروض الثبوت فلا مجال للنفسية ، إذ ليس في الاقدام على العقاب عقاب آخر بواسطة مخالفة هذا النهي.

ولا للطريقية ، لأن النهي الطريقي كالأمر الطريقي هو المصحح للعقوبة على الواقع المحتمل.

والعقوبة هنا مفروضة ، فلا يعقل كون النهي موجبا لها ، فلا مجال إلا لكونه إرشادا إلى التحرز عن موارد العقوبة ، والحكم لا ينقح موضوعه.

مع ما بينا من الدليل العقلي والنقلي على عدم العقوبة على التكليف المجهول.

وإن أريد الثانية ففيه : أولا : أنه خلاف الظاهر ، مع أن كل مفسدة ليست تهلكة جزما.

وثانيا أن النهي إن كان نفسيا فهو معقول ، إلا أن فعلية الحكم بفعلية الموضوع ، فلا يجدي إلا في صورة إحراز المفسدة بالمعنى المزبور ، لا في صورة

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٤٤.

٩٩

احتمالها.

وإن كان طريقيا ، فهو بنفسه غير معقول ، إذ التنجز لا يعقل أن يكون إلا بمنجز ، كتنجيز الواقع بالخبر ، أو باليقين السابق ، أو باحتماله.

والظاهر من التهلكة نفس المفسدة ، أو العقوبة ، لا احتمالها.

فلا يعقل تنجيز المفسدة بنفس ثبوتها واقعا.

ولا وجه لدعوى صدق التهلكة عرفا على الأعم من التهلكة المتيقنة والمحتملة ، فانها كسائر الألفاظ الموضوعة لذوات المعاني ، وكذلك الحكم مرتب على واقعها ، وفعليته بفعليتها.

وليست التهلكة بمعنى مظنّة الهلاكة ، فانها مصدر المزيد كالتوسعة والتوصية وأشباههما ، واسم المكان هي المهلكة ، فلا موجب للتعميم بوجه من الوجوه.

* * *

١٠٠