نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-40-X
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٦٤

البراءة ، لا على مجرد التبعية في مقام الاثبات أو الثبوت ، فضلا عن السراية الحقيقية التي يكذبها الحس والعيان غالبا.

ولا يخفى عليك أن هذا المعنى لا يستدعي التمحّض في الوساطة في العروض ، حتى يقال : بأنه لا شبهة في وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس المعلوم ، ولو مع فقد عين النجس ، فانه له ـ بما هو نجس بالتبع ـ حكم ، وله ـ بما هو من شئون عين النجس أيضا ـ حكم.

كما إذا فرض أن ولد العالم عالم أيضا ، فانه من حيث إنه عالم يجب إكرامه ، ومن حيث إنه ولد العالم فاكرامه إكرام أبيه العالم.

وتظهر الثمرة في صورة الشك فانه مع الشك فى علمه يجري البراءة عن وجوب إكرامه ، لكنه مع الشك في أن من مع العالم هل هو ابنه أم لا فانه ينبغي الاحتياط حيث لا يقطع بتحقق إكرام العالم إلا باكرامه ، فكذلك فيما نحن فيه.

نعم : التحقيق عدم ثبوت الوساطة في العروض ، لا لما ذكر من وجوب الاجتناب عن الملاقي مع عدم وجوب الاجتناب عن ملاقاه ، لعدم المنافاة كما مر من امكان اجتماع الحيثيتين في الملاقي.

بل لانه اذا اجتنب عن النجس ولم يجتنب عن ملاقيه فقد اجتنب حقيقة عن فرد من نجس ولم يجتنب عن فرد آخر منه ، لا انه لم يجتنب اصلا كما لا يخفى.

٨٤ ـ قوله ( قده ) : وأنه تارة يجب الاجتناب عن الملاقى دون ملاقيه (١) ... الخ.

حاصل الوجه في عدم وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه بالنجس عقلا عدم العلم بفرد آخر من النجس غير ما علم به أولا بين الإناءين ، وحيث لا علم فلا يجب الاحتياط.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٦٢.

٢٨١

إلا أن مجرد عدم العلم بفرد آخر من النجس ليس مناطا لعدم وجوب الاحتياط ، كيف ومع سبق الملاقاة على العلم الاجمالي ، كما في الصورة الثالثة الآتية في كلامه (قدس سره) أيضا ليس هناك علم بفرد آخر من النجس ، ومع ذلك أوجب الاحتياط فيها؟

بل لا يجب العلم بأصل وجود النجس في وجوب الاحتياط ، ويكفي مجرد كونه من أطراف العلم ، كما إذا علم بنجاسة هذا الإناء أو بغصبية ذلك الإناء الآخر ، فانه لا شبهة في منجزية هذا العلم ، فلا يجب في الاحتياط إلا الطرفية للعلم.

ومن الواضح أن الملاقي بعد الملاقاة طرف للعلم وجدانا ، بداهة أن الشخص بعد الملاقاة يقطع بأن هذا الاناء نجس أو ذاك الإناء الآخر وملاقيه معا للقطع بالملازمة بينهما.

بل غرضه (قدس سره) من عدم العلم بفرد آخر من النجس عدم كون الملاقي في هذه الصورة طرفا للعلم المنجز ، لا عدم كونه طرفا فقط ، وذلك لأن العلم الاجمالي بعد تعلقه بالنجس المعلوم بين الإناءين أوجب تنجّز التكليف المعلوم ، وبعد حدوث الملاقاة ـ وصيرورة أطراف العلم ثلاثة وجدانا ـ لا يعقل تأثير العلم الثاني ؛ إذ المنجز لا يتنجز.

فهذا العلم الثاني لم يتعلق بتكليف لم يتنجز حتى يعقل تنجزه بالعلم الحادث ثانيا ، لاحتمال أن يكون التكليف في طرف الملاقى ـ بالفتح ـ ، وبعد تنجزه لا علم بتكليف آخر لم يتنجز حتى يتنجز بالعلم الثاني ، بل مجرد احتمال التكليف في الملاقي ـ بالكسر ـ تبعا للملاقى ـ بالفتح ـ.

بخلاف الصورة الثالثة ، فان العلم حدث بعد الملاقاة فقد تعلق بتكليف لم يتنجز بعد ، وإنما يتنجز بهذا العلم.

ولا يقاس انقلاب العلم الأول إلى ما صار أطرافه ثلاثة بصورة انقسام

٢٨٢

أحد الإناءين الى قسمين ، فكما أن مقتضى الملازمة بين الاجزاء في العلم هو الاحتياط ، كذلك الملازمة بين الملاقى وملاقيه في الحكم.

وجه فساد القياس : أن وجوب الاحتياط في صورة الانقسام ليس لمجرد الملازمة ، بل لأنه تفريق لما تنجز حكمه.

بخلاف ما نحن فيه ، فانه لا معنى للملازمة بين ما تنجز وما لم يتنجز.

فان قلت : بناء على أن الحجية الشرعية بمعنى تنجيز الواقع إذا قامت البينة على نجاسة شيء فلاقاه شيء آخر ، فان مجرد قيام الحجة على نجاسة ذلك الشيء يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن ملاقيه.

ولا فرق بين المنجز الشرعي والعقلي ، فانه لا تفاوت بينهما إلا أن الأول بحكم الشارع والثاني بحكم العقل ، وإلا فأثر كل منهما استحقاق العقوبة على تقدير المصادفة.

وبعد تنجز الحكم في الملاقى ـ بالفتح ـ على تقدير ثبوته فيه واقعا يجب الاجتناب عن ملاقيه أيضا ، وإن لم يكن عليه منجز عقلي ، كما في ملاقي ما قام عليه المنجز الشرعي ، فانه لا منجز شرعي على الملاقي ، ومع ذلك يجب الاجتناب عنه بتبع تنجز الحكم في ملاقاه.

قلت : أولا إن دليل المنجز الشرعي كما يدل بالمطابقة على تنجز وجوب الاجتناب عن ما قامت البينة على نجاسته ، كذلك يدل بالالتزام على وجوب الاجتناب عن ملاقيه ، وليس هذه الدلالة في طرف المنجز العقلي الذي هو بحكم العقل.

وثانيا : إذا كان احتمال التكليف المقرون باحتمال آخر هو المنجز للتكليف المحتمل عقلا ، صح قياس المنجز العقلي بالمنجز الشرعي.

وأما إذا كان المنجز هو العلم ، وكان احتمال التكليف المنجز بالعلم هو المقتضي لوجوب الموافقة القطعية ، فلا مجال للقياس ، فان ملاقي ما قامت عليه

٢٨٣

البينة ملاق لما تنجز حكمه بالمنجز الشرعي قطعا.

بخلاف ما نحن فيه ، فان المنجز هو العلم والمعلوم هو المنجز ، ولا ملاقي للمعلوم لا إجمالا ولا تفصيلا بل احتمالا فقط.

ومن جميع ما ذكرنا تبين عدم صلاحية العلم الاجمالي ـ في هذه الصورة ـ لوجوب الاجتناب عقلا عن الملاقي.

ومع عدم المقتضي عقلا لوجوب الاجتناب لا وجه للاستناد إلى المانع ، كما هو ظاهر الشيخ الأعظم (قدس سره) في رسالة البراءة (١) وفي كتاب الطهارة (٢) ، حيث استند في عدم وجوب الاجتناب عقلا عن الملاقي إلى سلامة أصالة الطهارة فيه عن المعارض.

فان انحلال العلم بجريان الأصل الغير المعارض ، إنما يحتاج إليه إذا كان مع عدم الانحلال مقتضيا لوجوب الاجتناب.

وليس باب العلم الاجمالي باب ترتيب آثار الطاهر والنجس ـ بما هما طاهر ونجس ـ ليتوهم الحاجة فيه إلى إجراء الأصل ، بل بابه باب تأثير العلم في وجوب الاجتناب عقلا ، وعدمه. فافهم جيدا.

٨٥ ـ قوله ( قده ) : وأخرى يجب الاجتناب عما لاقاه دونه (٣) ... الخ.

ذكر (قدس سره) في هذه الصورة الثانية مثالين لوجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ دون الملاقى ـ بالفتح ـ بعكس الصورة المتقدمة.

أحدهما : ما إذا علم إجمالا بنجاسة هذا الإناء أو الإناء الآخر ، ثم علم بملاقاة ذلك الاناء الآخر لاناء ثالث من قبل ، مع علمه إجمالا بنجاسة ذلك

__________________

(١) فرائد الأصول المحشى ٢ / ٨٦.

(٢) كتاب الطهارة للشيخ الأنصاري قده / ٤٢.

(٣) كفاية الأصول / ٣٦٣.

٢٨٤

الثالث أو طرف الملاقي ـ بالكسر ـ.

فحيث إن العلم الاول أثّر أثره ، فلا يبقى مجال للعلم الثاني في تنجيز نجاسة الثالث وهو الملاقى ـ بالفتح ـ.

وحيث إنه علم بملاقاة ذلك الاناء الآخر للثالث دخل في أفراد الملاقي ـ بالكسر ـ المبحوث عن وجوب اجتنابه وعدمه.

ومنه يعلم أن الملاقي ، وإن كان طرفا للعلم بالنجاسة من الأول ، لكنه لا بعنوان الملاقي ، وبعد العلم بملاقاته سابقا يحتمل نجاسته من قبل ملاقاته ، ومثله داخل في محل البحث ، لا ما إذا احتمل نجاسته لوجه آخر ، فانه أجنبي عن مسالة الملاقي.

وكون نجاسة الملاقي فرعا لنجاسة ملاقاه لا يقتضي أصالة ملاقاه في التنجز.

كما لم يقتض فرعية الملاقي لتنجز ملاقاه في الصورة السابقة ، فان باب الملازمة بين النجاسة في الأصل والفرع غير باب الأصالة ، والفرعية في التنجز والوجوب العقلي.

ثانيهما : ما إذا كانت الملاقاة قبل العلم الاجمالي وخرج الملاقى ـ بالفتح ـ عن مورد الابتلاء حال حدوث العلم أو قبله ، فان طرف العلم المؤثر منحصر في الملاقي ـ بالكسر ـ وطرف الملاقى ـ بالفتح ـ ، فيؤثر العلم الاجمالي بالاضافة إلى التكليف المعلوم بينهما.

ودخول الملاقى ـ بالفتح ـ بعد ذلك في مورد الابتلاء ، وان كان يوجب حصول شرط التنجز من حيث الابتلاء ، لكنه لم يبق تكليف على أي تقدير غير منجز كي يتنجز بهذا العلم.

وربما : يتوهم أن الملاقي ـ بالكسر ـ ليس طرفا للشبهة ، بل طرفا الشبهة هما الملاقى ـ بالفتح ـ وما هو في عرضه.

٢٨٥

غاية الأمر أنه لم يكن العلم منجزا للخروج عن مورد الابتلاء ، وبعد دخول الملاقى ـ بالفتح ـ يؤثر العلم بالتكليف أثره.

وكان منشأ التوهم ؛ أن البول المعلوم أو الخمر المعلوم أو ما أشبه ذلك مردد بين الإناءين ، وليس الملاقي طرفا لهذا العلم.

ويندفع : بأن الغرض من الطرفية ليس انطباق عنوان البول أو الخمر أو جامع آخر على كل من الطرفين ، بل مجرد الطرفية للتكليف الصالح للتنجّز.

ومن البيّن حصول العلم الوجداني بأن هذا نجس أو ذاك متنجس ، فيجب الاجتناب على أي تقدير شرعا ، فيتنجز بالعلم به عقلا.

وربما يقال (١) : بأن العلم حيث إنه طريقي لم يؤخذ على وجه الصفتية ، فالعبرة حينئذ بسبق المعلوم ، وإن كان العلم به متاخرا في الوجود ، وحيث إن الملاقى ـ بالفتح ـ سابق بالرتبة على الملاقي ـ بالكسر ـ فهو يتنجّز قبل تنجّز الملاقي ـ بالكسر ـ بسبب العلم الثاني وإن كان متأخرا.

ويندفع : بأن الطريقية لا يقتضي إلا أن المعلوم السابق إذا كان له أثر يترتب عليه فعلا ، لترتبه على وجوده لا على العلم به ، فاذا لاقاه شيء قبل العلم به يترتب عليه فعلا أثر ملاقاة النجس ، ولا مجال لتوهم لزوم الملاقاة بعد العلم بالنجس.

وأما عدم تأثير العلم الاجمالي الأول فلا معنى له ، لأن مجرد وجود شيء واقعا سابق في الرتبة لا يعقل أن يكون بوجوده مانعا عن تأثير العلم الوجداني ، ووجوده العلمي المتأخر يستحيل أن يمنع فعلا عن تأثير العلم الاجمالي ؛ لأن المعدوم حال وجود المقتضي وترقب تاثيره لا يعقل أن يكون مانعا عن تأثيره.

ومانعيته عن تأثير العلم الأول بقاء توجب الدور ؛ لأن مانعيته فرع كونه

__________________

(١) القائل هو المحقق النائيني قده ، أجود التقريرات ٢ / ٢٦٣.

٢٨٦

علما بحكم فعلي على أي تقدير ، وغير منجز بمنجز سابق ، وكونه كذلك فرع سقوط العلم الأول عن التأثير بقاء ، فافهم جيدا.

وربما يتوهم أن مقتضى عدم منجزية العلم للملاقى ـ بالفتح ـ بعد دخوله في مورد الابتلاء جريان أصالة الطهارة فيه ، لسلامتها عن المعارض على الفرض ، لتساقط الأصلين في طرفي العلم الاجمالي الأوّلي ، ومقتضى جريان أصالة الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ التعبد بطهارة ملاقيه ، وإلا لزم انفكاك المسبب عن سببه ، ومقتضى طهارة الملاقي ـ بالكسر ـ وعدم جريان حكم المقدمة العلمية عليه عدم جريان أصالة الطهارة في الملاقى ـ بالفتح ـ ، لدوران النجس المعلوم إجمالا بينه وبين ما هو في عرضه ، فيتساقط الأصلان فيهما.

فلازم طرفية الملاقي ـ بالكسر ـ للعلم الاجمالي هذا المحذور المحال ، بخلاف ما إذا انحصر الطرف في الملاقى ـ بالفتح ـ وما هو في عرضه ، فانه قبل تمامية شرائط التنجز لا يجب الاجتناب عن شيء منهما ، وبعد التمامية يجب.

ويندفع : بأنا نلتزم بانفكاك المسبب عن سببه بلحاظ بعض الآثار ، لمكان الموجب له ، فان التعبد بعدم وجوب الاجتناب عن الملاقي ـ بالكسر ـ إنما يصح بتبع التعبد بعدمه في الملاقى ـ بالفتح ـ إذا لم يكن هناك مانع عقلي أو شرعي.

توضيحه : أن شرائط تنجز التكليف بين الملاقي ـ بالكسر ـ وطرفه ، مع خروج الملاقى ـ بالفتح ـ عن مورد الابتلاء ، كانت تامة ، من حيث وجود العلم وانحصار التكليف الفعلي وعدم أصل حاكم على الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ ، لأن الخروج عن مورد الابتلاء ، كما يمنع عن فعلية التكليف بالاجتناب عن الخارج ، كذلك عن جريان الأصل العملي المطلوب منه ترتيب أثر عملي عليه.

وبعد دخوله في محل الابتلاء يجري فيه الأصل الذي لا معارض له ؛ لسقوطه سابقا بالمعارضة مع الأصل في الملاقي بالكسر ، ولم يوجد موضوع جديد ليكون له تعبد جديد.

٢٨٧

ومقتضى التعبد بطهارة الملاقى ـ بالفتح ـ بعد تنجز التكليف في الملاقي ـ بالكسر ـ وطرفه ليس إلا ترتيب أثر الطاهر بما هو طاهر على الملاقي ـ بالكسر ـ لا رفع وجوب الاجتناب العقلي التابع للعلم الاجمالي الذي لا مانع منه عند تأثيره ، فيجب الاجتناب عقلا عن الملاقي ـ بالكسر ـ وعن طرفه ، وإن كان لايعامل معه معاملة النجس من حيث ملاقاة شيء معه ، فضلا عن طرفه ، فان خروج الملاقي ـ بالكسر ـ عن وجوب الاجتناب لا يمنع بقاء احتمال التكليف المنجز في الآخر على حاله ، فتدبر جيدا ، فانه حقيق به.

٨٦ ـ قوله ( قده ) : وثالثة يجب الاجتناب عنهما فيما لو حصل (١) ... الخ.

وعن بعض الأجلة (قدس سره) (٢) تسليم طرفية الملاقي بالكسر للعلم الاجمالي ـ في الصورة الثانية المتقدمة ـ بناء على تعميم تنجيز العلم لما إذا تعلق بخطاب مفصل أو بخطاب مردد ، لتردده بين وجوب الاجتناب عن النجس أو المتنجس هناك ، دون هذه الصورة ، حيث لا علم بخطاب مردد ، بل يعلم بخطاب مفصل ، وهو وجوب الاجتناب عن النجس بين الإناءين ، ويحتمل خطابا آخر في الملاقي ـ بالكسر ـ.

وفيه : أن تنجيز العلم الاجمالي لا يدور أمره بين الأمرين ، من حيث تعلقه إما بخطاب مفصل أو بخطاب مردد ، ليتوهم أنه لم يتعلق بالمردد ، فمتعلقه مفصل ، والملاقي محتمل ، بل من أنحاء تعلقه أن يتعلق بتكليف في طرف ، وتكليفين في طرف آخر متوافقين أو متخالفين ، كما إذا علم بنجاسة هذا الاناء أو بنجاسة ذاك الاناء وغصبية الثالث ، فانه لا ريب في تنجيز التكليف الواقعي بالعلم ، وليس

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٦٣.

(٢) وهو المحقق الآشتياني قده. بحر الفوائد ٢ / ١١ ـ ١١٠.

٢٨٨

أحد التكليفين بالإضافة إلى الآخر قدرا متيقنا حتى يتوهم انحلاله إلى خطاب مفصل معلوم وخطاب آخر مشكوك.

نعم ما أفاده شيخنا العلامة ( رفع الله مقامه ) هنا من وجوب الاجتناب من جميع الأطراف ، إنما هو بالنظر الى مقتضيات العلم الاجمالي ، حيث إنه تعلق بتكليف غير منجز ، فيصلح لأن يتنجز بالعلم ، بخلاف الصورتين السابقتين ، وإلا فالأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ ليس في عرض الأصل في الملاقى بالفتح ، ليكونا معا معارضين للأصل في الطرف الآخر ، فيتساقط الجميع ، بل الأصل في الملاقى ـ بالفتح ـ في عرض الأصل في الطرف الآخر فقط ، فيبقى الأصل في الملاقي ـ بالكسر ـ سليما عن الأصل الحاكم وعن الأصل المعارض ، فينحل العلم بالاضافة إليه ، فتدبر جيدا.

* * *

٢٨٩

[ العلم الاجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر ]

٨٧ ـ قوله ( قده ) : وتوهم انحلاله إلى العلم بوجوب الأقل (١) ... الخ.

توضيح الانحلال على ما هو المعروف في تقريبه : أن الأقل معلوم الوجوب على أي حال ؛ لأنه إما واجب لنفسه واما واجب لغيره وهو الأكثر ، دون الأكثر فانه يحتمل وجوبه لنفسه فقط.

ولا يلزم من وجوب الأقل لغيره المبني على وجوب الأكثر لنفسه مع جريان البراءة عن وجوب الأكثر محذور ، لأن البراءة عن الأكثر ليست إلا رافعة لتنجّز الأمر بالأكثر ، لا أنها رافعة لأصل الأمر ، والوجوب المقدمي للأقل لا يتوقف إلا على وجوب الأكثر واقعا ، لا على تنجزه.

ومع العلم التفصيلي بوجوب الأقل واقعا لا يعقل إجراء البراءة عنه للقطع بمخالفته للواقع.

ويورد عليه : بان الوجوب المعلوم تفصيلا إذا كان له أثر على أي تقدير صح الانحلال بالإضافة إلى المعلوم بالاجمال الذي له الأثر على اي تقدير. ومن المعلوم أن وجوب الأقل لغيره لا أثر له ، لما حقق في محله من أن الوجوب المقدمي لا يترتب على موافقته ثواب ولا على مخالفته عقاب.

وأجيب عنه : بأن الواجب المقدمي وإن لم يترتب على تركه عقاب من حيث نفسه ، لكنه من حيث إن تركه سبب لترك ما يترتب عليه العقاب له الأثر.

فالأقل مما يقطع بأنه إما يترتب على تركه العقاب ، أو يترتب العقاب على

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٦٤.

٢٩٠

ترك ما هو مسبب عن تركه.

فكما يصح دعوى الانحلال من حيث الوجوب بكونه معلوما بالتفصيل في الأقل ، فكذا يصح دعواه من حيث التنجز وترتب العقاب على ترك الأقل.

وأورد عليه ـ كما في المتن ـ بأن الانحلال من حيث التنجز في الأقل يستلزم المحال ، لأن ترتب العقاب ولو بالواسطة على الأقل لا يعقل إلا مع تنجز الأمر بالاكثر ؛ لأن الأمر المقدمي كما يتبع الأمر بذي المقدمة وجودا كذلك فعلية وتنجزا. فالالتزام بتنجز الأمر بالأقل على أي تقدير التزام بتنجز الأمر بالاكثر على تقدير ثبوته واقعا ، وهو مع فرض اجراء البراءة عن الأمر بالأكثر وعدم تنجزه خلف محال.

وأيضا مانعية تنجز الأمر بالأقل عن تنجز الأمر بالأكثر كما هو المراد من الانحلال مستحيلة ؛ لأن وجوده بصفة المانعية موقوف على وجود الممنوع ، وما يتوقف وجوده على شيء يستحيل أن يكون مانعا عنه.

وأيضا تنجز الأقل حيث إنه تابع لتنجز الأكثر ، فتنجزه يستلزم تنجز الأكثر ، وتنجز الأكثر يستلزم بقاء العلم الاجمالي على حاله وعدم انحلاله ، فيستلزم عدم تنجز الأقل الموجب لانحلال العلم وعدم تنجز الأكثر ، فيلزم من تنجز الأقل بهذه الواسطة عدم تنجز الأقل ، وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال.

وإن شئت قلت : يلزم من الانحلال بدعوى تنجز الأقل عدم الانحلال ؛ لأنه مستلزم لتنجز الأكثر ، ولا موجب له الا بقاء العلم الاجمالي على حاله.

وبالجملة : تارة ـ نقول : إن فرض تنجز الأقل التابع لتنجز الأكثر فرض المقتضي لعدم الانحلال.

وأخرى ـ نقول : إن فرض تنجز الأقل التابع لتنجز الأكثر المستلزم لبقاء العلم الاجمالي وعدم تنجز الأقل فرض عدم المقتضي للانحلال ؛ إذ المقتضي له تنجز الأقل ، وقد فرض بقاء العلم على حاله ، وعدم ثبوت المقتضي لانحلاله.

٢٩١

وربما يوجه محذور الانحلال بوجه آخر ، وهو : أن فرض عدم تنجز الأمر بالأكثر باجراء البراءة فيه فرض عدم تنجز الأمر بالأقل من حيث وجوبه الغيري.

فلم يبق إلا احتمال وجوبه النفسي ، وهو غير منجز ، فيجوز ترك الأقل أيضا.

فالانحلال يستلزم تجويز المخالفة القطعية وترك الصلاة مثلا رأسا ، وهو باطل جزما. وقد ذكر في التفصي عن هذه العويصة وجوه :

منها : ما عن بعض (١) الأعلام ، وملخصه : أن المراد بعدم تنجز الأكثر هي المعذورية من قبل ترك إذا استند إلى ترك خصوص الجزء المشكوك ، فانه الذي يكون به الأكثر مقابلا للأقل ، لا إذا استند تركه إلى ترك سائر الاجزاء بالاستقلال أو بالانضمام إلى الجزء المشكوك.

ولا منافاة بين المعذورية وعدم العقاب على ترك الأكثر بناء على الأول ، وعدم المعذورية وثبوت العقاب على تركه بناء على الثاني.

وفيه : أنه بعد نفي العقاب على ترك الأكثر بترك الجزء المشكوك المقوم للأكثر الموجب لمقابلته مع الأقل بحده ، لا واجب نفسي يترتب العقاب على تركه إلا الأقل بحده ، وهو محتمل لا مقطوع به ، وليس هناك واجب نفسي آخر يكون الأقل مقدمة له ، حتى يكون تركه سببا لترك ذاك الواجب النفسي المعاقب على مخالفته ، فلا معنى للمعذورية من قبل ترك الأكثر من وجه وعدم المعذورية من قبل تركه من وجه آخر الا على الوجه الذي سنحققه ، ولا يبعد رجوع هذا الوجه إليه فانتظر.

__________________

(١) هو المحقق الكبير الميرزا محمد تقي الشيرازي قدس الله نفسه الزكيّة. رسالة أحكام الخلل المنضمة الى تعليقته على المكاسب / ١٧٤.

٢٩٢

ومنها : ما عن بعض السادة الأعلام (قدس سره) وهذه عبارته : احتمال ترتب العقاب على ترك الأقل ، مع عدم ما يوجب الأمن منه ، كاف في إلزام العقل بوجوب الاتيان به.

مع أنه على تقدير وجوب الأكثر يكون ترك الأقل تجرّيا ومستلزما للعقاب إن قلنا فيه بالعقاب.

وفيه : أن مجرد احتمال وجوب الأقل لنفسه لا يلازم احتمال العقاب حتى يجب دفعه عقلا.

وليس منشأ حكم العقل بمراعاة هذا الاحتمال إلا اقترانه باحتمال وجوب الأكثر لنفسه ، فيعلم بترتب العقاب على الواجب النفسي المعلوم في البين.

وإلا فمع عدم مراعاة احتمال وجوب الأكثر لنفسه ، وتمحض الاحتمال في وجوب الأقل لنفسه فعلا ، كان حاله حال سائر الواجبات النفسية المحتملة ، من دون مزيّة لهذا الواجب ، حتى يكون احتماله ملازما لاحتمال العقاب.

ومنه علم حال التجري ، فانه إنما يصح إذا كان على فرض مصادفته للواقع منجزا له ، حتى يكون تركه على فرض مخالفته للواقع تجريا.

ومنها : ما عن بعض أجلة العصر (١) ، وهو قياس العلم بوجوب الأقل لنفسه أو لغيره ، بقيام الحجة الشرعية على الطريقية المحضة وتنجيز الواقع على تقدير المصادفة قائلا : بأن العلم بالتكليف المتعلق بالأقل لما لم يعلم كونه مقدميا أو نفسيا يجب عند العقل موافقته ؛ لأنه لو كان نفسيا لم يكن له عذر في تركه ، كما في التكاليف الطريقية ، حيث إن وجوب امتثالها عند العقل من جهة احتمال مصادفتها للواقع ، وان المكلف على هذا التقدير لم يكن معذورا.

__________________

(١) هو المحقق الحائري قده. درر الفوائد / ٤٧٤.

٢٩٣

هذا ، وحاصله ان ملاك الانحلال قيام الحجة الشرعية أو العقلية في بعض الأطراف لاشتراكهما في العلم باستحقاق العقاب على تقدير ، لا على جميع التقادير.

وفيه : أن ضم الوجوب الغيري إلى الوجوب النفسي هنا أجنبي عن العلم باستحقاق العقاب على تقدير النفسية.

بل العلم به على تقدير : إن كان لأجل العلم الاجمالي بوجوب الأقل نفسيا أو بوجوب الأكثر نفسيا فدعواه صحيحة ، إلا أنه لا يعقل أن يكون تأثير العلم في طرف مانعا عن تأثيره في طرف آخر ، مع تساوي نسبته إليهما.

وإن كان لأجل احتمال وجوب الأقل نفسيا فقط ، فدعوى العلم بالعقاب على تقدير المصادفة غير صحيحة ، إذ لا دليل على منجزية الاحتمال.

وهذا هو الفارق بين الاحتمال الناشئ من الحجة الشرعية القائمة على بعض الأطراف ، والاحتمال هنا ؛ لأن الطريق الموجب للاحتمال مقطوع الحجية والمنجزية على تقدير المصادفة ، دون الاحتمال هنا.

وقد عرفت أن ضم احتمال الوجوب الغيري لا يجدي في العلم بالعقاب على تقدير.

ومنه تعرف الفرق بين المقيس والمقيس عليه من وجهين :

أحدهما : من حيث المقتضي ، فان المقتضي للمنجزية في الحجة الشرعية موجود ، وفي الاحتمال هنا غير موجود ، وضم احتمال الوجوب الغيري لا يوجب منجزية احتمال الوجوب النفسي.

وثانيهما : من حيث المانع ، فان اختصاص الحجة الشرعية ببعض الأطراف يمنع عن تاثير العلم الاجمالي في كل طرف ، لما مرّ سابقا من أن المنجز لا يتنجز ، فلا بد من تعلق العلم بتكليف غير منجّز حتى يتنجّز بالعلم ، بخلاف ما نحن فيه ، فان نسبة العلم الاجمالي ونسبة الاحتمال إلى كل من الطرفين على

٢٩٤

حد سواء.

وقد عرفت أن اختصاص الأقل بالعلم بالأعم من الوجوب النفسي والغيري لا يجدي ، إذ ملاك العقاب احتمال وجوبه النفسي ، لا احتماله واحتمال وجوبه الغيري معا ، فتشكيل العلم وجعله حجّة عقليّة وقياسها بالحجّة الشرعيّة على الطريقيّة بجامع احتمال العقاب على تقدير مغالطة واضحة.

والتحقيق في تقريب الانحلال : أنا لا نقول بوجوب الأقل إما لنفسه أو لغيره حتى يقال : بأن تنجزه على أي تقدير فرع تنجز الأكثر ، فيلزم المحاذير المتقدمة ، بل الاجزاء ـ كما حقق (١) في مبحث مقدمة الواجب ـ وإن كانت مقدمات داخلية ، لكنها غير واجبة بوجوب غيري مقدمي ، لما ذكر من المحذور في محله.

بل هناك وجوب نفسي واحد منبعث عن إرادة نفسية واحدة منبعثة عن غرض واحد قائم بالاجزاء بالأسر التي عين الكل.

فوزان الوجوب النفسي الواحد القائم بالاجزاء بالأسر وزان الوجود العلمي المتعلق بمعنى تأليفي تركيبي ، كالدار المؤلفة من عدة معان ، كالسقف والقباب والجدران وغيرها.

وانبساطه على تلك الأجزاء بالأسر ليس كانبساط البياض على الجسم ، بحيث يكون لكل قطعة منه حظ من البياض بنفسه ، بل كانبساط الوجود الذهني على الماهية التركيبية ، فان المجموع ملحوظ بلحاظ واحد ، لا كل جزء

__________________

(١) أما كونها مقدمات داخلية فقد تعرض له في مبحث مقدمة الواجب. نهاية الدراية ١ : التعليقة ٢٣٢.

وأما عدم كونها واجبة بوجوب غيري فقد ذكره في المبحث المزبور ايضا. نهاية الدراية ١ : التعليقة ٢٢٩.

وأما كونها واجبة بوجوب واحد نفسي ففي المبحث المزبور ايضا في التعليقة ٢٢٨.

٢٩٥

بلحاظ يخصه.

فنقول : لا ريب في أن هذا الوجوب النفسي الشخصي المعلوم أصله منبسط على تسعة أجزاء بتعلق واحد ، وانبساطه بعين ذلك التّعلّق على الجزء العاشر المشكوك مشكوك.

فهذا الوجوب النفسي الشخصي المعلوم بمقدار العلم بانبساطه يكون فعليا منجزا ، وبالمقدار الآخر المجهول لا مقتضي لفعليّته وتنجّزه.

وحيث إن المنبسط على ذات الأقل هو الوجوب النفسي الذي لموافقته ومخالفته ثواب وعقاب ، فلا يتوقف فعليّته وتنجّزه على تكليف آخر غير معلوم الحال.

نعم : لا يعلم أن المنبسط عليه بحسب الفعلية تمام المنبسط عليه واقعا أو بعضه ، ولا يخرج هذا التكليف النفسي المعلوم عن كونه نفسيا أو عن كونه بالعلم فعليا ، بعدم العلم بأن المنبسط عليه علما تمام ما هو المنبسط عليه واقعا أم لا.

فان قلت : كون الأقل معلوم الوجوب بالوجوب النفسي المتعلق به على أي حال إنما هو باعتبار أنه ، إما تمام متعلق الوجوب النفسي وكلّه أو بعضه.

وكونه بعضه لا ينفك عن كون الأكثر كل المتعلق وتمامه ، لا كالوجوب المقدمي التابع لوجوب ذي المقدمة ، إذ لا تعدد لحقيقة الوجوب ، ولا عليّة بين المتضايفين.

فليست بعضيّة الأقل معلولة لكليّة الأكثر ، بل لأن البعضيّة والكليّة متضايفتان والمتضايفان متكافئان في القوة والفعلية.

ففعلية بعضية الأقل ملازمة لفعلية كلية الأكثر.

فكون الأقل متعلقا فعلا للوجوب النفسي يستدعي أن يكون على تقدير كليّته فعليا وعلى تقدير بعضيّته فعليا.

وفعلية البعضية على تقدير يستدعي فعلية كليّة الأكثر على ذلك التقدير.

٢٩٦

مع أن الفرض فرض عدم فعلية الوجوب النفسي بالاضافة إلى الأكثر ، فكيف تكون بعضية الأقل فعلية.

قلت : بعضية الأقل واقعا ملازمة لكلية الأكثر واقعا.

واحتمال بعضية الأقل ـ الملازم لاحتمال كلية الأكثر واقعا ـ حيث إنه مقرون باحتمال كلية الأقل واقعا ، فلذا يكون تعلق الوجوب المعلوم أصله بذات الأقل معلوما.

والعلم بالوجوب النفسي المتعلق بهذا المقدار يوجب فعليته وتنجزه بهذا المقدار.

وأما بعضية الأقل فعلا فلا ندعيها حتى يلازم فعلية كلية الأكثر ، بل ندّعي فعلية الأمر بذات الأقل للعلم به.

والذي ينتزع عن ذات الأقل فعلا هي كلية ذات الأقل للامر النفسي بالمقدار المعلوم الذي صار فعليا ، فذات الأقل حقيقة هي كل ما صار الأمر بالاضافة إليه فعليا ، وكل جزء منه هو بعض ما صار الأمر بالنسبة إليه فعليا.

وهذا معنى ما ذكرنا : من أن عدم العلم بأن ذات الأقل تمام ما انبسط عليه الأمر أو بعضه واقعا ، لا يخرج الأمر المتعلق به عن النفسية وعن الفعلية ، فتدبره فانه حقيق به.

ومنه يتضح اندفاع دعوى (١) : أن المعلوم تفصيلا هو الجامع بين الماهية اللابشرط القسمي بالاضافة إلى الجزء المشكوك والماهية بشرط شيء ، وهي مهملة في قوة الجزئية ، ولو كان العلم بالجامع كافيا في الانحلال لزم انحلال العلم الاجمالي بنفسه ، لكونه دائما علما بالجامع بين شيئين.

وجه وضوح الاندفاع : أن الاعتبار اللابشرطي والاعتبار البشرطشيء

__________________

(١) المدعى هو المحقق النائيني قده. أجود التقريرات ٢ / ٢٨٨.

٢٩٧

وان كانا متقابلين ، إلاّ أن تقابل الاعتبارات لا يقتضي تقابل ما له الاعتبار ، ولذا اشتهر أن الماهية اللابشرط شيء يجتمع مع ألف شرط.

ومن المعلوم أن ذات الماهية اللابشرط هي الواجبة بالحمل الشائع ، لا بما لها من الاعتبار ، وهذه الذات معلومة الوجوب تفصيلا.

وأما المغالطة من حيث انحلال العلم بنفسه.

فمندفعة ، بأن الجامع في سائر الموارد قابلة للانطباق على كل من المحتملين ، فلا يعقل تعين أحدهما بنفس هذا العلم.

بخلاف ما نحن فيه ، فان تشكيل العلم الاجمالي وفرض الاحتمالين والجامع بملاحظة فرض اللابشرطية في الأقل.

وقد عرفت انها غير دخيلة لا في الوجوب ولا في النفسية ، فافهم واستقم.

فان قلت : مقتضى كون الواجب ارتباطيا عدم الفراغ عن عهدة الأقل المعلوم وجوبه إلا باتيان الأكثر ، إذ كما يحتمل أن يكون الأقل مطلوبا وحده ، كذلك يحتمل أن يكون مطلوبا في ضمن الكل ، وعلى التقدير الثاني لا يتحقق الواجب إلا باتيان الأكثر حتى يتحقق المطلوب في ضمن الكل.

قلت : ليس إتيان كل جزء شرطا لوجوب كل جزء ولا قيدا لنفس الجزء ، بل نسبة الأجزاء إلى الوجوب النفسي الواحد المتعلق بها بتعلق واحد على حدّ واحد ، لا يكون بعضها بالنسبة إلى بعضها الآخر شرطا لطلبه ولا لنفسه ؛ لاستحالة شرطية الشيء لوجوب نفسه ، وللزوم الخلف من فرض القيدية. لتمحض البحث في الجزئية.

وإنما الارتباطية بلحاظ تعلق طلب واحد بالاجزاء بالأسر ، لقيام غرض واحد بها.

فمطلوبية كل جزء بعين الطلب الوحداني ملازمة لمطلوبية الجزء الآخر بعين ذلك الطلب الواحد.

٢٩٨

وفعلية مطلوبية ذات بعض الأجزاء ـ لمكان العلم بها ـ لا يستدعي فعلية ما هو مطلوب واقعا بعين ذلك الطلب ، مع عدم العلم الذي هو ملاك فعلية البعث وتنجزه.

ولا يجب الفراغ عقلا إلا عن عهدة ما كان الطلب بالاضافة إليه فعليا ، لا عن عهدة ما هو مطلوب واقعا.

فان قلت : القطع بانبساط الوجوب على الأقل لا يجدي في مقام القطع بالامتثال ؛ إذ كما يقطع بالانبساط مع القطع بوجوب الأكثر ، ويقطع بعدم الامتثال مع الاقتصار على الأقل ، كذلك يشك في الامتثال مع الشك في الانبساط على الأكثر مع ان القطع بالانبساط على الأقل موجود في كليهما.

قلت : القطع بعدم الامتثال عند الاقتصار على الأقل في صورة القطع بالانبساط على الأكثر ليس من حيث القطع بالانبساط على الأكثر واقعا حتى يشك في الامتثال هنا ، لمكان الشك في الانبساط واقعا.

بل من حيث فعلية الأمر المنبسط على الأكثر لمكان العلم بالانبساط.

وعليه ، فلا شك في الامتثال إلا بالاضافة إلى الانبساط من حيث الواقع ، ولا يضر ذلك بالامتثال لما يجب امتثاله عقلا وهو الأمر الفعلي.

فما هو فعلي ، وهو المعلوم تعلقه وانبساطه ـ لا شك في الخروج عن عهدته ومقتضاه ، وما هو غير معلوم فلا عهدة له عقلا حتى يجب امتثاله قطعا. فتدبر.

٨٨ ـ قوله ( قده ) : مع أنّ الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز (١) ... الخ.

توضيح المقام أن تحصيل الغرض : تارة : يجب عقلا لنفسه من دون نظر إلى الأمر وموافقته أو إسقاطه.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣٦٤.

٢٩٩

وأخرى : يجب عقلا مقدمة لإسقاط الأمر المنبعث عنه ، حيث لا يسقط المعلول إلا بسقوط علته.

وثالثة : يجب شرعا لبّا ، نظرا إلى أن ما يجب لفائدة ففي الحقيقة تلك الفائدة هي المطلوبة أولا وبالأصالة ، ومحصلها مطلوب ثانيا وبالتبع.

ولا يخفى عليك : أن لزوم تحصيل الغرض لنفسه : تارة : يراد به الغرض بما هو غرض أي المصلحة الباعثة الداعية ، فسبيله سبيل موافقة الأمر بما هو أمر المولى ؛ أو (١) تحصيل مراد المولى بما هو مراده ، فكذا تحصيل غرضه بما هو غرض له داع إلى إرادته وبعثه.

وأخرى : تحصيل ذات الغرض أعني نفس المصلحة اللّزومية بذاتها.

ولذا لا ريب في أنه إذا علم بأن ولد المولى غريق ولم يلتفت إليه المولى حتى يدعوه إلى إرادة انقاذه والبعث نحوه يجب عليه عقلا انقاذه ، لكونه ذا مصلحة لزومية ، بحيث لو التفت إليها المولى لانقدح في نفسه الداعي إلى البعث إليه.

والجواب عنه : أما على الوجه الأول بقسميه ، فبأن تحصيل الغرض إنما يجب إذا انكشف بحجة شرعية أو عقلية ، لا الغرض الواقعي الذي لا حجة عليه عقلا ولا شرعا ، فانه كالامر الواقعي والارادة الواقعية التي لا حجة عليهما ، فانه ليس من زي الرقية وعدم الخروج عن رسم العبودية تحصيل أغراض مولاه الواقعية التي لا حجة عليها.

وأيضا الأمر بشيء يصلح للكشف عن سنخ غرض يفي به المأمور به ، ولا يصلح للكشف عن سنخ غرض لا يفي به ، إذ المفروض العلم بالغرض من طريق العلم بمعلوله ، والعلة والمعلول متوافقان سعة وضيقا.

__________________

(١) في الأصل أو تحصيل لكن الصحيح إذ تحصيل.

٣٠٠